متابعات مختارات
المشاركات : 1292 . :
| | الطب الشعبي في القوش...نبيل يونس دمان | |
الطب الشعبي في القوش نبيل يونس دمان من المشاكل التي عانت منها الهوية العراقية، مثل هويات غالبية الامم المستضعفة، هي تجاهل واحتقار تراثها الشعبي الوطني، وخصوصا جوانبه المعرفية وبالذات المعارف الطبية والعلاجية، بحجة انها متخلفة وتحتوي الخرفات والخزعبلات. لا احد ينكر ان هنالك الكثير من العادات المتخلفة والمضرة بالانسان في جميع المعارف القديمة ( كذلك المعارف اللعلمية والحديثة)، الا ان هذا لا يعني ابدا انها كلها سيئة وخرافية. اكبر دليل على احتواء هذا التراث الطبي الخاص بمختلف امم الارض على الكثير من المعلومات والعلاجات الصحيحة، انه بدأت منذ سنوات تسود في الغرب نوعا من الثورة العلاجية، متمثلة بانتشار مختلف وسائل العلاج التقليدية من اعشاب واساليب بدنية وروحية مجلوبة من مختلف القارات, ومن اشهرها مثلا (العلاج بالابر الصينية) . بالاضافة الى ان الجزء الاعظم من الادوية المصنعة حديثا في الغرب مأخوذة ومسروقة من تقاليد الشعوب(المتخلفة!)، بحيث ان الكثير من المنظمات الانسانية العالمية بدأت تطالب الدول الغربية ومصانع الادوية ان تدفع تعويضات الى تلك الشعوب لانها تمارس عملية( سرقة فكرية). لهذا فأن مجلتنا تحرص في كل عدد على تسليط الضوء على احدى جوانب التراث الشعبي المعرفي لمختلف الفئات العراقية، ونأمل ان يبعث لنا بمواضيعهم اخوتنا العارفين بهذه المجالات التراثية الشعبية في مختلف جوانب الحياة مثل الغناء والشعر والازياء والحكايات والمعتقدات وتقاليد الزواج والرثاء والاحتفال والطقوس الروحانية واساليب البناء وطرق العلاج وغيرها من الامور. ويمكن ان يكون النصر على شكل دراسة او ذكريات شخصية، او الاثنين معا كما هو حال هذا النص الغني والممتع عن البلدة العراقية العريقة (القوش) كتبه لنا احد ابناءها. يتوجل الاشارة هنا الى ان هذا التراث الطبي الشعبي ما هو إلا من بقايا المعرفة الطبية العراقية الموروثة من اسلافنا الاوائل، والذي يحتاج الى دراسة واختبار واعادة احياء. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تسمية (القوش) من اللغة ألآرامية وهي مختصر لـ( إليا قوس) بمعنى ( قوس الله) أي قياسه وعدالته. وهي مركز ناحية تابع لقضاء تلكيف ـ محافظة نينوى , وتبعد عن الموصل بحوالي 45 كم إلى الشمال , جاثمة على كتف جبل يعرف باسمها. تقطنها مايقارب4500 نسمه من الكلدان . و مسيحية القوش *ترقى إلى القرون المسيحية الأولى. فالمخطوطات تذكر إن مار ميخا النوهدري لما قدم إلى القوش , خلال القرن الرابع, خرج لاستقباله الكهنة و الشمامسة وجمهور المؤمنين مما يؤكد إن المسيحية كانت قد دخلت القوش قبل ذاك . و أصبحت مركزاً لعدد من البطاركة من عائلة بيت أبونا الالقوشي ( 1318- 1838 ). وقد لعبت دوراً مؤثراً في تاريخ الكنيسة العراقية. أما اليوم فالقوش مركز أبرشية منذ 1960 وأول راع لها المطران عبد الأحد صنا, ويعاونه كاهنان لخدمتها الروحية. منذ فجر التاريخ وبني البشر يجذّون في البحث وتطوير العقاقير والعلاجات ، فبعضها تناقلتها الاجيال بالتوارث والبعض الآخر ودّع في بطون الكتب ليظل مصدراً لا ينضب لتراكم الخبرات الطبية ، وقد ترجم من والى العديد من اللغات مثل الآرامية ، اليونانية ، العربية ، التركية ، الفارسية ، وغيرها. لقد شقّ الطب الشعبي القديم مجراه وفق مبدأ ( لكل داء دواء ) ، فتطور تدريجياً شأنه شأن باقي العلوم الطبيعية والافكار البشرية ، لكنه يبقى الجانب الاكثر اهمية ، لكونه يتعلق بحياة الناس وراحتها فيسهم في توقف او تخفيف آلامها ومعاناتها جراء ما يصيب اجسادهم من عاهات وتلف نتيجة صراعهم الدؤوب للاستمرار ومواصلة الحياة . في السابق لم يكن الطب متطوراً الى الحد الذي نراه اليوم ، كما لم يكن بين الريف والمدينة وسائل نقل واتصال سريعة لأخلاء المصابين والمرضى وفي ظل ظروف تكون في الغالب قاسية . في تلك الازمنة كان الغذاء يعتمد على قاعدة الاكتفاء الذاتي ، كذلك كانت الوسائل والعلاجات الطبية تتم داخل كل قرية وبلدة ، ويحصل ان يشتهر احدهم في مجال معين وفي المكان الفلاني لترى الناس تهب من كل حدب وصوب لتلقي العلاج على يديه . في القوش برزت بعض البيوت في مجالات الطب المختلفة ، فبيت اودو اشهر من نار على علم في هذا الجانب ، وقد اختصوا بالجراحة بشكل اساسي . وكانوا يحضّرون بانفسهم كل مستلزمات العلاج ولهم كتب فيها الوصفات والمقادير والمواد المستعملة وكيفية خلطها او درجة تسخينها ، وتأتي مثل تلك المواد من الطبيعة نفسها كالاعشاب والمستحضرات الحيوانية وكذلك تأتي من دول ومناطق مختلفة الى محلات العطارين في الموصل . كان لبيت اودو مراهم متنوعة ، حسب نوع الجرح او القيح او الدمل ، ثم موضعه ، سعته ، عمقه ، ولهم ملاعق مسطحة ومباضع وشفرات يتم تعقيمها بالطرق البدائية وذلك بغمرها في ماء بدرجة الغليان . كان اطباء ذلك البيت الشعبيين يعالجون جرحى الاحداث والمصابين ، فكم من المرات اخرجوا الرصاص من مناطق متعددة في الجسم ، ووضعوا الفتائل المغمسة بالدواء المستحضر ، وتعاد العملية اي التطبيب لمدة من الزمن حتى يلقى المصاب الشفاء على ايديهم المباركة . هناك مسحوق يسمى محلياً " درمانة سموقة " له قدرة عجيبة في علاج امراض الفم والاسنان ، لا زالت والدتي كرجية كوريال اودو تحضره وتزود به من يكون بحاجة اليه في القوش ، وقد تعلمت ذلك من والدها الذي كان طبيباً شعبياً مارس مهنته في البلدة والمنطقة المحيطة . اتذكر وانا طفل صغير بيت جدي الطبيب ﮔوريال اسطيفو ( والاكراد يسمونه ﮔوريّي حكيم ) والذي لا يبعد سوى مسافة قصيرة عن بيتنا ، اتذكر عندما ادخل دارهم الواسعة حيث تطل غرفة الديوان فوق قنطرة بيت اودو الشهيرة ، وامامها ايوان واسع له نوافذ تطل على عدة جهات من البلدة . في ذلك الايوان كان يستلقي عدد من المرضى وكأنها ردهة في مستشفى ، فوق افرشتهم لينالوا العلاج ، وكلما تماثل احدهم للشفاء يغادر البيت ويحل محله آخر ومعظمهم من القرى المحيطة ، وبدورهم يحملون لذلك البيت هداياهم . بعض الاحيان كان الاكراد يصيدون خنزيراً ، وطبيعيٌ انهم لا يتناولون لحمه ، فيوصلونه بطريقة او باخرى الى طبيبهم ﮔوريّي حكيم . كان ذلك الطبيب يستعين بكتاب توارثه من آبائه واجداده فيه طرق علاج الامراض وتحضير الادوية في كل تفاصيلها ، وحين حلت سنة 1963 اُخفيت الكتب السياسية ومعها ذلك الكتاب الذي ظل يستخدمه طوال حياته الممتدة من عام 1900 الى 1960 ، وكانت نهاية تلك الكتب الفقدان للاسف . برز من بيت اودو ايضا الطبيب يونس منصور ، ولكونه اشتهر في زمانه