النخلة الأخيرة
لم يستيقظ أهل القرية صباحا إلا و كل النخيل قد مات، تساقط سعفه الأخضر ومالت بعض الجذوع كعجوز راكع، صرخوا مذعورين من تلك المجزرة الجماعية التي حصلت دون أن يسمعوا لها ضجيج وهم في سبات عميق ، فتشوا عن الفاعل ...فتحوا تحقيقات مع كل أهل القرية ، لم يتعرفوا على الفاعل ، مر ردح من الزمن والفلاحون بدون حراك والفؤوس صدئة ...
بعد زمن استيقظوا صباحاً فوجودا نخلة ضخمة جدا في جانب من القرية...طويلة و تظلهم بوافر سعفها ، لا أحد يعرف كيف نمت ومتى؟!! حمدوا ربهم على ما أعطاهم ، واختلفوا في من يتعهدها بالرعاية والتشذيب والتلقيح ولمن تكون خيراتها ، فاقترحوا أن يعودوا لشيخ القرية وكبيرها الجميع يحترمه ويقدره ، اجتمعوا في بيته وعرضوا عليه أمر النخلة حيث فقال : في كل موسم سيرعاها رجل منكم ،وسنقيم حفل كبير وفيه تجرى قرعة ومن يفوز بها سيكون له هذا الموسم حق الرعاية... ويوزع خيرها على أهل القرية بالتساوي من سعفها ورطبها وحلوها أم من يرعاها ذلك العام سيكون له النصيب الأكبر جزاء على تعبه.
قالوا : نخلة واحدة لا تكفي لجميع أهل القرية
وقال بعضهم : نخلة غريبة لا نعرف أهي إخلاص أم خنيزي أم غري أم...
فقال : هي نخلة كبيرة وستكفيكم...
اجتمع أهل القرية في الساحة في اليوم الموعود ، وضعوا الزينة في كل طرقات القرية وفي النخلة الكبيرة ، لبس النساء والأطفال والشباب أفضل ما عندهم من ثياب ، ألقى الشيخ أوراقه في الأرض ثم نادى طفلا من بين الناس : فجاء واختار ورقة وناولها الشيخ ففتحها وقرأ الاسم: يعسوب النجار
طار الرجل فرحاً مسروراً وأطلقت زوجته الزغاريد في الفضاء فرحاً
تغيرت وجوه البعض حسداً..
قال رجل اسمه حرموش : أعد القرعة من جديد...
الشيخ الكبير : لا داعي لإعادتها ، فالقرعة قد جرت أمامكم جميعاً !!
احمر وجه حرموش وكظم غيضه في صدره ، وتفرق الناس من الساحة.
مرت الأيام ويعسوب يشجب النخلة ويهتم بها ، جاء الربيع ولقح النخلة...
صحى أهل القرية يوما على صوت تباشير يعسوب ، خرجوا من بيوتهم وأطلت النساء من النوافذ...
يعسوب : انظروا يا أهل القرية ،انظروا إلى النخلة ماذا أثمرت
نظروا إليها و فاغرة أفواههم : لقد تدلت من النخلة عناقيد مختلفة من الرطب ، إخلاص وخنيزي وغري و....
بدت النخلة مكسوة بألوان زاهية باختلاف الرطب ، ففي كل عقد نوع من الرطب الحلو...وكلما قطف يعسوب عقدا نما نوعا أخر غير الذي قطف...
شكروا الله على ما أعطاهم من وافر النعمة..كثر الرطب على يعسوب فقرر أن يبني مصنعا ويبع التمر ، أصبح يعسوب يملك أكبر مصنع مصدر للتمور خلال ستة أشهر للقرى المجاورة وأصبح رجلاً غنياً ، تقرّب الناس منه أكثر...حيث تزوجت بناته الأربع العوانس في مدة قصيرة واستطاع أن يزوج أولاده الثلاثة...
أصبح يعسوب حديث الناس فأخذوا يتهامسون ويتغامزون في شأن استحواذه على الخير كله ، جمع حرموش حوله الرجال وكثرت شجاراتهم أمام شيخ القرية ...يسألونه من سيكون التالي وبعضهم أراد أن يأخذ مكان يعسوب...ضجر الشيخ منهم وكان كثيرا ما كان يهدئ نفوسهم ويذكرهم بنعمة الله عليهم...
خرج الجميع من دار الرجل العجوز ولكن حرموش ظل واقفا :
الشيخ : ما بك ، أتريد قول شيئا؟!
