نقلا عن مجلة مصر المحروسة
انت بداية أحمد فؤاد نجم مع الشعر "عادية" جدا ، وربما أقل من العادية. ويكفي أن نتذكر أن أول "ديوان" له كان يتألف من عدد من "القصائد" التي تتغزل في النادي الأهلي و"الكرة". وليس هذا عيبا لكنه يظل نوعا من "شعر" التسلية والفرفشة الذي يمكن للبعض أن يقرأه في مناسبات التنابذ بين مشجعي كرة القدم ثم يطويه النسيان بعد دقائق معدودات.
إلي أن وقعت هزيمة الخامس من يونيو الموجعة والمهينة عام 1967، فقلبت كيان "نجم" رأساعلي عقب ، وأخرجت من تحت جلده أحمد فؤاد نجم الحقيقي ، المارد المتمرد علي كل الخطوط الحمراء ، الذي يقتحم المساحات المسكوت عنها منذ عقود ، والتي كان التزام الصمت إزاءها أحد الأسباب التي مهدت الطريق أمام سكة الندامة.
وبالطبع لم يكن "نجم" الصوت المتمرد الوحيد ، بل سبقه شعراء وأدباء وفنانين عباقرة ، لكنه كان إضافة فنية و صوتا شعريا مختلفا ومتميزا ، مس شغاف قلوب المصريين ، واجتذب قطاعا عريضا من "المريدين" بسرعة فائقة ، رغم أن ثورة المعلومات والاتصالات لم تكن بشائرها قد وصلت إلي ضفاف النيل في ذلك الوقت ، ولم تكن هناك فضائيات ، ولا تليفزيونات خاصة ، ولا صحافة مستقلة ، ولا إنترنت ، أو وسائل تواصل اجتماعي من فيسبوك وتويتر وخلافه ، فضلا عن أن وسائل الإعلام "التقليدية" التي كانت تحتكر الإعلام في ذلك الوقت أغلقت أبوابها بالضبة والمفتاح في وجه أشعار أحمد فؤاد نجم.
لكنه لم ييأس بل توصل إلي "اختراع" عبقري ، هو عقد زواج شرعي بين شعره وبين موسيقي الشيخ إمام سليل مدرسة الشيخ سيد درويش. وكان هذا التزاوج صيغة سحرية لكسر العزلة عن الشعر المتمرد والوصول إلي قطاعات واسعة رغم الحصار. وبعد البدايات الجسورة في إقامة حفلات غنائية في محافل محدودة ، كادت أن تكون أحيانا سرية أو شبه سرية يرصدها وتلاحقها الأجهزة الأمنية ، توصل نجم وإمام إلي "اختراع" آخر ، هو "الكاسيت" ، الذي انتشر انتشار النار في الهشيم ، من شمال مصر إلي جنوبها ، بل تجاوز الحدود إلي سائر البلاد العربية والجاليات المصرية والعربية في كافة أرجاء العالم ، وكان يتم "تهريب" هذه الكاسيتات كما لو كانت من "الممنوعات" ، بل إنها كانت في نظر بعض أجهزة الأمن المصرية والعربية أخطر من الممنوعات التقليدية كالمخدرات وأخواتها!
وقد قال لي عدد من قادة الثورة الإيرانية أن رصد الإيرانيين الذين كانوا يعارضون حكم الشاه من المنفي قد رصدوا مدي تأثير كاسيتات نجم وإمام في الأوساط المصرية والعربية فقرروا استيراد هذا السلاح "النووي" الجديد , وبالفعل كانت كاسيتات الإمام الخميني التي يتم تهريبها من باريس إلي إيران سلاحا مؤثرا في معركة الإطاحة بعرش الطاووس وحكم الشاهنشاه.
أي أن ملحمة نجم وإمام أسهمت بشكل غير مباشر في إسقاط الشاه وتفجير الثورة الإيرانية قبل أن يختطفها ويسرقها الملالي وآيات الله مثلما فعلت جماعة الإخوان المسلمين في مصر بعد ذلك بعقود.
وأظن أن القيمة الفنية لظاهرة نجم وإمام ستكون موضوع رسائل ماجستير ودكتوراه عديدة في مصر والخارج ، بوضعها في سياقها السياسي والاجتماعي والاقتصادي من ناحية ، وفي سياقها التاريخي من ناحية أخري ، وفي اتصالها وافتراقها عن نماذج الفن المتمرد والمقاوم في مصر ، وهي نماذج ليست قليلة سواء من حيث "الكم" أو "الكيف"، وأن تفسر لنا نجاح ملحمة نجم وإمام في أن تكون ظاهرة عابرة للعصور وعابرة أيضا للحدود ، أي عابرة للمكان والزمان.
أما الجانب الشخصي لهذا الشاعر الفاجومي فيرقي هو الآخر إلي درجة الملحمة التي تحتاج مجلدات للحديث عنها بما له وما عليه ، خاصة وأن هذا الجانب الشخصي ليس مبتوت الصلة بملفين خطيرين ، أولهما ملف العلاقة بين المثقف والسلطة ، والثاني هو المناخ الملبد بالغيوم والسموم والأعشاب الضارة الذي تعيش فيه النخبة المصرية.
وقد كان من حظي أن نشأت بيني وبين نجم علاقة إنسانية وشخصية إمتدت عقودا ، داخل السجون والمعتقلات وخارجها ، وأن يكون أحد الشهود علي عقد قراني منذ أكثر من أربعين عاما إتفقنا فيها كثيرا واختلفنا أكثر ، وظل التواصل بيننا قائما بين حين وآخر حتي قبل بضعة أيام قليلة عندما جاءني صوته عبر التليفون عندما علم بتعرضي لوعكة صحية ، فوبخني قائلا : ليس من حقك ولا من حقي أن نمرض الآن ، فاترك السرير وانهض فورا ولا داع للدلع.
لكنه خدعني وفعل ما هو أسوأ مما طالبني به .. فهو لم يمرض فقط بل ركب قطار الأبدية .. وحمل شعره وعصاه ورحل.
ومع غضبي منه لهذا "المقلب" السخيف الذي ينقض اتفاقنا ، فإني أنفذ الشق الخاص بي وأتخلي عن توقفي عن الكتابة منذ شهور، وأعود إلي الإمساك بالقلم إكراما وتكريما ووفاء لصديق العمر ورفيق درب كفاح لم يصل بعد إلي نهايته السعيدة التي حلمنا بها معا.