فسنورد قصة حياته كما تناقلتها الناس وفي مقدمتهم والدتي الطيبة الذكر : ولد يونس منصور اودو في الربع الاخير من القرن التاسع عشر وتعلم مهنة الطب في بيتهم منذ نعومة اظفاره ، واصبح يعالج مرضاه في القوش والمنطقة التي يقطنها في الغالب الاكراد ثم الايزديين والآشوريين . بعد كل جولة في تلك المناطق والتي تستغرق في بعض الاحيان اسابيعاً ، كانت تعقبها احمال من المنتوجات الزراعية والحيوانية التي يتبرع بها الذين تلقوا العلاج على يديه وهو يبذل كل جهد واخلاص في انقاذهم . وكانت تلك الاحمال تحتوي الجوز واللوز والسمسم والزبيب والحبة الخضراء والفواكه الطازجة والمجففة ، والتبغ العالي الجودة خصوصاً الذي يزرع على سفح جبل ﮔاره ويسمى بأسمه ، اضافة الى المسكوكات الفضية والذهبية . في احدى جولاته بين القرى الجبلية ، اسقطه جواده واصبح معلقاً فيه من رجليه ورأسه يرتطم بالارض الصخرية ، ويسحبه الحيوان الارعن لمسافة تسبب في وفاته ، فخسرته البلدة والمنطقة ، وقع ذلك في حدود سنة 1923 . لقد ترك زوجة هي آية في الجمال اسمها ﮔوزي يلدكو ( ﮔوز كجكي ) وولد صغير اسمه عزيز ، وحين ورود اتباء الفاجعة الى اخيه الخوري حنا اودو ( ؟ - 1924 ) استقر الرأي ان يرسل عزيز وامه ومعهم الفتى اليافع داود اسطيفو ليزامل ابن عمه عزيز في الطريق وفي حلب . مكثوا في حلب عدة سنوات ولكن والدته لم تتأقلم مع الجوهناك ، فقفلت راجعة الى العراق مع ولدها ، فيما بقي داود ( اودو الصغير ) هناك وحتى مماته ، وهو والد مطران حلب والجزيرة الحالي انطوان اودو . رجعت ﮔوزي الى القوش ، وفي احد ايام السبت ذهبت مع ابنها الى بيت اهلها في محلة سينا ، وكان في فناء بيتهم بئر ماء شأنهم شأن العديد من بيوتات البلدة آنذاك ، وفيما الولد منهمك في اللعب حسب الرواة ، تشاء الصدف ان يسقط في البئر ، وعند محاولة انقاذه بواسطة الدلو واصبح قريباً من السطح ، انقطعت حباله فسقط ثانية وكانت نهايته . بعد فترة تزوجت ﮔوزي من الشماس ميخا كادو وانجبت العديد من الاولاد ، فيما سمّى ﮔوريال اثنين من اولاده يونس وعزيز تيمناً بعمه وابن عمه ، يعيشان حالياً في دولة النرويج . كثير من كتب يونس اودو آلت الى بيت كادو واستفاد منها الخوري يوسف كادو ( 1892 – 1971 ) ، ويعرف الكثيرون حيازته لكتب الاعشاب حيث استخدمها في القوش وبغداد ، كما وعرف الخوري بإدارته الجيدة وبمواقفه الشجاعة عندما تقتضي الضرورة. مارس مهنة الطب ايضاً آخرون ، منهم يوسف اسطيفو الذي قتل عام 1924 على يد ملتزمي حاصلات القوش ، واخيه هرمز الملقب ( مامينو ) الذي عمل فترة في ذلك الحقل ، وعمهم ياقو منصور ومن الفرع الآخر الذي يحلو له ان يرجّع نسبِه الى مرخو ( ميخائيل – مرخاي – مرخو ) وميخائيل هو شقيق البطريرك مار يوسف اودو ، وقد نزح جدهم الاول من تخوما ( دياردين – تركيا ) في اوائل القرن الثامن عشر وكان ضليعاً في الطب والعلاجات لذلك اطلق على سلسلته ايضاً لقب الحكيم . من اطباء ذلك الفرع نذكر : دانيال حكيم و ابنه حنا اللذان اشتهرا في أمد ( تركيا ) ، شعيا مرخو و ابنه صادق ، ججو حكيم و ابنه حنا و حفيده ياقو ( 1870 – 1936 ) ، وعن ياقو يعرف بانه احد رؤساء القوش في مرحلتها الاخيرة ، مارس الطب طوال حياته ويروى عنه ما يلي : | |
|
15.03.09 1:06 من طرف متابعات