الصوفى
تعودت منذ سن العاشرة على مصاحبة أبى فى رواحه ومجيئه فى البلدة والبلدات المجاورة كان يصحبنى للمساجد للصلاة وسماع الدروس بعد العصر بشكل شبه يومى وكنت أصاحبه لما يسمونه مجالس الذكر وللمجالس فى قصور الأمراء لسماع الشعر وغيره وفى يوم جاء العم إسماعيل العدنى للبيت وجالس أبى طويلا ولما دخلت عليهم ملقيا السلام فردوا بأحسن منه ثم قال العم لأبى هل تذهب مع للصوفى الذى حدثتك عنه فرد إن شاء الله بعد العشاء الليلة وفى المساء خرجت مع أبى للصلاة وبعد الصلاة اصطحبونى معهم وسرنا كثيرا حتى خرجنا للمزارع وفيها وجدنا عشة وجدنا فيها رجلا عليه مرقعة من الصوف فقال له العم السلام على مولانا سهل فسكت الرجل قليلا وقال السلام والرحمة لك ولمن معك تفضلوا بالجلوس فجلسنا على قش يغطى الأرض حول العشة فقال العم صديقى محمد جاء ليسمع كلامك فى التصوف فقال الرجل إنه كلام الحق وليس كلامى فسأله أبى ما التصوف يا مولانا ؟فقال قال مولانا الجريرى الدخول فى كل خلق سنى والخروج من كل خلق دنى وقال سيدنا الجنيد أن تكون مع الله بلا علاقة وقال شيخنا رويم استرسال النفس مع الله تعالى على ما يريد وقال سادتنا تصفية القلب عن موافقة البرية ومفارقة الأخلاق الطبيعية وإخماد الصفات البشرية ومجانبة الدواعى النفسانية ومنازلة الصفات الروحانية والتعلق بعلوم الحقيقة واتباع الرسول (ص)فى الشريعة وقال شيخنا عمرو بن عثمان المكى أن يكون العبد فى كل وقت مشغولا بما هو أولى فى الوقت وقال أحد أبدالنا أوله علم ووسطه عمل وأخره موهبة من الله تعالى وقال أحد سادتنا ذكر مع إجتماع ووجد مع إستماع وعمل مع إتباع فقال أبى معظم هذا يا مولانا يعنى الإسلام ومن ثم فالتصوف هو الإسلام فامتعض الرجل وقال التصوف مبنى على الإسلام ولكنه ليس الإسلام فقلت أنا للرجل إذا لم يكن كله الإسلام فهو جزء من الإسلام فقال أبى سائلا وما صفات الصوفية ؟فرد قائلا :
قوم هموهم باللــه قد علقت فما لهم همم تسمو إلى أحــد
فمطلب القوم مولاهم وسيدهم يا حسن مطلبهم للواحد الصمد
ما إن تنازعهم دنيـا ولا شرف من المطاعم واللذات والولــد
ولا للبس ثياب فائـــق أنق ولا لروح سرور حل فى بلــد
إلا مسارعة فى إثر منزلـــة قد قارب الخطو فيها باعد الأبد
فهم رهائن غــدران وأودية وفى الشوامخ تلقاهم مع العـد
فقلت ولكن سيدك الجنيد قال فى تعريفه أن تكون مع الله بلا علاقة وأنت هنا قلت قوم هموهم بالله قد علقت فهنا علاقة فقل لى هل لهم علاقة أم لا ؟فقال أبى اصمت يا محمد واترك مولانا يحدثنا فتناسى الرجل كلامى وقال الصوفى يا أحباب هو القائم فى الأشياء بإرادة الله تعالى لا بإرادة نفسه فلا يرى فضيلة فى صورة فقر ولا فى صورة غنى وإنما يرى الفضيلة فيما يوفقه الحق فيه ويدخله عليه ويعلم الإذن من الله تعالى فى الدخول فى الشىء فقاطعته قائلا إذا فهو نبى يوحى الله له فالعلم بالإذن من الله لا يكون إلا وحيا فنهرنى أبى فقال لقد علمك ابن عبد العليم الجدال فاسكت فقال الصوفى وقد يدخل فى صورة سعة مباينة للفقر بإذن من الله تعالى ويرى الفضيلة حينئذ فى السعة لمكان الإذن من الله فيه فلم أستطع صبرا على كلام الرجل فقلت قلت إن الفضيلة لا يراها الصوفى فى كل من الفقر والغنى ثم قلت ويرى الفضيلة حينئذ فى السعة فهنا الفضيلة فى الغنى وكل هذا متناقض فنظر لى أبى نظرة غضب وقال قم وانصرف بعيدا عن هنا فأطعت وسرت مسافة ثم استندت لشجرة بظهرى لا تبعد أكثر من ثلاثين ذراعا من مكانهم ووقفت أسمع الكلام الذى كان يأتى لمسامعى دون إذن منى وإن كنت أرغب فى سماعه وكان قول الرجل لهم بعد انصرافى من مجلسهم :الصوفى يا أحباب من صفا من الكدر وامتلأ من الفكر وانقطع إلى الله من البشر واستوى عنده الذهب والمدر فقلت فى نفسى وكيف ينقطع الإنسان عن البشر؟لو فعل لعصى الله فى قوله "وتعاونوا على البر والتقوى "فالتعاون لا يحدث إلا بإشتراك المسلمين معا ولو انقطع لعصى قوله "واسعوا إلى ذكر الله"فهنا صلاة الجمعة واجبة ولو انقطع لعصى قوله "فانتشروا فى الأرض وابتغوا من فضل الله"فالإنقطاع يعنى عدم الإنتشار وعدم إبتغاء فضل الله بالسعى وراء الرزق وعندما انتهى أبى والعم من مجالسة الصوفى عوجا على وقال لى أبى ما فعلته ليس من الأدب فى شىء فقلت له يا أبى إنكار المنكر من الأدب ولو سكت عن قول الحق فأنا كما قيل شيطان أخرس والله يقول "ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر "
