رَجَـعْـتُ لنفْسِي فاتَّهمتُ حَصاتِي
شاعر النيل
حافظ ابراهيم
هذه القصيدة قالها شاعر النيل "حافظ إبراهيم " مدافعا ومنافحا عن اللغة العربية ، اللغة التي يفتخر بها العرب والمسلمون ويعتزون بها ، فهي تحفظ كتابهم وتشريعهم ، وتعبر عن علومهم وآدابهم.. حين تعالى الهمس واللمز حولها في أوساط رسمية وأدبية، وعلى مسمع ومشهد من أبنائها واشتد الهمس وعلا، واستفحل الخلاف وطغى، فريق يؤهلها لاستيعاب الآداب والمعارف والعلوم الحديثة، وفريق جحود ، يتهمها بالقصور والبلى وبالضيق عن استيعاب العلوم الحديثة.. ولكن حافظاً الأمين على لغته الودود لها يصرخ بوجوه أولئك المتهامسين والداعين لوأدها في ربيع حياتها بأن يعودوا إلى عقولهم ويدركوا خزائن لغتهم فنظم هذه القصيدة يخاطب بلسانها قومه ويستثير ولاءهم لها وإخلاصهم لعرائسها وأمجادها.
بدأت الدعوة لهدم اللغة العربية سنة 1881م ، حين اقترح (( المقتطف )) كتابة العلوم بلغة الحديث ، ودعا رجال الفكر إلى بحث اقتراحه ومناقشته ، ثم هاجت المسألة مرة أخرى سنة 1902م ؛ حين ألّف ( ولمور ) أحد قضاة محكمة الاستئناف الأهلية في مصر ، من الإنجليز ، كتاباً عما سماه لغة القاهرة ، وضع لها فيه قواعد ، واقترح اتخاذها لغة للعلم والأدب ؛ كما اقترح كتابتها بالحروف اللاتينية ، فحملت عليه الصحف ؛ مشيرة إلى موضع الخطر من هذه الدعوة التي لا تقصد إلا محاربة الإسلام في لغته .
وفي هذه السَّنة كتب حافظ إبراهيم قصيدته المشهورة التي مطلعها :
رَجَعتُ لِنَفسي فَاتَّهَمتُ حَصَاتي ** وَنَادَيتُ قَومي فَاحتَ سَبتُ حَياتِي
واشتعل أُوار الدعوة من جديد ؛ سنة 1926م ، حين دعا إنجليزي آخر ، كان يعمل مهندساً للريّ في مصر ؛ وهو السير وليم ولكوكس ، إلى هجر اللغة العربية ، وخطا بهذا الاقتراح خطوة عملية ، فترجم أجزاء من الإنجيل لما سماه (( اللغة المصرية )) ، وأشاد سلامة موسى بالسير ولكوكس ، وأيده ، فثارت لذلك ثائرة الناس من جديد ، وعادوا امهاجمة الفكرة ، والتنديد بما يكمن وراءها من الدوافع السياسية .
ولكن الدعوة استطاعت أن تجتذب نفراً من دعاة الجديد هذه المرة ، وبخاصة عند الحديث عن الكماليين ( نسبة إلى كمال أتاتورك – صانع تركيا الحديثة -) وصنيعهم من استبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية ، وترجمة القرآن للغة التركية والزام الناس بالتعبد به ، وتحريم تدريس العربية في غير معاهد دينية محددة ، وضُِعَت تحت الرقابة الشديدة ، وقد مضوا من بعد في مطاردة الكلمات العربية الأصل ينفونها من اللغة التركية كلمة كلمة ، وقد انتشرت هذه الدعوة ؛ حتى تسربت إلى المسرح باتخاذ اللهجة السوقيّة ، واستطاعت الدعوة أن تتسلل إلى (( مجمع اللغة العربية )) في القاهرة ، فكتب عضو المجمع عيسى إسكندر المعلوف – المعروف بعدائه الصريح للعربية – مقالات عن اللهجة العربية العامية .
وقد انتحلوا حججاً واهية من بينها : أن قواعدها صعبة ، والكتابة فيها غير ميسرة ، وأن التطور قد أصاب اللغات الأوروبية ، فَلِمَ لا تتطور لغتنا كما تطورت لغاتهم ؟ وقد كتبت مقالات المعلوف في (( مجلة مجمع اللغة العربية )) بين سنتي : شعبان 1353هـ = تشرين الأول ( أكتوبر ) 1934م ، وشعبان 1356هـ تشرين الأول ( أكتوبر ) 1937م .
محمد الحبشى
شــاعر