للنشر الإدارة
المشاركات : 3446 . :
| موضوع: عمر أبو ريشة .. الدبلوماسي الشاعر 23.08.13 16:09 | |
| (أنا شاعر قصيدة, ولست شاعر بيت كما يتوهم العديد من النقاد. والقصيدة عندي وحدة لا تتجزأ, تعودت أن أختمها بما أطلقت عليه البيت المفاجأة). عمر أبو ريشة ليس محطة عابرة في تاريخ أدبنا العربي, بل هو ذروة من الذرا التي أعطت الشعر في القرن العشرين معنى جماليًّا جعله يحلق عاليًا, وهو في كل مواقفه وإبداعه شاعر عروبي الانتماء إنساني المذهب, عشق الجمال ونافح عن القيم الإنسانية الأصيلة وعرفه العالم شاعرًا وسفيرًا ومبدعًا يأتيك بما لا تتوقعه.. النشأة والتكوين وُلد الشاعر الكبير عمر أبو ريشة بمدينة منبج بسوريا عام 1910م.. نشأ يتيمًا وتلقَّى تعليمه الابتدائي بحلب، ثم انتقل إلى بيروت والتحق بالجامعة الأمريكية، وظل بها حتى حصل على شهادة البكالوريوس في العلوم عام 1930م. بعد تخرُّجه من الجامعة أرسله والده إلى إنجلترا ليدرس صناعة النسيج، لكنه فُتن بالأدب، وكان الشعر أغلب في نفسه من دراسة صناعة النسيج. في عام 1932م عاد إلى حلب واشترك في الحركة الوطنية في سوريا ضد الاحتلال الفرنسي. ثار على بعض الأوضاع السياسية في بلاده بعد الاستقلال، وآمن بوحدة الوطن العربي، وانفعل بأحداث الأمة العربية. عمل مديرًا لدار الكتب في حلب، ثم انتُخب في عضوية المجمع العلمي عام 1948م، بدأ عمله الدبلوماسي كملحق ثقافي لسوريا في الجامعة العربية، ثم عُيِّن سفيرًا لبلاده في البرازيل، وتنقل في عمله الدبلوماسي بين الأرجنتين وشيلي والهند والولايات المتحدة. نال عددًا كبيرًا من الأوسمة، كان آخرها وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى، وقد منحه إياه الرئيس اللبناني إلياس الهراوي. استطاع أبو ريشة أن يجمع ما استطاع أن يقوله الشعراء في العراق وفي الشام وفي مصر وفي المغرب، فهو سفير أمته، لم تسيطر عليه الوظيفة التي كان يشغلها، ولكنه كان يحمل هموم أمته، يتغنى بأمجادها، ويتحدث عن تاريخها، ويصور آلامها وأحزانها ونكباتها، لم تصرفه السفارة عن أن يرفع صوته وعقيرته بأن يصور الأحداث وأن يذكِّرَ والذكرى تنفع المؤمنين بأن هذه الأمة كانت لها أمجاد، وكان لها تاريخ عميق، وكانت لها فتوحات، وكانت لها صولات وجولات، وكانت إمبراطورية قهرت الإمبراطوريات في عصرها الغابر، ثم دار الزمن دورته ففعل فعلته وتأخّرت هذه الأمة، لعلها حين بعدت عن دينها تمزقت إربًا فأصبحت دويلات، والتاريخ شاهد على هذا، فدويلات الطوائف في الأندلس كانت إحدى نكبات أمتنا. أبو ريشة والقـدس اشتهر الشاعر عمر أبو ريشة بمواقفه الوطنية والقومية الجريئة، فقد قارع المستعمر الفرنسي إبان احتلاله لسوريا (1920 - 1946)، كما ندّد ببعض المواقف للحكومة السورية بعد الاستقلال (1946)، وكان شعوره القومي يطغى في كثير من الحالات على شعوره الوطني. حظيت القدس من اهتماماته ومشاعره وعواطفه، مثلما حظيت من شعره وقصائده بأكثر مما حظيت به أي مدينة عربية أخرى، حتى مدينته حلب نفسها التي فيها نشأ وترعرع وأمضى معظم سني شبابه،. كانت القدس بالنسبة إليه طوال حياته المنطلق الذي يقوّم من خلاله