فى الصباح وفى الساعة الثانية من شروق الشمس ذهبت للمدرسة حيث الفقيه عبد الحق بن عبد العليم وبعد أن ألقى علينا بعض الدروس بدأت فترة النقاش الحر فسألته ما حكم الإسلام فى التصوف فقال يا بنى لا يوجد فى الإسلام شىء اسمه صوفية أو سلفية أو زهاد أو فقراء أو سنية أو شيعية فكل هذه الألفاظ إذا كانت تعنى المسلمين فأهلا وسهلا بها وإن كانت لا تعنيهم فهى ليست من الإسلام فى شىء فقلت يعنى إن الإسلام هو الصوفية هو السلفية هو الزهد هو السنة هو دين الشيعة هو دين الفقراء إلى الله فسألته فما رأيك فى التسميات ؟فأجاب إذا كان الإسم الصوفية نسبة للبس الصوف فليس لبس الصوف واجبا على المسلمين ومن ثم فإطلاق الكلمة على المسلمين ليس فى محلها لأنهم يلبسون قطنا وكتانا وغيرهم وإذا كان الإسم السلفية نسبة للسلف دون تحديد فإطلاقها خطأ فلابد أن يكون السلف محددا وهو الرسل وأتباعهم فقلت وما مرد كلمة الصوفية أيضا ؟فقال الفقيه قالوا إنها نسبة للصف الأول أمام الله وكذب من قال هذا فالصف الأول هم المقربون السابقون وهم المجاهدون لقوله بسورة النساء "فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة "ومعظم المتصوفة قعدة عن الجهاد الحربى فضلا عن قعود كثير منهم عن السعى وراء الرزق فكيف يكونون فى الصف الأول ؟ثم تابع كلامه وقالوا نسبة لأصحاب الصفة فى عهد النبى (ص)وقد ذكروا أن هذا لا يستقيم من حيث الإشتقاق اللغوى زد أنهم كانوا يعملون متى سنحت لهم فرصة السعى وراء الرزق وكان كثير منهم يجاهدون فى سبيل الله وقالوا أنه نسبة لصفاء النفس من الذنوب والآثام بطاعة حكم الله فى الليل والنهار وإن كان الإشتقاق اللغوى لا يسمح بهذا أيضا فقلت يا معلم وهل يكون المسلم فقيرا ؟فضحك وقال لكلمة الفقراء فى القرآن معنيين الأول الخلق كلهم مصداق لقوله بسورة فاطر "يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله "ومعناها المحتاجون لما عند الله من أنواع الرزق المختلفة والثانى العجزة وهم أولى الضرر الذين لا يستطيعون ضربا فى الأرض وهم الذين يعجزن عن الحركة بسبب ما أصيبوا به فى سبيل الله من عاهات وجراحات وفيهم قال تعالى بسورة البقرة "للفقراء الذين أحصروا فى سبيل الله لا يستطيعون ضربا فى الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا "وهم المستحقون للزكاة وهى الصدقات وفيهم قال بسورة التوبة "إنما الصدقات للفقراء"فقلت له إذا المسلم لا يكون فقيرا إلا إذا كان عاجزا فهز رأسه وقال نعم فسألته وهل يكون المسلم زاهدا فضحك وقال جاءت كلمة الزاهدين بقوله بسورة يوسف "وكانوا فيه من الزاهدين "ومعناها القانعين الراضين فالسيارة الذين باعوا يوسف(ص)كانوا راضين بالسعر الذى باعوه به ومن ثم فالزاهد هو الراضى بقضاء الله وليس الحارم نفسه من متاع الدنيا الحلال وزينتها لأن من حرم زينة وهى متاع الله الحلال فقد كفر وفى هذا قال تعالى بسورة الأعراف "قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق"وقد عاتب الله نبيه (ص)لأنه حرم على نفسه شيئا طيبا حلالا فقال بسورة التحريم "يا أيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك "ومن ثم من قال أن الأكل والشرب واللبس الحلال والجماع الحلال من غير سرف حرام كافر لأنه حرم ما أحل الله فقلت وقد قال عقلاء بنى إسرائيل لقارون "ولا تنس نصيبك من الدنيا "فالمسلم لابد له من أن يتمتع بما أحل الله إن وجده فى غير سرف ولا كبر ثم سكت فترة وقلت وهل يكون المسلم جوعيا ؟