تضم 70 صحابيا أبرزهم حمزة بن عبد المطلب
مقبرة شهداء أحد.. ذاكرة في مهب الدمار
المكان الذي تحصن فيه رسول الله والمسلمون في أحد |
ليس مجرد مقبرة تضم رفات نفر من أهل الله وصحابة رسول الله، بل هو مركز إشعاع رسالي يمثّل شاهداً وشهيداً ليأخذ مكانه في عمق وعينا وذاكرتنا التاريخية والدينية والحضارية.. هؤلاء النفر الذين شكّلوا الأنوية الاولى لحركة رسالية غيّرت وجه التاريخ وألقت بظلالها على كل أوجه حياة الأمة.. كان لابد لهذه الذاكرة أن تعبق بالحضور الكثيف حين نستذكر مشهد البطولة والفداء لهؤلاء الذين نذروا أموالهم وأرواحهم من أجل تحقيق تلك النقلة الجبّارة في تاريخ البشرية، وأعادت إحياء القيم النبيلة التي غمرتها حركة التجهيل الجاهلية لقرون..
حين نتذكر عظمة هؤلاء الرجال الذين جاهدوا فقاتلوا وقتلوا نتذكر أيضاً خطورة نكران حسن صنع أولئك الرجال سواء عبر الاهمال المتعمد والمقصود أو تعميم ثقافة تسوّغ محو تراثنا تحت شعار البدعة، وهو شعّار يقوم في الغالب على تشخيص دقيق لعلاقة ورؤية المسلمين لتلك الآثار سواء كانت مدافن لرجال الله أو بيوتهم أو مراكز عزّتهم وبطولاتهم في المعارك.. إن الانطلاق من تشخيص غير نزيه ومتحامل ابتداءً هو المسؤول الأول عن صدور أحكام بالتدمير لآثار الاسلام وتاريخ الامة، وهي ملك لجميع الامة.
ما يلزم التشديد عليه دائماً أننا حين نحاول لملمة شتات ذاكرتنا التاريخية والاسلامية عبر النداء المتواصل من أجل حفظ تجسيدات هذه الذاكرة العطرة وإبقاء وهجها واشعاعها يدهمنا واقع بائس يرفض التعايش مع كل ما يصنّفه ابتداعاً فيلتمس لنفسه طريقاً في مصادرة حق عام على قاعدة دعوى امتلاك الحقيقة الدينية النقيّة، وهنا مكمن الخطورة على تراثنا الاسلامي وآثارنا التاريخية والانسانية. إن نمط إدارة الأماكن المقدّسة بكل ما تستودعه من نفائس وآثار عزيزة يلتقي مع نمط التفكير الديني السلفي الاقتلاعي الذي يعطي لمعتنقيه حق الافناء لكل أثر بل ولكل كائن إنساني بإسم الدين، ومن السخرية بمكان ان يعرّف هؤلاء، الممتشقون لمعاول الهدم والتدمير لكل آثار للاسلام أنفسهم بأنهم حملة رسالة الاسلام، بل تبلغ بهم السخرية الى حد تنصيب أنفسهم حراساً للشريعة وخدّاماً للحرمين المقدّسة وقد تعرضت المدينتين الى عملية مسخ على يد هؤلاء حين أزالوا آثاراً تاريخية ومراكز إشعاع ثقافي وحضاري وأشادوا مكانها ناطحات سحاب، وأسواق تجارية، ومطاعم أجنبية، حتى اختفت ملامح التاريخ الذي كان المسلمون يعيشونه من خلال زيارة الاماكن التي شهدت بزوغ فجر الاسلام، وإئتلفت قلوب النفر الاوائل من الرساليين الذين حملوا شعلة الاسلام وأفدوه بأموالهم وأنفسهم، وقد برزوا الى مضاجعهم في لحظة تاريخية حاسمة.
