مكـنسة الجـنة: مغامرة سردية بسبب ذبابة علي أنف الرئيس
يدعونا مرتضي كزار مؤلف رواية " مكنسة الجنة " الصادرة في عمان 2008 أن نقرأ روايته بالمقلوب ، ذلك لانه يعتقد أن وقائع الحياة في بلد مثل العراق باتت مقلوبة !! لذلك وهو اذ يوزع حكايته علي 150 صفحة ، سيظهر لنا أنه ، قد ضرب عرض الحائط بشروط الكتابة الروائية الكلاسيكية ، وسنؤيده ونقول انه محق في ذلك كما سنكتشف ، إذ أنك ستري ليس الوقائع وحدها منقلبة ، بل الأزمان والتواريخ وحتي العلاقات الإنسانية ، خذ علي سبيل المثال العلاقة الجنسية الشاذة بين رمزي بطل الرواية ، ووداد الاسود بطل الحكاية التي تكتبها نورست داخل إطار الرواية الأولي ، وإذا كان كل ذلك مقلوبا ، فليس غريبا ان تستخرج جثامين الرسامين وتعد بشكل مقلوب ، كما فعلها مدين مترجم القوات الدنماركية وأخ الرسام وداود الذي اكتشف مكان الرسامين الذين دفنوا أحياء " احرج نفسه مدعيا بان الهياكل ثلاثة عشر وليس اثني عشر ، لانه عدها بالمقلوب.
والهياكل المقصودة ، تعود الي اولئك الرسامين الذين دفنوا احياء في زمن صدام ، الذين كانوا هم انفسهم قد رسموا صوره علي جداريات كبيرة في ساحات مدينة البصرة .. وسبب دفنهم او اعدامهم يعود الي ان احدهم وضع ذبابة علي انف الرئيس في واحدة من اكبر الجداريات ولم يستطع احد ازالتها لاختلاط الدهان بها اثناء رسم الانف حتي لكأن ثمة قصدية في الأمر ان ترسم ذبابة علي انف الرئيس بينما اثبتت الوقائع المقلوبة ان الرسام لم ينش اسرابها عن يده وهو يرشق ذلك الانف بالالوان المطلوبة .
غير ان الفرقة الحزبية تداركت أنف الرئيس باستدعاء اكثر الرسامين كفاءة ليزيل عنه تلك الذبابة " ارسلت الفرقة الحزبية بطلبي .. احضر حالا مع الوانك وفرشاتك واثناء تقدم رمزي مكنزي باتجاه الفرقة الحزبية يري ان يد الرئيس تخرج من الجدارية لتمتد وتنتشر كغيمة سوداء فوق المدينة ، تخنق انفاس الناس ثم تستريح كفه علي دربونة العبيد ، حيث يسكن وداد ، ذلك الاسود الذي يعشقه رمزي .. بطل الحكاية غير الاطارية التي تكتبها نورست بمساعدة ملاية ام وداد .
يفصح الروائي كزار عن مغامرة سردية في روايته تبدو انها تنحو الي التعقيد في حبكتها ، التي ، قد تعتمد علي عدة خيارات سردية يمكنني وصفها اجمالاً بالوحدات السردية المدورة ، كما سنري ، انه يخوض لتحطيم ثوابت ابتدائية كانت قد غادرتها هذه الكتابة الي مقترحات النص الحديث ، اذ انك لا تعدم من ايجاد رسوم حياة تتدفق علي شكل كلمات ، تلك هي رسوم الكاتب اولاً ، واعمال الرسامين الاثني عشر الذين دفنوا ظلما وعدوانا لمجرد أن ذبابة طارت من مكان ما الي أنف الرئيس ، ولكن الرسام البارع الذي اتحف المدينة بصور وجداريات الرئيس لا يخلو من امراض ستلازمه حتي نهايته " اخرب صورة الرئيس في فمي واعصر له بصقة في كفه ولا أظن ان دلالة هذا المقطع سيكون خافيا علي قارئ النص لحديث، حيث يدخلنا الروائي هنا في اشد وقائع الحياة اكتظاظا، فالرسام وداد اسود البشرة، وهو ابن ملاية وحياوي قد تعلم الرسم وعزف الكمان واستخراج المعادلات الرياضية علي يد مكنزي الرسام والذي يواقعه وداد كلما اراد ان يتعلم درسا جديدا في فن الرسم وهذا ( وداد ) استطاع أن ينجو بنفسه بأعجوبة ويفلت من عقوبة الاعدام الجماعي كما فعلها ابوه حياوي حين فلت باعجوبة أيضا من فرق الاعدام التي نصبها صدام خلف القطعات العسكرية المهاجمة باخفاء نفسه في بركة ليمتنع عن المشاركة بقتل الجنود الايرانيين لكنه في " صباح اليوم التالي اخبرهم آمر الوحدة بأن عليهم ان يجمعوا حصادهم من خوذ الجنود الايرانيين لان الحكومة ستجمعها في شبكة كبيرة وتضمها الي تمثال سيف النصر في بغداد وستكون الجثامين التي تم العثور عليها ضمن مقبرة الرسامين الجماعية مادة رواية تكتبها نورست ، هذه الفتاة المتعلمة التي اثارتها دربونة العبيد فأخذت تبحث عن تاريخ العائلة ولكن بحثها الي اين يوصلها ؟ اننا هنا في اطار رواية اخري داخل الرواية التي يرويها مرتضي كزار، تتشظي فيها المعلومات والوقائع والاحداث والحيوات دون ان يكون لذلك التشظي سببا لانفلات خطوط الرواية، بل إن العكس هو الصحيح ، سنجد أن أي تفصيل وأية معلومة تنسج هنا ببراعة لا تنفلت من يديّ كاتبنا الشاب المبدع حتي لكأنني اعتقدت أن وراءها مشتغل في بحوث الاناسة والسيمائيات ، فالكاتبة " نورست " تبحث في ظروف أم وداد ملاية التي ستصبح زكية المجنونة والتي لايطيب لها المنام الا تحت جدارية الرئيس في ليال الشتاء الباردة ، تلك الجدارية نفسها التي رسمها ابنها وداد وادت الي دفن اثني عشر رساما احياء بسبب ذبابة وقفت علي انف الرئيس .
