رموز القدر

رموز القدر


بقلم : بسّام جرار





عماد الدين زنكي يتراجع بجيشه أمام أحد ملوك السلاجقة، ويلجأ إلى تكريت، فيجد العون والمواساة والضيافة الكريمة من أسد الدين شيركوه، ثم ما يلبث أن يعود إلى الموصل حاضرة ملكه، ولم يكن يخطر بباله أنّ أسد الدين شيركوه سيلجأ إليه في الموصل، فتكون فرصته الذهبية في رد الجميل، فيجعل من أسد الدين قائداً لجيشه، ويبقى أسد الدين في هذا المنصب في عهد نور الدين زنكي أيضا، الذي يعرف لشيركوه فضله، ويقدّر له بطولته.



أمّا لماذا لجأ أسد الدين إلى الموصل، فإنّ لذلك قصة تعزز لدينا الصورة الإيجابية عن هذا الفارس الشهم، فقد كان يمر بالقرب من قلعة تكريت عندما سمع صوت امرأة تستغيث، فدخل وقتل الرجل الذي كان يحاول أن يعتدي عليها، ووفق الأعراف القبليّة كان لا بد أن يرحل أسد الدين وأقرباؤه، ومن غريب الموافقات أن تلد زوجة أخيه طفلها في اليوم الذي تمّ فيه الجلاء، مما جعلهم يتشاءمون من ميلاد هذا الطفل، الذي شاء الله تعالى أن يكبر ويترعرع في رعاية أبيه وعمه أسد الدين، بل ويترقّى في المناصب إلى جانب عمه القائد الفذ، وعندما أصبح هذا الطفل شاباً في العشرينات من عمره كان قد أصبح رئيساً لشرطة دمشق، فعرفه النّاس وأحبوه.



أسد الدين شيركوه يقود عدة حملات على مصر وفي النهاية يتمكن من السّيطرة على الأمور بعد إزاحة الوزير الذي كان يمثل السلطة الحقيقية على الرغم من وجود الخليفة الفاطمي الشيعي والذي كان صورة. وبعد ما يقرب من شهرين من سيطرة أسد الدين في مصر توفّاه الله، ليترك ابن أخيه يتقلد منصب الوزارة، والذي كان في بداية الثلاثينات من عمره المبارك، وقد ظهرت عبقريته في مواجهة التحديات الكبيرة في مصر، واستطاع في زمن قياسي أن يوحد مصر، وليبيا، والحجاز، واليمن، وسوريا، وشمال العراق، في سلطنة تنتمي اسمياً للخلافة العباسيّة في بغداد، وبعد أن أسقط الخلافة الشيعية الفاطمية في مصر.



يرسل هذا العبقري إلى الخليفة العباسي في بغداد ويطلب دعمه المعنوي في حملته لتحرير القدس والأرض المقدّسة، ثم يدخل فلسطين من الشمال الشرقي بالقرب من بحيرة طبريا ليحسم الصراع مع الصليبيين في معركة حطين، وليدخل القدس فاتحاً في السابع والعشرين من رجب عام 583 ه، نعم إنّه صلاح الدين الأيوبي، إنّه الطفل الذي ولد في يوم الجلاء عن تكريت، هذا الجلاء الذي قادت إليه شهامة أسد الدين، بل قادت إليه دناءة ذلك الرجل المعتدي. نعم بدأت القصة صغيرة في قلعة تكريت وانتهت بالقدس، ومن قبلها كانت هزيمة عماد الدين زنكي أمام السلاجقة. إنّ أعظم العباقرة ليعجز عن رؤية خيوط القدر المتشابكة، وإن أعظم الدول لتعجز عن السيطرة على تفاعل أصغر الأحداث، لأنها لا تستطيع أن تتصور أبعاده على المدى الطويل، قد نستطيع أن نسيطر على الفعل وآثاره آنيّا، ولكن من يستطيع أن يضبط التفاعلات ؟! نقول هذا الكلام لنضع أيدي النّاس على الحقيقة التي لا تراها أعين اليائسين والمحبطين، ولا تراها أعين الوثنيين من الماديين، الحقيقة التي لا يمكن أن تراها أعين الجبابرة والمتغطرسين... وفي التاريخ دروس ودروس، وفي الزمان عبر وعبر، ولا يوجد في الكون المخلوق شيء ساكن، وكل شيء متحرّك، والتغيير أهم حقائق الحياة، والحق هو نهاية وبداية كل دورة: "قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء، وتعزّ من تشاء وتذل من تشاء، بيدك الخير، إنّك على كل شيء قدير".