المشهد هُوَ هُوَ. صَيْفٌ وَعَرَقٌ. وخيالٌ يعجز عن رؤية ما وراء الأفق. واليوم أفضلُ من الغد. لكنّ القتلى هم الذين يتجدّدون. يُولَدون كل يوم. وحين يحاولون النوم يأخذهم القَتْلُ من نعاسهم إلى نوم بلا أحلام. لا قيمة للعدد. ولا أحد منهم يطلب عوناً من أحد. أصوات تبحث عن كلمات في البرية، فيعود الصدى واضحاً جارحاً: لا أحد. لكنّ ثَمَّةَ مَنْ يقول: "من حقِّ القاتل أن يدافع عن غريزة القتل". أمَّا القتلى فيقولون متأخرين: "من حقِّ الضحية أن تدافع عن حقِّها في الصراخ". يعلو الأذانُ صاعداً من وقت الصلاة إلى جنازات متشابهة: توابيتُ مرفوعةٌ على عَجَلٍ، تُدْفَنُ على عجل... إذ لا وقت لإكمال الطقوس، فإن قتلى آخرين قادمون، مسرعين، من غارات أخرى. قادمون فرادى أو جماعات... أو عائلةً واحدةً لا تترك وراءها أيتاماً وثكالى. السماء رماديّةٌ رصاصيَّة. والبحر رماديٌّ أزرق. أمَّا لون الدم فقد حَجَبَتْهُ عن الكاميرا أسرابٌ من ذباب أخضر!.
البعوضة
البعوضة، ولا أعرف اسم مذكرها في اللغة، أَشدُّ فتكاً من النميمة. لا تكتفي بمصّ الدم، بل تزجُّ بك في معركة عبثية. ولا تزور إلاّ في الظلام كحُمَّى المتنبي. تَطِنُّ وتزُنُّ كطائرةٍ حربيّة لا تسمعها إلا بعد إصابة الهدف. دَمُكَ هو الهدف. تشعل الضوء لتراها فتختفي في ركن ما من الغرفة والوساوس، ثم تقف على الحائط... آمنةً مسالمةً كالمستسلمة. تحاول أن تقتلها بفردة حذائك، فتراوغك وتفلت وتعاود الظهور الشامت. تكرّر محاولتك وتفشل. تشتمها بصوت عال فلا تكترث. تفاوضها على هدنة بصوت ودّيّ: نامي لأنام! تظن أنك أَقْنَعْتَها فتطفئ النور وتنام. لكنها وقد امتصت المزيد من دمك تعاود الطنين إنذاراً بغارة جديدة. وتدفعك إلى معركة جانبية مع الأرق. تشعل الضوء ثانية وتقاومهما، هي والأرق، بالقراءة. لكن البعوضة تحط على الصفحة التي تقرؤها، فتفرح قائلاً في سرِّك: لقد وَقَعَتْ في الفخّ. وتطوي الكتاب عليها بقوة: قتلتُها... قتلتُها! وحين تفتح الكتاب لتزهو بانتصارك، لا تجد البعوضة، ولا تجد الكلمات. كتابك أَبيض. البعوضة، ولا أعرف اسم مذكرها في اللغة،ع ليست استعارةً ولا كنايةً ولا تَوْريةً. إنها حشرة تحبّ دمك. تشمُّه عن بعد عشرين ميلاً. ولا سبيل لك لمساومتها على هدنة غير وسيلة واحدة هي: أن تغيِّر فصيلة دمك!
أبعد من التماهي
أجْلِسُ أمام التلفزيون، إذ ليس في وسعي أن أَفعل شيئاً آخر. هناك، أمام التلفزيون، أَعثر على عواطفي. وأرى ما يحدث بي ولي. الدخانُ يتصاعد مني، وأَمدُّ يدي المقطوعةَ لأمسك بأعضائي المبعثرة من جسوم عديدة، فلا أجدها ولا أهرب منها من فرط جاذبيّة الألم. أنا المحاصر من البرّ والجو والبحر واللغة. أقلعتْ آخرُ طائرةٍ من مطار بيروت، ووَضَعَتْني أمام التلفزيون، لأرى بقيَّة موتي مع ملايين المشاهدين. لا شيء يثبت أني موجود حين أفكّر مع ديكارت، بل حين ينهض مني القربانُ، الآن، في لبنان. أدخل في التلفزيون، أنا والوحش. أَعلم أن الوحش أقوى مني في صراع الطائرة مع الطائر. ولكني أَدْمَنْتُ، ربما أكثر مما ينبغي، بُطُولَةَ المجاز: التَهَمني الوحش ولم يهضمني. وخرجتُ سالماً أكثر من مرة. كانت روحي التي طارت شعاعاً مني ومن بطن الوحش تسكن جسداً آخر أَخفَّ وأَقوى. لكني لا أعرف أين أنا الآن: أمام التلفزيون، أم في التلفزيون. أما القلب فإني أراه يتدحرج، ككوز صنوبر، من جبل لبناني إلى غزة!.