فأغمض عينيه وقال يا بنى من المضحكات أن يجيع الإنسان نفسه والطعام موجود لو أراد الله أن يجيع المسلمين لفرض الصوم عليهم طول السنة ولكنه فرضه شهرا واحدا ليس بقصد التجويع وإنما بقصد تدريب الكل على جو الجهاد حيث الجوع والظمأ وعدم الجماع ولذا فكل من يمنع نفسه من الحلال هو محرم لما أحل الله ولو عقل الجوعى لعرفوا أن الأكل أكثر ثوابا فكل أكلة بعشر حسنات فلو أكل ثلاث مرات لأخذ 30 حسنة بينما لو صام سيأخذ عشرة فقط مصداق لقوله بسورة الأنعام "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها" فحتى قولهم "وأجزى به "يعنى أثيب عليه ولا يوجد فى القول ما يدل على الثواب المحدد وفى قولهم عند أبى داود أن الصوم بعشر حسنات فسألته وهل يكون المسلم شكفتيا ؟فقال لا فالسكن فى الشكفت وهو الغار وحتى الصوامع والبرية محرم لأن الله جعل للمسلمين بيوتا فقال بسورة النور "لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم "وقال "ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت أبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم "ومن ثم فالمسلم لابد أن يعيش فى مسكن وسط ناسه وأما الخلوة والإعتزال فلا يحققان قوله تعالى بسورة المائدة "وتعاونوا على البر والتقوى "فالمع تزل لا يتعاون مع إخوانه ومن ثم فهو عاصى لأمر الله ولا يحقق قوله تعالى بسورة الجمعة "يا أيها الذين أمنوا إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة فذروا البيع واسعوا إلى ذكر الله "فالمعتزل لا يطيع أمر الله هنا لصلاة الجمعة كما أنه قد عصى الله بالزواج وتربية الأولاد حتى يدعوا الله "وقل رب ارحمهما كما ربيانى صغيرا "فقلت إذا فكل من يعتزل كافر فقال لى ليس كل معتزل الناس كافر فمن اعتزل دين القوم الخاطىء ليس كافرا كما فعل إبراهيم (ص)عندما قال لقومه "وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعوا ربى عسى ألا أكون بدعاء ربى شقيا "ومن ثم فالمسلم الذى يعتزل الناس للقيام بمهمة نافعة لهم مثل التفكير فى اختراع يرد كيد الأعداء أو ينفعهم لا يكون كافرا واعتزاله الناس يكون مؤقتا بمعنى أنه لبعض الوقت ولا يمنعه هذا الإعتزال من شهود صلاة الجمعة وغيرها من فروض التجمع فقلت يا مولانا وهل الخلوة مثل الإعتزال فرد الخلوة غير الإعتزال وهى فى القرآن على نوعين الأول الإعتكاف فى المساجد فى رمضان لمن أراد وفيها قال تعالى بسورة البقرة "ولا تباشروهن وأنتم عاكفون فى المساجد"والثانى القيام الفردى وهو الإختلاء بالنفس فى مكان ما قد يكون البيت أو خارجه للتفكير فى الحق أو الباطل للوصول للحق وفى هذا قال تعالى بسورة سبأ "قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفراداى ثم تتفكروا "ولقراءة القرآن كما يقول بسورة المزمل "إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثى الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن "وهو لمن أراد من المسلمين فضحكت فى نفسى وقلت إذا يا مولانا حتى الخلوة تكون داخل أماكن تواجد الناس وليس فى الفضاء والخلاء فابتسم وقال من عرف أنه لا يخاف إذا خرج بمفرده للفضاء والخلاء للتفكير أو قراءة القرآن يباح له الخلوة خارج المساكن وأما من يعرف أنه قد يدخل فى قلبه الخوف مما تصوره له نفسه من أشباح الظلام أو مما يتواجد فى تلك الأماكن من هوام وبوم وخفافيش وغيرها فمحرم عليه الخلوة خارج المسكن فصمت الفقيه برهة وسألنى ولكن لماذا كل هذه الأسئلة يا عبد الله بن محمد؟فابتسمت وقلت له البارحة ذهبنا أنا وأبى بصحبة صديق لأبى لرجل صوفى وكدت أشتبك معه واختلفت مع أبى بسبب ما كان هذا الرجل يقوله فى تعريف التصوف فقال الفقيه إذا قم إلى أبيك الآن واعتذر له عن خلافك معه فامتعضت وقلت للرجل ولكنى أكنت أنكر منكرا فكيف أعتذر عن عمل صالح ؟مد الفقيه يده وربت على ظهرى وقال الإعتذار عن خلافك لأبيك ليس عن إنكار المنكر وإنما على مخالفة أمره بالسكوت حتى ينهى الرجل حديثه وبعد هذا لا تتكلم الآن قم وانصرف فقمت من مجلسى وقلت السلام عليكم .
