حوار مع الكاتب والباحث والمترجم المغربي محمد سعيد الريحاني:
"قَرِيبًا، سَأُدَشِّنُ التَّحَوُّلَ الْأَخِيرَ،
التَّحَوُّلَ نَحْوَ مَرْحَلَةِ مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ"
أجرت الحوار الإعلامية المغربية أسماء التمالح
سؤال: مُحَمّد سَعِيد الرّيْحَانِي شخصية أدبية غنية عن التعريف، وموقعه الإلكتروني: "رَيْحَانِيَاتٌ" كفيل بتقريب كل باحث وراغب في الاطلاع والتعرف على شخصه المحترم . سؤالي: ما هي أبرز السمات التي تميز مُحَمّد سَعِيد الرّيْحَانِي الإنسان؟
جواب: في العشرينات من عمري، تعرفت على "عبد الرحمن بن خلدون" وأحببته، وأحببت فيه أكثر؛ افتخاره المستمر باكتشافه الكبير الذي لم يسبقه إليه أحد: "فلسفة التاريخ، والقوانين المنظمة لسيرورته". وبغض النظر عن الاسم الذي صكه لنظريته حول الدورة الحضارية: "العصبية"، والذي حوره علماء الاجتماع اللاحقون إلى تسميات مختلفة، بدءً بباتيستا فيكو، ووصولا إلى "أوزفالد شبينغلر، وأرنولد توينبي"؛ فقد انتبهت مبكرًا إلى أن الدورة الحضارية في عمر المجتمعات، هي ذاتها الدورة الحياتية في عمر الأفراد بنفس الحلقات الثلاث التي حددها عبد الرحمن بن خلدون، وإن كانت بأسماء مختلفة: مرحلة "التقليد"؛ التي تعادل مرحلة الطفولة، والميل للمحاكاة، والحفظ والانضباط لقواعد السلوك الاجتماعي، ومرحلة "الحداثة"؛ التي توافق مرحلة المراهقة، والتوق للتحرر، والاستقلالية، وإثبات الذات، ثم أخيرًا مرحلة "ما بعد الحداثة" والتي تقابلها مرحلة الكهولة، والنضج.
كما انتبهت إلى أن هذه المراحل لا تشمل فقط الحضارات والمجتمعات والإفراد فقط، بل هي تشمل أيضا كل مجالات الحياة؛ من علم، ودين، وثقافة، وتربية، وغيرها. إذ تتطور القراءات الدينيّة من الأصولية (Intégrisme, Fondamentalisme) إلى الإخوانية (Les Frères Jésuites, Les Frères Musulmans…) إلى الصوفية والتصوف (Mysticisme, Soufisme)، وتتقدم العلوم أيضا على خلفية المراحل الثلاثة، من الخرافة، إلى الميكانيكا، إلى التقنية، فيما تتدرج الثقافة من التقليد، إلى الحداثة، إلى ما بعد الحداثة.
فـ"ما بعد الحداثة" في الثقافة؛ هي المرحلة الثالثة والأخيرة من "الدورة الثقافية"، وتقابلها وتواكبها وتتعايش معها "الصوفية" في المجال الديني، "التقنية" في المجال العلمي، ومفاهيم "النهايات" في المجال الفلسفي.
وبالعودة إلى سؤالك، فإذا كان ثمة سمة تميزني؛ فلربما كانت الوقت الكافي الذي أخذته، ولا زلت آخذه للاستمتاع بكل مرحلة من مراحل حياتي في حينها حتى الثمالة؛ فقد عشت مرحلة "التقليد" في الثمانينيات على كافة الأصعدة الفنية، والأدبية، ثم انتقلت إلى مرحلة "الحداثة" بدءًا من العام 1991م حتى يومنا هذا، ولعل خير ناطق باسم هذه المرحلة من حياتي هي: إصداراتي الورقية، التي كانت ولا زالت تنبض بالحرية. وفي السنوات القادمة، سأدشن رسميًّا: التحول الأخير، التحول نحو مرحلة "ما بعد الحداثة".