مقبرة شهداء أحد، شأنها شأن مقابر ومدافن وآثار عديدة تعّرضت للاهمال والمحو، تنبّه الى أن ذاكرتنا التاريخية والاسلامية يراد منها أن تفرغ وتخمل بعد تخفيض أهمية مكوّناتها، بحيث تفقد تلك الاماكن هيبتها وشموخها، سوى ما يقوم به بعض الكتّاب والصحافيين من إطلاق الخيال في إعادة إحياء الصور ومشاهد البطولة والفداء والكرامة. أحد التقريرات حول مقبرة شهداء أحد يلقي بعض الضوء على هذا المعلم التاريخي والديني الذي يتطلع غالبية المسلمين لأن يأخذ مكانه الطبيعي في ثقافتنا ووعينا الديني ومصدر الهامنا التاريخي:
قبر سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب عم الرسول عليه السلام وأخوه بالرضاعة يتوسط قبرين، وبين هؤلاء أيضا حنظلة بن أبي عامر الذي غسلته الملائكة..قصة ثلاثة قبور حاول تلخيصها الطفل حمود البالغ من العمر ست سنوات، وهو يشير بأنامله الصغيرة تجاهها للزوار، في البقعة التي تقع شمال المسجد النبوي، وعلى بعد كيلومترين منه تقريبا، لتضم بين ثراها 70 من أصحاب الرسول الذين باعوا دماءهم لأجل الرسالة.
جبل أحد الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحد جبل يحبنا ونحبه) |
حمود الذي يعمل بجوار المقبرة بائعا متجولا لبيع قوارير الماء الباردة يعمل بجانب ذلك مرشداً سياحياً يحاول إرشاد الزوار إلى معالم المنطقة التاريخية ليكمل (هنا جبل الرماة، وهنا مسجد أحد) محاولاً بذلك استعطافهم حتى الثقة به؛ ليرددوا خلفه جماعة منهم، أمام بوابة المقبرة؛ دعاء كان قد حفظه عن ظهر قلب لمن يزور المقابر والسلام على من فيها.
وفي تقرير حليمة مظفر الذي نشرته صحيفة 'الشرق الأوسطب اللندنية الجمعة 4-8-2006، تضيف: لكن شيئا من روحانية المكان الخاشع وسكينته أمام السماء بغيماتها الواسعة تتسلل حتما حينما يتم استحضار أصوات السيوف والخيول وكلمات التوحيد وأسماء شخوص بعينها في المعركة التي شهدها التاريخ الإسلامي في السنة الثالثة بعد الهجرة، بين الرسول وصحابته الذين كان عددهم 1000 مجاهد فقط، ليس فيهم فارس واحد، فيما كان المشركون 3000 مقاتل، بينهم 200 فارس أبرزهم خالد بن الوليد قبل إسلامه.
وأرواح مجندة في السماء تطير بها حويصلات الطيور في جنة الخلد تشعر بها الأعين الجائلة بخشوع داخل سور قديم يلتف حول مدافن شهداء هذه المعركة، في بقعة تكثر فيها العيون الجارية، وكما قال المؤرخ والأديب الدكتور عاصم حمدان (أذكر أنه كان بجوار المقبرة عين تجري فيها الماء وكان بها سمك وهو من العجائب، وقد شاهدتها بعيني عندما كنت صغيراً، ولكن مع الأسف عملت بعض المؤسسات الدينية على ردمها خوفا من تبرك الناس بها).
ويتابع حديثه (إلا أنه منذ شهور قد ظهرت عين أخرى بجوار المقبرة وللأسف حل بها نفس المصير وعملوا على ردمها لذات الغرض، كما حصل ذلك لبعض المواضع داخل المقبرة والتي أزيلت أيضاً، مع العلم أننا وصلنا لزمن تدرك فيه العقلية المسلمة هذه الحقائق ولا أظنها تصل من الجهل للتبرك بهذه الأشياء).
وموقع المقبرة الذي اختاره الرسول لدفنهم فيها بين جبل الرماة وجبل أحد الذي قال عنه الرسول (إن أحد جبل يحبنا ونحبه)، قد تم تغييرها عندما نقلت جثث شهداء أحد في عهد خلافة معاوية بن أبي سفيان إلى موضع آخر، وهو الذي تعرف به اليوم، خوفا عليها من أن يجرفها السيل كما أوضح ذلك الدكتور عاصم حمدان الأديب والمؤرخ المهتم بالمدينة المنورة وقال (باتفاق المذاهب الأربعة، فإنه يجوز نقل قبور الموتى إذا كان ذلك في مصلحة الميت، ولا يجوز في غير ذلك).
وذكر حمدان الحادثة الوحيدة التي وردت في التاريخ، وقال (أصاب السيل المعروف بسيل سيدنا حمزة الذي يأتي من وادي عقيق إلى المنطقة التي بها مقبرة شهداء أحد في عهد معاوية، وهو ما جعله يطلب من أبناء الصحابة الموجودين حينها أن يقفوا على قبور آبائهم أثناء نقلها، والتي لم تتغير بفعل الزمن ملامح أجسادهم، حتى قالوا إن المسحاة أصابت قدم حمزة، فخرج منها الدم، وقالوا إن عمر بن الجموح كانت يده على جبهته عندما توفي، فلما أزاحوا يده عنها أثناء نقله خرج منها الدم، فأرجعوها مرة أخرى) وعملية النقل هذه كانت بفترة طويلة عن تاريخ المعركة، ورغم ذلك احتفظت أجساد الشهداء بهيأتها ولم تتغير سوى رائحة المسك التي ذكر أنها فاحت من دمائهم.
