ما زالت هنا .....
في الذاكرة الحيّة المسافرة الحاضرة وبينَ رائحة البرتقال ِ المنعشة ِ حولَ خصرِ الصبية ِ يافا وليمونِ صبايا الساحلِ من أخواتها ، وعناقيدِ الذهبِ الجميلة في كروم عنب الخليل ِ ، وسجاجيد ِ الشومرِ الأخضرِ في الجليل ، وصهوة الفارسِ الزيتوني العنيد على جبالِ الداخلِ العنيدة ، كانت العتابا والميجنا تصدح وتنتشي حولها في مواسمِ الحصاد ومواسم النسّاك والعبّاد وبقيت الحمائم من حول المنابر والمآذن والنواقيس والأجراس تمارسُ كينونتها البهيّة ْ ......
كانت بكارة فلسطين التي تغنّي جمالها وفرادتها على امتداد الخارطة المتفردة ولا زالت رغم كلِّ الجراح ورغم كلِّ المحن ، ومع صباح اللوز ونواره الأبيض شباباً لا شيباً ومغموسا بفتنة الطابون البلدي الذي تنطق من تحته جذوة الفعل المارد ورصيده العنيد ....ظلَّت فلسطين تمسك بروحها الخاصة متحلقةً حول الدبكات والأهازيج مثلما حول الصلاة والسجاجيد ، متشبِّثة بالأمل المتجدد والمستمر لاستعادة صورتها التامة ولو طال الزمان...
لم تتعب من المشوار ولا وهنت من الأقدار ولا أصابها الذوبان ولا الدوار ، تنقل شطآنها إلى جبالها تارة وترسل صحراءها إلى مرافيها تارة وتبقى على التصميم والعنفوان مهما استمرّت الغارة ، تقاتلُ في الحضور وتقاتل في الغياب ولا تستريح إلا وهي عنوان الكتاب ، يخشاها الحجاب وتخشى عليه ولعه بالسراب ، مقيمة ساطعة واجبة الاعتزاز والافتخار ....
فلسطين التي بقيت تحتفظ بمفتاح بيوتها مسافرة في ضمير ووجدان أبنائها مهما ارتحلوا وأينما حلّوا ، هي فلسطين التي أصرت على أن لا تقبل القسمة ولا تقبل الطاعة وتظل عصيَّة على كل الغزاة مهما أقاموا ومهما حاولوا ، محتفظة بذات الثياب وذات الأصوات وذات النكهات لأبنائها البررة مهما طال الغياب ، فلسطين الأم التي تنتج حتى لا يبقى من يطلب ، وتنتظر حتى لا يبقى من يغيب ، وتقاتل بكبرياء الحرة دون كلل أو ملل فهم بعض من عقَّ أو لم يفهم ْ....... .
فلسطين التي مرَّت عليها الدوائر والقبائل وتخاصمت حولها الموانيْ فما وسعتها ولا استطاعت أن تغيبها لحظة واحدة أو تستبدل مواسمها ظلَّت فلسطين المارد ، فلسطين الذاكرة الباقية والوطن المستمر هي فلسطين التي ترى أطفالها كل عام مرتين بحجارتهم مرة وبكرَّاس درسهم مرة ، وتقبِّلهم مرتين حول حقول الحصيد والقطاف وحول حقول النار ، وتضُّمهم مرتين حول العالم مرة أينما هم وفي حضنها مرة ، ولن تغيب ....ولن يستطيع من يحاول تغييبها أن ينال من عزيمتها المتفجِّرة ، قد تسمح لمن يريد أن يقلِّد مواسمها بشيءٍ من مكان وشيءٍ من زمان وشيءٍ من صورة ، لكنها تحتفظ دائما بكل الصورة ......
فلسطين هي الحج الأصغر والحج الأكبر وما بينهما تعفو عمن أساء وظلم وتسمح باللقاء على أرض الحرم محجّة بيضاء للمحبين والعاشقين ومهوى قلوب العاشقين ، وهي الحبّ الواحد والمتعدد الخالد تنشد اللقاء ويخنقها الوداع ويؤلمها أن يقدّم على عشقها سقط المتاع ، قدّمت للعالم فرصة نادرة كي يبقى محترماً ولم يهزّها تفويته الفرصة ولا أزعجها تكبيل ضميره قرنا وسخف تبريره دهرا ، ومنحت الدنيا قيمة عليا لتظلَّ ذات جدوى وذات فائدة ولم تشترط عرقاً ولا لوناً ولا فكراً فوحّدت بنقائها القلب والخاصرة ....
فلسطين التي قبرت المؤامرات وقلبت المعادلات وأسقطت العتاة والطغاة ولم يفصلها عن وعيها تغيير أسماء ولا تبديل أسمال ولم يرعبها جدار حصار ولا جدار اعتصار تبقى دوما حاضرة المبادرة وصاحبة العلامة المسجّلة في قلب الطاولة على من يحاول المراوغة والمتاجرة والمغامرة ، أقوى من المناورات ومن أحابيل العصاة وعلى موعد دائم مع اشتقاق النفاذ ، لها طقوسها ولها عنادها ولها أملها ولها أيامها وساعاتها ووردتها الحمراء ورغم الجراح ورغم المشوار الطويل ما تعبت ولا كلَّت ولا قبلت أن لا تكون فلسطينُ إلا فلسطين ْ فهل تسمعون ؟!....
أيمن اللبدي