د. بهاء عبد المجيدلعلها مغامرة جريئة ومهمة على المستوى الإبداعى والسردى خاضها الكاتب محمد الشاذلى فى روايته عشرة طاولة الصادرة من دار المصرية اللبنانية عام 2013 بعد مجموعتين قصصيتين لمس الأكتاف 1989
وتعاسات شكلية 1998 حيث استخدم تيمة لعبة الطاولة والشغف بها من خلالها بطلها وإبطالها أن تكون منطلق سردى لحياة البطل الذى نكتشف عالمه من خلال مقابلته وصدامه مع هذه الحيلة التى تعرفنا بعالم البطل، ويمكن تاريخ أبطاله وآلامه وأحلامهم.
الرواية تتعرض لطبيعة الحياة فى مصر إبان الثورة المصرية لخمسة وعشرين يناير وما لها من تأثير مضطرب على سلوك الأفراد حتى فترة 30 يونيو.
الرواية تبدأ بالرغبة فى زيارة صلاح أبو الخير وهو معروف بأنه أمهر لاعب طاولة فى مصر، ولكن نكتشف بنهاية الرواية بأنه من أكثر البشرة معاناة . والبطل نفسه تعيسًا فى الحب رغم تميزه فى لعبة النرد أو الطاولة...
الرواية تدور فى شكل رحلة لاكتشاف النفس وخاصة البطل "رجائى متولى" الذى لا يذكر اسمه إلا نادرًا ويعمل فى مصلحة الضرائب والذى يعانى السأم وملل الحياة الرتيبة، فيقضى وقته فى التنقل من بلد لآخر، فمن ببلبيس بالشرقية لبحرية قارون وادى الريان فى الفيوم وإلى السخنة بالسويس، وهكذا متحججًا بلعب الطاولة ولكن فى أصل أزمته يبحث عن معنى للحياة والوجود وتواق لفكرة الحب والاحتواء هو تمثيل للرجل المعاصر الذى تاهت أحلامه وانكسرت أمانيه ولكنه ظل يبحث.
تبدأ رحلته الحقيقية بالتعرف على آلالاء من خلال صورتها على الفيس بوك من خلال صفحة صديقه كمال، هذا المثقف المستهتر بالوجود وعندما يرى رجائى صورتها يدعى أنها "امراة تمتلك نصف الحقيقة " ثم يذهب فيما وراء وجوده للتعرف عليها وتكون لعبة الطاولة هى السبيل لهذه المعرفة. اللعبة التى تؤدى إلى البحث واكتشاف الحياة وهى تيمة أساسية فى الفن؛ حيث عرف فرويد الفن بأنه لعبة يتماهى فيها الجميع من أجل عكس الواقع واكتشاف الهويات. ألالاء والبطل يتمسان فى فكرة الميتافزيقا والإيمان بالظواهر الخاصة بما وراء الطبيعة الالاء تحضر الخلوة الصوفية ولها شيخ تتبعه رغم أننا لا نلمحه مطلقًا فى الرواية، وتذهب بالبطل بعيدًا وفى كل الأماكن ولا يوجد دليل إلا مستورًا فى الرواية إن كان البطل قد ارتبط بها ارتباطًا حميميًا جسديًا حتى نهاية الرواية.
عشرة طاولة تستغل الرحلة كما فعل جاك كرواك فى رواية "على الطريق" وكما فعل نجيب محفوظ فى" الطريق" حيث البحث والكشف من خلال الرحلة والتعرف على أشخاص فى مفترق الطرق فلدينا صديقه مريض القلب "عاطف" الذى يتمنى الإنجاب ولكن يفشل هذا إلى جانب خوفه من الموت ولكن تتحقق النبؤة فى النهاية بأن وهب الله زوجته ذكرا.
عتمد الراوى – الكاتب على حيلة أخرى وهى مكان لعب الطاولة وهى المقاهى، وقد سجل الشاذلى أكثر من مقهى تم عليها ممارسة اللعبة وأشهرهما زهرة الميدان والحرية.. ويبدو أن أصداء مقاهى محفوظ كانت حاضرة مثل مقهى الكرنك والتى اتخذت عنوان رواية لنجيب مخقوظ وأيضًا رواية قشتمر... ولكن فى هذه الروايات لنجيب محفوظ كان هناك نقد سياسى كبير لمراكز القوى وسجون التعذيب فى الفترة الناصرية وهى سيطرة الحزب الواحد على مقاليد البلاد السياسية.
ودائمًا المقهى هى عالم النميمة ومناقشة الأحداث السياسية... حيث المقهى فراغ روائى مهم لسرد تلك الأحداث..