سؤال: المرأة في حياة الأستاذ مُحَمّد سَعِيد الرّيْحَانِي جسدتها خمس نساء عاد لهن الفضل في تربيته، أولهن الأخت البكر، ثم الأم، ثم صديقة الأم. ماذا أخذ أستاذنا عن كل واحدة؟ ومن هما المرأتان الثانيتين اللتين ظلتا مجهولتين في الفوتو-أوتوبيوغرافيا الخاصة بك؟
جواب: أملي الآن هو أن أخرج للنور سيرتي الذاتية المصورة: "عندما تتحدث الصورة"، التي ستكون أول فوتو-أوتوبيوغرافيا في تاريخ الأدب والفن؛ حيث ستتجاور الصورة والكلمة ويتقدمان جنبا إلى جنب في نوع سردي جديد.
أما عن الجانب الغرامي في الفوتو-أوتوبيوغرافيا، فلحظة تحريري لسيرتي الذاتية المصورة: "عندما تتحدث الصورة"، ألحّ علي الدكتور جرجيس دنحا عن جامعة اليرموك بالأردن أن أستحضر تجاربي الغرامية في فترة الطفولة، فكان دعاؤه مستجابًا وحرّرتُ ما يقرأه الآن القراء وفق اقتراحه، لكن دونما صور أو ذكر الأسماء. فنشر صور الإناث والنساء العربيات يقابَل دومًا بالهجوم الأنثوي الشرس، حتى أختي البكر وأمي وصديقتها -تغمدهن الله بواسع رحمته- لم أكن لأنشر صورهنّ والتعليق عليها في حياتهنّ، فما بالك بنشر صور الفتيات والنساء الأخريات أو حتى ذكر أسمائهن!
حين يتعلق الأمر بحياتي لوحدي، آنذاك لا أجد في الأمر غضاضة، لكن حين يتعدى الأمر شخصي إلى حياة شخص آخر يؤمن بأنها حياته السرية فلا يمكنني التجرؤ على كشفها للعموم، ولو من باب التبرير الأدبي والجمالي.
سؤال: حي "المَحَلَّة"، أي ذكريات تحفظها مخيلة مُحَمّد سَعِيد الرّيْحَانِي عن هذا الحي الذي نشأ وترعرع فيه ؟
جواب: في الفصل الخامس من سيرتي الذاتية المصورة:"عندما تتحدث الصورة"، كتبت من باب التعليق على صورة التقطت لي في ملعب المحلة مع أحد الأصدقاء سنة 1988:
"مع أحد أبناء الحي، (حَيَ المَحَلَة)، على خلفية ملعب المَحَلَة الذي حولته المجالس البلدية المتعاقبة على تدبير الشأن العام بالمدينة إلى سوق عشوائي وسط الحي المدرسي الذي يضم أربع مدارس ابتدائية وثانويتين. في الوقت الذي كان يرى فيه شباب الحي فضاء رياضيًّا بامتياز صالح حتى لإقامة السهرات الفنية المفتوحة. لكن غياب الفنانين والرياضيين والمثقفين عن المجالس البلدية فتح المجال لـ "السَوَاقَة" من المتهافتين على المجلس كي يحيلوا المدينة إلى أسواق في أسواق.
إن الانتخابات إذا أريد لها أن تكون انتخابات وتتصف بالتمثيلية الحقة، عليها أن تشتغل على مخاطبة كل طبقات المجتمع وفئاته والتعاون معها لتشغيل الجميع لفائدة الجميع. ولهذا، فلا مناص من تخصيص حصص ثابتة لكل طبقة أو فئة اجتماعية بحيث تخصص كوطا للمثقفين وكوطا للفنانين وكوطا للرياضيين وكوطا للنساء وكوطا للحرفيين وكوطا لرجال الأعمال وكوطا للموظفين وكوطا للفلاحين وكوطا للطلبة وكوطا للشبيبة...، على أن تشمل اللائحة الانتخابية لكل حزب سياسي مشارك في العملية الانتخابية كل القطاعات المتبارى عليها (من ثقافة ورياضة ونقابة وغيرها) بحيث يتبارى كل مرشح داخل كوطا محددة...
بهذا الشكل الديمقراطي والشفاف والمتخصص، ستتعزز الديمقراطية وتتضح الرؤيا للناخبين وتنتصر الكفاءة التي ستصبح المرشح الوحيد والفائز الأول في الانتخابات، وسأخصص وقتي للدفاع عن هدا الطرح حتى تحقيقه على أرض الواقع.