ذهبت للدار وفى نفسى صراع يدور بين جانبين جانب يقول اعتذر وجانب يقول لا تعتذر ولما دخلت الدار وجدتنى أسرع لأبى قائلا اعفو عنى يا أبى بسبب ما حدث البارحة فأخذنى أبى فى أحضانه وقال لى قد عفوت عنك فسألته لماذا تذهب وصاحبك لأناس وأنت لا تصدق ما يقولون ؟أجاب يا بنى لم يعرف الباطل من لم يتعايش مع أهله فقلت تقصد أننا لا نعرف الحق إلا إذا علمنا الباطل فقال لا قصدت أن الباطل يظهر لنا من خلال معرفتنا بالحق والباطل متغير الأشكال ومن ثم لابد لنا من معرفة الأشكال الجديدة حتى نحذر الناس منها بعد معرفتها ،أردت أن أنصرف فوقفت ولما بدأت الخطوة الأولى قال والدى ما رأيك لو ذهبت معى لمجلس وجد وسماع ؟فرددت أخشى ألا أصبر على ما يقال فأسبب لك حرجا وأظهر أمام الناس بمظهر الإبن العاق لوالده فضحك وقال رحم الله امرىء عرف قدر نفسه فسكت برهة وقال لابد أن تعود نفسك على الصبر عند وجود الباطل الكلامى حتى تقدر على مواجهته مواجهة صحيحة ولن يتأتى لك هذا إلا بسماع ورؤية الباطل والسكوت عليه حتى ينتهى ثم تنكره وبعد أيام صحبنى أبى ومعنا عمى إسماعيل العدنى لمجلس فى تكية الصوفية فى البلدة ولما دخلنا وجدنا قوما يفترشون أرض المكان ثيابهم أكثرها مرقعات من الصوف ولها رائحة عطنة وأقلهم من يلبس ثيابا عادية وفى مكان عالى نوعا ما جلس القوال ومعه آلة موسيقية وبدأ ينشد :
سرت بأناس فى الغيوب قلوبهم فحلوا بقرب الماجد المتفضل
عراصا بقرب الله فى ظل قدسه تجول بهم أرواحهـم وتنقل
مواردهم فيها على العز والنهى ومصدرهم عنها لما هو أكمل
تروح بعز مفرد من صفاتــه وفى حلل التوحيد تمشى وترفل
ومن بعد هذا ما تدق صفاتـه وما كتمه أولى لديه وأعـدل
سأكتم من علمى به ما يصونه وأبذل منه ما أرى الحق يبـذل
وأعطى عباد الله منه حقوقهم وأمنع منه ما أرى المنع يفضـل
على أن للرحمن سرا يصونـه إلى أهله فى السر والصون أجمل
وكلما نطق الرجل بيتا تعالت الصيحات يا حق 000يا هوو 000أكرمك الله 000زدنا 000الله الله000بركاتك يا سيدنا000وهم يسمعون فقط ولا يفكرون مثلهم مثل بقية الناس يعجبون بالألفاظ ويرددونها دون أن يفهموا معناها وهنا كانت القصيدة كفرا فالقلوب التى على الأرض حلت عند الله- مع أن الله ليس فى مكان – بقربه ولا طريقة لهذا حتى على فرض أن الله فى السماء – وهو فرض محال- والقائل يكتم علمه عن الناس وهو علمه بالله مع أن الله يطالب المسلم بنشر علمه للمسلمين وأنشد القوال:
نهانى حيائى منك أن أكشف الهوى وأغنيتنى بالفهم منك عن الكشف
تلطفت فى أمرى فأبديت شاهدى إلى غائبى واللطف يدرك باللطف
تراءيت لى بالغيب حتى كــأنما يبشرنى بالغيب أنك فى الكـف
أراك وبى من هيبتى لك وحشـة فتؤنسنى باللطف منك وبالعطف
وتحيى محبا أنت فى الحب حتفـه وذا عجب كون الحياة مع الحتف
وهى أبيات كلها خبل فما معنى فأبديت شاهدى إلى غائبى فالإنسان كله شاهد ليس منه غائب ورؤية القائل لله "تراءيت لى "وأراك "مع أنه قال لموسى(ص)"لن ترانى "وما معنى أن الحياة مع الحتف ؟أليس هذا جنونا أن تكون الحياة بجانب الموت فى المحب ؟إن المحب حى لا يلقى حتفه بدليل قوله "استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم "وحياة المحب هى فى الجنة أى الدار الأخرة كما قال "وإن الدار الأخرى لهى الحيوان "أى الحياة الحقة السعيدة وقال القوال :
كانت لقلبى أهواء مفرقـــة فاستجمعت مذ رأتك العين أهوائـى
فصار يحسدنى من كنت أحسده وصرت مولى الورى مذ صرت مولاى
تركت الناس دنياهم ودينهـم شغلا بذكرك يا دينى ودنيـــاى
قلت آه من الكفر رؤية العين لله ، الإتحاد بالله حتى أصبح العبد والإله واحد فالعبد أصبح هو الله مولى الورى وإتحاد الكل بالله حتى صار الحاسد محسودا والمحسود حاسدا ثم ختم القوال الوصلة الأولى بقولهم :
أحبك حبـين حب الهوى وحبا لأنــــك أهل لذاكا
