عامر محسن*
صدام حسينفي أرشيف الاستخبارات المركزيّة الأميركية وثيقة من أوائل الثمانينيات (أفرج عنها عام 2005) تحمل عنوان: «اجتماع عضو الكونغرس سولارز مع صدّام حسين»، وهي ملخّص لأحد أوائل اللقاءات التي جرت بين رئيس حزب البعث والمسؤولين الأميركيين، حيث ذهب سولارز إلى بغداد لجسّ نبض القيادة العراقيّة التي كانت تحاول، حينها، التقارب مع الغرب. اجتماع سولارز مهّد لزيارة دونالد رامسفيلد الشهيرة لصدّام عام 1983، حيث سلّمه رسالة ودّ من ريغان أعلن فيها الرئيس الأميركيّ «عدم ممانعته» إقامة صلات دبلوماسيّة مع بغداد. وحصل بعدها ما حصل من تشعّب وتطوّر للعلاقات الأميركيّة ـــ العراقيّة في مختلف المجالات مع اشتداد الحرب مع إيران.
أهمّ ما تمخّض عن اجتماع سولارز، بحسب الوثيقة، كان ترجّي صدّام الإدارة الأميركية إقامة علاقات دبلوماسيّة مع العراق، وإعلانه أنّه لا يمانع حلّاً سلميّاً للعرب مع إسرائيل، ما إن توافق عليه منظّمة التحرير! القصّة لا تنتهي هنا، بل إنّ عضو الكونغرس سولارز لم يرد ترك مجال للشكّ، فاستفسر من صدّام عن موقفه من تحرير فلسطين كاملة، وهو الشعار الذي كانت تلهج به الأنظمة في ذاك العهد، وأراد سولارز طرح السؤال بلباقة، فسأل عمّا إذا كان «حلّ الصراع العربي الإسرائيلي وخلق سلام دائم يستلزم انسحاباً إسرائيلياً لحدود الـ1967 وإعطاء الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وغزّة حقّ تقرير المصير، أو إذا كان إنهاء الصراع يتطلّب إقامة دولة علمانية ديموقراطية في الضفة الغربية، قطاع غزة وما هو اليوم إسرائيل (بمعنى آخر، إزالة إسرائيل ككيان صهيوني)؟»، فكان ردّ صدّام حسين مقتضباً ووافياً: «لا يوجد قائد عربي مسؤول واحد يضع ذلك في سياساته»، أجاب رئيس العراق عن الخيار الثاني بحسب الوثيقة.
لا حاجة للتذكير بالمواقف العلنيّة للنظام العربي من القضية الفلسطينية يومها، ولا بموقف الشارع العربي في تلك الفترة ـــ واليوم ـــ من طروحات (مجرّد طروحات) السلام والتصالح مع الصهيونية. إلّا أنّنا لم نصل للأنكى بعد: فاللقاء المذكور جرى (بحسب وثيقة أخرى) في آب 1982، أي خلال اجتياح لبنان وفي عزّ حصار بيروت، حينما كان المقاومون المعزولون في مدينتهم، وبينهم عراقيّون، يقارعون جيش شارون وجزّاريه. يومها، كان صدّام يجتمع بممثّل بروكلين في الكونغرس ليخبره محتجّاً أنّه «من غير الطبيعي ألّا تكون للعراق علاقات دبلوماسيّة مع إحدى القوّتين العظميين».
للحقّ، فإنّ صدّام أثار موضوع اجتياح لبنان وحرق بيروت حين أشار، في آخر المقابلة، إلى أنّ «الأحداث في لبنان» قد تؤدّي لتزايد أعمال «الإرهاب» من العرب. وجاء ذلك إثر تعهّده بأنّ العراق «ضدّ الإرهاب» وأنّه (صدّام شخصيّاً) «قال لكلّ المنظّمات الفلسطينيّة إنّ الإرهاب وسيلة متخلّفة».
يصعب أن تجد في تاريخنا المعاصر شخصيّة أشدّ قلقاً وتلوّناً من صدّام حسين المجيد. فصدّام، وخصوصاً لدى العرب غير العراقيين، ممّن عرفه عبر خطاب السلطة الإعلامي لا عبر المعايشة والممارسة، حمّال أوجه. يقدّمه البعض حجّاجاً، والبعض الآخر شبيباً خارجيّاً. وهو، إلى ذلك، صاحب أطوار، لا يستقرّ له جوهر لدى عدوّ أو صديق: يسوقه عرب الخليج قائداً مقداماً وحكيماً جامعاً للعرب في حين، ثمّ يحيلونه طاغيةً مختلّاً يوم وطئ الكويت، ثمّ يستعيده بعض طائفيّيهم في السنوات الأخيرة «بطلاً سنّيّاً» منتصراً للطائفة على حبائل أعدائها.
وفي باقي بلاد العرب، عاش صدّام لحظة «ناصريّة» حقيقيّة لأشهر معدودة في عام 1990. التفّ قسم كبير من الجمهور العربي، وبخاصّة جمهور المعارضة من الفقراء والناقمين، حول العراق ورئيسه. تراءى لهم، من بلدانهم البعيدة، أنّ ابن المجيد عازم على هدّ أسس النظام القائم ومناطحة الاستعمار بعناد يصل لحدّ الهوج (وهذه كانت، لدى العديدين، من خصاله المحبّبة).