في خلفية الصورة، على اليسار، تظهر مدرستي الابتدائية، مدرسة مولاي علي بوغالب. وفي وسط الصورة مباشرة تظهر آثار مستشفى عسكري إسباني تهالكت أسواره أمام الإهمال واللامبالاة".
كتب هذا التعليق عام 2008 وضُمِّنَ في السيرة الذاتية المصورة وحُفِرَ في قرص مرن نُسِخَتْ منه خمس مئة نسخة وُزّعَتْ جميعها في المدينة بطرق شتى. واليوم، بعد مرور أربع سنوات ما بين 2008 و2012، أنا جدّ سعيد بكون المسؤولين قرؤوا، أو قُرئ عليهم الكتاب، وهو لا زال مخطوطًا، فبادروا بإعادة "المحلة" إلى الشباب من خلال تدشين دار للشباب على أنقاض السوق الأسبوعي العشوائي، الذي كان في يوم من الأيام ملتقى الشباب الرياضي للأحياء المجاورة، وساحة إضافية لتلاميذ المدارس الأربعة المجاورة، حيث يحلو للأطفال اللعب بعيدًا عن عيون الحراس والمعلمين والآباء وباقي العيون.
سؤال: يروج على لسان البعض بأن الأستاذ: مُحَمّد سَعِيد الرّيْحَانِي انطوائيّ، ولا يتواصل مع الآخرين. فهل هذا صحيح؟
جواب: قبل سنة 2003، قيل لي بأنني لو تقدمت للانتخابات لفزت بها! وذلك لكثرة صداقاتي ومعارفي.
وبعد سنة 2003، ومع قرار "المخزن" المغربي معاقبتي على البيان الذي أصدرته بعيد 16 ماي 2003 ونجاحه في جره للأحزاب والنقابات والجمعيات الثقافية، لمعاقبتي على محاولتي التأسيس لتقليد إعلان المثقف لمواقفه مما يجري حوله في بيانات توزع في اليد في شوارع المدينة ودون ترخيص من أي مؤسسة وتعمم على وسائل الإعلام. آنئذ فقط، صرت "انطوائيا"، وآنئذ فقط صرت "مجنونا"، وآنئذ صرت "خطرا" وحق على الجميع التكالب ضدي وتخويف أصدقائي ومعارفي من رفقتي وترحيلهم إلى مقاهي مغايرة ومكافأتهم بتنقيلهم من مقرات عملهم إلى حيث يشتهون وترقيتهم إلى سلالم أعلى وكل ذلك لكي "أبدو للناس انطوائيا".
يا لذكاء "المخزن" و"امخازنيته" من "الحزايبية" و"النقايبية" و"المثاقفية" وكل من "ينتعل" بطائق الانخراط ليبيع عرضه ودينه وحرمه ونسله فحق بذلك عليهم وعلى وطنهم الترسب في قاع كل التصنيفات الدولية بما في ذلك التصنيف الدولي للقراءة والرياضيات والذكاء!...
لكن لنساير هؤلاء الذين يرسمون السيناريوهات بأيديهم، ويشترون الممثلين من ضعاف النفوس ليمثلوا لهم المشاهد التي يريدونها. لنساير هؤلاء الذين يرسمون لأنفسهم صورة "الفاعل الذكي"، ولا نضحك في وجوههم حتى يستمروا في تمثيليتهم الهزلية. لنسايرهم ونتساءل ببراءة:
هل الانطوائي هو من استدعي لما يقارب المائة لقاء صحفي منشور على كبريات الجرائد والمجلات المغربية والعربية؟!
هل الانطوائي هو من استطاع توحيد صوت خمسين كاتبة وكاتبًا مغربيا في أنطولوجيا لا تنجزها المؤسسات الراعية للثقافة إلا على عقود؟!
هل الانطوائي هو الذي قضى عشر سنوات من عمره في فضح واستنكار الفساد الإداري والمفسدين الإداريين في قطاع التعليم؟!
