تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :
ابو العتاهية
دعوى الالحاد والمروق عن الدين من اكثر الدعاوى لصوقا بالفلاسفة والادباء لاسباب مختلفة، تصح احيانا ويشوبها شيء من الغموض والحسد غالبا، وليس هنا مجال التفصيل في مدى مصداقية مثل هذه الدعاوى التي طالت عددا من الفلاسفة المسلمين كإبن سينا والفارابي والنصير الطوسي، وطالت ايضا عددا من الادباء كبشار بن برد وابي نواس وابي العلاء المعري، بل ولم ينج منها ابو الطيب المتنبي شاعر العربية الكبير، وكان فيمن شملتهم هذه الدعوى شاعر الزهد المعروف ابو العتاهية القاسم بن سويد بن كيسان (130-210هـ) الذي عاش في العصر الذي اسماه مؤرخوا الادب العربي بالعصر العباسي الاول، وهو عصر امتاز بتمازج الحضارات بين فارسية ويونانية وهندية وعربية فشكلت في مجموعها اضافة الى مؤثرات اخرى كثيرة ماعرف لاحقا بإسم الحضارة الاسلامية، كما امتاز هذا العصر بالصراعات الفكرية العنيفة بين المذاهب المختلفة التي بدأ تدوينها فيه فكثر المتكلمون والمجادلون عن هذه المذاهب اضافة الى المبتدعة والمجددين دينيا وادبيا وعلميا، فهو اذن عصر صراع وتمازج شغلت بهما بغداد حاضرة الخلافة الاسلامية في ذلك الوقت حيث عاش ابو العتاهية اخصب فترات حياته واكثرها تأثيرا في فنه وادبه.
وكأي شاعر كبير وجهت للرجل في حياته وبعد مماته جملة من التهم المختلفة التي تناسب ظروف العصر الذي عاش فيه، ولعل اشد هذه التهم قسوة وايلاما هو مارماه به المشككون من تهم استهدفت عقيدته الدينية، وهي تهم بنيت على ملاحظات من حياته، واقوال صدرت عنه اشارت اليها مراجع الشاعرة المختلفة دون تحقيق او تعليق سواءا بالتصديق او التكذيب، ويمكن ايجازها في النقولات التالية :-
كان حر التفكير وكان اهل عصره ينسبونه القول بمذهب الفلاسفة ممن لا يؤمن بالبعث ويحتجون بأن شعره إنما هو في ذكر الموت والفناء دون النشور والمعاد".
كان يذهب الى ان المعارف واقعة بقدر الفكر والبحث والاستدلال طباعا ويقول بالوعيد وتحريم المكاسب ويتشيع بمذهب الزيدية والبترية".
كان مذهبه القول بالتوحيد وأن الله خلق جوهرين متضادين لا من شيء ثم انه بنى العالم هذه البنية منهما وان العالم حديث التعيين والصفة لا محدث له الا الله وكان يزعم ان الله سيرد كل شيء الى الجوهرين المتضادين قبل ان تفنى الاعيان".
كان ابو العتاهية مذبذبا في مذهبه يعتقد شيئا فإذا سمع طاعنا عليه ترك اعتقاده اياه واخذ غيره".
وعبارات اخرى قيلت عنه ولم يقلها، يجمع بينها التشكيك في عقيدة الشاعر، وكنت اعجب اشد العجب لمثل هذه العبارات التي يتصدر بعضها مقدمة الديوان الذي جمعت فيه زهدياته، ويكذبها الديوان نفسه بما احتواه من شعر يتناقض مع المقولات السابقة.
فأما التشكيك في ايمانه بالبعث والاحتجاج بدعوى ان شعره اختص بذكر الموت دون النشور والمعاد فيرده قوله:
لعمرك ما عين الموت في عمـى وما عقل ذي عقل عن البعث في ريب
وما زالت الدنيا ترى ظاهرا لها شاهـدا منها يدل علـــى غيـب
وقوله:
امامك يا نومــان دار سعادة يدوم البقـــا فيها ودار شقاء
خلقت لإحدى الغايتين فلا تنم وكن بين خوف منهما ورجــاء
وذكر البعث والنشور والبرزخ والجنة والنار في شعره اكثر من ان نحصيه، وهو في مجموعه يرد ما اتهم به من انكار للبعث وما تبع هذا الاتهام من تشكيك في العقيدة.
