ضابط مع وقف التنفيذ ..للكاتب / محمد ضاهر

في إحدى القرى الصغيرة بصعيد مصر كان هناك عائلة صغيرة وفقيرة جدا حيث كان الوالد مجرد حارس بإحدى المدارس الحكومية وعلى كاهله زوجة مريضة وأربع بنات وولد واحد , جعلت الوالد يصر على تربية ولده أحسن تربية وإدخاله المدرسة لينال فرصته بالتعليم المجاني بالقرية , وكانت البنات تساعد الأم في أعمال المنزل وأعمال الزراعة في الحقل الصغير الخاص بالحارس والذي كان ميراث والده فقط الذي حصل عليه !!
مجرد فدان ونصف فقط لا غير كان يسترزق منه الفلاح لإطعام أهله والباقي كان يحتفظ به ليكون عونا وسندا في تعليم ولده الوحيد وأمل العائلة لتخليصهم من الفقر الذي هم عليه !!
ولتخفيف الثقل عن كاهل الأب بزواج أخواته اللاتي لم يتقدم لهن أحد لمعرفتهم بحال الأسرة الفقيرة وانعدام المادة بتجهيزهم من قبل الأسرة ..
وبفضل الله عز وجل تفوق هذا الولد البار لوالديه حتى تخرج بمعدل عالي على مستوى المحافظة بمجموع 91 % وكان هذا المجموع يؤهله لدخول كلية الضباط , ليخدم وطنه أولا , ومن ثم يحمل المسؤولية عن كاهل والده بعلاج الأم بأفضل المصحات الخاصة بعد أن عجزت المصحات الحكومية بتوفير جزء بسيط من مثيلاتها الخاصة !!!
والجميع يعلم بمشاكل المستشفيات الحكومية في البلاد العربية دون استثناء !!!
وهذا ليس موضوعنا الذي سنتطرق إليه لاحقا إنشاء الله تعالى في الخواطر التي تتهافت علي بين الحين والأخر !!!
وليجهز أخواته بكل ما لديه من مال سيحصل عليه بالحلال لرد جزء من تضحيتهم له خلال السنوات الماضية , وعاش الجميع هذا الحلم الجميل , والجميع غير مصدق أن عهد الفقر والحرمان سينتهي بقبول أخوهم أحمد بكلية الضباط !!!
وكل أخواته بدأن يحلمن بالعريس الذي سيطرق الباب ليقترن بهن تشرفا بأخيهم الضابط !! الذي سيكون هناك على كتفه النجوم والنسور والسيوف والأغصان وووإلخ من رتب عالية تشرف أي شخص ليتقدم لهن وبسرعة !!!
وفي يوم المقابلة أو في اليوم الموعود الذي كان الجميع ينتظرونه بفارغ الصبر , قام الوالد بإيقاظ ابنه من النوم لصلاة الفجر , ومن ثم أهل بيته , فصلى بهم جماعة ودعا لهم بالتوفيق , وبدأت البنات بتجهيز الإفطار الذي كان مميزا بالفطير المشلتت وعليه السمن البلدي الذي يسيل له اللعاب , والبيض المقلي بالسمن البلدي أيضا ذا الرائحة الشهية لأكله ساخنا من شدة لذته , والخبز الساخن عن التنور فورا , والعسل الأبيض الصافي , وطبعا الجبن والحليب من جاموسة هذا الحارس البسيط .
ولأول مرة كان الجميع يعمل بفرح وسرور وضحك وبعض القفشات البريئة من هذه الأخت ومن الأخرى ونظرات الفرح وكأن العريس أصبح على الباب !!!
