الحس الوجداني
في مجموعة «أتيت إليّ» للشاعر فرحان الخطيب
ها هو الشاعر يواجه العالم الغريب ونفسه مفعمة بالحب والتأمل الهادىء، الذي ينطوي على حدس ما، فلم يمثل الشعر لديه جزءاً من الحياة، بل الحياة كلها بصورة مطلقة، وشعره يشير إلى خفير أنثوي ينطوي على موجة كبيرة من موجات الشعر الرقيق والخلقي، الذي يفضي عن مكنوناته الدفينة لاحتضان المحبوب في صورة اتسمت بشفافية ومصداقية:
كالطير كنت
وكنت فوق الجرح خيطاً من ندى
كالأغنيات يهل دمعك..
تسألين عن التوجع..
حيث أني..
لم أزل ألماً أفيض..
وهمت في عين المدى..
كقوافل الأشجار كنت
وكنت أبحث عن ملاذ
أتقي من قيظ عمري (ص 25)
يملك الشاعر نقاء السريرة وطهارة النفس لأدواته التعبيرية، فنحى منحى الرومانسية وخلعت فينوس كل الأقنعة وارتدت ثوبها الشفاف بألوانه الزاهية وأطيافه الساحرة، فغدت فينوس الرائعة وكل ما فيها جميلاً:
ها هو الثغر في محياك ورد
يتجلى.. ولؤلؤ. جذاب
فاسقي ظمآن من رضابك خمراً
واغمريني.. فقد زها العناب
كل ما فيك سوسن.. ياسمين
كل ما فيك.. ليلك.. وثاب
أنت كالروض.. فتنة العين أنت
متحف الحسن.. للرؤى خلاب (ص 73)
يضع الشاعر نفسه للخشوع المقدس تحت النجوم الخالدات بصورة نقية تثور في النفس مشاعر وجدانية ترتقي كالطوفان إلى قمة الجبل تجرعه خصص اليأس من المفارقة ما بين الواقع والحلم.
فيتعامل معها تعامل الصوفي مع الحقيقة المطلقة حاملاً بين ثناياه إشعاعات الرموز الخصبة والولادة الجديدة:
أيهذا القلب خذني لحظة
صوب عينيها.. إلى بحر الهيام
علنا نصبح فوق الغيم لحناً
سرمدياً.. أراجيح الغمام
علنا نقطف زهر اللوز، جهراً
أو عساه اللوز.. يشفي لي مرامي
علنا نشعل من آهاتنا
زورقاً للروح.. في يم الظلام
امتلك الشاعر ناصية الشعر ورسم بالمفردات صوراً أنسجها لوحات فنية تأرجحت ما بين الواقع والرومانسية تلك الصور ارتقت في وجدانيتها فأمست قيماً مثلى ومعاني مجردة تختصر المحدود إلى اللامحدود والنسبي إلى المطلق.
أطلقي الآهات سرباً من نجوم
وانثريها.. فوق أحلامي ونامي
علنا نغدو كأطيار السّواقي
أو مروج.. أعشبت جمر الغرام (ص 53)
كان أسلوب الشاعر سلساً وتصويره جميلاً وكان رشيقاً وبارعاً في الانتقال من معنى لمعنى آخر، ومن مشهد لمشاهد عدة انتقالاً يحرك في النفس المتابعة لصور وخيالات تزداد جمالاً وروعة.
ولكن هذا لا يعصمه ولا يبرر الإكثار من أفعال الإثبات والتأكيد «الأفعال المضارعة»، التي استوقفتني في قصيدته «لعينيك» التي لا تتجاوز عشرة أبيات حتى كدت أرى في عينيها ما يجعل المشاهد لها في وضع يتطلب التهيؤ والحذر والاستنفار، كان على شاعرنا أن يعبر عن جمال عينيها دون اللجوء للإكثار من تلك الأفعال إذ وردت الأفعال التالية:
« أصبح- أجمل- أغفو- يشدو- أحلم- يذوب- يطفو- أعدو- هلّ- ماس- أحمل- أتشهى».
حمل الشاعر هموم وطنه ومآسيه فكان صدى لهمسات الوطن ومثالاً لوفاء المواطن، تغنى بأمجاد الأمة وكان يراعه ترجماناً لمشاعره الوطنية، ها هو يمجد المجاهدين «الشيخ صالح العلي وسلطان باشا الأطرش»..
وقم يا «العليَّ» إلى غزة
إلى مجدل الشمس في الباكرة
ليحيا الجلاء على أرضنا
وترحل عنها قوى فاجرة
ومن أطرش قد حملت السلام
سلاماً على روحك الطاهرة (ص 109)
المجموعة من الحجم الوسط تربو عن المئة والعشرين صفحة صادرة عن دار الخير للطباعة والنشر.
إسماعيل ديب