" رحيل البحر"
لهيفاء السنعوسي
- مداخل النفاذ إلى قراءة القصة
بقلم : د. محمد بن العياشي
ثمة عمل أدبي يستأثر باهتمام القارئ أو الدارس, ويحرك فيه رغبة امتطاء صهوة رصد الأحداث وتأويلها, والغوص في عوالمها المختلفة, فلا يلبث أن يجد نفسه مشدودا إليها, مهووسا بقك ظفائر هذا الذي يراه منها، ولكن وقبل الانتقال إلى تبئير قراءته, لاشك في أن قراءة طافية تحوم حواليه, مسهمة في تمتين وشائج الصداقة بينه وبين هذا العمل الذي سيشكل فيما بعد عالمه المؤنس له في غمرة مكابدات درسه وتأويله.
وقصة "رحيل البحر " الواردة ضمن مجموعة قصصية موسومة بالعنوان نفسه, هي من هذا النوع من القصص والروايات التي تحفزك بقوة على خوض غمار الحفر في مختلف تضاريسها الحكائية, فلا تلبث أن تجد نفسك إلا وأنت طوع يدها, تقودك " قود الجنيب " نحو عوالمها وفضاءاتها التي تتيح لك منتهى الاندماج النفسي فيها. فأنت حين تلج عوالم " رحيل البحر " تشعر بدبيب أنفاس تقطر تنهدات ولظى , مترعة بحس الاختناق, ومفعمة بعبق التاريخ, والحنين إلى رائحة التراب التي تشعرك بأصالة المكان والإنسان في رحلة عذابه, ورجفة زمانه, وصموده في الاحتفاظ بأنبل ما عنده. وهو ما تؤكده بطلة القصة " حصـــة " التي ظلت تتجرع مرارة الراهن, و قساوة الواقع الجديد لمجتمع ما بعد النفط " رائحة الأصباغ , والمظاهر الخادعة ..." وذلك في انتظار الرحيل إلى الماضي الجميل والارتداد إلى رائحة البحر المشبعة بالعراقة والصدق والنقاء.
وقبل أن نجعل اليد مغلولة إلى قلم الوصف الذي ينهض بتبليغ المراد, نبادر إلى القول إنه ليس من وكد هذه القراءة تحليل المادة الحكائية وسبر أغوارها, والخوض في لجة أحداثها ورصد خصائص صياغتها الأسلوبية, وإنما الهدف الذي نروم تحقيقه منه هو إنارة السرد من خلال أهم المداخل والعتبات التي تسمح للقارئ بالاستعداد للسقوط في عشق القصة وفخ قراءتها.
مداخل النفاذ إلى قراءة القصة :
تتعدد مداخل النفاذ إلى قراءة العمل الأدبي وذلك باعتبارها عتبات دلالية أو مؤشرات قرائية دالة, ومن أشهرها : المدخل الأوتوبيوغرافي ( سيرة الكاتب), والمدخل التاريخي الاجتماعي ( ظروف إنتاج النص ), والمدخل الفني ( مؤشرات القراءة البصرية ), وهي كلها عتبات أو مداخل أساسية تيسر عملية التحليل والتأويل وذلك بحكم تكامل الإحالات الخارجية والداخلية للعمل السردي, أوما يعرف بثنائية الظاهر والخفي, أو القراءة الطافية والقراءة المبأرة.
وتمنحنا قصة " رحيل البحر " للكاتبة هيفاء السنعوسي عدة مؤشرات ومفاتيح الولوج إلى فضائها الداخلي, وفي مقدمتها غلاف المجموعة المكون لواجهتها الخارجية والخلفية, والذي يتشكل من العناصر الآتية :
1- العنـــوان :
العنوان بمثابة حجرة سنمار, بل هو عين النص, وله وظائف متعددة : منها التسمية, الإحالة, الاستمالة..., وعنوان المجموعة " رحيل البحر " تتوافر فيه مجموعة من الوظائف, منها التسمية والإحالة, والاستمالة, وهو مكون من محمولين اسميين " رحيل " و " البحر " . ويحيل محمول رحل على الغياب والسفر والزوال. وقد ارتبطت لفظة رحيل بلفظة " البحر " بعلاقة الإضافة, التي كشفت دلالته وعرفت به, حيث أصبح البحر مع هذا الإسناد موضوع الغياب والفناء. ولفظ البحر – فيما يبدو – يتعدى في هذه القصة دلالته الاصطلاحية المرتبطة بالمكان الواسع ذي الماء الوافر, إلى دلالات أخرى يمكن التوصل إليها بواسطة عنصر التأويل الذي قد يسعفنا في رفع هذا التوتر الحاصل في العلاقة
الإسنادية بين الرحيل والبحر, وهكذا يمكننا استحضار عدد من الإيحاءات والمدلولات الوظيفية الأخرى للبحر التي تقترب من وظائف الكائن الحي, ومن حمل الرحيل’ حيث إن البحر يتقاسم مع الإنسان أمورا عديدة منها العطاء والخير والحركة ( المد والجزر ), بل إن الماء هو أصل الإنسان وأصل الحياة.
