سُئلت ذات مرة إن كنت جربت الثرثرة مع الأشياء؟
الحق يُقال أني حاولت تجريب الفكرة و لكني لم أفلح.. فأنا لا أحدث الأشياء التي أحبها... و إنما أكتفي بتأمل جمالها و الابتسام لها و مداعبتها... القط طبوش العضاض المتشرد الذي يزورني بين فينة و أخرى و أستغل فرصة نهمه و شغله عن الدنيا بالطعام لمداعبته... أي هناك من يحبك رغم قذارتك و تشردك... الشجرة الكبيرة الجميلة التي تقف وحيدة منسية قرب قلعة دمشق أربت عليها مسلمة و أن الله يحفظك شو حلوة و شدي حيلك...
من يرغب بالكلمات المزعجة إن كان هناك طريقة أخرى للتعبير عما في القلب... إذ اكتشفت أني أنا التي تسمع صوتي... صوت الكلمات المزعج في أذني... فإن كنتم مثلي تودون لو تجدوا وسيلة لتعبروا بها غير الكلمات... فجربوا تلمّس الأشياء و التربيت عليها و تقبيلها مثلي... في فيلم Equilibrium و حين يبدأ البطل بالإحساس... يتلمس درابزين الدرج _أو لا أدري ماذا يسمى بالفصحى_ اللقطة جدا مؤثرة... حيث يتوقف ضجيج العالم كله حوله و يبقى فقط إحساسه بدرابزين الدرج لأول مرة بعد أن يخلع قفازيه...
لكن حاذروا أن يُدخل عليكم و أنتم تقومون بتقبيل أقلامكم أو التربيت على رأس اللابتوب مداعبين أو مسح خدودكم بزجاج الكأس بحنان حينها لن يُشك بسلامة عقولكم فقط بل سيسحبوكم إلى أقرب مشفى للأمراض العقلية... و إياكم و طلبي حينها لأشهد بسلامة عقولكم و أني أنا من ذكرت الفكرة... لأني اخاف بعد أن يروني أن تضاعف العقوبة عليكم فلا تخرجوا أبدا...
في ثمانينات القرن الماضي في فترة الروسنة حيث كان كل شيء في سوريا مطلياً بالطابع الروسي الشيوعي، عُرض فيلم روسي للأطفال في التلفاز _كنت أحب الأفلام الروسية مع أن أخواي كانا لا يشاطرانني هذا الحب و بأية حال سواء أحباها أم لا، لم يكن هناك من خيارات أخرى أمامهما و ليس كأطفال الستلايات هذه الأيام المرفهين_ في الفيلم اكتُشف جهاز اسمه الميرافون و هذا الجهاز يقرأ الأفكار. كان الأعداء يريدون استغلاله، لكن الأطفال الروس الشجعان أنقذوه.
هذا الجهاز هو حلم كل حكومة أكيد... لكنه حلمي أنا الأخرى و ربما حلم الكثيرين من الشعراء و الكتاب الذين يعانون من اختيار الكلمة الأكمل... تخيل جهازا كهذا تركبه على رأسك و موصول بجهاز الحاسب... حينها ستنسال المعاني منك بسهولة و سلاسة و لن تضطر إلى أن تعركها و تعصرها و تهلك ذاتك و أنت تصبها في كلمات... أي اختراع شيطاني و ملائكي هذا!!!
***
4
طوال عمري أتمنى كتابة قصة حياتي... و رغم أنها شبه خالية من الأحداث و لكنها غنية لدرجة نسياني في المساء ما حدث في الصباح و كأن قرنا من الزمن مر مذ طلوع الشمس حتى غروبها... لكني أجد الأمر صعبا... كيف أكتبها و أنا ما زلت أعيش أحداثها... ثم الأمر يحتاج إلى جلد و تعب و أنا كسولة... على فكرة المسيو محظوظ بنوجته فهو مؤلف كسول _مثل طالبته النجيبة أو التي كانت طالبته النجيبة_ و كان يملي كل شيء على زوجته بالإسبانية و هي تترجم له للانكليزية... و هنا خطرت لي فكرة للعالمية... و هي أن أجعل ذاك العريس الذي سيجعلني مؤلفة مشهورة يكتب ما أمليه عليه و يترجمه فورا للانكليزية... و هكذا مباشرة لا أصير مؤلفة عظيمة فحسب بل ربما أحصل على نوبل... نعم نوبل... فأول امرأة حصلت على نوبل كان اسمها سلمى (Selma Lagerlöf) و لكنها كانت من السويد... صاحبة قصة نيلز (The Wonderful Adventures of Nils) أتذكرون فيلم الكرتون نيلز و سفره مع البطة مورتون؟
أما أنا... فوا حسرتي! و رغم أني أكتب أشياء أجمل بكثير من نيلز الممل... لكني مبتلاة بمجتمع سفيه لا يقرأ... و حين ينعدم المستمع تفقد شهرزاد الرغبة في قص الحكايا...
وداعا نوبل... وداعا!!! إن كانت إلا شعرة بيني و بينك لتحظي بي... لولا أن...
