ســـــاحة الإبـــــداع وغيـــاب فــرســــان النقــد

يدرك المشتغلون في حقل التأريخ الأدبي، وكذلك الدارسون للحراك الأدبي الإبداعي -وأخص منه الشعر- الذي ومنذ ستينيات القرن المنصرم افتقد من يتتبع حراكه وتجلياته المختلفة لجهة النقد والتقييم والتقويم الفني والأدبي لهذا المنتج الأدبي الراقي «ديوان العرب»، سيد الكلام وتاج فخاره عند عرب الأمس واليوم!.
من البداهة القول: إن الإبداع الأدبي شعراً ونثراً، قصة ورواية في العصر الأدبي العربي الحديث، سابق للنقد الأدبي وتأريخه، وإن النقد والتأريخ له لاحقان لشتى أشكال الإبداع الأدبي، مع التأكيد أن النقد إبداع في حد ذاته إذا امتلك هذا النقد الأدوات المعرفية القادرة بنزاهة وموضوعية على النهوض بحركة نقدية فعالة مبدعة من جهة، ترتقي بشتى تجليات الإبداع الأدبي إلى المكان الأكمل معنى ومبنى..! فتغربل الكائن المنتج.. وأما الزبد فيذهب جفاء.
ولكن الذي جرى ويجري ومنذ منتصف ستينيات القرن العشرين المنصرم زمناً، المستمر زماناً، فتكاد ساحته الإبداعية تبدو خالية من فرسان النقد الحقيقي، إلا أولئك الذين يعرجون، متلطين وراء الشعر وإبداعاته، ليقدوا قلمه من دبر، يراودونه عن أصالته وجذوره وتربته العرباء، بحداثة دخيلة عنه، مستوردة تهريباً عبر منافذ الترجمة وغيرها في غيبة الرقيب الوفي الغيور، ولا أغفل هنا، أو أتجاهل، من أعجزهم مجرد النظر إلى شموخ عمود الشعر المستطيل القائم بذاته روعةً وجمالاً، شكلاً ومضموناً «وإذا استطال الشيء قام بذاته..» وقد اعتنى العرب بالشكل ردحاً طويلاً من الزمن، وذلك محافظة على جمال وقوام هذا الكائن البديع، وحراسته من بعض مدعي الحداثة ولم نلجها بعد بشروطها ومقتضياتها لبعدنا عنها وليس العكس، ينتظرون وصول هذا الإبداع إليهم، وقد شبه لهم أنهم متقدمون على النص الإبداعي، وما إن يلقون القبض على أصالته ليشبعوه تمزيقاً وتفتيتاً وتركيباً على طريقة تشريح الزهرة أو الوردة ليقولوا هذه بتلة وهذا ميسم وهذه ورقة وهذا غبار الطلع، ليفقد النص شكله واسمه، وقد أغفلوا أريجها ولونها وجوهرها وتألقها... وبين القديم والجديد، بين الأصالة والحداثة، بين قصيدة العمود التي أبهرت ابن جني والجرجاني وأبو هلال العسكري والجاحظ وسواهم كثر، وارتقت أصحاب المعلقات به إلى عالم الدهشة والكمال، وحلق بأجنحته به المتنبي وأبو تمام والمعري وأبو نواس والحطيئة وجرير وأبو العتاهية والفرزدق وبشار بن برد وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم وبدوي الجبل والجواهري.. وغيرهم كثير، وكان مثار افتخار العرب وحليتهم، وسيبقى أروع نتاجات الأدب العربي هندسةً وجمالاً مبنى ومعنى، وهو إذ يعتد بفلسفته وفكره وتشبيبه ومديحه وهجائه ووصفه وتصويره المدهش، إذ يبرأ مما علق به من تهويمات وطلاسم وأحجيات وهدر لغوي غير مبرر، مما جاء به استسهال الكتابة في مجال شعر التفعيلة والنثر والنص المفتوح غير المقيد بوزن أو شرط واضح ومحدد، وهي على غير ذلك من السهولة والهشاشة، فكم من النثر ما هو أجمل من الشعر المنجز الذي أبدعه من علا كعبه فيه نظماً وشعرية وشاعرية كأدونيس، ومحمد الماغوط.. وكثير، وعلى نقيض ما نراه اليوم من أشباه النقاد والدارسين المتفرنجين الذين وكأني بهم يصرخ «ابن جني وقدامة بن جعفر البغدادي والجاحظ وأبو هلال العسكري» ويلكم ماذا تهدمون وتخربون...؟!، فكم ألقى النقد الجاد القبض ما قبل السبعينيات من القرن الفائت على من حاولوا امتطاء صهوة الشعر من أشباه الفرسان، في حالة تلبس واعتداء متعمد على الشعر والشعراء في آن، من الذين حاولوا البناء بغبار وركام اللغة ورمادها أشكالاً وأجساماً لا روح لها ولا لون ولا طعم ولا رائحة، ممن تغص بشللهم شتى منابر الأدب المظلومة والمعتدى عليها، وامتلأت الساحات الأدبية بأشباه الشعراء وأشباه الكتّاب في مجال القصة والرواية، من ذوي الأقلام الدونكيشوتية، التي فشلت في خلق وتكوين ذائقة حقيقية وجمهور متلق بما تعنيه الكلمة، والذي كان وصار هو الخاسر الوحيد، وغدا الشعر خاصة ومنذ عقود طويلة وحتى اللحظة يراوح في المكان دون أن يشار إليه بإصبع مدح أو قدح، فمنذ عقود وهو بانتظار التئام محكمة عادلة تعطي حكماً صحيحاً مبرماً ونافذاً ينفي ما ابتذل وما رخص وما هبط خارج حدود الأدب عامة والشعر خاصة، وتجريده من جواز سفره المزيف شعراً كان أو قصة أو رواية، وأن تصدر أحكاماً قابلة للتنفيذ جريئة صارمة مبرمة غير قابلة للطعن، ومن شأنها القضاء التام على الشللية والكونتونات والقبائل والمضارب والعصابات التي احتلت الساحات الأدبية.. وكنس غبارها من محراب الأدب!!.