نبيل عودة
التاريخ الذي هو صورة عن عملية التطور الفعلية ، هو بنفس الوقت يعتبر انعكاسا للحدث في الفكر ، ولا نحتاج الى الكثير من البراهين لنثبت ان انعكاس الحدث في الفكر قد يختلف بين مشاهدي نفس الحدث، ونجد روايات متناقضة من شهود عيان ، انعكس الحدث في ذهنهم بصورة مختلفة ، وأحيانا متناقضة عن انعكاسه في ذهن الآخرين .
اذن التاريخ لا يعتمد على التصوير المباشر للأحداث ، والا تحول الى كتابة صحفية آنية ، التاريخ يعتمد على تحليل عملية التطور ( الحدث ) وتشكلها ، تحليل ما بين مركبات الحدث ، والتفاعلات بينها ، والمؤثرات الذاتية ( النشاطات التي تسرع أو تبطئ ) والموضوعية ، والتاريخ يرى التطور المنطقي في الأحداث والمعالم . لذلك يمكن وصف التاريخ بالحدث المنطقي المجرد من التسويق الصحفي ، واثارة دهشة القارئ كما في اسلوب القص الأدبي ، بل هو نص يروي حقائق التطورات والأحداث عبر الالتزام بالمنطق العقلاني وسيرورته الذاتية.
يرتكب الاعلام بالتأكيد، في دوافع تسويق «منتوجاته» ، تشويها للتاريخ ( الخبر – الحدث – المقال – التحليل الاخباري )، وهذا الأمر يبرز أكثر في اعلام لدول تفتقد للديمقراطية والتعددية الفكرية ، وتتميز بقمع الفكر المختلف . ويؤسفني ان العديد من دول عالمنا العربي غارقة بقمع الفكر السياسي والاجتماعي المعارض ، أو المنادي حتى ببعض الاصلاح الشكلي ، وهذا ينعكس أيضا على كتابة التاريخ ، وعلى العلوم وعلى تطوير مناهج اجتماعية ، ودراسة العديد من القضايا التاريخية ، والعلمية ذات الصلة بالتاريخ أيضا ، مثل نشوء الانسان وتاريخ المجتمع البشري ، ونشوء المجموعة الشمسية وتطورها، وتطور العلوم والتكنلوجيا والفكر الفلسفي وغيرها من المواضيع التي تسبب نزاعا مع الفكر الماضوي السائد والمسيطر على أكثرية مناهج العالم العربي ومعظم دول العالم الاسلامية ودول العالم الثالث .. والذي ينعكس بقوة في اعلامها .. وبغض النظر اذا كان اعلاما مستقلا ( شكليا بالطبع ) أو اعلاما مملوكا للنظام .
والسؤال المحرج أكثر هل من مجال لبحث تاريخ الأديان وتطورها بالتجرد من المواقف المسبقة وغير العلمية السائدة في مجتمعاتنا العربية؟
لا يمكن النظر الى الحدث الاعلامي بمعزل عن الظروف التاريخية التي وقع فيها ، وهذه ليست وظيفة الاعلاميين ، الا قلة منهم ، قد تكون أقرب في نشاطها الى المؤرخين من حيث بحث الظروف التاريخية الملموسة التي تقود الى ما نشاهده من تطورات اخبارية – صحفية.
ومع ذلك لست ممن يرون ان اعلام الأنظمة الديمقراطية ينهج بمصداقية وحيادية ، هذا المنتج غير موجود الا بالنظريات ، وتبقى المسألة نسبية ، ولكن يجب عدم اقناع الذات ان الوضع بين الاعلام الحر والاعلام الخاضع للرقابة ، يولد اعلاما يشوه الحقائق. فضاء الحرية هو فضاء للابداع ايضا ، ولطرق المواضيع الممنوعة ، وعدم التساهل مع الفساد السياسي أو الاجتماعي أو الاخلاقي، وهي مسائل تصب في النهاية في خدمة المجتمع ، وبالتأكيد في خدمة عدم تزوير التاريخ .
ان المهمة التي يتميز بها المؤرخون ، انهم لا يذهبون فقط الى التفسير الصحيح لنشوء الأحداث ، وانما أيضا لفهم اتجاه تطورها مستقبلا ، عبر الارتباط بين الحدث العيني نفسه ، وبين تطور مجمل المعلومات وتشابكها ،ومجمل المؤثرات وامتداداتها ، في مجرى التغير التاريخي للممارسة البشرية .
من الضروري في هذا الموضوع المثير ان ننتبه الى ان الأفكار والمفاهيم التي يكتسبها الانسان في مراحل حياته ، خاصة الأولى ، هي مفاهيم وأفكار وأحكام غير مبنية على التجربة والممارسة ، ومن الصعب على الأغلب تغييرها على اساس التجربة الذاتية أيضا ، اذ تبدو يقينية ثابتة ، وهذا ينعكس في الاعلام ، بغض النظر اذا كان اعلاما يتمتع بالحرية الكاملة أو غير ذلك . وقد تنبه الفيلسوف الفرنسي ديكارت لهذه الناحية البشرية ، وأطلق عليها اسم : « مذهب الأفكار الفطرية « والذي يتكون كنتيجة طبيعية لعدم قدرة الإنسان على تبيان طريق تشكيل الأفكار والمفاهيم ، عبر نفي دور المعرفة التجريبية في هذه العملية.
صوت العروبة (الولايات المتحدة)