وبعد الإفطار الغير طبيعي لهذا اليوم بدأت البنات بتجهيز أخوهم , فاطمة أخذت القميص تكويه له وزينب تلمع الحذاء وحميدة تسرح له شعره , وأخيرا أخته سكينة جابت العطر الخاص بها وبدأت تعطر أخوها بهذا العطر الذي ملأ الجو بالضحك والابتسامات البريئة , والأم تنظر لهم وهي تحبس دمعتها من الفرحة , وكانت تدعوا الله عز وجل بكل جوارحها بالتوفيق لهم جميعا , وكانت منتظرة الفرج لتتلقى العلاج المناسب ...
والأب كان يرقص طربا لبداية نهاية عذابه هو وأسرته وبدأ يحلم كيف أن جميع أهل القرية سينادونه بوالد الضابط أحمد !!
فأخذ يرشف من سيجارة لف كانت بين أصبعيه وينفث الدخان وكأنه تنين ضخم ينفث النار من فمه !!!
خرج أحمد برفقة والده لأول مرة بحياته إلى المدينة ليرى حياة غير التي تعود عليها في قريته البسيطة , ضجيج السيارات , وصراخ الناس المتداخل مع بعضه البعض دون أن يفهم شيء منه , رائحة العادم من السيارات الكبيرة والصغيرة ,وفجأة سمع صفارة الشرطة وهي تطارد إحدى السيارات , فتخيل نفسه ذاك الضابط الذي يقود السيارة وكيف قبض على المجرم الخطير , ليخلص بلده من أمثالهم وهم كثر في كل مكان تجدهم , متشابهون بأسلوبهم مختلفون بوضعهم الاجتماعي !!!!!
فهذا يسرق لفقره , وذاك يسرق لأهله وكثرة طلباتهم , وهذا يسرق ليأخذ حقه بيده , وغيره لتوفير العلاج لإبنه , ومنهم ليزوج ابنته , وهذا وذاك وغيرهم ؟؟؟ أما أن تكون بوضع مستقر وصاحب نفوذ ووضع اجتماعي مميز ومرموق ثم تسرق !!! لماذا هل لزيادة أمواله التي لا تحرقها النار ؟؟!! أم لبسط نفوذه على مساحة أكبر ؟؟ أم ضعف النفوس وسيطرة الشيطان عليها ؟؟ أو لمرض نفسي يعاني منه منذ الصغر فأراد أن يعوض نقصانه عند الكبر ؟؟؟ أو وأم وغير ذلك من الأسباب التي لا تعد ولا تحصى !! ولكن المسمى واحد أنه سرق وأصبح حرامي !!
وأخيرا يصل أحمد إلى كلية الضباط برفقة والده الذي كان متباهيا به طوال الطريق ,بالقطار سأله أحدهم رايح فين يا حج أبو أحمد ؟؟
أنا رايح الكلية الحربية عقبال عيالك أحمد حيدخل كلية الضباط !!
مبروك ياحج يا أبو الضابط ..
فخرج من سرحانه بسؤال شاويش على الباب ..
رايحين فين ؟؟
فأجابه الحج أبو أحمد : إبني عنده مقابلة دلوقتي مع حضرة القومندان الكبير ... إحنا نروح فين ؟؟
فنظر الشاويش لهم نظرة عطف وكأنه يقول بنفسه : مسكين الحج ده بيحلم كثير .. بس خليني أكسب فيه ثواب وأساعده .
فترك مكانه مشكورا وأوصله إلى غرفة التسجيل والمقابلات , وقال له ياحج : خليك هنا وإنتظر بالدور حتى ينادوا على إسم إبنك .
فأخرج الحج على بساطته ربع جنيه ودسها بجيب الشاويش !! وصار يدعيله من كل قلبه وقال له وهوا مزهوا بنفسه نافخا صدره إلى الأمام , إنشاء الله يا وش السعد حأخلي إبني بس يصير ضابط يجيبك عنده , أصله إنت إبن حلال ....
بالقاعة كان هناك شباب متخرجين مع أحمد بنفس السنة مع إختلاف المدارس طبعا !!! واحد من المدرسة الأمريكية والثاني من المدرسة الفرنسية وأخر من الإنجليزية والباقي مدارس أول مرة أسمع فيها بس كلها مدارس أبناء الذوات ..!!
