[img:dc62]http://www.saidaonline.com/newsgfx/201[1]dsa_1.JPG[/img:dc62]
خليل إبراهيم المتبولي
... كان مفلح يلعب بالقرب من الدار حين بدأت الطائرات تقصف والرصاص يزغرد في الجو معلناً حالة الرعب والدمار ، الناس تتراكض وتتدافع خوفاً من مصير مجهول يتربّص لهم ، إختلطت أصوات الناس بأصوات الرصاص والمدافع ، لم تعد تُسمع سوى معزوفة الموت تنتشر في الأجواء .
ركضت أم مفلح باتجاه ولدها وسحبته من بين الرصاص وهي تنادي على أولادها الباقين ، حالة من الذعر دبّت بين الناس ، الوالد يأتي مسرعاً ويصرخ طالباً من زوجته أن تحمل ما خفّ حمله وبعض النقود وصك البيت وبعض الحاجات التي تلزم الأولاد ، مردّداً أننا سنترك الدار لبضعة أيام ، وسنعود بعد أن يُنهي العرب الأبطال على هؤلاء العصابات التي اقتحمت ديارنا ، وتريد أن تسرق منّنا أرضنا ، سنعود ، سنعود ...
حمل مفلح لعبته المفضّلة لديه ، وهي عبارة عن أقمشة ملفوفة بشكل طابة ، فقد كان يعشق اللّعب بها لأنها كانت تُفرّغ كلّ ما في داخله من طاقة وغضب ، وذلك من خلال ركلها بكل قوّة وبالمقابل كان يضحك عالياً من كل قلبه .
اتجهت العائلة نحو شمال الوطن علّها تنعم بقليل من الأمن والسلام ، على أمل العودة بالقريب العاجل ، مفلح لا يعلم بشيء ! ولا يعلم لماذا خرجوا من ديارهم ! ولا لماذا يفعلون بهم هكذا ! لقد كان يسمع قصصاً من جدته عن النكبات التي كانت تمر بحياة الشعوب ، وعن الإضطهاد والعذاب والتشرّد واللّجوء ، فإذا به يشعر أنّه سيعيشهم ويصبحون جزءاً من حياته . أعطته أمه أوراقاً ومفتاحاً علّقته في صدره ، وطلبت منه أن يحافظ عليهم لأنّهم حياتهم ، ومن دونهم لم يستطيعوا أن يثبتوا هويتهم ونسبهم وحقوقهم حين العودة .
العودة ، كلمة بدأت تكبر مع مفلح جنباً إلى جنب ، كما أنها أخذت تكبر في ذهنه وذهن أترابه ... العودة إلى الديار ... العودة إلى عبق ورائحة تراب أرض الدار ... كبرت كلمة العودة مع جيلٍ كامل يحلم بطفولته التي هُدرت واستُبيحت ، والتي نُكّل بها واغتُصبت . جيلٌ خلق لنفسه حالة خاصة في بلاد الشتات واللّجوء ، جيل حاول أن يثبت وجوده بطريقة أو بأخرى ، حاول أن يعود إلى دياره بشتى الطرق ، أوجد النضال والصمود والتحدّي ، أوجد الكفاح المسلّح ليعود . آمن بقضيته التي أصبحت في مهب الريح ، آمن بالعربان الذين أوهموه أنهم سيعيدونه إلى دياره ، فما كان من هؤلاء العربان إلاّ أن جاءوا وأغدقوا الأموال عليه حتى شتّتوه أكثر وأكثر ...
مفلح كان من هذا الجيل الذي تصدّى وكافح وناضل ، ولكنه خُذل ، ورغم كل القسوة والمرارة إلاّ أنّ كلمات أمه لا تزال تصدح في أذنيه بأنّ أوراق الديار والمفتاح كالعِرض يجب المحافظة عليهم .
حافظ مفلح على الأوراق والمفتاح وصورة والديه التي علّقها على حائط بيته الصغير داخل مخيم للاجئين بعد موتهم ، واللّذين ينظران إليه من وراء زجاج الإطار نظرة مليئة بالعتب والشكوى والقهر ، لأنهما كانا مؤمنّين مثل غيرهم بشباب مفلح ورفاقه بالعودة ، إلاّ أنّهم خُذلوا ورحلوا مقهورين ...
وقف مفلح في وجه كل التحديات والصعاب ، إلاّ أنّ الظروف كانت أقوى منه بكثير . لقد أصبح الآن رقماً كباقي الأرقام في مخيمات اللّجوء ، يجلس منتظراً حصته من التموين ، يخاف على أولاده وأحفاده من الزمن الذي لم ينصفه ، ومن الأخوة الأشقاء الذين لم ينصروه ولن ...
قرر أن لا يزعج أحداً بما ورثه من والدته ، فقد وضع الأوراق والصكوك في إطار نحاسي قديم وعلّقهم على الحائط ، بينما بقي المفتاح الذي كان معلّقاً في رقبته طوال حياته ، معلقاً في رقبته ...
مفلح ممدّد على الأرض في الغرفة داخل المخيم ، مغمض العينين مبتسمٌ ، وأولاده يجلسون حوله والدموع تُذرق من عيونهم ، وأحفاده يلعبون بطابة القماش التي جلبها معه من وطنه ، إلاّ أنّ المفتاح بقي في رقبته وأصرّ حتى في مماته أن يأخذه معه إلى الأبدية علّه يعود به من هناك ... بحق