في حوار مع الشاعرة السورية بهيجة مصري إدلبي
لا زال للشعر الحقيقي حضوره الطاغي
بقلم عادل سالم
شاعرة من حلب حيث الثقافة، والأدب، ورثت من المتنبي إبداعه، ومن سيف الدولة، حماسته وحكمته، اختارها الشعر ليكتب في أصابعها، وليخرج من حنجرتها نغمات جميلة، إلى عشاق الكلمة، عشاق الشعر، والأدب، والفن، تذكرك بالمواويل الحلبية، وقدودها، وبصباح فخري عندما كان يغني:
يا مال الشام يلا يا مالي
طال المطال يا حلوة تعالي
عندما تبحر معها في محيط الشعر، ترمي البوصلة في قاع المحيط ليتوه القارب، وتبقى في صحبة أشعارها إلى أن تهب عليك رياح عاتية فتغرق فيه.
ديوان العرب استضافت الشاعرة السورية بهيجة مصري إدلبي، وكان هذا الحوار.
هل ترجمة الشعر العربي إلى لغات أخرى يصل إلى القارئ بنفس الموسيقى والنغمة الموجودة في النص العربي؟ بالطبع لا.. فالأمر متعلق بمحتوى اللغة الفكري أولا وبمخزون المترجم ثانيا. ومن هنا نرى أن بعض النصوص تفقد حين ترجمتها الكثير من خصوصيتها الإبداعية لأن ثمة خيوطا خفية تتركها اللغة في النص، ربما يفقد الكثير منها عندما ينتقل إلى لغة أخرى. و العكس بالعكس فالترجمة أحيانا ترتفع بالنص وتضيف إليه غنى إلى غناه الموجود في لغته الأم. و أنا ممن يرى في الترجمة كتابة جديدة للنص الأدبي.فهي تقوم بتحويله من لغته التي ولد في رموزها وثقافتها وخصوصيتها وعلاقاتها، إلى لغة أخرى تحمل تاريخا غير التاريخ ورموزا غير الرموز وسمات ثقافية مختلفة، وهنا تأتي مقدرة المترجم المبدع فالمترجم الحقيقي يجب أن يكون عالما باللغتين فمن خلال مخزونه الثقافي يستطيع أن يحمي النص من خلل المعنى أو اضطراب الشكل و يحافظ على جماليته ووجوده. أجمل بيت شعر تحبينه؟ بيت المتنبي: إذا غامرت في شرف مرومِ فلا تقنع بما دون النجومِ
لو استمعت لأم كلثوم تغني البيت التالي للشاعر إبراهيم ناجي فماذا يخطر على بالك فجأة وإذا الدنيا كما نعرفها
وإذا الأحباب كل في طريق
أدخل في حالة من الصمت والتأمل، وفي التأمل أنجز نصا غائبا في الذات، لا أكتبه لكن أظل أطارده كالبرق الذي لا يُقبض عليه. لو قرأت فجأة قصيدة لك ينتحلها شخص آخر فما هي أول ردة فعل لك؟ ولو حكموك في عقابه، فماذا تحكمين عليه؟ كثيرا ما تعرضت لمثل هذه الأمور. ليس بنص، وإنما بأكثر من فكرة، وأكثر من صورة ونسق لغوي ما، هو لي ويدّعيه آخر وأمام ناظري، في البداية أشعر بحالة من حالات غليان الدم وتشويش الرؤية، ثم لا ألبث أن أهدأ حين أرى مدى التفاوت في نصه بين عبارتي الأصل وعباراته المتناثرة التي تبحث عن رابط. يناديني صوت من داخلي بأن القارئ الحقيقي سيدرك فورا مدى التفاوت الواسع من خلال تلقيه للنص وهناك أمر هام أن مَنْ يكتب فعلا يدل عليه مخزونه الثقافي الذي يبقى في تدفق دائم، أما من ينتحل فإنه يصل حد الجفاف والنهاية. وأولا وأخيرا أنا مؤمنة بأن الأصل يبقى مهما انتحله الآخرون، لأنهم لا يملكون سر الخلود الذي يملكه الأصل، فكُثرٌ هم الذين أخذوا صور وتراكيب نزار قباني ومحمود درويش وكُثرٌ هم من نحلوا الشعراء قديما وحديثا، لكن بالنتيجة ذهب المنتحلون أدراج الرياح وبقي الأصل الخالد. أما العقاب فلا بد أن المواقف كثيرة وسيسقط ويبين المنتحِل عند أول موقف يتعرض له. فأين هو من ذاته حينها ؟
هل الشعر في الساحة العربية في تراجع، أم لا زال له حضوره الطاغي؟ لا أعتقد أن الشعر في تراجع، فما زال للشعر الحقيقي بريقه المستمر، وما يجعلنا نظن أنه في تراجع تلك السحابة من أشباه الشعراء التي ربما حجبت قليلا بريق الشعر لكنها سحابة صيف. ومن ناحية أخرى لا يعني حديثي أن للشعر ذلك الحضور الطاغي، ربما لوجود أجناس أخرى تشاركه ذلك الحضور، وربما لأمور أخرى لا مجال للتفصيل فيها لأن الأمر سيُحلنا حينها إلى كل عناصر الحضور أو الغياب التي تتعلق في كينونة أو ضبابية الشعرية في حاضرنا اليوم من مبدع، وناقد، وقارئ، ومدارس وإعلام، وجمهور و… لكن سأقتصد بكلمة: أن الفن ثابت والمتحول هو الذي لا يشكله أكثر من جزء وهمي في عملية الإبداع الشعري.