***
3
بعد اكتشافي أني مؤلفة فاشلة و طبعا كل الفضل يعود لأستاذي عبودة في إيقاظي... فكتابتي ليست واقعية و لا تمت للواقع بصلة، كما أن الناس حين تقرأ قصة قصيرة فهي لا تريد التفكير (و لم أعرف ماذا تريد إذن، الأكل مثلا!) و حياتي ليست جذابة... كان هو مثلي على حد تعبيره، لكنه تزوج و أنجب أولادا و أعاد أولاده تربيته... طبعا هو قال لي ذلك حتى آخذ العبرة من حياته و أتعلم على حد تعبيره... و أنا فهمت من يومها أن علي أن أبحث عن عريس، عن عريس من خيطان على عيون بين الجيران، علني أصير مؤلفة ماهرة...
أسوأ ما قاله أنه يريد إعادة صياغة بعض القصص لو سمحت له، فكثير من الجمل زائدة لا معنى لها؟؟؟ لا معنى لها؟؟؟ أنا يقول لي عن جمل لا معنى لها؟؟؟ أجلس أياما و أسابيع و أشهر و أنا أنقح و أعيد تركيب الجملة عشرات المرات... ثم يأتي أستاذ و بكل بساطة و يخبرك لا معنى لها... حسنا هل استفدتي مما قلته سألني. أجبته: يعني ما قلته كلام واقعي...
صحيح كلامه واقعي... لكني لم أكمل الجملة و أخبره بأني أكره الواقعية و أكفر بها و أحتقرها و أبصق عليها و أشمئز منها و لو كانت الواقعية رجلا لضربته بوكسا على عينه حتى تزرق...
بالمناسبة هل حولكم من عريس يجعل حياتي جذابة و يجعلني مؤلفة مشهورة و عظيمة؟
كما تقول صديقتي السويدية بربورة أن أستاذي معه حق و أن الزواج سيؤثر بكتابتي... و هي تحب الزواج... بالله يا بربورة أنك تحبين الزواج؟ و لذلك هي تزوجت بعد الأربعين حين أسلمت...
في كل عام تأتي مرة لزيارتي... و في كل عام تسألني مستغربة ألم تتزوجي بعد... أهز برأسي أن لا...
حاولت سؤالي ما المشكلة؟ ماذا أخبر بربورة يا جماعة؟ كيف ستفهم التخلف الذي في بلادنا... حتى بربورة أذكى امرأة قابلتها لن تستطيع استيعاب تخلفنا... فالتخلف يحتاج لعقل متخلف ليفهمه و لذلك لا يفهمه أحد سوانا... أخبرتها أن في بلادنا لا يبحثون إلا عن الجميلات... و أعني بالجميلات الشقراوات الطويلات... طبعا هي لم تفهم أين وجه الجمال في الشقراوات الطويلات فالنساء عندهن يكرهن طولهن، فضلا عن أنها سألتني و ماذا يفعل ذلك الشاب لو لم يجد شقراء... و لكني لم أجد جوابا... و هل من جواب للتخلف؟
حاولت إخبارها أن في بلادنا يتجنبون المثقفات القارئات المفكرات الكاتبات... طبعا هذه النقطة لن تفهمها أبدا...
حاولت إخبارها أن في بلادنا لا ينظرون لأبعد من أن يأكلوا و يشربوا و يناموا و يتناسلوا كالأنعام فكيف تقترن بأناس كهؤلاء... و لكني لم أفلح في إيصال الفكرة...
و أعترف بأني لم أحاول إخبارها عن العمر الذي تقيّم به نساؤنا، فالثلاثينية عانس يائس و لا تسأل عما بعدها فهي ينبغي أن تكون في المقبرة أكيد... إذ ما كانت لتفهم علي... فهي تظن أني صبية جميلة و مثقفة...
قالت لي يا سلمى الأمير ليس له وجود... طيب تنازلت منذ زمن ليس بالبعيد أن يكون أميرا سويديا و الفضل يعود لبربورة في الواقعية التي أضفتها على السويد و أهلها بحيث جعلتني لو أتى الأمير السويدي إلي الآن لضربته بوكسا على عينه حتى تزرق... و بت أرفض الذهاب للسويد اللهم إلا إذا ترجتني الملكة شخصيا بالذهاب إليها... حينها سأنظر في طلبها لأني فتاة لطيفة و أمورة... و ما بحب خيب حدا...
في النهاية أحسبها فهمت شيئا ما، قالت يا سلمى إن شاء الله سيأتي... حينها شعرت بالخزي أمام أهل السويد برمتهم... خزي التخلف و السطحية التي يرفل بها مجتمعنا... ألا سود الله وجهك من مجتمع كما سودت وجهي أمام أهل السويد؟
على كل قد غيرت فكرة الزواج من الأمير و قررت الزواج من رجل يشبه النبي يحيى فقط... و لا أظن شخصا أقل من ذلك يستحق مجرد الالتفات له...
لكن ظهرت مشكلة جديدة أني لا أعرف كيف يبدو النبي يحيى...