وهكذا يتجه بنا المتن الحكائي الي المصائر المقلوبة فأخ وداد الاكبر واسمه مدين الذي يعمل مترجما مع القوات الدنماركية عام 2004 هو نفسه الذي يقوم بكشف مدفن الرسامين لتلك القوات وحين تُعد الهياكل بعد استظهارها ، يتفق الجميع علي انها اثنا عشر الا هو يناقضهم ويعدها ثلاثة عشر .
لايتوقف الروائي الاول عند زمن دفن اولئك المغدورين ، بل يقفز الي الوراء عشرات السنين الي تلك الاعوام التي تم بها بيع مدينة البصرة الي العثمانين ثم يتقدم بالزمن الي الامام حتي يصل الي عام 2008 وهو الزمن التي كتبت فيه هذه الرواية " مكنسة الجنة " ويتضح مما نجده في تلك القفزات الزمنية ان وداد الاسمر الذي تعلم الرسم علي يد رمزي وفاق بموهبته حدود معلمه " لا يعيش في عالم ثلاثي الابعاد تمارس خلاياه الرمادية كباقي المخلوقات والمكتوبات.
تضاعف الكاتبة نورست ارباك خطوط الرواية الاولي ولكنها في اخر المطاف تعمل علي تعميق وترسيخ احداث ووقائع روايتها الثانية ، ولعلي اري ان الكثافة الحكائية التي اثقلت بها الرواية الاولي قد بسطتها واوضحتها رواية نورست الثانية ، اننا هنا امام لعبة لااعرف الي اي مدي نجح كزار بصنعها ولكنها لعبة مثيرة قابلة لتفتح نوافذ واسعة للاسئلة ، كما سنري ان نورست هي شخصية متحركة داخل الاطار الروائي الاول " نورست المطأطئة رأسها اشارت عليها ( ملاية ) بان تقسم عالمها وتجدوله فليسوا هم كما تدعي شخوص في رواية شعر علي الدوام واذا ما نجح الاطار الاولي للرواية بكثافته التي يرويها رمزي او وداد ام ودين او حياوي او ملاية فأن الاطار الثاني بكتابة نورست يفصح عن علاقة تبادلية بين الباث الاول للعمل علي السنة الشخصيات التي ذكرناها وبين المتلقي اللامرئي او كما يسميهم بالقراء اللامرئيين ، " هذه الجنية الفاتنة تعلمت مني الكثير من الاكاذيب من الرسم والكتابة وحتي تلوين الافكار وتأطيرها فاخبرتها بان القراء اللامرئيين لايصغون جيدا واحيانا تظل عيونهم معلقة علي السطور بينما تسبح اسراب من الاسماك الملونة في خيالهم.
يجب القول ان وعي المؤلف برسم هذه الاحالات جعلت العمل يرقي الي مستوي التجويد والانشاد والمتعة ، وهو ما جعل منه في جانب اخر عمل لايسهل تناوله في عملية انتاج قراءة عادية ، ذلك لان النص ، مستفِز ، مثير ، يلقي بالاسئلة عميقة الغور ، ويبحث عن دلالات الاشياء ، فاعتمد المؤلف بعض الصور باللجوء الي الاجواء السوريالية ، كما فعل مدين حين اخذ الطبشور وقسم مكان تحرك شخصيات الرواية منطلقا من بيتهم وخارجا الي دربونة العبيد ثم الي كل مدينة البصرة ، ويلجأ احيانا الي الصور المقلوبة بما تتركه الحياة العنيفة والمحتشدة بالالم والمعاناة من آثار نفسية عميقة لدي الناس ، ان الاسئلة التي يطرحها المؤلف علي قرائه اللامرئيين ليست اخلاقية ولا فلسفية ولا دينية ولا سياسية كما يمكن تخيل كل ذلك في الرواية ، بل هي محاولة للقول بصوت عال : لماذا يحصل كل هذا بدون ضجيج ولامهاترات ولا حذلقات !
إن قصة ذبابة الرئيس أدت الي مقبرة جماعية اودت بحياة اثني عشر رساما ولكن ما قصة الجثة رقم ثلاثة عشر . يمكننا القول ، ان تفاصيل مغرقة كثيرة ، غفلناها احتشد بها العمل ، لم تكن اي واحدة منها كانت حشواً زائدا ، بل كان لكل تفصيل أو اي اشارة أو صوت أو رشقة لون علي أنف أو قدم أو مؤخرة ، كلها كانت تحمل دلالات تسير بشكل منسجم حتي الاختتام المأساوي لابطال الرواية .. وكان ذلك دليلا علي اجادة الصنعة باتقان وجمال .