أي موقف، فهي القيمة التي تثبت مقدار الإيمان بالإسلام، والتمسكِ بالعروبة، والإخلاصِ لهما، والموقفُ منها هو الموقف الذي يثبت مقدار الوفاءِ للشعب، وتحقيقِ أهدافه وأحلامه في الحرية. وكان الشاعر في كل مناسبة وطنية أو قومية يذكر القدس؛ لأنها حاضرة دائمًا في وجدانه، وفي وجدان كل عربي، ولأنها اللحمة والسدى أيضًا في كل مناسبة؛ لأن قضيتها لا تنفصل عن أي قضية عربية أخرى. وعى عمر أبو ريشة القضية، وعاش تاريخها، وعرف أبعادها، ذاق فيها المرّ، ورأى النكبة والنكسة، ولكنه لم يقنط، وظل متعلقًا بالقضية. ومثلما أخلص أبو ريشة للقضية في فكره ووجدانه ومواقفه، كذلك أخلص لها في فنّه، فكان يجوّد شعره، ويتقنه، ويُعنى بصوره، ويجدّدها، وينتقي ألفاظه، ويجوّدها. ولعل أهم ما سيذكر له جرأته في انتقاد الحكام العرب، وتحميلهم مسئولية ضياع القدس وفلسطين، والتنديد بحرصهم على عروشهم، كما سيذكر له دائمًا ثقته بشعبه، وأمته، وتعليقه الأمل دائمًا على الجندي والمقاتل والفدائي، وحماة الوطن، وإدراكه أن القوة دائمًا هي السبيل إلى النصر. ومن أهم المعاني التي كان يردّدها طهر القدس ونقاؤها، وإشارته إلى مكانتها لدى المسيحيين والمسلمين، فهي مهد عيسى عليه السلام ومسرى محمد صلى الله عليه وسلم، وكان يراهما دائمًا متعانقين. كما كان يرى في الصهاينة دائمًا شرذمة من اليهود الكاذبين الظالمين الطغاة صانعي الأكاذيب مدنسي الحرم المقدس. وفي هذا السياق كان يندّد دائمًا بالإنجليز؛ لنكثهم وعودهم للعرب، ومنحهم العهود لليهود. وكان ما يفتأ يمجد الشهداء، ويأسى لآلام المشرّدين واللاجئين، ويؤكد انتصار الحق بالقوة ويبقى عمر أبو ريشة بعد ذلك كله واحدًا من مئات الشعراء العرب الذين اعتنقوا القضية الفلسطينية، وعشقوا القدس، وتمسكوا بالحق العربي، وناضلوا بشعرهم وفنهم، وأحيانًا بدمهم وأرواحهم في سبيل تحرير الوطن. المكانة الأدبية لعمر أبو ريشة مكانة مرموقة في ديوان الشعر العربي الحديث. فهو من حمل في قلبه وحنايا ضلوعه, عاطفة الحب الجياشة للوطن وللإنسان وللتاريخ العربي, وهو من تغنى بأمجاد أمته وتاريخها التليد, وهو موضع إجماع مختلف التيارات الأدبية والمذاهب الشعرية؛ إذ يعتبره الجميع صوتًا متميزًا, لا يكاد يشبه شاعرًا عربيًّا آخر. فهو يحقق كثيرًا من مطالب وتمنيات المجددين ودعاة الحداثة في الشعر. حرص عمرأبو ريشة على التأني في الإقبال على نظم الشعر, والتمسك الشديد بمبدأ الانتقاء والاختيار الواعي، والتزام مبدأ التنقيح والتجويد لشعره، بل ربما عاد إلى القصيدة منقحًا بعد نشرها, فاختصرها, وتخلى عن كثير من أبياتها. بل ربما تنكر لقصيدة نشرها في حينها، ثم أعرض عنها وأنكرها. كان كثير الحرص على تحقيق مطالب المجددين في الشعر, مثل اجتناب شعر المناسبات والمهرجانات, والاحتفالات الاجتماعية. وقد استطاع في الوقت نفسه أن يعبر عن المشاعر الوطنية المتوهجة على المستوى العربي, فيحسن التعبير بشعر رقيق منساب لا افتعال فيه ولا زيف: وكان شعره يعلو ويصدح في الأحداث القومية الجسام, وفي كل حفلة وطنية جليلة الشأن, فتتلقفه الأسماع الظامئة لهذا اللون البديع من الشعر, وتتنافس في