سؤال: يحتفل العالم يوم الرابع عشر من فبراير من كل سنة بـ"عيد الحب"، ومن الأعمال الإبداعية التي لها ارتباط بالموضوع: "أنطولوجيا الحب". برأيك، هل الحب ضروري لاستمرار الحياة؟ وأي أنواع الحب تحتاجها الإنسانية لتستقر أوضاعها؟
جواب: أول مرة سمعت فيها بعيد الحب، كان في يوم 14 فبراير سنة 1985م بمدينة تطوان، في أول سنة لي بعيدًا عن أسرتي، وكان عمري آنئذ ستة عشر عاما. كان اليوم عيدًا حقيقيا ولكن فقط بالنسبة لمن يرتدي اللون الأحمر، أما من يرتدي غيره فكان يعيش اليوم كسابقه ولاحقه.
لم يكن فقط "عيد الحب" الذي راقني قي تلك السن، وإنما أيضا تقاليد إسبانية أخرى جميلة كانت سائدة في ثانويتي: "جابر بن حيان"، ومن بينها تقليد "أبو المائة"، وهو حفل يسبق امتحانات الباكالوريا بمائة يوم، ويمتد لأسبوع داخل أسوار الثانوية؛ تنمحي فيه الفوارق الإدارية بين التلاميذ، والأساتذة، والحراس العامين، والإدارة، ويسود اللعب والمرح الذي يصل حد مطاردة التلميذ لمدير الثانوية التي يدرس بها لطليه بـ"الكريم" أو رشقه بالحلوى...
للأسف، بعد 1986م، ألغت الإدارة احتفالات "أبو المائة"، وبالمثل تخلى التلاميذ في القسم الداخلي عن Bizoutage الذي كان معمولا به لكسر حواجز التواصل بينهم وربما ألغيت أيضا تقاليد أخرى جميلة تشكل في مجموعها قاعدة بيانات لملف واحد عنوانه الكبير "الحب".
فحيثما سادت ثقافة اللعب، ساد التواصل وساد الحب. وحيثما ألغي اللعب، ألغي التواصل وألغي معه الحب. الحب هنا هو الوجه الثاني للعب ولكن الحب هناك مرآة الزهرة.
الحب زهرة تنمو لتخبرنا بزحف الربيع، وتزدهي ألوانا بهية لتشعرنا بتجدد الحياة، وتفوح عطرًا لتذكرنا باقتران العطاء بالجمال. الحب مدرسته الطبيعة لكنه ليس شباكا منصوبة في كل مكان كما يصوره مجانين الأخذ والقطف والجني، إنه فطرة العطاء اللا محدود.
وعليه، فما تحتاجه الإنسانية لتستقر أوضاعها هو تبنّي قيم الحب الكبير، وأولى الطرق المؤدية إليه تربية الفرد على أن يكون زهرة، معطاء بلا حساب.
سؤال: قادك ولعك بالفن إلى تقديم دراسات حول "رهانات الأغنية العربية". ومن ضمن هذه الدراسات "أزمة الأغنية العربية من أزمة الشعر العربي"، كيف ذلك؟
جواب: "رهانات الأغنية العربية" هو كتاب نشرَتْه أول مرة وبشكل كامل جريدة: "العرب الأسبوعي" على مدى ثلاثة أشهر تقريبًا. وبعدها نشرته منابر أخرى كمجلة: "جريدة الفنون" الكويتية، وجريدة "السفير" اللبنانية، وجريدة "العرب اليوم" الأردنية، وجريدة "العرب" الدولية، وجريدة "القدس العربي" اللندنية، وجريدة "المغربية"، وغيرها. وقد كان لنشر الكتاب على صفحات الجرائد والمجلات العربية الفضل في دعوة إدارة مؤسسة الفكر العربي من بيروت لي قصد المشاركة في صياغة: التقرير السنوي الرابع للتنمية الثقافية بالعالم العربي الذي تصدره سنويًّا المؤسسة من خلال إشرافي المباشر على ملف الأغنية العربية لموسم 2010.