يكثر الحديث دائما عن الحوار بين الشرق العربي والإسلامي، وبين الغرب (أمريكا وأوروبا)، ولا تجد هيئة، أو مؤسسة ثقافية إلا وتناقش هذه المسألة، أين نحن من الحوار مع شرق آسيا مثل الصين مثلا أو مع دول إفريقية، أو من أمريكا الجنوبية؟ لماذا التركيز فقط على الحوار مع الغرب الأوروبي والأمريكي؟ أين نحن من الحوار مع أنفسنا؟ لو أخذنا عبارة " حوار الحضارات " في الإطار الإنساني، لوجدنا أن الحوار قديم قدم الحضارة الإنسانية، ولا أحد يقف ضد حوار الحضارات والثقافات، لأن الحضارة التي لا تقيم حوار مع الحضارات الأخرى هي حضارة عقيمة ومنعزلة، والعزلة الحضارية تعني انكفاء الحضارة وبالتالي موتها. والحضارة العربية والإسلامية هي حضارة حوار لأنها حضارة حية، حضارة أدركت ذاتها أولا ومن خلال إدراكها ذاتها أدركت العلاقة مع الآخر، فهي بقدر انفتاحها على الحضارات الإنسانية كانت مرتبطة بذاتها، وهويتها، فلم يكن حوارها مع الحضارات الأخرى إلغاء لوجودها، أو تذويب هويتها في الآخر، بل على العكس زادها الحوار وجودا وحضورا في المشهد الإنساني. أما حوار الحضارات المنحاز للمعنى السياسي أكثر من انحيازه للمعنى الإنساني، فهو أبعد ما يكون عن الحوار، بل هو شكل من أشكال الصراع والصدام غير المتكافئ، ومن خلال قراءتنا للمعطيات السياسية وللصراع السياسي في العالم، وللعبة المصالح نجد أن فكرة حوار الحضارات إنما جاءت ردا أو تغطية لمفهوم صدام الحضارات الذي بدأ ينظر له الفكر الغربي بعد انهيار الإتحاد السوفياتي كطرف في توازن القوى في العالم، فجاء كتاب فوكوياما " نهاية التاريخ " وبعده كتاب " هنتنغتون " " صدام الحضارات ليوجهوا أنظار العالم إلى مستقبل تحكم فيه أمريكا العالم، وتفرض عليه سياستها وسلطتها، وعالمها الجديد.
فجاءت فكرة حوار الحضارات لا لدوافع إنسانية أو لإعلان الغرب التوبة وطلبه الغفران من الحضارات الإنسانية، وإنما هو خدعة أخرى سياسية تخفي تحتها سلطة الطرف الواحد لتقيم من خلال الحوار مفهوم سحق الحضارات. والمشكلة وللأسف أن توجهنا نحو الغرب الأمريكي والأوربي دافعه الخوف وليس الحوار، دافعه التأمين على الفكر الغربي والسياسات الأمريكية والغربية، التي تنصب نفسها وصية على العالم، بكل ما تحمل من الموت لنا.
بل نحاول أن نوهم أنفسنا بأن مصلحتنا متعلقة مع الغرب على أـن الأمر غير ذلك فمصلحة الغرب هي المتعلقة بنا، لأننا نعينه بضعفنا لبسط سلطته على العالم.
