هناك في الركن البعيد فرحٌ وغناء.. عرسٌ وعريس وعروس.. وهنا في الزقاق حزن وبكاء على شهيد.. وفي البيت المجاور أم تدعو الخالق أن تكحل عيناها بابنها السجين... لعل الأقدار تجمعهما قبل الوداع الأخير.... وفي مكان غير بعيد، فرحة وانتظار لمولود جديد... وفي الجوار ضحكات ورقص وأهازيج لنجاح ابن القرية النجيب... وأمه تكسر حاجز الصمت في القرية فرحاً بابنها، فتطلق للعنان الزغاريد... وبنات القرية يتهامسن عن قصة حب وليد.. عن عشق نقي بريء جميل..
وهناك وفي صباح جمعة مباركة، تجمع الأهالي، كبارهم وصغارهم.. هتفت الحناجر.. أعلنت الرفض وعدم الخضوع للمحتل.. استنكرت الحصار، ودعت إلى إزالة جدار الذل والعنصرية.. صاحت لا للفساد، لا للظلم.. وفي نفس المكان تخّضبت الأرض بالدماء الطاهرة.. تفرق الناس بعد هذه المنازلة على وقع غاز الدموع والضرب والاعتقال.. مصّممين على العودة إلى نفس الساحة في الجمعة المقبلة..
هذا هو "الفلسطيني" مشاعر مختلطة.. هو ككل الناس.. يفرح ويحزن.. يحب ويكره.. يعشق حتى الثمالة، ويرفض ويكره الغبن لآخر قطرة دم.. يضحك من أعماق أعماقه.. ويبكي بصمت حين يواجه المصائب.. يتصرف كالرجال حين يلزم ذلك.. وحنون بلا حدود حين يستوجب الحنان والعطف..
كل هذه المشاعر الإنسانية المختلطة وغيرها، هو ما دفعني إلى فكرة فيلم درامي فلسطيني، ومن بعدها إلى إنتاجه.. خاصة بعد أن أصبح الفلسطيني أينما كان، يوضع في قالب ضيّق، لا يملك فيه إلا مشاعر من لون واحد.. أو على الأقل لا يحق له إلا أن يحزن ويكره ويبكي.. وقدره الوحيد أن يُعتقل ويُجرح ويستشهد ويُهدم بيته.. قدره الوحيد في هذه الدنيا أن يقاوم ويُطارد ويُعذب!!
وانعكاساً لكل ذلك، أصبحت كل أفلامنا الوثائقية منها أو الدرامية لا تتحدث إلا عن هذا القالب وعن تبعاته..لم تولد لنا سينما بالمعنى الصحيح.. تأخذ على عاتقها الحالة الخاصة للإنسان الفلسطيني بكل مشاعره الإنسانية المميزة... بل صنع لنا أشقاؤنا وبالذات السوريون دراما تتحدث عنا بطريقتهم.. شاهدناها ولم نلتفت كثيرا أنها تتحدث عنا.. وان حدث أن بادر احدنا إلى صناعة دراما فلسطينية، فهي في الغالب تعتمد على توفر دعم المؤسسات الدولية المانحة.. لتكن في المحصلة دراما على المقاس، وبلون تلك المؤسسة.. وقد تكون فرصة ذهبية للكثيرين، لوصمنا بالتهمة الدائمة، وهي اننا نتحدث عن أنفسنا، ولو بشكل درامي للحصول على المال !!
والآن وحين خرجت فكرة فيلم فلسطيني درامي، والذي يعود الفضل إلى الاقتناع بها إلى الكاتب الروائي والسينمائي سليم دبور.. طرحت فكرتي وخميرتها عليه، وإذا به يخرجها إلى النور سيناريو وحوار ليس من السهل وصفه.. قلت له هذا ما أريده.. أريد فيلما يُخرج الفلسطيني من القالب الأسود..أريده أن يتحدث عني وعنك وعن الإنسان الفلسطيني..أريده فيلماً يجمع كل المشاعر الإنسانية..أريده حباً وعشقاً، مقاومة وصموداً، صبراً ونجاحاً، تعثراً ووقوفاً، تألقا وسحراً، أريده ولادة جديدة لشيء مميز جديد، اسمه دراما فلسطينية خاصة.. أريده بداية جديدة بدون انغلاق أو تقوقع.. أريد أن يشاهده نصف العرب، بل العرب كلهم، وغير العرب.. أريده بحق "نقطة تحول".