و"أزمة الأغنية العربية من أزمة الشعر العربي" هو فصل من فصول كتاب "رهانات الأغنية العربية". والقصد أن الشعر العربي عرف أغراضا شعرية شتى، لكنه لم يعرف أوزانًا شعرية خاصة بكل غرض شعري على حدة. ففي الشعر العربي، نجد البحر الطويل يستوعب دون حرج كل الأغراض الشعريّة، من فخر وغزل ورثاء وهجاء ومدح. ونفس الوظيفة تؤديها باقي البحور، مع باقي الأغراض الشعرية، حتى إذا ما انتقلنا من مجال الشعر إلى مجال الأغنية، وجدنا نفس الأزمة معكوسة على مرآة الموسيقى؛ بحيث يستوعب فن موسيقي واحد كل الأغراض الشعرية الوافدة، وهو ما لا نصادفه في الموسيقى الغربية عمومًا، والأمريكية على وجه التحديد، حيث أغاني الحزن والرثاء والضيق تؤدى في إطار فن "البلوز" وأغاني "الحرية" و"الارتجال" تؤدى على إيقاعات "الجاز"، والأغاني الدينية تؤدى على إيقاع "الغوسبلز"، وهكذا دواليك.
سؤال: يُلاحَظُ غيابك المتكرر عن حضور مجموعة من اللقاءات الثقافية المنظمة بمدينة القصر الكبير. ما أسباب ذلك؟
جواب: أود أن أصحح بأنني لا أتغيب بشكل متكرر عن الأنشطة الثقافية المنظمة بمدينة القصر الكبير.
أنا لا أتغيب، أنا "أقاطع" الأنشطة المنظمة في المدينة على كافة الصعد السياسية والنقابية والثقافية وغيرها، منذ سنة 2003م. هذا هو موقفي الذي يعرفه الداني والقاصي، ولو أنه لم يسبق لي قبل هذا الحوار أن أعلنته جهارًا. وهو موقف دام عشر سنوات، وسيدوم لخمسين عاما قادمة أخرى، إلا إذا تقدمت لوبيات الضغط والتحريض المكونة من أحزاب ونقابات وبعض الجمعيات المنسوبة على الثقافة والأيادي التي تحركها وتكافئها بـ"اعتذار علني" عن الأذى الذي تسببت لي فيه طيلة هذه المدة.
لا مناص من الاعتذار ولا طريق ثان غيره، وهذه هي كلمتي الأخيرة في الموضوع. لا يمكنني أن أقبل دعوة من يد مسمومة تصافحني أمام الكاميرات، وتغتالني في غيبتي. وأستسمحك في قراءة رسالة طرية إلى مسؤول عن قطاع التربية الوطنية في إقليم العرائش هو: "نائب وزير التعليم"، وسترين بأم عينيك ما لا تقرئينه في الصحو في عيون هذه اللوبيات التي لا جدوى من وجودها غير الفساد والإفساد. لنقرأ الرسالة الموقعة بتاريخ الأربعاء 26 أكتوبر 2011 والموجهة بالبريد المضمون إلى نائب وزير التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي على إقليم العرائش:
"أما بعد،
فربما لم أراسل في يوم من الأيام نائبًا من نواب وزير التعليم في أي من النيابات التعليمية التي اشتغلت فيها طيلة مشواري المهني منذ 1992م حتى اليوم قصد الشكوى، أو الاحتجاج إلا خلال السنوات الخمس الأخيرة التي توافق سنوات وِلايَتِكُمْ الكريمة كنائب على هذا الإقليم السعيد، إقليم العرائش. ولأن حجم الرسائل التي أرسلتها إليكم شارف على الثمانين صفحة من القطع المتوسط، فقد أصدرت المواد في كتاب لعموم القراء أولا وللمسؤولين المغاربة على تدبير الشأن العام والخاص ثانيًا، تحت عنوان "رسائل إلى وزير التعليم المغربي" (الجزء الثاني من كتاب "تاريخ التلاعب بالامتحانات المهنية في المغرب") والذي توصلتم بنسخته الورقية في الوقت الذي حمل منه المتصفّحُون المغاربة والعرب ما لا يقل عن ربع مليون نسخة إلكترونية، من المنتديات والمواقع والمكتبات الإلكترونية المغربية والعربية كما تشهد على ذلك عدّاداتها...