فات أهلنا التائقين لثائر منتظر أنّ صدّام كان قد أعلن، من اللحظات الأولى للغزو، أنّ صراعه مع الكويت هو مشكلة حدودية محصورة بين بلدين عربيّين، وأنّه لا يطمح لتغيير الحدود القائمة لباقي البلدان. بل لم ينفكّ عن دعوة الولايات المتّحدة (حتّى اللحظات الأخيرة قبل بدء القصف) إلى «تسوية» تصون لها «مصالحها» في العراق والمنطقة وتقيه شرّ الحرب.
فات أهلنا، أيضاً، تنبيه أستاذنا العارف هادي العلوي (رحمه الله في ذكراه العاشرة) إلى ضرورة الوعي للمسافة الفاصلة بين الأمور «كما هي» والأمور «كما نريدها». وحين نقرأ وثيقة يتذلّل فيها رئيس البعث للاستعمار، ويفرّط بفلسطين وأهلها، سينتفض البعض ليؤكّد أنّ الوثيقة لا بدّ مدسوسة (برغم وجود عشرات المراسلات المنشورة من ذلك العهد، وكلّها بالمعنى ذاته). البعض الآخر، وهم عين الوقاحة، سيفرح بأخبار كهذه، لأنّها تؤكّد «خياراتهم»، وقد يرى هذا البعض أنّ في سلوك صدّام بيّنة على بواح التعامل مع إسرائيل والاستعمار، وخاصة لمن لا يدّعي أصلاً عروبة صدّام وثوريّته.
وحتّى لا يظننّ أحد أنّ أبا عديّ كان «رأس المؤامرة» على فلسطين أو ما شابه، فإنّ ما تحويه الأرشيفات عن بقيّة الأنظمة يجعل سلوكه هيّناً. ههنا على سبيل المثال وثيقة من أرشيف وزارة الخارجية تعود لعام 1983، وتوصّف اجتماعاً لرامسفلد في بغداد بطارق عزيز، بدأه مبعوث ريغان بتوصيل السلام إلى القيادة العراقية من الملك فهد، حسني مبارك، الملك حسين والحسن الثاني، وكلّهم التقى بهم رامسفلد، عرّاب العروبة على ما يبدو، قبل أن تحطّ به رحاله في العراق. وهنا دراسة سرّيّة للاستخبارات تعود للفترة نفسها، أيّام مقاطعة الجامعة العربيّة للنظام المصري المسالم لإسرائيل، وهي تجزم بأنّ «الحكومات العربيّة المعتدلة» (أجل! هي ذاتها) تفضّل إعادة وصل العلاقات مع القاهرة، ولا يردعها إلّا خوفها من «المعارضة الراديكاليّة القويّة» لاتّفاقات كامب دايفيد في الأوساط العربيّة.
والدراسة نفسها تفشي بأنّ القاهرة كانت ترعى محادثات بين ياسر عرفات والملك حسين (في أوائل الثمانينيات!) للدخول معاً في صلح مع إسرائيل، وكانت اللقاءات بحضور أسامة الباز (مستشار الرئيس المصري يومها). وتنقل الوثيقة عن الباز عرضه على الملك حسين «كل الدعم الذي يحتاج إليه الأردن» لدخول عمليّة السلام بحسب مبادرة ريغان.
وهنا نستذكر قول صدّام حسين لسولارز، يوم اجتماعهما في بغداد، إنّه «يقبل ما تقبل به منظّمة التحرير». هكذا، إذاً، كان حكّام العرب يتقاذفون قضيّة فلسطين: صدّام «يوكّل» عرفات، الذي يتوسّم النصر من مبارك، الذي يعتمد على همّة فهد، وهكذا دواليك.
من أطرف ما جاء في وثيقة سولارز، أنّ صدّام فاتحه ببيع الولايات المتّحدة أسلحة وقطع غيار عسكريّة لإيران عبر إسرائيل، وكان ذلك أيّام الحرب العراقيّة ـــ الإيرانيّة. فانتفض عضو الكونغرس مطالباً صدّام بالدليل (والمسكين سولارز لم يكن يدري في ذلك الوقت بما يجري في كواليس الإدارة ولم تفضح الـ«إيران غيت» حتّى عام 1986)، فأجابه صدّام باستهزاء «لو لم تكن الولايات المتّحدة تملك الدليل» على تهريب السلاح «لعنى ذلك أن عليها تغيير مدير استخباراتها».
الغريب هنا أنّ صدّام يتكلّم على تمرير السلاح الأميركي للجمهورية الإسلامية بهذه الثقة منذ الـ1982، فيما مؤرّخو فضيحة إيران ـــ كونترا والمحقّقون في القضيّة رأوا أنّ أوّل شحنة مرّت عبر إسرائيل كانت في 1985! فلو صحّ كلام صدّام لعنى ذلك أنّ تاريخ القضيّة أعمق ممّا نظنّ، وأنّ عدد المسؤولين الأميركيّين والإسرائيليّين المتورّطين بها ـــ وأغلبهم لم يزل في ساحة السياسة ـــ أكبر ممّا كنّا نخمّن.
وحديث الكونترا يحيلنا إلى ملاهي الدهر وعميق أسراره، فللقصّة تكملة. لم يرمِ الإيرانيّون كلّ صورايخ الـ«تاو» التي وصلتهم من إسرائيل على إخوتهم العراقيّين، كما أراد لها مرسلوها. بل فكّك خبراؤهم بعضها، ودرسوا أسرارها، وقلّدوا صناعتها حتّى صار الـ«تاو» اسمه «طوفان»، يصنّعونه ويطوّرون عليه. ومنذ صيفين في جنوب لبنان، كان الـ«طوفان» يطوف بين التلال مزمجراً، والبيعة تعود للبائع.
* باحث لبناني
-الأخبار