علم إدارة الذات يتميز برعايته للفرد والمجتمع، وتحقيق التوازن في المصالح والعلاقات، بما يؤدي إلى إيجاد المجتمع الفاعل، المتماسك، المتكافل، وإقامة ذلك على تصور محكم وشامل للإنسان، والكون، والحياة... إنه علم في غاية الأهمية من جهة علاج الواقع الذي نعيش فيه، فإننا في حال هزيمة على المستوى الفردي والمستوى الجماعي، والعودة بالنفس والمجتمع من حال الهزيمة إلى حال الانتصار تحتاج إلى مزيد الاهتمام بهذا العلم، وتقديمه للكبير والصغير في صورة مبسطة وسهلة، وفق عقيدة إسلامية سليمة، وبعيدا عن التعقيدات الفلسفية والشطحات الفكرية.
ورغم أن لعلماء الغرب جهوداً واضحة في هذا العلم، إلا أن ما يعيب عليهم، تلك المادية المفرطة في تناول جزئياته، والتي تدور دوما حول تكوين الرجل الجبار الذي يقهر الأقدار، وعلى تسلسل الأحداث وفق مقدمات ونتائج حتمية أشبه بالمعادلات الرياضية الصماء، حتى غابت الحقيقة التي لا ريب فيها من أن أساس النجاح في أي عمل يرجع إلى توفيق الله سبحانه وتعالى.
أما علماؤنا المسلمين فلهم القدر الأعلى والحظ الأوفر في خدمة هذا العلم الشريف، لكن في أجواء روحانية سامية، ولمسات إيمانية راقية، وتناغم مع الفطرة البشرية بما فيها من قوة في مجالات وضعف في مجالات أخرى، وبما فيها من إقدام وإحجام، وحزن وفرح، وعلم في أمور وجهل بأمور أخرى... بما فيها من تناقضات، وإيجابيات وسلبيات.
ويرجع السبب الأعظم في هذا التميز الإسلامي، وهذا المذاق الخاص عند علمائنا الأخيار، إلى النهل من النبع الكريم، نبع القرآن العظيم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، والاسترشاد بالسنة النبوية المطهرة سنة الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه.
ولا ريب أن الاغتراف من معين الكتاب الكريم وأقوال رسولنا الأمين لهما أبعد الأثر في الوقوف الحقيقي على طبيعة النفس البشرية {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }[الملك: 14] وكيفية التعامل معها، فضلا عن النظرة الشمولية لحياة الفرد، بداية من أخذ الله الميثاق عليه في الأزل ثم وجوده على الأرض في الحياة الدنيوية ثم ما يتبعها من حياة برزخية وأحداث يوم القيامة ثم دار القرار جنة الخلد أو النار أعاذنا منها الكريم الجبار...ولاشك أن هذه النظرة الشمولية تختلف كثيرا عن النظرة القاصرة لحياة الإنسان الدنيوية فقط، والتي تكرس المادية المفرطة، والدوران في فلك اللذات والشهوات، دون رقيب أو حسيب.
هذا التناغم بين المصادر الإلهية والتجارب الحياتية في إطار سلامة المعتقد وشمولية النظرة للكون والحياة، جعل من علم إدارة الذات رائعة من روائع الحضارة الإسلامية لا تجد لها مثيلا في الأمم الأخرى، حتى صار هذا العلم فن إسلامي باقتدار، ويكفي أن تتابع كتابات الأفذاذ من أمثال ابن القيم وابن الجوزي وابن حبان .. وغيرهم ، فضلا عن كتابات مشايخنا المعاصرين حتى تدرك هذه اللمسات الإيمانية الفريدة التي تدلل على براعة علمائنا.... ومن ذاق عرف.
أيضا مما يمتاز به علم إدارة الذات الإسلامي التطرق إلى أمور تغيب تماما عن الفكر الغربي المادي، رغم شدة حاجتها لكل ذي فطرة سوي ومنها: عقيدة القضاء والقدر، وقيم الصبر على أقدار الله، والرضا بالقسم الرباني. أمراض القلوب من غل وحقد وحسد... وغيرها. الهوى والشيطان وكيف يستعيذ منهما الإنسان. استراتيجية العمل لما ينفع بعد الموت، وقيم الصدقة الجارية، وفقه من تجاوزت أعمالهم أعمارهم... وغيرها الكثير. دور الإيمان بالغيبيات في إيجابية حياة الفرد في الدنيا والآخرة، وأن قيم الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الأخر كلها قيم دافعة لصلاح الذات..... وهذا غيض من فيض، فالمقام لا يسمح باستقصاء كل مميزات علم إدارة الذات الإسلامي، لكن لا يغيب على كل فطن أهمية هذه المميزات في حياة الإنسان، وفي تفاعله المثمر مع خالقه وبارئة، بل ومع الكون كله.
إن الإيمان الحق بالله سبحانه وتعالى، أي الإيمان الراسخ في القلب رسوخ الجبال الشامخات، والذي يصدقه العمل الصالح، وليس الإيمان الذي يردده اللسان فقط - هذا الإيمان يجعل الإنسان المؤمن قوياً في إرادته، لا تعجزه ولا توقفه العقبات والمشاكل التي تعترض طريقه في الحياة، بل ينظر إليها ويضعها في حجمها الطبيعي، ويوقن أنه سيتغلب عليها أو يتأقلم معها طالما التزم التوكل على الله سبحانه حق التوكل، وهذا التوكل - وليس التواكل - هو الدافع الحقيقي للفرد المؤمن نحو الشجاعة والإقدام واقتحام المشاكـل وعدم التسويف الذي يورث في النفس الخوف من المجهول، والخوف من المستقبل.