فأما الذى هو حب الهوى فشغلى بـذكرك عمن سواكا
وأما الذى أنــت أهل له فكشفك لى الحجب حتى أراكا
فلا الحمد فى ذا ولا ذاك لى ولكن لك الحمد فى ذا وذاكا
قلت كلامها كفر فهى الله يكشف لها الحجب ولم يكشف لموسى (ص)أى حجاب ولما أنهى القوال الوصلة الأولى قلت لأبى إيش رأيك ؟فقال كفر اختلط بإسلام فاسمع ثم فى البيت نتحدث وفى أثناء راحة القوال وزع على الحضور شراب اللوز البارد فشربوا منه ومنهم من استزاد السقاة ثم بدأ القوال ينشد :
لا تخدعن فللحبيب دلائــل ولديه من تحف الحبيب وسائل
منها تنعمه بمـــــر بلائه وسروره فى كل ما هو فاعل
فالمنع منه عطية مقبولـــة والفقر إكــرام وبر عاجل
ومن الدلائل أن ترى من عزمه طوع الحبيب وإن ألح العاذل
ومن الدلائل أن يـرى مبتسما والقلب فيه من الحبيب بلابل
ومن الدلائل أن يـرى متفهما لكلام من يحظى لديه السائل
ومن الدلائل أن يـرى متقشفا متحفظا من كل ما هو قائل
ومن الدلائل أن تراه مـشمرا فى خرقتين على شطوط الساحل
ومن الدلائل حزنه ونحيبــه جوف الظلام فما له من عاذل
ومن الدلائل أن تراه مسافـرا نحو الجهاد وكـل فعل فاضل
ومن الدلائل زهده فيما يرى من دار ذل والنــعيم الزائل
ومن الدلائل أن تراه باكيــا أن قد رأه على قبيـح فعائل
ومن الدلائل أن تراه مسلمـا كل الأمور إلى المليك العـادل
ومن الدلائل أن تراه راضيـا بمليكه فى كل حكم نــازل
ومن الدلائل ضحكه بين الورى والـقلب محزون كقلب الثاكل
قلت هذا والله أفضل مما سبق وإن كان لا يخلو من مخالفة للقرآن حيث سمى الفقر إكرام وبر عاجل وما هو إلا ابتلاء كما قال بسورة البقرة "ولنبلونكم بشىء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون "وجعل المنع عطية وهو تناقض فكيف يكون المانع للشىء معطيا إياه بمنعه ؟وأنشد القوال :
عجبت لمـــن يقول إلفى وهل أنسى فأذكر ما نسيت
أموت إذ ذكرتــك ثم أحيا ولولا حسن ظنى ما حييت
فأحيا بالمنى وأموت شــوقا فكم أحيا عليك وكم أموت
شربت الحب كأسا بعد كأس فما نفد الشرب وما رويت
فليت خياله نصب لعيــنى فإن قصرت فى نظرى عميت
وهو كلام كله تخريف فذكر الله موت مع قوله "استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم "فذكر الله حياة من ضمن الدعوة وجعل لله خيال سبحانه وتعالى عن هذا .
سمعت من أبى ما زاد استغرابى من نية صاحبه إسماعيل أن يتتلمذ على يد سهل الصوفى وهو صاحب أبى ويسمع منه ما يقال فى التصوف والصوفية وقد طار صوابى منى وأنا أراه يرتدى الخرقة فلم أشعر إلا وأنا أعرض عنه ولا أرد السلام الذى ألقاه على وأتركه وأنا غاضب لمكان بعيد وظللت أسير حتى وصلت لشاطىء النهر فجلست عليه ووضعت قدمى فى المياه واستمررت أضرب بها فى الماء ثم غسلت وجهى فأحسست براحة فى قلبى وأن غضبى على العم بدأ فى الزوال فقلت لنفسى :
كان ينبغى أن تناقشه لا أن تخاصمه وتهجره ،كان ينبغى أن تبين له الصواب من الخطأ بدلا من أن تتركه ينساق وراء هذا الشيخ وقمت من مجلسى وذهبت للبيت وبدأت أتصفح بعض الكتب فى مكتبة أبى ولم أستطع القراءة بتركيز كانت عيناى تمران على السطور مرور الكرام ولكن عقلى كان بعيدا يفكر فى العم وقمت ودخلت حجرتى واستلقيت على الفرش ولم أستطع النوم عقلى متحير نفضت عنى الغطاء وأسرعت للخروج من البيت ووجدت نفسى تقود جسمى لبيت أو عشة سهل الصوفى خارج البلدة وعندما اقتربت منه ألقيت عليه السلام فرده باشمئزاز فقلت له حدثنى عن خرقتكم فقال الخرقة يا بنى هى إرتباط بين الشيخ والمريد وتحكيم من المريد للشيخ فى نفسه قلت إذا هى علامة العبودية فابتسم وقال بل علامة توقير الشيخ فالشيخ أعلم فمثلنا ومثل المريد كمثل العبد الصالح الخضر ومثل موسى فقد اشترط على موسى لكى يعلمه أن يطيعه طاعة عمياء فقلت له ولكنهما لم يكونا شيوخا ولا مريدين لأن الشيخوخة لا تتفق مع العلم فقد قال تعالى بسورة النحل "ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكى لا يعلم بعد علم شيئا "فالإنسان عندما يبدأ فى الشيخوخة يبدأ فى نسيان العلم فكيف يكون معلما ؟