هل فيكم من يعرف؟
لا تتعبوا أنفسكم بالإجابة... لأنكم لا تعرفون أنتم أيضا...
سيدي الله بيعرف و هذا المهم... يلا خلصنا...
***
2
أعاني من هوس الكمال في انتقاء الكلمات الأنسب... أمحو و أكتب بحثا عنها... و في كثير من الأحيان أتخلى عن الكتابة نهائيا حتى لا أواجه بحثي المضني... دائما الكلمات أقل و أبهت مما أردت قوله... دائما ناقصة و غير معبرة... دائما و أبدا...
منذ طفولتي المبكرة و أنا أعاني من هذا المرض... مرض البحث عن الكمال... أمي دائما تذكرني بحادثة جرت في سني طفولتي الأولى حين بدأتُ تعلم الحروف... أمي اللطيفة جلست لتساعدني في تأديتي واجبي المدرسي الأول و الذي هو عبارة عن تكرار عدد من الحروف الأبجدية... كتبت الحرف ثم محوته... ثم كتبته ثم محوته، ثم كتبته ثم محوته... و في كل مرة أمي كانت تقول جميل... ثم جميل ثم صار أجمل من كتابتها هي، ثم غضبت و قالت توقفي و أخذت الدفتر مني _أو ربما لم تأخذه لا أدري فهي التي روت القصة و أنا لا أذكر شيئا كمعظم سني طفولتي و شبابي الأولي و ذكرياتي_ ... لكني بدأت أبكي _كعادتي_ فأعادت الدفتر غاضبة و قالت: أنت حرة و تركتني و أنا غارقة بالمحو و إعادة الكتابة... و لا زلت حتى يومي هذا أمحو و أعيد الكتابة حتى أسأم مني...
في هذه الثرثرة سأخرج عن قاعدتي و أكتب و أثرثر و أجعل الأفكار تتداعى... قالت لي السيدة نوجا ذات مرة_طبعا هذا حين كنت أودها و أدعوها بنوجا (أو التركيش ديلايت كما يدعوها المستشرقون turkish delight) و أعتبرها و زوجها المسيو المحترم أبوان آخران لي_ بلا طول سيرة قالت لي أن كان هناك حركة في الأدب تقوم على تداعي الأفكار: حيث يسجل الكاتب أفكاره مباشرة دون علامات ترقيم أو عناوين أو شكل أدبي معين... لكن هذا النوع من الأدب لم يلق رواجا و اندثر...
طبعا لم أخبركم أن كتاب المسيو و الذي ساعدته في كتابته زوجته نوجا مكتوب بهذه الطريقة إلى حد ما، فخلال مئتي صفحة ليس هناك من عنوان يفصل بين الأفكار... كتاب فكري يقوم على تداعي أفكار مؤلفها... لم أجده مزعجا بل غريبا... و الغرابة هي ما يكسر الروتين و ملله... تكسر القوالب الجامدة...
و أنا هنا سيسعدني أن أكسر كل قوالبكم المتحجرة... فإن لم تشاؤوا أن تكملوا القراءة لتروا ألوانا أخرى و كان الرمادي يعجبكم... فلا تكملوها... و ابقوا على رماديكم العادي...
***
1
فكرت بتأليف كتاب عظيم، كتاب كامل، كتاب لا تشوبه شائبة، كتاب يشل القارئ و يفقده حضوره، يقلب كيانه و وجوده، كتاب يجعل حياته لا تستقيم بعده كما كانت أبدا... انتظرت أن تتنزل علي الأفكار... أن يوحى إلي بتلك العظمة الفنية التي لا تضارعها عظمة... توقفت عن الكتابة و احتكرت الكلمات و صمتُّ مدخرة أفكاري الخلاقة لكتابي العظيم هذا... انتظرت و انتظرت و انتظرت و لكن دون جدوى... ما كان ذلك الكتاب العظيم يأتيني...
حتى تبدى لي أخيراً أني سأنتظر طويلا و ربما أبدا... إذ اكتشفت أني لست بإنسانة عظيمة و أن قارئي العزيز _الذي هو أنت_ ليس بعظيم أيضا _و إلا لما كنت الآن عالقا تهدر وقتك مع ثرثرتي_ و أن الكلمات التي تنساب مني لا تبدو عظيمة...
و بما أني لست عظيمة و لا تسكنني الأفكار العظيمة و أعيش في مجتمع ليس بعظيم قراؤه ليسوا بعظماء لذلك فحري بي أن أكتب كتابا ليس عظيما... و ريثما أصبح عظيمة و تصبح أيها القارئ عظيما مثلي... فإننا سنمضي وقتنا بشيء عادي، كاتبة عادية تخاطب قارئا عاديا بكلام عادي... ككل شيء حولنا تماما... عادي جدا...
سمنضيه بالثرثرة... و هو الشيء الوحيد الذي يتقنه العاديون مثلي و يفهمه العاديون مثلك...
لا تتوقع تصنيفا و لا تبويبا و لا عنوانا و لا تاريخا... فقط مجرد ثرثرة... فـ هكذا ثرثرت سلمى!
***
سلمى الهلالي