إن التوكل على الله تعالى يولد الثقة بالنفس، والثقة بالقدرات الهائلة التي وضعها الله سبحانه فينا.... فلا مجال إذن إلاّ للإرادة القوية المقرونة بالتوكل الحق على الله سبحانه خالق ومالك كل شيء، وأن تنطلق هذه الإرادة من يقين راسخ بأن الله سبحانه هو المتصرف في ملكه، وهو القادر عليه، وهو المعطي والمانع، وهو الرافع والخافض... قال تعالى{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 26 – 27].
من هذا المنطلق نستطيع أن نقول أن النبي صلى الله عليه وسلم كان رائد علم إدارة الذات باقتدار، وتنوعت مهاراته -بأبي هو وأمي- في معالجة كبوات النفس البشرية تنوعا يناسب طبيعة الكبوة، سواء على الصعيد الفردي أو الجماعي.
فعن أبي أمامة قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم غلام شاب، فقال: يا رسول الله ائذن لي في الزنا. فصاح به الناس، وقالوا مه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ذروه، ادن" فدنا حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أتحبه لأمك؟" قال: لا. قال: "فكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم. أتحبه لابنتك؟" قال: لا. قال: "وكذلك الناس لا يحبونه لبنانهم. أتحبه لأختك؟" قال: لا. قال: "فكذلك الناس لا يحبونه لأخواتهم. أتحبه لعمتك؟ قال: لا. قال: "فكذلك الناس لا يحبونه لعماتهم. أتحبه لخالتك؟" قال: لا. قال: "وكذلك الناس لا يحبونه لخالاتهم، فاكره لهم ما تكره لنفسك، وأحب لهم ما تحب لنفسك". فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يطهر قلبي. فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على صدره، فقال: "اللهم أغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه". قال: فلم يكن بعد ذلك يلتفت إلى شيء. [الطبراني] .
وهنا تكمن براعة المصطفى صلى الله عليه وسلم في التعامل بفردية بحتة مع هذه القضية الفردية، ذاك أنها مشكلة تخص هذا الشخص وحده، ولا تخص غيره، حيث لا يختلف عاقلان على قبح الزنا وبشاعته، ولكنها حالة خاصة من تشوش الفكرة وانقلاب الفطرة، فكانت السياسة النبوية قائمة على الإقناع أكثر منها بالمواجهة لحكم الله تعالى في هذا الأمر، ذاك لأن العقول لو تفهمت مراد الله عز وجل لسهل عليها الانقياد لشرعه والإذعان لحكمة.
لم نجد النبي صلى الله عليه وسلم يسرد على الفتى آيات القرآن الكريم التي قبحت الزنا وتوعدت فاعله، بل إنه عليه الصلاة والسلام قابل تشوش الفكرة بعين الحكمة والإقناع، ثم بجميل الدعاء، مما سهل عليها الانصياع لحكم الله الذي لا يجهله مسلم.
لكن في موقف آخر نجد أن الطريقة النبوية تختلف تماما في تناول معالجتها، ذلك لأنها قضية عامة تمس الأمة قاطبة لا فرد بعينه، فكان لابد من الجهار والاستنكار دون تجريح أو تفضيح.
فعن أبي حميد الساعدي قال: استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد - يقال له ابن اللتبية - على الصدقة. فلما قدم، قال: هذا لكم وهذا أهدي إلي!! قال: فقام رسول الله على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد، فإني استعمل الرجل منكم على العمل مما ولآني الله، فيأتي فيقول: هذا مالكم وهذا هدية ٌ أهديت لي! أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقاً، والله لا يأخذ أحدٌ منكم شيئاً بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلأعرفن أحداً منكم لقي الله يحمل بعيراً له رغاءٌ أو بقرة ً لها خوار أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رئي بياض إبطيه، يقول: اللهم هل بلغت" [الجمع بين الصحيحين]
ولما كانت النصيحة على الملأ فضيحة نجد الأدب النبوي أعرض عن ذكر اسم الرجل على المنبر، فالتشهير بذوات الناس لا يحقق المراد ويوغر الصدور، ولكن المقصود أن يعلم القاصي والداني عاقبة الرشوة، لأنها ثمرة فساد الأمم، حيث تستجلب بها الرغبات بغير حق، فيتحول المجتمع إلى غابة موحشة الحق كله فيها للغني دون الفقير، وهذا نذير شؤم وعاقبة هلاك.
لذلك قال شراح الحديث:
- وفيه أنَّ مَن رأى متأوِّلاً أخطأ في تأويلٍ يَضرُّ مَن أخَذ به، أن يُشهر القول للناس، ويُبيِّن خطَأه؛ ليحذِّر من الاغترار به.
- وفيه جواز توبيخ المخطئ وجواز تقريعه تقريعا يتوجَّع منه كلُّ ذي شعور، ويستحقه مثل هذا العامل الذي أراد أن يَخدع نفسه، ويخدع الناس، ويُفتيهم بحلِّ ما أخَذ من المُزَكِّين بدعوى أنه هَديَّة.
إننا في أشد الحاجة لتلمس تلك الحنكة النبوية في تعاملها مع الأحداث، وأن نقدمها لشبابنا وبناتنا خاصة للتسع نظرتهم للحياة، ولتحسن إدارة ذواتهم في رحلة الحياة بما يضمن لهم الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة، نريد أن نسترشد بهدي سيد المرسلين لنخرج من متعة اللحظة إلى آفاق المتعة الرحبة في الدنيا والآخرة، وندير حياتنا بشكل نموذجي نشكر فيه السراء ونصبر على الضراء، ونرضى بقضاء الله تعالى آناء الليل وأطراف النهار، والله من وراء القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.