دولة كسوريا لايحق لها أن تعيش قلق التفرقة الطائفية كونها تملك هكذا شعب رائع .... أُنهك الفرنسيون خلال احتلالهم لسوريا ، خارت قواهم أمام ثوارها الذين لم يكلوا أو يملوا من متابعة الجيوش الفرنسية وضربها بكل ما استطاعوا من قوة وبكل ما ملكوا من وطنية .
الفرنسيون توقعوا أنهم الأكثر ذكاءاً ، توقعوا أن هذا الشعب الذي جمعه حب الوطن والدفاع عنه ستفرقهُ المذاهب والأديان ، حاول الفرنسيون ، بما عندهم من دهاء سياسي ، أن يلعبوا ورقتهم الأخيرة وهي الطائفية البغيضة ، التي لم يعشها السوريون يوماً من الأيام ، قسموا المناطق في سوريا إلى دويلات سنية وعلوية ودرزية ومسيحية ، إلا أنهم فوجئوا بالثورة السورية الكبرى ، التي اشتعلت من جبل العرب لتشمل فيما بعد سوريا كلها ، والتي انتهت بإعلان وحدة الوطن السوري أولاً واستقلاله ثانياً.
" في صيف سنة 1943 عن لي أن أزور دمشق عاصمة سورية ، فذهبت إلى المدينة الخالدة وتعرفت هناك إلى كثير من العرب مسلمين ومسيحيين ، تحدثت إليهم وناقشتهم الآراء فخرجت من كل هذا بشعور هو مزيج من السرور والإعجاب ، نعم ، لقد دهشت إذ رأيت المدى البعيد الذي وصل إليه القوم من وحدة الرأي وتقارب وجهات النظر "
بهذه المقدمة استهلت الكاتبة الانكليزية الشهيرة "مس فريا ستارك" والتي تعتبر من أشهر الرواد في الشرق الأوسط ، تخلف في ذلك " لورانس العرب " وقد تركت الكاتبة سورية أواخر سنة 1943 بعد أن شاهدت الكثير من الحوادث والاضطرابات وعادت إلى انكلترا فأميركا لتقول : أن سوريا تسير بسرعة عظيمة نحو الغرب .... بعد الذي رأته من تطور في فكر السوريين
تقول تلك الكاتبة الانكليزية خلال زيارتها لسوري عام 1943 : " يمكن القول الآن أن الفرنسيين خسروا آخر ورقة لديهم في سورية ولبنان ، وليس أدل على ذلك من نتائج الانتخابات في البلدين ... ثم ثورة لبنان في سبيل الاستقلال عام 1943 ... هذا مع العلم بأن الأكثرية الساحقة من سكان لبنان تنتمي إلى الديانة المسيحية .
إذن فمما لاشك فيه أن حركة قوية معادية للفرنسيين كهذه ، تصدر عن أقوى نقاط النفوذ الفرنسي وأهمها في الشرق ، وهي لبنان ، تدل بوضوح أن حكاية التفرقة بين الأديان والطوائف في سبيل دوام الانتداب ، لم تعد حكاية "جميلة" يعمل بها بنجاح على الإطلاق.... وأن العنعنات الطائفية التي كانت تحز في قلب البلدين الشقيقين ، ترزح بمرارة ، وبسرعة أيضاً تحت "عبء" الوعي الوطني ، وفكرة التضامن والاتحاد في سبيل مصلحة البلاد.
وقد التقيت خلال تجوالي بسورية بدولة فارس بك الخوري . وهو من الرجالات المسيحيين التي تعتمد عليهم سورية ، وتثق بهم وبإخلاصهم كل الثقة ، وهو لبناني الأصل ولد في بلدة "حاصبيا" التي يتقاسمها الدروز والمسيحيين .
وفي حديث جرى لي مع دولته قال : إن جزاء البريطانيين أينما حلوا ، هو دائماً القلق والاضطراب فهم يعلمون الناس الحرية ... ومن هنا تأتي المشاكل ! إذ أن من الطبيعي أن لا ينام المرء على الذل والاستعباد عندما يفهم أنه خلق حرا ... ليعيش حرا
أما نحن المسيحيين في سورية ولبنان ، فإننا نعمل ونتاجر ونتشارك كل مواقع البلد السوري واللبناني ... وحقنا الطبيعي في أرضنا هذه عريق في القدم ، كعراقة أي شخص آخر في أي مكان ، ونحن نأخذ "حصتنا" كاملة تامة في هذه البلاد العامة التي يسير الاتحاد فيها باضطراد واستمرار دائم .....
أما يهود هذه البلاد ، فهم قسم من الأمة السورية كأي قسم يتألف من ديانة أخرى ، وما فتئ رؤساؤهم وشيوخهم في مدينة حلب ، يرجون البريطانيين عدم السماح للصهيونيين بالمرور عبر الحدود السورية ... ولذلك ليس من العدل في شيء أن نقول أن يهودنا صهيونيين (الكل يعلم كيف قام حامي الأقليات حافظ الأسد بطرد اليهود من سورية) فالصهيونيين نازييون .. لأنهم يبنون جهارهم على أساس العنصرية ... فهم لايدخلون غريباً ولا يمتزجون بأحد ... كما أنهم لايزالون يتشحون بهيئة الشعب المختار دون أن يراعوا حق غيرهم من الشعوب في الحياة ...
وبعد حديث ممتع مع دولة فارس بك الخوري عن الطوائف والأديان في سورية وعن تخوفه من الوعود البريطانية للصهاينة بدولة فلسطين قلت له : " أنا أقول لك ، وأنا موظفة لدى حكومتي وأخدمها بإخلاص ، أنه لو قدر لنا أن ننكث العهود ونضرب بالوعود عرض الحائط ... فلسوف استقيل من مركزي غداً ... وكذلك سيفعل الكثيرون غيري ممن يخدمون صاحب الجلالة ...
ولكن أريد أن أقول لك ... أن دولة كدولتكم السورية لايحق لها أن تعيش في قلق التفرقة الدينية والمذهبية طالما يوجد بها شعب رائع كشعبكم
مقال مأخوذ من مجلة الصياد 13 كانون الأول 1945
الجميع نظر إلى محاولات الاستعمار الفرنسي والإنكليزي بفرض التفرقة الطائفية بين أبناء الدول التي يحتلوها من أجل دوام استعمارهم لها نظرة التقزز والإشمئزاز ، ولكن يبقى ذلك مبرراً كون هؤلاء في النهاية لا يعتبرون إلا استعماراً غايته إبقاء سيطرتهم على الدول المستعمرة مهما كلفهم ذلك .
أما ما يحدث اليوم ببعض بلدان العالم الثالث التي يقوم حكامها ببذل أقصى ما يستطيعون لإشعال الفتنة الطائفية بين أبناء شعبهم ، وكل ذلك بغرض بقائهم وديمومتهم في السلطة هو أمر لا يمكن فهمه أو غفرانه أو نسيانه أبداً .....