تلثم بعضها بعضا فى حنان دافقٍ، تتجاور فى خط سير رقراق، تتمرد ذرات الماء المنتشية، فتخرج عن مسارها تداعب قدميي المغروستين عند الحافة بإهمال..كنت أتأمل تلك الخضرة فى الضفة الأخرى..
جلست معه هنا ذات مساء وهو متفرد كالقمر المضئ الذى كان شاهداعلى حبنا..
هو شاعر الجامعة المجنون.. أو مجنون سوسو).. المتيم بى الذي كان يتبعنى اينما ذهبت، ويتبعه الغاوون فكتب شعرا لا حدود له.
تفضح دواخله المتأججة بنار اللوعة، (حقا إن حب الشاعر لعنيد! فـحين يعشق تختفى كل مكونات المشهد أمامه، فقط الحبيبة تقف ماثلة أمام عينيـه وفى حديثه وفى أشعاره، وفى أفكاره.
كتب اسمى على جذوع الأشجار فى الجامعة والشجرة التي أجلس متكئة عليهاالآن تشهد على ذلك، نحت عليها اسمى
.. اينما تلفت كنتُ أجد قصيدة تحتويني، على سور سكن الطالبات، على بوابة الجامعة..فأنكشف أمام الكل سرحبه العميق، فأطلقوا علية لقب الشاعر المجنون، فـلم يحتج على هذا الإسم،بل ظل هائمـا فى عوالمه..
كنت أتجنبه ولا أبادله عواطفه، ولم يعجبنى شعره ولكن لا أخفى أعجابى بجنون لحظته حين يراني فأتمادى فى تعذيبه..كنت أشعر بالزهو والخيلاء، عندما يقرأ أشعاره فى محافل الجامعة الأدبية، ويعلم الجميع مايكتبه عني، يصفني بالحورية مرة.. وتارة بأنى أجمل نساء العالم..وأنني أجمل من رأت عيناه، وتارة بسيدة المساء وحبيبة القلب..
زميلاتي كن يحسدنـنى كثيرا، على هذا الدفق الشاعري، وأخريات كن غاضبات، لأنني لا أتجاوب معه..
عندما بلغ العشق به مداه، أشفق عليه الجميع، فقد تدهورتْ فى كل المناحي، نحل جسده وتدهور تحصيله الدراسي، فطلب منى الزملاء أن أستجيب له،
متسائلين : ما الذي يعيبه ؟، فهو صادق فى احاسيسه، وإلا كيف أطاعه القلم ونثر كل هذه الدرر فى شخصك ؟.
كان هناك صوت يضج فى داخلي : لاتستجيبى لعشق شاعر ( فالشعراء يتبعهم الغاوون ) وشيطان شعرهم متمرد
وأردد هامسة : لن أبادله الحب..
واستمرأت الدلال والرفض..
حتى جاء ذات مساء إلى منزلنا ذات عطلة كانت قد طالت .. فرحب به أهلي ، أدهشتنى المفاجأة..
جاء خاطبا ، فقبلت به وأكبرت جديته ، وعدنا إلى الجامعة حملت كل عواطفي التي خبئتها عنه فى سلة عشقي ووهبتها له..أزداد حبى له، تعلقت به اختفت الدنيا من حولي إلا هو وأشعاره وماتنسجه من فنتازيا زهور وقمر وليل وعشق ودفء، وأنا سابحة فى بحور شعره حتى غرقت، انقطعت انفاسى عندما توغلت فى الإبحار، ولكن للأسف عندما رفعت يدي ملوحة له وصرخت بأعلى صوتي ، لم أجده!
أين أنت ياشاعري.؟ لاحياة لمن أنادى.
أخذه الغاوون إلى وادٍ آخر، كانت صدمة عنيفة، أوشكت أن أفارق الحياة منتحرة، عندما رأيته يكتب لحسناء أخرى ويحمل زهرة حبه فى يده. ويتبعها كظلها، ألوح له فلايراني..
أكمل مسيرته مع أخرى غيري وتركني للريح والمحل.
مرت السنون، التقينا على غير موعد، فى الأرض التي خطونا فيها بقلوبنا النضرة الخضراء، تذكرنا أيامنا الخوالي وجرح الوجدان الذى خلفه هجره لى.. وفى لقائنا الأخير أخرج مجلدا زاهيا من حقيبته يحمل اسمى( سوسو حبي الذى ضيعت) محملا صفحاته أشعاره التي كتبها منذ أن ولجت داخل قلبه، والذى كان يكتبها حين يتذكرني عبر ممرات الأيام.. كلما عاوده الحنين، بعد أن فشل فى زواجه..وصار يتغني بى مرة أخرى.. ويخيط الأشعار..ويلبسني لها فى غيابي الطويل بعد أن تفرقت بنا سبل الحياة.
سالته سؤال انتظرت الإجابة عليه سنينا عدداــ لماذا هجرتنى أيها الشاعر وأنا التي كنت تقول أنني ملهمتك ؟.
ـ مانسيتك يوما ياحبيبتي..
ضحكت حتى طفرت دمعة من عينيي
قلت له مرددة: حبيبتي!!
ورمقته بنظرة ، فهم معناها.
وظل رغم ذلك يلح على عودة المياه إلى مجاريها.
ـــ أريد منك أن تقوليها الآن ، أشتهى سماعها ، أرجوك قولي لي أحبك
ـ أمجنون أنت! أغتلت حبى لك عمدا، وخلفت الأسى فى دواخلي.. لم استطع الحب بعدك، لقدشوهت وجداني وظل قلبى مجروحا نازفا، لم استطع أن ابادل الحب خوفا من الغرق..
حتى اللحظة هذا هو كتاب شعره فى معيتي، الذى أهدانى له مودعا عالمي، ولكن اعترف مازلت أحبه...
وصلتُ إلى قناعة بأن الشعراء هم كالذين يتبعونهم فى كل واد هائمون، قلوبهم تتفلت، خلف كل حسناء ، وأن السعادة معهم تكون مرهونة بعمر اللحظة، يبدأ هطل عشقهم كتساقط حبات المطر رذاذا ثم ينهمر فيغمر الماء فى كل الوديان فيغرقها.
قرأت مخطوطته الآن تأملت أشعاره .فما زالت أشعاره تشكل وجداني.. تركته يذهب دون أن يدرك أنى مازلت أحبه. نظرت إلى قرص الشمس الملتهب يودع النهار.. زيلت الصفحة الأخيرة فى مخطوطته بعبارتي التي آمنت بها( المشاعر الصادقة لاتورث سوى الكآبة المزمنة، وحبي للشاعر المجنون يعسكر فى الحنايا، ولكن ليس للشاعر مشاعر وألقيت بها داخل النهر وشاهدتها تغرق وغادرت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سعاد محمود الامين
السودان موطني.
دولة قطر إقامتي.
جامعة الخرطوم: جامعتي..
دكتورة بيطرية باحثة مهنتى..
ماجستير مؤهلى...
هواياتى:. القراءة عالمى أدفن ذاتى بين صفحات الكتاب تختفى الأشياء من حولى. القلم رفيقى ومبدد وحدتى ومخفف غربتى أكتب القصة القصيرة، والقصيرة جدا، وأدب الأطفال، والرواية، أنا عربية أفريقية الهوى. أعشق القارة السوداء بجنون. معظم قصي مكانه وزمانه يدور فى أفريقيا..
الرسم والألون حديقتي الغناء