ومن تم يصبح تركيب : رحيل البحر - في استنتاج أول – دالا على رحيل الإنسان أو الحياة, أو الخير. ومن المدلولات الأخرى للبحر ارتباط دلالته بالعمق والاتساع والصفاء, وهي معان صوفية كانت أساسا من أسس رسالة الكاتبة التي سعت إلى ترسيخها في هذا النص, والتي تشكل شبكة القيم المفقودة في مجتمع ما بعد النفط الذي أصبحت تهيمن فيه قيم التسطيح والمظاهر الخادعة...
ولا ينبغي أن يغيب عن بالنا أن البحر قد يحيل إلى لحظة زمنية ماضية ارتبط فيها الإنسان – في الكويت – ارتباطا وثيقا بالبحر. ومن تم يفترض أن تكون دلالته العنوان هي : رحيل الماضي الجميل للكويت بكل قيمه وإشعاعاته النبيلة, وبداية زمن آخر, مفارق للزمن الأول, مما قد يشكل مصدر معاناة بطلة القصة :
ﺂه ! أين البيوت الطينية, أين ؟ .... أين وجه أمي, أين وجه أبي ؟ أين صوته العذب, وهو يرتل القرﺁن, أين عذوبة الآذان ...
أين تلك الأيام
رحلت. رحيل البحر : ص 6-7 .
ويتضح مما سبق دور العنوان وعلاقته الوثيقة بمضامين النص والإحالة عليها والتشويق لولوج عالمها المتخيل.
2- الصـــــورة :
تشكل صورة الغلاف باعتبارها نصا بصريا ورمزيا أداة وظيفية أخرى – إلى جانب العنوان- لاستقطاب المتلقي واستمالته, وجذبه إلى القراءة وإسعافه عليها, إذ تشكل شرفة أساسية يطل من خلالها القارئ على فضاء القصة الداخلي.
أيقونية الصورة :
الأيقونة هي الرمز أو الإشارة, ووظيفتها الإيحاء بفضاءات النص. وحين إمعان النظر في " صورة " المجموعة نلاحظ أنها مكونة من ثلاثة عناصر أساسية : المرأة, القارب, البحر, ولكل هذه الألفاظ دلالات وإيحاءات, إلا أن السمة المشتركة بينها هي الدلالة على الماضي الجميل للكويت, فصورة القارب مثلا تكشف لنا عن طبيعته الدالة على عتاقته, وانتمائه إلى مرحلة بعيدة تؤكد قدمه, كما أنها تحيل على سفينة نوح, أو سفينة النجاة من واقع ما بعد النفط.
أما صورة المرأة بلباسها الحضاري, وهي تدير ظهرها لهذا العالم, فهي لا تحيد عن الإيحاء العام للقصة, وهو الرغبة في الرحيل والعودة إلى الماضي الجميل للكويت, ويتأكد هذا من منظر المرأة وهي تشد الرحال نحو القارب, تاركة خلفها هذا العالم الجديد, عالم النفط وتوابعه, الذي التهم بقيمه المادية كل ما هو جميل وأصيل من قيم الحضارة العربية.
أما الحقيبة التي تحملها المرأة, والتي تبدو – في الظاهر – إشارة بسيطة, فهي تشكل عند تأملها لمحة دالة وعميقة.،
فحقيبة اليد هنا تحتوي على أنفس الأشياء والأغراض للمرأة والتي تتعدى هنا المستوى المادي للأشياء الممثلة بالذهب أو الجواهر إلى المستوى الروحي المجرد الذي تمثله الأحلام والقيم الجميلة التي تضمنها المعجم الخلقي الخاص بالمجموعة, كالعراقة والصدق والنقاء المؤشر إليه باللونين الأبيض ( لون الثوب ), والأزرق ( لون البحر ).
لكن الذي يعكر صفو هذه الألوان, هو لون القارب الداكن, هذا القارب الذي توقف زمنه, كما تحيل عليه تلك العجلة الملقية على اليسار من الشاطئ, وهو ما يوحي بتوقف دوران عجلة الحياة بذلك الإيقاع القديم والجميل.
أما الشق الثاني من الصورة فهو ما تضمنه الغلاف الخلفي للمجموعة, والذي يتكون من المئذنة والمسجد, وهي إشارة قوية إلى المميزات الروحية لماضي الكويت وحضارتها, والتي يشكل فقدانها الخلفية النفسية وراء كتابة النص.
ومجمل القول إن لوحة الغلاف التي أبدعنا الفنان الكويتي نواف الأرملي, كانت لوحة جد معبرة بما حملته من رمزية ووظيفية, فضلا عن سيميائية الألوان التي عززت ما ذكرناه من إيحاءات سالفة مؤشرة إلى رحيل كل القيم الثقافية القديمة التي كانت تنير عتمة الحياة وقساوتها في في مرحلة ما قبل النفط التي أصبح الحنين قويا إلى استرجاعها والارتداد إليها والرحيل إلى تضاريس عالمها الجميل.
