"بتول" فتاة من البقاع تعيش حالياً في شكا، إندثرت طفولتها وتلاشت في عمر المراهقة، فلم تتمكن من أن تعيشها كبقية الأطفال بكلّ ما تستقطبها هذه المرحلة، وتحملها من لحظات فرح ولهو وتخلٍّ وصدق وعفويّة. بل كانت تعيش نزاعاً داخليّاً وحزناً دفيناً وخوفاً يوميّاً من التعنيف المتكرّر لوالدتها ولها أحياناً.
تمتلئ عيناها بالدّمع، وبغصّة تُخرج الكلمات من شفتيها الدّاكنتين، وتنتابها لدقيقة موجة من المحاكاة النفسيّة التأمليّة، فتعود بالذاكرة الى الوراء مسترجعة الذكريات والوقائع المؤلمة التي ما زالت منطبعة في صميمها.
تبدأ "بتول" الحديث عن مسيرة والدتها التي "أجبرها اهلها ذوو الافكار والشرائع التقليدية على الزواج من والدها، وهي في السادسة عشرة، على رغم انها لم يسبق لها أن لمحته أو رأته أو تعرّفت إليه، ولم يقدّم لها ما يضمن زواجها من مقدّم أو مؤخر، ولا "جهاز العروس"، ولذا لم تكنَّ له الحبّ. فقد أسكنها في "تخشيبة" من ألواح الزنك (التوتيا) عبارة عن غرفة خالية من الحاجات الأساسيّة كالمأكل ومستلزمات البنية التحتيّة من ماء وكهرباء".
وتضيف بتول: "بفضل أمّي التي ثابرت وعملت لتؤمّن لنا حياة هنيئة، استطعنا البقاء أحياء، فأبي كان عاطلاً عن العمل يتكل على مدخولها من عملها في المستشفى، ولم يتحمّل مسؤولياته الى درجة أنّها عندما كانت تقبض راتبها لتشتري لنا الحاجات المنزلية الضرورية من مأكل ومشرب، كان يقول لها: "هذا المال أنا أولى به"، وتتابع بحسرة: "هكذا كنّا في أوقات جمّة بلا مال ونفتقد الى الطعام ونعاني الجوع والعطش.
أمّا في الشتاء، فكنّا أحياناً نعاني شدّةَ البرد القارس الذّي كان يلفنا فضلاً عن مياه الامطار التّي كانت تملأ أرجاء الغرفة، وفي هذه الحال كنا نهرع الى جدّي وجدّتي الى بيتهما الدافئ الذي كان ملجأنا".
"تشوّهات عقليّة" رافقت والد "بتول" وبدأت تتطوّر وتأخذ منحىً إجراميّاً الى درجة القتل المتعمّد لعدد من الأجنّة في رحم زوجته، عبر استخدامه ضدّها بعض أساليب الاضطهاد المدنِّسة لحرمة الإنسان.
وتوضح بتول أنّ "أباها كان يغار على أمّها كثيراً، إذ إنه كان يسألها دوماً ويجادلها إن ذهبت الى العمل أو عادت باكراً منه، حتى أنها كانت تعيش في حيرة دائمة معه حتى أنه كان يسألها عن سبب تبرجها وترتيب هندامها، فضلاً عن خضوعه لتحريض أمه وأخواته ضدها، فينهال على جسدها الهزيل ضرباً وركلاً "لقد كان يؤذيها، يصفعها فيغمى عليها ويمسكها بشعرها ويرفعها ويضربها ضرباً مبرحاً، وعندما ينتهي منها ينهال عليّ أنا ضرباً أيضاً، مستخدماً يده الضخمة ورجليه وأحياناً الزنار".
وتؤكدّ "بتول" أنّ والدتها وبنتيجة تعرّضها لعنف والدها المتكرّر، واحياناً عمّها، أجهضت ثمانية أطفال، "اذ إنه كان يفتعل شّجاراً معها لأسباب تافهة ثم يضربها بشدة ويرميها ارضاً ثم يدوس بطنها برجليه مرات عدة وينتهي الامر بها إجهاضاً"، وتضيف: "والدتي الآن لا تستطيع إنجاب أطفال لأنّها عانت من نزيف داخلي نتيجة الإجهاض المتكرر وغير المتعمّد، فأحياناً كانت تجهض بعد يومين من تعنيفها، وكنا نأخذها جدّي وجدتي وأنا الى المستشفى، وبعد الكشف عليها يقال لنا إنّ الجنين يجب اجهاضه قبل أن يؤثر سلباً في حياتها، فترفض، ولكن في نهاية المطاف "ينزل الولد لحاله".أمّا والدي فلم يهتمّ أبداً، وجلّ ما كان يقوله لها "ليش مش عم يهدا الولد ببطنك؟!"، فتّرد عليه أمّي قائلةً: "في النهاية هيدا منّك، إنت معيّشني على القتل وسمّة البدن".
"من أنا وصغيري محرومة من الأب ومن حنانه"، تقول "بتول"، مشيرة الى أنّه بعد طلاق والدتها من أبيها أجبرها على المكوث معه ولم يهتمّ بها أبداً، فأجبرها أقرباؤها على العمل المنزلي وهي في الخامسة من العمر، مثل "تحريك طنجرة كبيرة من الماء المغلي وفي داخلها الملفوف وورق العريش حتى أنني تعرّضت بذلك لحروق في جسدي". وتضيف أنّ "زواج والدتي الثاني المفاجئ لم يدم طويلاً للسبب نفسه وهو العنف.
وقد تأخرنا أخي الصغير وأنا في الدخول الى مدرسة داخليّة، ولكنّ أمّي هي التي عوضتنا حنان الأب وعطفه، وقد ضحّت بحياتها لأجل تعليمنا فمنحتنا الإستقرار والحماية والديمومة التي يرغب بها كلّ فرد، ولا يهمني شيء إلّا رضاها".
وعن الحادثة التي تعرّضت لها في الثامنة من عمرها وهي في منزل والدها قبل انتقالها مع أخيها الى منزل والدتها وبدء المحاكمات القانونيّة في دعواه لاسترجاعهما، تقول "بتول" إنّها عانت من مرض "الروماتيزم"، أي إلتهاب المفاصل، مشيرةً الى أنّها ولمدّة ليالٍ ثلاث لم تتمكن من السير على قدميها، "كنت إشحط رجليّ شحطاً متل المشلولة"، وتضيف: "وعند منتصف ذات ليلة لم أشعر بقدميَّ بتاتاً، فاتصل أبي بأمّي ليطلب منها أن تنقلني الى المستشفى، فقال لها: "خدي بنتك رجليها عم يوجعوها"، فهرعت والدتي وجدي وحملاني الى المستشفى حيث اهتمّوا بي، وسحب الطبيب من قدميّ إبرتين ممتلئتين "عمل ودم"، وعند سؤاله عن السبب ردّ أنّ ذلك ناتج من قلّة الإهتمام والرعاية، بالاضافة الى البرد والصقيع. في حين أنّ أبي لم يزرني في المستشفى إلّا بعد ثلاثة أيام، وهو اطمأنّ إليّ لدقيقتين فقط وغادر".
وحسب الأطباء فإنّ المسبّب الرئيسي لمرض "الروماتيزم" هو "خلل يحدث في الجهاز المناعي ما يجعله يهاجم أغشية المفاصل ويؤدي في نهاية المطاف إلى العجز الكلي، ما لم يُكتشف مبّكراً ويُعالج بفاعليّة".