قال من لم يكن له أستاذ فإمامه الشيطان فقلت ضاحكا كان لليهود وللنصارى وللصابئين وللمجوس ولغيرهم من الأمم أساتذة فهل هم على الحق لمجرد وجود أساتذة لهم ؟فرد أتنكر وجوب وجود معلمين للناس ؟فقلت إن المعلم قد يضل ولكن الله جعل هناك معلما ثابتا ليس من الناس وهو كتاب الله حتى يتحاكم المعلم والتلاميذ له إن حدث خلاف أو ضلال وفى هذا قال بسورة الشورى "وما اختلفتم فيه من شىء فحكمه إلى الله" فقال يا بنى إن الشيخ فى أمة محمد كالنبى فى بنى إسرائيل فضحكت وقلت حتى الحديث أنت لا تحسنه فالحديث رغم أنه لم يثبت فى النسبة للنبى (ص)يقول العالم فى أمتى كالنبى فى بنى إسرائيل"أو "علماء أمتى كأنبياء بنى إسرائيل" فقال سهل إن الشيخ يكون متخلق بأخلاق الله من معنى قول الله تعالى "ألا طال شوق الأبرار إلى لقائى وإنى إلى لقائهم لأشد شوقا "ومن ثم فالمريد يكون جزء من الشيخ كما أن الولد جزء من الوالد بالولادة الطبيعية فقلت له سأوافقك على كلامك رغم أن الله لا يشتاق لأحد لأنه غنى عن كل شىء ومع هذا هل تعنى أن المريد فى النهاية لابد أن يساوى الشيخ؟فأجاب قائلا ليس كل المريدين فكما قال ابن سينا فى كتاب الإشارات "جل جناب الحق أن يكون شرعه لكل وارد أو يطلع عليه إلا الواحد بعد الواحد "فضحكت وقلت معنى هذا أن النبى (ص)الذى تقول أن تصوفك مبنى على دينه الإسلام كان كاذبا عندما أبلغ الرسالة أى الشرع أى الإسلام لكل الناس والشرع كما تقول لا يطلع أحد عليه إلا قلة ودعنى أسألك من يحدد الشيخ أنت أم من فقال الرجل الله فقلت نعم الله هو المحدد لكل شىء ومن ضمنها أنك تقول أنك شيخ وفلان يقول أنه شيخ وحتى أنا من الممكن أن أقول أنى شيخ ومع هذا لا تقدر على تكذيبى لأنى عند نفسى شيخ والشيخ لا يكذب لأنه متخلق بأخلاق الله .
وجدت أنه لا فائدة من الجدال مع هذا الرجل فعملت بنصيحة القائل لا تجادل أحمقا فقلت له السلام عليكم وانصرفت للبيت وفى الطريق قابلت على بن بكر الخارجى فسلمت عليه فرد السلام وقال لى :لقد لبس صاحب أبيك خرقة زرقاء فأخرجت زفيرا حارا من فمى وقلت هداه الله وإيانا للحق فقال على يقولون أن الخرقة عند المريد الصادق حاملة ريح الجنة فقهقهت وقلت إنها غالبا تحمل صاحبها للنار فهز على رأسه وقال ألا تنصحه بالبعد عن القوم الذين هم على أنواع فمنهم أصحاب المرقعات والجوع والذكر ومنهم أصحاب ملأ الكروش والتنبلة والقعود فى التكايا والخوانق فقلت له ونحن أيضا بنا عيوب كثيرة أولها أننا سمحنا بوجود أمثال هؤلاء فى بلادنا الذين حرفوا الدين مع غيرهم مما سمح لغيرهم من أهل الأديان الأخرى بإحتلال بلادنا وتدمير الدولة الإسلامية منذ قرون ووضع على يده على كتفى وقال الإسلام بخير يا صديقى فنظرت لوجهه وقلت الإسلام بخير ولكن من يدعونه ليسوا بخير نفوسهم بعيدة عن طاعته مع أن نيات الكثير منهم خيرة
سرت أنا وعلى فى طريقنا لعمنا إسماعيل وفى الطريق سمعنا بوق الخطر يدوى وبعد قليل سمعنا المؤذنين على مآذن المساجد ينادون حى على الجهاد
على الفور اتجهت لبيتنا وانطلق على لبيتهم وأحضرت السيف والرمح والقوس والسهم وإنطلقت لأسوار المدينة فوجدت العسكر ومعهم بعض الأمراء الذين بدئوا بتوزيع العسكر والجند والمتطوعين على الأسوار وكان نصيبى أنا وبعض المتطوعين الجانب الشرقى للسور وبدأ أحد قادة المئات يلقى علينا النصائح :
لا تضربوا العدو بالسهام إلا عندما يقترب من مرمى سلاحكم من لم يجد سهما فليقذف برمح ومن لم يجد فليقذف بحجر، أى سلم يوضع على السور اقلبوه بمن عليه من كان معه خرقة قديمة فليغمسها فى النفط ثم يشعلها ويضعها فى السهم ويقذفها على خيام العدو .