والسؤال أين نحن من الحوار مع شرق آسيا مثل الصين مثلا أو دول أفريقية أو أمريكا اللاتينية، أقول ثمة محاولات خجولة، لكنها لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا تستطيع تلك المحاولات أن تغري النظام العربي بقيمة الحوار بين الشرق والشرق، وأعتقد أن الفقرة الأخيرة من السؤال هي التي يجب البدء بها ويجب تعميقها أولا لأن الأمة التي لا تعرف كيف تحاور ذاتها وكيف تتحاور مع نفسها لا تستطيع أن تحاور أحدا. أو تبني أسسا للحوار الحضاري، و رغم الصورة الرمادية التي تحيط بنا اليوم علينا أن نأخذ بالتفاؤل ودفع تلك المحاولات إلى مراحل أكثر تقدما لإغناء الحوار مع الشرق، والتأكيد على ضرورة الحوار مع الذات أولا، ويجب أن ندرك الحقيقة الغائبة أن مستقبل أمتنا وحضارتنا هي بالتوجه إلى حوار الشرق مع الشرق لأننا بذلك ننشئ حوارا حقيقيا لا يسلبنا وجودنا بل يشكل قوة في مواجهة الصراع الذي يروج له الغرب ويمارسه على وجودنا. تحت مسميات مختلفة، فكل المسميات التي يطلقها العالم الغربي والأمريكي تحت لائحة الحوار إنما هي رؤوس متعددة لأفعى واحدة هي أمريكا والقوة الأمريكية.
بعض الكتاب الشبان تستهويه قضية ترجمة أعماله الأدبية إلى لغات أخرى أكثر من نشرها في الدول العربية، ترى هل ترجمة الكتاب إلى لغة أخرى تكفي لانتشار الكاتب في الدول الناطقة بتلك اللغة؟ وهل هدف الكاتب أن يصل إلى أبناء وطنه أم لا يهمه من يقرأ نصوصه؟ لا أعتقد أن مجرد ترجمة الأدب إلى لغات أخرى يحقق انتشار هذا الكاتب أو ذاك، لأن الانتشار لا تحققه الترجمة، بل قيمة الأدب المترجم ( فالمبدعون يكون، حيث لا يوجدون ) فأينما كان المبدع يوجد من خلال نصه، فالفن الحقيقي والإبداع الحقيقي هو الذي يفرض ترجمته، ويفرض وجوده، وليس الكاتب. والعكس بالعكس،من الذين لا يستطيعون الوصول إلى أبناء لغتهم لفقدانهم الثقة بأنفسهم وكتاباتهم فيلجؤون للترجمة ظنا منهم أنهم سيصلون من خلالها فمثل أولئك لا يصلون حتى لو ترجم أدبهم إلى كل لغات العالم. فالأدب رسالة، والرسالة لابد أن تصل أولا إلى مَنْ تُكتب من أجلهم، ومن لا رسالة له ولا هم في كتابته إلا الظهور خارج انتمائه فأولئك الذين لا يثقون بأنفسهم ولا بأدبهم إن كان ثمة أدب، فيرتدون ثوبا يليق بوهمهم.
كل مطلع على النصوص الإبداعية الكثيرة على الشبكة يلاحظ أن أغلبها مكتوب بلغة عربية ركيكة يكثر فيها اللحن، لماذا لا يهتم الكتاب بتطوير لغتهم العربية التي يكتبون بها ويكررون نفس الأخطاء على مدار السنين؟ مثل هذا السؤال كان يمكن أن يوجه إلى أولئك الذين أشرتَ إليهم في سؤالك. فالنص من وجهة نظري أولا وأخيرا هو لغة، واللغة تعبير عن قيمةِ أخلاقيةِ النص، لأنها هي ذات النص، وجسد الروح الفكري الذي ينبض في العمل الإبداعي. و لعل استسهال النشر على الشبكة العنكبوتية كان دافعا لبعض الكتاب لممارسة الكتابة دون النظر إلى شكل وقيمة ما يكتبون، في ظل غياب التدقيق اللغوي للنص. هذا إلى جانب أن البعض لا يهتم باللغة لأنه يكتب مباشرة بشكل من أشكال ارتجال الكتابة، ويدفعها للنشر خلال دقائق قبل أن يعيد النظر فيها. وهناك أمر آخر ألاحظه على الشبكة وفي معظم المنتديات أنه لايوجد نقد حقيقي للنص المنشور، بل هناك كمية كبيرة من المجاملات، تجعل صاحب النص المليء بالهنات والأخطاء اللغوية والنحوية والأسلوبية، يدخل في حالة غرور بما يكتب، فيتابع بالمستوى نفسه دون محاولة تطوير ذاته وكتابته إلى الأفضل لا على مستوى الشكل ولا الفنية ولا المضمون.
يتبع
23.12.08 1:32 من طرف للنشر