حاجتنا للشعر .. هل يلغيها التقدم العلمي؟
أنسي الحاج
كان للتقدم العلمي الذي أنتج ثماره في القرن التاسع عشر، والقرن العشرين خاصة، أثر كبير في تغيير بعض المفاهيم والاراء فيما يتصل بالفن عامة وبالشعر على وجه الخصوص، فإن اكتشاف كثرة من القوانين، والاعتماد على تطبيقها قد سهل من معاناة الناس، الأمر الذي حدا ببعض العلماء والمفكرين إلى تبني العلم ، والإشادة بدوره في الحياة الإنسانية، مغفلين دور الفن والفنان، بل ناعين عليهما الاعتماد على العواطف، والخيال المناقضين لطبيعة العلم القائمة على الحقائق الصلبة. ولعل الشعر هو الفن الأول الذي هاجمه هؤلاء ذلك أن العلم - كما يزعمون- قد حاصر هذا الفن في مكمنه وقضى عليه.
فالشعر لا يعيش إلا في الأجواء الغامضة والأسرار والضباب، وقد بدد العلم هذا كله، وجعل سماء الشعر عارية لا مجال فيها لخيال أو ضباب. والشعر لا يحيا إلا بهما وفيهما ولذلك قال بعضهم: هل يظل الشعراء يذكرون القمر بروحهم الرومانسية، ويتعاملون معه بالأخيلة الحالمة بعد أن وصل إليه الإنسان ومشى فوقه، وأخذ من صخوره نماذج لدراستها؟... ولكننا نرد على هؤلاء قائلين: إن التقدم العلمي، واكتشاف الإنسان لكثير من قوانين الطبيعة شيء لا ينكر، وهو صاحب أثر كبير في تقدم البشرية، ولكنه في الوقت نفسه لا يقف حائلاً دون الناس والشعر، فنحن على الرغم من علمنا أن النجوم من معدن وصخر ونار، ما زلنا ننظر إليها من ناحية جمالها لا من ناحية تكوينها الذي لا يعنينا، فلسنا مختصين بدراسة النجوم، ولكن الفنان أو الشاعر او محب الشعر والفن لا يعنيه منها إلا الناحية الجمالية. وعلى الرغم من علمنا أن عين المرأة كأية عين إنسانية مكونة من دم وأنسجة، فإن الشعراء لم يهتموا بذلك، ولا اهتموا بأنها تتألف كسائر المواد العضوية من آزوت وفحم وماء... إنهم لا يهتمون بهذه المعلومات لأنهم ليسوا بعلماء، وكل ما يعنيهم هو(جمالية) هذه العيون فوصفوها في صور شعرية رائعة أثارت إعجاب الناس واستحسانهم، ولذلك لم تمنع تحليلات نيوتن للنور من أن تحجب جمال قوس قزح، ولم يمنع كون الصوت ذبذبات تنتشر فوق أمواج كهربائية من أن يطرب لإيقاع الشعر، وروعة الأغاني وجمال الموسيقى.
على أن جانباً آخر من القضية مازال في صف ما ينادون بأن الـشعر قد مات، ذلك أن جماعة أدونيس التي أصدرت مجلة (شعر ) و(حوار) منذ حوالي 45 عاماً قد دعوا إلى ما أسموه (قصيدة النثر) ، أي أن مقطوعة النثر التي كانت تسمى ( نثراً شعرياً) أصبحت في مستوى الشعر الموزون الجيد إذا كانت جيدة ويطلق على صاحبها لقب (شاعر) وعلى المجموعة منها لقب (ديوان) ، وشعراء الحداثة الجدد قد أخذوا كل مفاهيم جماعة مجلة (شعر) اللبنانية القديمة، فكتبوا شعر التفعيلة غامضاً تماماً، او تجريدياً تماماً، أو بين بين.
أما (قصيدة النثر) فقد كان فارسها القديم أنسي الحاج، ولعلنا نلمح بعض طعم روحه - إن صح التعبير- في الجمل الآتية: (لم العشب- والأغنية الجزيرة- وهذه العيون- وهذه الأحشاء والعيون- بأبأة الأحشاء والعيون- والغلطة- والعشب والأغنية الجزيرة- مادمت رقصتي- ما دمت مرجلي ...الخ)، وبعض شعراء (قصيدة النثر) ينسجون على هذا المنوال، قتامة غموضاً شديداً، فهذا واحد منهم يقول (من ضلع صحراء قد اشتدت - سما - إذ مر رشقت به حربة من وحدة ما- فحمية- صدأ يتناسل حتى فرغ نقطة- أبيض كمخاضة- برق فراغ ما لم يعلمه ضل - راكد كسماء...الخ).
من هنا عاش رأي الذين قالوا إن الشعر مات موزوناً ونثرياً، ولكن الغالب على اتجاه ( قصيدة النثر) - ولنا رأي فيها ليس هنا مجاله- أنها اتجهت إلى الواقعية الأليفة التي عرفت كاتجاه عام في شعر رواد حركة الشعر الحر أو شعر التفعيلة. والمعروف أن كتابة (قصيدة النثر) بصرف النظر عن الاختلاف في التسمية، تحتاج إلى موهبة كبيرة تستطيع أن توفر للكتابة النثرية كل خصائص القصيدة الموزونة الجيدة، من هنا كان تعثر الكثيرين من فقيري المواهب الذين يحاصرونك في كل مجالات النشر بخواطر فجة أقرب إلى خواطر المراهقين .
ولكن على الرغم من كل ذلك سيظل الشعر الراقي، مهذباً للوجدان، ومتنفساً لعواطف الانسان. ونحن نقول لمن ينادون بأن التقدم العلمي قد قضى على الشعر وأن الصواريخ قد مزقته: إن الإنسان قد عاش بغير صواريخ ملايين السنين منذ أن خلقه الله سبحانه، ولكنه لم يعش عصرا واحداً من غير شعر او فن كما يقول العقاد .
د. أحمد غنام