بعدها انصرف القائد لموضع أخر وبدأت أتفقد المكان فوجدت أن السور لن يتحمل الضربات القوية للمنجنيق فى بعض المواضع وكانت الحسنة الوحيدة فيه هى كثرة الفتحات الصغيرة بطول وعرض السور فقد كانت تسمح لمن فى الداخل بضرب من فى الخارج وإيقاع أى سلم يوضع على الجدار وعدم دخول من بالخارج منها فقال زميلى فى الموقع عبد بن شكرى الأسوار لا تحمى المدن أبدا وإنما يحميها العدل ،إن من يدافع من خلف الأسوار يكون خائفا والخوف نصف الطريق للهزيمة فقلت هيا قل ما عندك فقال الحل هو الهجوم على العدو خارج الأسوار فهذا يشل تفكيره ويجعله يتخبط ولا يهاجم المدينة إلا بعد أن يقضى على المقاومة خارجها فسأل السيد بن عبد الحميد يعنى ماذا نفعل بالضبط ؟فقال عبد نكمن للعدو فى المزروعات ونقتل منهم من نقدر عليه ونحرق خيامهم إن استطعنا ونسمم دوابهم قلت أنا معك
وارتفعت أصوات عشرات الشباب فاتفقنا على تقسيم أنفسنا لمجموعات تقوم كل مجموعة بعمل ما وفى جنح الظلام خرجت مع عبد وخمسة أصدقاء ومعنا بعض الأسلحة وقدور النفط وسرنا بين المزروعات حوالى ساعتين فوجدنا معسكرا للعدو فى مرمى النظر والسلاح فسرنا ببطء وكل واحد ببعد عن الأخر حوالى 20 ذراعا ولما وصلنا لمكان الخيل لم يكن هناك سوى خمسة جنود يحرسونها فتكفل كل واحد منا بقتل جندى وأما أنا وعبد فانطلقنا فقطعنا قيود الخيل من مرابطها ثم وضعنا فى طعامها سما قاتلا حتى إذا أعادوها فأكلت تموت وبهذا يتعبون من السير ومن حمل ما كانت تحمله من مؤن وسلاح ثم جرينا بسرعة ولما تجمعنا كانت حركة الخيل وهى تجرى فى كل إتجاه قد أحدثت بعض الفوضى فى المعسكر ومن ثم ذهبنا لجهة أخرى من المعسكر وسنحت لنا الفرصة فأشعلنا النار فى بعض الخرق المغموسة فى النفط وقذفناها على الخيام فاشتعلت النيران فجرينا بأقصى سرعة نحو سور المدينة وانطلق خلفنا بعض جنود العدو ولكنهم لما وجدوا أنفسهم قد اقتربوا من المدينة عادوا أدراجهم خوفا من أن تكون هناك كمائن تنتظرهم وقبل الفجر بقليل وصلنا ونحن فى غاية التعب لمكاننا فى السور ففتح لنا الأصدقاء الباب فدخلنا ونحن نجر أرجلنا بصعوبة بالغة وألقينا أنفسنا على الأرض جانب السور فنمنا ولم نشعر بشىء إلا والشمس تضرب بأشعتها فى أجسامنا فقمنا وأحضروا لنا بعض الطعام فأكلنا وقمنا نتوضأ وصلينا وخرجت المجموعة الثانية فى وقت الظهر على أساس الضرب فى وقت لا يمكن توقعه وهو وضح النهار كانت الفكرة أن يخرجوا بالحمير وعلى ظهر كل واحد غبيط فى أسفله السلاح وفوقه الردم واقتربت المجموعة من معسكر أخر للعدو وبدئوا العمل فى الحقول بعد أن أنزلوا الردم وأخفوا تحته السلاح وفى وقت تغيير الحراس بدأ ضرب المعسكر بقدور النفط والسهام الحارقة وفى دقائق كانوا قد أنهوا مهمتهم وعادوا بسرعة على ظهور الحمير وكانت الإصابات فى المجموعة خمسة رجال جرحوا بجروح مختلفة ولم يكن هناك قتلى وفى الليل عاودت مجموعتنا العمل وخرجت مجموعات أخرى وفى هذه المرة أخذنا الجانب الغربى للمدينة حيث يوجد تل غير مرتفع كان خلفه معسكر للعدو وكانت الخطة هى تدمير مؤن العدو وكان سبيلنا لهذا هو لبس ملابس مشابهة لجنود العدو ولما اقتربنا من مكان الحرس كان معنا زجاجات خمر أضفنا لها بعض المرقد وبدأنا نتمايل ونتظاهر بالسكر أمام الحارسين فقال أحدهم لنا ألم تخافوا من أن يقتلكم أحد خارج المعسكر ادخلوا ودخلنا وناولناهم زجاجات الخمر دون أن نتكلم وظللنا نسير متظاهرين بالسكر حتى توغلنا داخل المعسكر فبحثنا عن مكان المؤن حتى وجدناه وبجوارها كانت تقف المنجنيقات وقد اقتربنا من بعض الحرس وعرضنا عليهم الخمر فشربوا وبعد ساعة تقريبا كانوا قد ناموا ومن ثم بدأنا فى إشعال الحرائق فى كل مكان عند المؤن والمنجنيقات ومن ثم اختلط الحابل بالنابل فى المعسكر وحاول كل واحد منا الخروج من المعسكر كل حسب مقدرته وكانت النتيجة هذه المرة خسارة اثنين من المجموعة استشهدا وتكررت عمليات الكر والفر ليالى عدة وكل هذا كان بعيدا عن قادة العسكر وعن الأمراء الذين لم يكونوا يحسنون سوى ظلم خلق الله وإنفاق الأموال على ما يغضب الله وأما الحرب الحقيقية فهم لا يخوضونها إلا من وراء أسوار فقط ومن ثم كانت الهزائم تتوالى وكل يوم كانت مساحة دولة المسلمين تقل وتنقص .