نشره كبريات الصحف والمجلات السورية والعربية, وتنشده من بعده الجماهيرومن ذلك قصيدته الشهيرة التى مطلعها أمتي هل لك بين الأمم منبر للسيف أو للقلم أتلقاك وطرفي مطرق خجلاً ممن أمسك المنصرم وعمر أبو ريشة شاعر الكلمة المترفة, والخيال المجنح والروح السامية, بين حياته وشعره توازن وتلازم, صفاء الروح ورقة المعنى, شاعر عربي سوري، لكنه إنساني النزعة, إنسانيته الواسعة الشاملة بمعناها الإبداعي رقت وتلاقت مع الصوفية في أعماقها وهي تبدأ من الإيمان بالوطن وبالأمة وقضاياها, عبر سحر شعره, وعبر قدرته على شحن التراكيب والصور بدفق عاطفي قادر على أن يرفع من حالة التوثب للتحليق مع المعنى. الشعر القديم و الحديث يرى عمر أبو ريشة أن ليس هناك شعر حديث أو شعر قديم, وليس هناك شعر منظور أو شعر منثور, هناك شعر وشعر فحسب! المهم في رأيه هو ما تحمله الكلمات من أحاسيس وما تخلعه من أجواء.. أما الكلمات التي لا معنى لها ولا غاية في ضرب من العبث ابتدعته الصهيونية لتشويه مفاهيم الجمال ولترك الفرد في حالة ضياع.. لم ينقطع يومًا عن كتابة الشعر, فالشاعر في رأيه كالنهر لا يشيخ والحب عنده هو الأنانية المحترمة الخيرة. والمرأة فيه ينبوع دافق هو بالنسبة إلى التصوف تحديد للذات الصغرى في الإنسان والذات الكبرى هي الله، ودرجة الحب تتوقف على إدراك الإنسان مدى أنانيته الجميلة ومدى قدرته على التعبير عن ذلك التطلع إليها. عمر أبو ريشة ليس شاعرًا وسفيرًا وكفى, بل كان إنسانًا قادرًا على التواصل والتفاعل، وما حدث له يوم دخل إلى الرئيس الأمريكي جون كيندي ليقدم إليه أوراق اعتماده سفيرًا خير دليل على ذلك.. وحين أنهى عمر أبو ريشة مدة سفارته في الهند أقام له نهرو حفلة تكريمية لم تشهد الهند مثيلاً لها, وقال عنه على رؤوس الأشهاد: إننا اليوم لا نودع سفيرًا: فكثيرون أولئك السفراء الذين يأتون ويذهبون, إننا نودع اليوم في هذا الرجل القيم العظيمة للإنسان. في ميزان النقد الأدبي كان دبلوماسيًّا من المشتغلين بالسياسة, وشاعرًا تشرَّب الأحلام الكبيرة أيام كانت هشة طرية مشتهاة كتب أبو ريشة القصيدة الغنائية وجرب القصيدة الملحمية والمسرحية الغنائية (الأوبيرت)، والشاعر في نظره رائد يقف في مقدمة بني قومه. أما في قصائده الغزلية وسواها نجد اتساع الرقعة الرومنطقية في شخصيته, علاوة على الرمز والواقعية وسعة الخيال التي كانت تملأ شعره المليء بالحنين والرغبة والألم والفرح. لقد أحب أبو ريشة الطبيعة لحد التصوف وتوحد معها، وراح يعبر من خلالها عن مشاعره, وهو يمنحها الحياة والقيمة -ولا يتخذها مجرد مادة للتصوير, بل هي حية متحركة- فيوظف الطبيعة في شعره؛ ليرسم ثلاث لوحات للفجر والظهيرة والمساء, ويصور الكون في تحركه وتغيره, كما يصف الظهيرة التي تأتي لتعبر عن كسل ثقيل, فتضعف الحركة وتفتر ويصف المساء الذي يبدو أكثر أثارة لما يعج به من ألوان صاخبة، وما تموج به من حركة فاجعة: ويدرج شعر أبو ريشة في سياق التيار الرومانسي الذي كان غالبًا على أبناء جيله -خاصة ممن بلغوا مراحل نضجهم الفكري والإبداعي تُوفّي يوم السبت الثاني والعشرين من ذي الحجة عام 1410 /1990م | |
|