والذي كنت متأكدا منه وعلى ثقة به أن ولدي الغالي كان أعلاهم بالدرجات 91 % مين بيقدر يجيب زيه ...!!!
وبعد أن دخل الجميع على المقابلة .. طبعا مش بالدور بورقة صغيرة كانت مع كل واحد .. مش عارف فيها إيه .. بس كان الجميع يخرج وهو يضحك .. فإستبشرت خيرا وخصوصا في واحد كان محصل على مجموع درجات 65 % وتم قبوله بالكلية .
فناداني العسكري الذي كان واقفا على الباب وسألني :
إنت موعدك النهاردة ؟؟
فقلت له :
نعم
فسألني أوراقك كاملة ؟
فقلت له :
نعم
فنظر العسكري نظرة خاطفة إلى الأوراق وقال :
طيب إتفضل إدخل
فدخل إبني أحمد باب المكتب بقدمه اليمنى كما وصته والدته ووقف أمام الضباط بكل إحترام وتقدير ..
إسمك إيه ؟؟
إسمي أحمد محمد عبد المقصود .
عمرك كم سنة ؟؟
عمري يا فندم 18 سنة .
يعني إنت خريج السنادي ؟
نعم يا أفندم .
جبت كام ياحمد مجموع ؟
جبت ولله الحمد بفضل الله ودعاء الوالدين 91 %
ممتاز ليه ما دخلتش كلية الطب بالمجموع ده ؟
لأنه يا فندم كل واحد بحب عمله راح يبدع فيه ويخلص له !!
وأنا طول عمري بحلم أصير ضابط شرطة أخدم فيه بلدي مصر العروبة .. مصر الحرية .. مصر الديمقراطية .. مصر العدل .. مصر هي كل حاجة حلوة عندي !!!
ممتاز يا أحمد .. إنت مواطن بتحب وطنك , وكلنا معك !!
بس ماقلتليش بابا بيشتغل إيه ؟؟!!
تمتم قليلا أحمد وقال :
والدي إنسان عصامي بيشتغل بالقطاع الحكومي ..
ممتاز بس بيشتغل إيه ؟؟!!
بيشتغل حارس مدرسة بالقرية
فنظر الضباط إلى بعضهم البعض باستهزاء , وفي أنفسهم يقولون مش ناقص غير إبن الحارس بكرة يجلس معانا !!!!
وهنا لب الموضوع الذي من أجله كتبت هذه المقدمة الطويلة !!
لماذا أولاد الذوات فقط هم يجب أن يكونوا ضباطا ؟؟
ولماذا هم أيضا يجب أن يكونوا وزراء ونوابا ؟؟
لماذا هم فقط يجب أن يستلموا زمام أمور الدولة ؟؟
هل هم أكثر ولاء لبلادنا مننا ؟؟
أم هم أكثر ذكاء من أبنائنا في تحصيلهم العلمي ؟؟
ما هو المقياس الذين يقيسون به الولاء ؟؟
وهل أصبح الوطن مثل قالب الحلوى يتم تقسيمه حسب وضعه المالي ووضعه السياسي والاجتماعي ؟؟
هل نسينا من هو والد الزعيم العربي الحر الغيور الشريف الحبيب الغالي على نفوس الأمة العربية كلها , الزعيم البطل الذي وقف بوجه العدوان الثلاثي على مصر العروبة ؟؟
أم نسينا ماذا كان يعمل والده ؟؟
أم من أين تخرج هذا الزعيم الروحاني الكبير الذي مازال إسمه محفورا في قلوب الناس الشرفاء فقط ؟؟
من مننا لا يعرف إسمه ؟؟
حتى الطفل في رحم والدته الشريفة صار يعرف إسمه من خلال إتصاله بوالدته !!