وفى إحدى الليالى ذهبت للبيت مع صديقى محمد بن عبد الرحمن لإحضار بعض الحاجات وبعد أن أحضرنا ما نريد سرنا فى طريقنا لمكاننا فى السور فقابلنا سهل الصوفى الذى هرب لداخل المدينة لما وجد العدو النصرانى يقترب من عشته فقلت له ألا تحضر معنا للجهاد؟فقال يا بنى كل الثغور مجتمعة لى فى بيت واحد والباب مردود على فقال محمد لو كان الناس كلهم لزموا ما أنت عليه اختلت أمور المسلمين وانهزموا فانتصر عليهم الكفار فلابد من الجهاد فقال سهل لو كان الناس كلهم لزموا ما أنا عليه وقالوا فى زواياهم على سجاداتهم الله أكبر انهزم الكفار فتحرك محمد جهة سهل لضربه فقلت له وأنا أدفعه بعيدا عنه اتركه الآن فلا حاجة لنا فى أذاه فقال محمد لماذا لم تتركنى أقتله فنتخلص من المثبطين للعزائم الجالبين للهزائم ؟فضحكت وقلت لا يجوز قتل المجانين فقال محمد هل هو ممن يقولون ارتفاع الأصوات فى بيوت العبادات بحسن النيات وصفاء الطويات يحل ما عقدته الأفلاك الدائرات ؟لم أتمالك نفسى من الضحك وقلت أنه ممن يقولون أيضا من الناس أناس لو ارتفعت حواجبهم لقضيت حوائجهم .
وصلنا للسور وبدأت المجموعات تتكاثر وتتنافس فى الخروج لإحداث أكبر قدر من الخسائر فى العدو وبدأ العدو تحت ضغط المجموعات يتراجع وبعد أن كان ينوى الهجوم على المدينة بدأ فى الإنسحاب من مواقعه تدريجيا ورغم هذا كان عدد الشهداء يزداد كل يوم بسبب إقدام المجموعات على مهاجمة العدو والإلتحام معه وبدأت المجموعات تتجمع وتلتقى مع الفقيه ابن عبد العليم الذى كان يثير فى نفوسهم الرغبة فى الجهاد وهزيمة العدو وبدلا من أن يكتفى بإنسحاب العدو من محيط المدينة طالبهم الفقيه أن يهاجموا العدو ليأخذوا ما اغتصبه من المدن الأخرى وبالفعل كونت المجموعات فرق وبدأت أساليب الهجوم تتبدل من مكان لأخر فمن التنكر فى زى تجار وزى قساوسة ورهبان للتنكر فى زى الفلاحين وفى زى جنود العدو إلى مهاجمة القوافل التجارية للعدو وبدأ المتنكرون فى دخول المدن وتحريض الأهالى على طرد الغاصب وفتحوا أبواب الأسوار ليلا وبدأت المجموعات فى الخارج فى دخول المدن وقتل الأعداء وبدأ شباب المدن فى تكوين مجموعات مماثلة وبدأ العدو يتراجع ويترك المدن المغتصبة وسعى ملكهم لتجميعهم لخوض معركة كبرى ضد من ظنهم أنهم الطاردين لجيشه وهم الأمراء وعساكرهم وكان بهذا يعيد السنة التاريخية التى توقف مسيرة دولة على معركة ولكنه لم يجد من يخوض المعركة الفاصلة وإنما وجد جيوشا صغيرة فى مواقع عدة كثيرة وفى أزمنة متقاربة جعلت جيشه يترنح ويفقد توازنه وفى النهاية عاد لبلاده بالفلول التى تبقت من جيشه يجر أذيال الخيبة .