فى رواية عشرة طوالة لا نستطيع الجزم أن نقول إن هناك بطل واحد للعمل ولكن هناك أكثر من بطل تستعرض حياته من خلال السر وفصول الرواية ولكن الشخصية المركزية هى الالاء تلك المرأة المطلقة التى تقتسم شاليها مع طليقها فى السخنة والذى زاره البطل وتعرف من خلاله على العالم الخاص بهذه المرأة الشهية الوحيدة وغريبة الأطوار ومعاناتها من الغربة والضعف، ولكن إيمانها الروحانى المبهم وطاقتها الوجودية الغريبة جعلها أكثر غموضًا برغم الشبقية والأرضية التى حاول فيها الرواى والبطل أن يقدمها لنا من خلالها. فهى مهندسة ديكور وتعيش حالة البوهيمية التى تناسب الفنانين ولكن فى نفس الوقت تهتم بكل ماهو سماوى حتى أنها لها طقوس خاصة من زيارة أولياء الله الصالحين والولوج فى عوالم سرية خاصة والتى بنجذب إليها البطل ويحاول أن يتماهى معها رغم عدم أقتناعه بما تفعل.
الالاء هى بطلة الرواية الحقيقية بأوهامها وقدرتها على الحكى والإيهام فهى مصدر هروب البطل من الواقع المؤلم ويشبها الكاتب بأنها آتية من عوالم غريبة مجهولة وتعيش نصف حياة بين عالم الموت وعالم الحياة هى عائدة من الموت بعد حادثة شنيعة كادت تموت فيها وأصلحت فى نصفها التحتى بكثير من العمليات والتى كان شغوف رجائى باكتشافهم... قالت له ذات مرة" نومى رسائل ورحلات أنا لا أنام أبدًا وأمضى فى نومى كما فى يقظتى... نومى استكمال ويقظتى تحقق وكما قلت لك لى شيوخًا وليس شيخًا واحد ولكن اعتبرهم واحدًا"
رواية عشرة طاولة تتأرجح ما بين عالم الواقع وعالم الهروب - الحلم والروح - هى رحلة بحث عن ما هية البطل المهزوم الذى يتحرك فى عالم مضطرب بين ثورتين 25 يناير و30 يونيو ومع ذلك لا نرى أثرًا لهذه الثورات إلا فى هروب متعمد للبطل الذى يسعى وراء لعبة الطاولة ولعبة النساء ويفرض معضلة وهى... هل الحل فى المعرفة هى التصوف والفرار إلى الله أم الهروب للجسد والانعماس فيه؟ من الواضح إن البطل الذى لا يذكر أسمه كثير يريد أن يكتشف الوجود من خلال الروح والجسد الرواية تدلل على ذلك من خلال شخصية سحر تلك المرأة التى تبحث عن علاقة تتجدد من خلالها.
لم تكن الاء هى المرأة الوحيدة اللتى ظهرت على أرضية الطاولة ورمى بها الزهر فى طريق رجائى ولكن هناك" سحر" والدكتورة" فاتن".. سحر الممثلة المغمورة التى تلعب أدوارًا صغيرة فى الإعلانات وتورط معها رجائى فى هذا المجال من حب الاستطلاع والشغف، ومن السخرية أن ينجح كممثل إعلانات وكأن حقيقته هى التمثيل وليس الحقيقة ولكن تذهب سحر ولا تتحق له رغبة التواصل والاندماج الذى يريدهما البطل...
اللعبة والنساء هما الحياة ويبرر الرواى ذلك من خلال هذا البحث الذى قرأ عليه الأستاذ عبد الله ..".أكد لى الأستاذ عبدالله أنه من خلال أبحاثه ودراساته المتعمقة يجد الكون كله فى الطاولة، فالأبيض والأسود لونا القواشيط هما الليل والنهار فى حياتنا، وثلاثون حجرًا عدد قواشيط الطاولة، هى عدد أيام الشهر، أما عدد خانات الطاولة فأربع وعشرون، كعدد ساعات اليوم الواحد". وينسحب الأمر على مستوى أدنى، إذ هناك من "يلعب ثورة" وهناك من يقول تعقيبًا على ما فعلته الثورة بالبلاد: "مصر كلها باتت تلعب واحد وثلاثين الآن". ويتكرر الأمر مع ذلك الذى يتساءل: "لماذا اختفت المحبوسة وصارت مصر كلها تلعب واحد وثلاثين؟"
عشرة طاولة هى رواية جميلة ومهمة بكل المقاييس واستطاع محمد الشاذلى أن يؤكد موهبته الإبداعية والروائية بكل جدارة وتميز وحاول رصد الواقع المصرى بكل ما فيه من تناقضات تفرض علينا تساؤلاً وجوديًا مهمًا هل الحياة لعبة أم واقع حقيقى مؤلم؟.