لأن دمها لا يعرف إلا عبد الناصر رحمه الله تعالى
ألم يكن والده فلاح بسيط !!!
ألم يمت ولم يورث أهله سوى ( 400 ) أربعمائة جنية مصري فقط لا غير , كانت من مجموع ما وفره من رواتبه !!!
أما الأن نرى الجميع يتناحر على هذا الكرسي الصنم !!
لماذا ؟؟
طبعا من أجل زيادة جبال الأموال في بطونهم وكأنهم معمرين مدى الدهر !!
ليس حسدا ولكن محاسبتهم !!
من أين لكم هذا ؟؟
وأنتم رواتبكم ومدخولاتكم معروفة !!!

وهل نسينا أو تناسينا عندما جعل رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قيادة الجيش تحت راية شاب لم يتجاوز العشرون عاما وقال : ملعون من الله ورسوله كل من يتخلف عن جيش أسامة !!!
وكان بالجيش كبار الصحابة المقربين من الرسول !!!
إذا لماذا لا تريد الحكومات العربية أن يكون أبناء العامة الفقراء بالذات في المراكز الحساسة بالدولة ؟؟؟
سؤال مهم يجب أن نسأله لأنفسنا ألف مرة لماذا ؟؟؟؟
هل الفقراء سوف يسرقون الدولة فقط ؟؟؟
وهنا أذكر كلمة للفنان نور الشريف قال فيها :
عمار يا مصر صارلك سبعة ألاف سنة بتن سرقي وبعدك بتتطعمي عيالك !!!
ولماذا يجب أن نتشاءم بالجميع بأنهم حرامية !!!
ولكن باعتقادي أن الدولة لا تهتم بالسرقات ولكن هدفها أكبر من ذلك ورؤيتها أبعد من ذلك بكثير !!!
قد يكون حفاظا على العروش بمباركة الاستعمار بعدم وصول الطبقة الفقيرة أو الوسطى للكرسي !!!
لثقتهم بأن هذه الطبقة هي الشوكة في حلقهم وعيونهم !!!
هؤلاء هم الذين لا ينقادوا لهم بسهولة !!
هؤلاء الذين ترعرعوا وتربوا على مخافة الله وحب الوطن والولاء للأمة العربية , والغيرة على أعراض أهلنا من جميع الجنسيات والأديان والخيانة خط أحمر ...
هؤلاء من نخاهم وأستنجد بهم لن يخذلوه أبدا حتى ولو دفعوا أعمارهم وأولادهم فداء لهم ...
هل أولاد الذوات مستعدين إلى مثل هذه التضحيات ؟؟؟
القليل منهم فقط والمعدود على الأصابع
الذين قد يضحون والباقي تجده في عالم أخر يعيش في الملذات والمال المنهوب من الشعوب الفقيرة !!!
فالتاريخ هو الشاهد عليهم !!!
من هم قادة الثورات على مر التاريخ ؟؟؟
ومن هم القادة الذين جروا بلادهم الى الخذلان بأحضان الاستعمار ؟؟؟
أرجعوا إلى التاريخ الذي يعيد نفسه مرة أخرى !!!
أيها الحكام لا تجعلوا التاريخ يلعنكم !!!
وتذكروا ما قاله الحكماء ( لو دامت لغيرك ما اتصلت إليك )
وتذكروا أنكم ستقفون بين يدي الله فماذا ستقولون له ؟؟
يوم تشهد عليكم ألسنتكم وجلودكم وأيديكم !!!
ولن تفيدكم أموالكم ولا جيوشكم ولا أحد وأنتم على ثقة بذلك !!!
فماذا إدخرتم لأخرتكم ؟؟؟
أفيقوا أيها الحكام وخذوا العبرة من سقوط الأندلس !!!
وتذكروا قوله تعالى ( لن ترضى عنكم اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم )
اللهم إني بلغت .. اللهم فأشهد