والمقبرة التي تضم بين جنباتها أجساد شهداء أحد حملت معهم حكاياتهم، التي أكثرها شهرة تلك التي تحكي مقتل عم الرسول حمزة بن عبد المطلب الذي ولد قبل ولادة الرسول بسنتين وتمت رضاعتهما معا من قبل جارية أبي لهب ثويبة، فكانا بذلك إخوة وأقرب صديقين، حتى أنه أسلم بعد أن عرف بأن أبي جهل قد سب الرسول صلى الله عليه وسلم، فذهب إليه وسط صحبه وشج رأسه، متحدياً إياه بأن يقرب إبن أخيه وهو على دينه، فما استطاع أحد أن يرد تحديه من شدة بأسه وقوته، وبإسلامه ردّ الرسول وصحابته بعض أذى المشركين في مكة.
إلا أن قوة حمزة وشدته التي كان يقاتل بها بين يدي الرسول في أحد بسيفين وهو يفتك بالمشركين ويردد قائلا (أنا أسد الله) لم تمنع العبد وحشي الحبشي الذي طمع بالحرية عندما وعده بها سيده جبير بن مطعم إذا ما قتل حمزة انتقاماً لعمه الذي قتل في بدر، فرماه بحربته أثناء المعركة من بعد، وأصاب أسفل بطنه حتى خرجت من بين رجليه، وسقط بعدها شهيداً كما ذكر ذلك وحشي بعد إسلامه للرسول، حينما أمره بأن يذكر قصة قتله لحمزة، وعلى إثرها أمره الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يغيب وجهه عنه ففعل ذلك حتى قبض عليه السلام.
لكن حكاية موت حمزة لا تقف عند ذلك، إذ أن نسوة من قريش قمن بالتمثيل في جثته، فبقرن بطنه وقطعن أذنيه وأنفه انتقاما لقتلاهن، وكانت منهن هند بنت عتبة التي قتل أبوها وأخوها في بدر، والتي انتزعت كبده ولاكته في فمها ولم تستسغه فلفظته سريعا، ومن شدة ما فعلن به من تشويه كان الرسول قد آلمه منظره كثيرا، وحين رؤيته قال (لولا جزع النساء لتركته حتى يحشر من حواصل الطير وبطون السباع)، وحين أمر بدفن الشهداء في المقبرة كان يأمر بإحضار سبعة سبعة، يصلى عليهم بسبعة تكبيرات، ثم دفنوا دون غسلهم وبدمائهم وعلى هيئتهم التي قتلوا عليها، حتى انتهى بحمزة وقال عنه (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب).
وحمزة الذي مات عام 624 م وعمره يقارب 58 سنة، دفن في بطن جبل أحد، وبجواره قبر ابن أخته عبد الله بن جحش، وكذلك حنظلة بن أبي عامر الذي كان من بين الشهداء وكان جنباً حينما استشهد في ساحة المعركة لأنه خرج للجهاد في أول ليلة لعرسه، فدفن دون غسله، وغسلته الملائكة، وهذه المقبرة التي ضمت 70 من الصحابة كان لها معزة في قلب رسول الله، وكما ورد عنه أنه كان يتعهدهم بالزيارة بين حين وآخر، وهو ما سارت عليه أمته من بعده، حيث يزورها المسلمون من كل فج للسلام على شهداء أحد.
ومن المؤسف، أن هذه المقبرة التي تعهدها المصطفى صلى الله عليه وسلم بالزيارة تعرّضت لاهمال متعمد بحجة واهية، فيما يتشوّق المسلمون من كل أرجاء المعمورة الى رؤية تلك الاماكن التي انتشر منها نور الاسلام وغطّى آفاق الأرض فصار المسلمون يرجون بلهفة زيارة الحرمين كيما يلثموا البقاع التي وطأتها أقدام المصطفى والنفر الرسالي الذي حمل على عاتقه مهمة تشييد الدين وبث الرسالة ودفع الدم ثمناً رخيصاً من أجل ترسيخ أركان الدين وإبقاء شعلته متوهجة حتى قيام الساعة.