اما تشيعه بمذهب الزيدية والبترية الغالية فتهمة يردها عنه كل من عرف شيئا عن اصول هذين المذهبين في مبحث الامامة خاصة ثم قرأ قوله:
بل اين اهل التقى والانبياء ومن جاءت بفضلهم الايات والسور
اعدد ابابكر الصديق اولهــم وناد من بعد في الفضل ياعمـر
وعد من بعد عثمان ابا حسـن فإن فضلهمــا يروى ويدكر
وحياة ابي العتاهية في بلاط المهدي والرشيد تنفي عنه تهمة الزندقة والالحاد او المجاهرة بذلك على اقل تقدير، لما عرف عن هذين الخليفتين من شدة في معاملة الزنادقة ودعاة المذاهب الباطنية، ومقتل الشاعرين بشار بن برد وصالح بن عبدالقدوس لاتهامهما بالزندقة في زمن المهدي شاهد على مانقول، والعودة الى شعره قبل هذا كله تنفي عنه هذه التهمة فهو خال من الدعوات المذهبية، والهرطقات بكل صورها واشكالها فقد وقف الرجل الجزء الاكبر من شعره على الدعوة الى الزهد ومكارم الاخلاق حتى اضحت هذه الدعوة انموذجا للشعر الدينى يحتذى به في الادب العربي كله.
اما الحديث عن الجوهرين المتضادين اللذين آمن بهما الشاعر فيما يزعم الزاعمون مستشهدين بقوله:
لكل انسان طبيعتان خير وشر هما ضدان
الخير والشر بها ازواج لذا نتاج وذا نتــاج
فيرده امكان تأوبل البيتين دون عسر ومشقه، فالشاعر يقول ان الخير والشر طبيعتان مركبتان في النفوس الانسانية، وانهما ازواج متقابلة كالسالب والموجب وان صنائع الخير تنتج الخير، وصنائع الشر تنتج الشر، وليس في رأيه ما يخالف المعروف من طبائع النفس الانسانية، والامر لا يحتاج الى تعسف اولئك الذين ردوا اصول البيتين الى جذور مانوية، زاعمين ان الشاعر يشير الى الهي النور والظلمة عند المذاهب المانوية.
اما التذبذب بين المذاهب الدينية فتهمة لا دليل عليها من حياة الشاعر او من شعره، فهو اتهام بلا برهان يعول عليه للتشكيك في عقيدة شاعر كأبي العتاهية، والاصح ان يقال عنه انه كان اقرب الى فهم عامة الناس في موضوع العقيدة، فلم يكن من علماء الدين المبرزين او المتكلمين الجدلين عن وعي ومعرفة عميقة او اولئك الذين تمرسوا في فهم العقائد الدينية ودلالاتها حبا في الجدل ورغبة في جلب الانصار والاعوان وحسبك دلالة على جهله بهذه العقائد مناقشاته مع ثمامة بن اشرس وبشر المريسي فقد افحماه واسكتاه بما لا يحسن نقله هنا، ولهذا الجهل بالعقائد الدينية شواهد من شعره تتمثل في مثل قوله:
شهدنا لك اللهم ان لست محدثا ولكنك المولى ولست بمجحود
وانك معروف ولست بموصوف وانك موجود ولست بمحدود
وانك رب لا تزال ولم تـــزل قريبا بعيدا غائبا غير مفقـود
فالله سبحانه لا يوصف بأنه غير موصوف فقد وصف الله نفسه بما يليق بعظمته وجلاله في اكثر من اية في كتابه الكريم، ولكن جهل ابي العتاهية ورغبته في التعالم اورده هذا المورد السقيم، ومثلها قوله:
إن المليك رآك احسن خلقه ورأى جمالـك
فحذا بقدرة نفسه حور الجنان على مثالك
فالله سبحانه وتعالى قادر على كل شيء ولا يحتاج الى مثال يحتذيه، ولكنه خيال شاعر قد شطح فكان هذا التجاوز السخيف، غير ان مثل هذه الابيات قليلة جدا في ديوانه ولقد قال ابو العتاهيه:
من حقق الايمان في قلبه اوشك ما يظهر تحقيقه
ولا نعلم تحقيقا ان كان الرجل قد حقق الايمان في قلبه ام لا فذلك في علم الله وحده لكن سيرته لم تكن بأي حال من الاحوال سيرة الملحد الزنديق، او المتشكك في دينه، بل كان على ما يروى من شعرة مذكرا بالله داعيا الى مكارم الاخلاق وحسبنا منه هذه الدعوة دونما حاجة الى تشكيك يفسد الحقيقة ولا يأتي باليقين.