3- التعريـــــف بسيرة المؤلف :
لا نملك – في واقع الأمر – الشيء الكثير عن حياة الكاتبة هيفاء السنعوسي سوى ما تضمنه الغلاف الخلفي للمجموعة من أنها : كاتبة وأساتذة جامعية, حاصلة على الدكتوراه من جامعة جلا سغو في بريطانيا, في الأدب والنقد العربي الحديث, وأنها عضو تدريس بكلية الآداب في جامعة الكويت, وأن لها ما يزيد عن اثني عشر مؤلفا في مجا ل النقد الأدبي والقصصي , فضلا عن عدة مقالات باللغتين العربية والإنجليزية.
ويبقى أن أشير إلى أن ما قدمته الكاتبة عن نفسها من إفادات يتسم بالشمولية, ولا يتضمن أي محددات تاريخية, رغم أهميتها التوثيقية. وكذلك الشأن بالنسبة إلى صورة المؤلف التي يعمد بعض المبدعين إلى وضعها بجانب سيرتهم, وهو عمل جيد وإن كان غير ضروري , شأنه شأن تاريخ الميلاد, إذ من المهم أن نترك حرية للقارئ في أن يطلق عنان خياله ليرسم صورة ما للمبدع من خلال آثاره الفنية.
وعموما تبقى سيرة المؤلف من المجملات التوجيهية المساعدة للقارئ على توقع اتجاه القراءة في كيفية التعامل مع أحداث القصة و حسن تأويل مواقفها وأبعادها الإنسانية.
4- الاستهـــــلال : ( أو ما قبل المتن الحكائي )
وهو مدخل من مداخل النفاذ إلى القصة, ويمكن أن نعتبر الإهداء هنا استهلالا دلاليا يسعفنا في استيعاب المتن الحكائي. تقول الكاتبة في إهدائها :
<<إلى سيدة كويتية جاءت من ماضي الكويت تحمل معها رائحة البحر, مشبعة بالعراقة الصدق والنقاء...>>.
يعد هذا الإهداء مؤشرا قرائيا أو مفتاحا من مفاتيح الولوج إلى فضاء القصة الداخلي, يسعفنا في مقاربة أحداث القصة وفهم مغزاها, فمن تكون هذه السيدة الكويتية إن لم تكن هي المعنية بأحداث القصة, والتي تقول عنها في الإهداء نفسه,<< وكانت معجما أخلاقيا يصعب عليك أن تجد مثيلا له, ودعت الحياة وفارقتنا... ورحلت بصمت كما جاءت بصمت ... غادرت إلى عالم مجهول ... إليها فقط أهدي هذه المجموعة يصحبها عشقي لها ولرائحة البحر التي حملتها معها.>>
يتضح إذن أن هذا الإهداء هو بمثابة استهلال حقيقي للمتن الحكائي, وربما مؤشرا واضحا عن دواعي كتابة القصة الخفية الذي يبرز أثر هذه المرأة في حياة الكاتبة بسبب الغياب والفقدان, فقدان الحنان والقيم,الذي ربما شكل فراغا حاولت الكاتبة تأثيثه من خلال تقنية السرد والاسترجاع.
5- وضعية الانطلاق والختــــام :
وتتم عبر تقنية البداية والنهاية ( بارت ) التي تمثل – كما هو معلوم - جوهر القصة. وهكذا فالنص يبدأ معلنا عن نفسه,<<.. وتحيطني الجدران التي تكاد تخنقني, ورائحة الأصباغ تنفذ إلى أعماق أنفي. كم أكره رائحة هذه الأصباغ. لقد اعتدت على رائحة البيوت الطينية وعلى رائحة البحر, ولكنها اختفت...>>.
وفي نهاية القصة تقول :
« أشعر بأنني لا أملك القوة الكافية التي تعينني على فتح عيني, أريد أن أودع أبنائي بنظرة خاطفة... أريد أن ألحظ المشهد الأخير الذي أرى فيه وجوههم...أشعر بأن الوقت قد حان... لقد آن الرحيل ...
أشعر بالوهن أكثر وأكثر... يعود وجه أبي ووجه أمي ووجه أختي حصة, ووجه زوجي ووجه... ويعود البيت الطيني... ويصدح صوت الآذان الله أكبر... الله أكبرر... الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله...
تتعالى الانفاس... أشعر بالاختناق... أرى كتلة من ضوء... تتجه نحوي... تخطف بصري... يثقل لساني و ...» انتهى.
عندما نربط بين وضعيتي البداية والنهاية يتضح لنا موضوع القصة الذي يفترض أن يرتبط بامرأة ساردة, هي بمثابة نموذج من النماذج البشرية, وقوة فاعلة مهيمنة في النص, تصارع أعباء حياة ما بعد النفط وما حملته من منظومات قيمية, وذلك عبر تقنية الحكي المبني على الارتداد والاسترجاع ليلتقي العذاب واليأس من الراهن بهموم شخصية تحمل موروثا قيما مثاليا هو في حكم الزوال.
وخلاصة القول, فقد شكل مجموع هذه المداخل عتبات دلالية ضرورية ومفاتيح أساسية لولوج قصة « رحيل البحر » التي متحت من تاريخ الكاتبة ،وذاتها ، وقيمها الثقافية.
يتبــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع.
12.11.10 15:16 من طرف للنشر