حرموش : يا شيخ ، أنت كبير القرية وأنت أولى الناس برعاية النخل؟!
الشيخ : إنما أنا من اقترح القرعة.
حرموش وقد احمر وجه : يا شيخ القرية لقد أنفقت الكثير من جهدك لخدمة أهل القرية..فأنت أولى الناس بالنخلة وبخيراتها ، ليس من العدل أن يكون نصيبك كباقي أهل القرية وليس عدلا أن يرعاها يعسوب!!! ...
الشيخ : ما ظننتُ النخلة ستكون على هذا الحال ...ثم أكمل الشيخ
: يا حرموش لو كانت النخلة من نصيبك أكنت ستقول هذا!!
صمت حرموش قليلا ثم أكمل وكأنه لم يسمع كلام الشيخ : إن كنت تريد رعاية النخلة فسوف أعينك..
الشيخ غاضبا: ماذا تقول يا رجل ، الناس هنا يأتمنوني، اتركني الآن وحيدا.!!!!
بعدها خرج حرموش وعيناها تتقاطران شرا ، لكنَّه أخذ يرتاد على بيت الشيخ العجوز كثيرا ، توالت اجتماعهما وتطورت علاقتهما واستولى حرموش على قلب الشيخ العجوز واستبدت له الغيرة ...وضعوا مخططاتهم للإستيلاء على النخلة والإطاحة بيعسوب النجار...وكان أول ما خططو له هو سرقت عناقد النخلة
في الصباح اليوم التالي تفاجأ أهل القرية، حين سرقت جميع عناقيد النخلة ضج أهل القرية لهذا الخبر ، وذهب يعسوب مع جماعة من الرجال إلى شيخ القرية ليبحثوا في الأمر فقرروا أن يجعلوا حرّاساً على هذه النخلة ،
في الليلة التالي حين هجع الناس ، جاء حرموش مع شرذمة من أعوانه وقد كان الليل كثيف الظلمة كانوا حاملين أبواق وأواني معدنية، وقد ضيقوا اللثام على وجوهمم وقوف على مسافة غير بعيدة من النخلة فأخذوا يصدرون أصواتا مخيفة وينطقون بطلاسم غريبة ويدقون على تلك الأواني، ففرّ الحارسان هاربين لما سمعوا الأصوات تأمرهم أن يبتعدوا ، استفتوا الشيخ العجوز فقال لهم : إنهم عفاريت من الجن فقال يعسوب وهو غاضب : لعلها تكون خدعة من حرموش ورجاله؟!!!
قال له الشيخ : لا نستطيع أن نتهم حرموش ورجاله فليس لدينا دليلا واحدا يدينهم!!فإني أعرف الناس بكم بالجن..!! أمهلوني يومين كي أصل مع الجن إلى اتفاقية...
قال يعسوب وقد اتسعت عيناه عجبا : ولكن يا شيخ أنت تعرف أنه رجلا مخادع!! فلا وجود للجن يا شيخ؟!!
فصاح رجل من القرية غاضبا: يا يعسوب الشيخ أكثرنا علما وخبرة ؟
ومن يومها لم يجسر أحداً على الاقتراب من النخلة ، ففي كل ليلة يسمعون أصواتاً مخيفة وطلاسم ...فرّ البعض مع نسائه وأطفاله خوفا وهلعا إلى خارج القرية وظل بعضهم ينتظرون ماذا سيفعل شيخ القرية....
طال انتظارهم والشيخ يعدهم أن الحل قريب وأن التسوية مع الجن قاربت على الانتهاء ..أخبرهم ذات مرة أن يعسوب لم يعد صالحا لرعية النخلة فعزله عن منصبه...
ضجّ يعسوب لهذا القرار وأخذ يتكلم بين الناس عن الظلم الذي لحق به...لكنّ أهل القرية لم يستمعوا له بل كانوا يأمرونه بأن يكف لسانه عن شيخ القرية...حتى يأس من حاله فغادر من القرية هائما على وجه...
إلى أن جاء خبر هزّ أهل القرية من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها، فقد أجتثت النخلة من الأرض ولم يعد لها أثر واختفى حرموش مع رجاله من تلك اللحظة من القرية ...فذهبوا إلى الشيخ العجوز ، فلم يجدوه في بيته...ظلوا ينتظرون عودت الشيخ العجوز لكنه لم يعد من ذلك اليوم .