السيد النائب، تقدمت في نهاية السنة الدراسية الفارطة، 2010-2011م، بطلب التحاقي بالتدريس في إحدى المدارس الثانوية الحديثة الإنشاء بمدينة القصر الكبير؛ لتدريس اللغة الإنجليزية، وتبين بعد ستة أشهر من إيداع الطلب رفوف نيابتكم، بأنني المرشح الوحيد للمنصب وبأن طلبي هو الطلب الوحيد في الموضوع كما يشهد على ذلك ملف الصادرات والواردات حتى إذا ما كانت جلسة حواركم مع النقابات أول أمس الاثنين 24 أكتوبر 2011، عادت إدارتكم إلى عادتها القديمة المتمثلة في إقصائي تارة، والتواطؤ في إقصائي تارة أخرى حتى حين يكون ملفي هو الملف الوحيد المرشح.
في جلسة الاثنين 24 أكتوبر 2011م، حين أخرجتم ملفي للتشاور في موضوع التحاقي بالمؤسسة الثانوية حديثة الإنشاء، صَدَمْتم النقابات التي لا تعتبرني "موظفا فردا" في قطاع التعليم، وإنما "مؤسسة مُعادية" لمشاريعها فصمتت مُحْرَجة مرغمة على قبول طلبي ورفعت الجلسة. لكن، خارج القاعة، بدأ النقابيون، المحسوبون شركاء لنيابتكم، الاتصالات الهاتفية بالمدراء المنضوين تحت لواء نقاباتهم بحثا عن أساتذة آخرين غيري لهم نفس الشواهد الجامعية ونفس الرغبة، فرجعوا للقاعة وطالبوا باستبدال اسمي باسم آخر لا طلب خطي له، ولا إرادة، ولا أي شيء غير روح الحقد والكراهية والعداوة المجانية التي تحرك هذه النقابات التي خرج ممثلوها من مقر نيابتكم فرحين بانتصار جماعي لتكتل نقابي على موظف غائب عن دسائس الجلسة، وهم لا يعلمون بأن القرار الأول المتفق عليه والقاضي بأحقيتي في الالتحاق بالمؤسسة التي أطلبها قد وصلني في حينه بالشكل الذي لا يخطر لهم على بال، وأنه لولا مقاطعة المديرين للمراسلات وتفقد البريد بمكتب الضبط، ولولا المطر الغزير لكان القرار الأول في نسخته الورقية في يدي في دقائق.
السيد النائب، بعد خمس سنوات من تعرضي لكافة أنواع الشطط، وضياع حقوقي على كافة المستويات كنتم خلالها على هرم الإدارة التربوية في الإقليم، تتوصلون بخط يدي بالشكايات والاحتجاجات الواحدة بعد الأخرى عن بطش "إدارييكم" و"نقاباتكم" لكن فقط في انتظار المزيد من الرسائل بخط يدي، أجد نفسي أتساءل:
هل هذه هي وظيفة إدارة الشأن التعليمي: قلب إرادات الموظفين ومعاكسة رغباتهم والوقوف في وجههم؟
هل هذه هي وظيفة العمل النقابي: تعقب الأساتذة ومعاقبتهم حين يمتنعون عن اقتناء بطائقها، وترويج سلعها ما كسد منها وما تلف؟
السيد النائب، على خلفية هذه الأحداث التي لم تعد كواليس تخفى على أحد، أكاتبكم طالبا إنصافي واسترجاع حقي وتدارك الأزمة في مهدها فقد فاحت رائحة المؤامرة سريعًا وأزكمت الأنوف التي تتنفس الحرية هذه السنة بشكل استثنائي لم تحلم به أبدا في حياتها. وهو ما لا يعرفه من كان في القاعة يتلاعب بمصائر الموظفين بالإقليم معتقدًا بأنه من يحدد التاريخ، وهو لا يعلم بأنه قد يقلب التاريخ عليه.
أؤكد للمرة الثانية بأنني رجل يطالب بحقوقه، وربما كنتم أدرى بهذه الحقيقة من باقي الإداريين والنقابيين في نيابة إقليم العرائش. أنا رجل حق وهذا مصدر قوتي ولا شيء يمكنه إيقافي عن سعيي لبلوغ حقّي؛ لأن من يطالب بحقه، لا يعترف لمغتصبيه لا بأدوارهم ولا بمواقعهم ولا بقوانين لعبتهم التي يرفضها من أساسها.
وعليه، أشعركم، السيد النائب، بأنني ماض في سعيي لفضح كل الممارسات التي تتغيا إقصائي من حقوقي الإدارية المشروعة، وسألجأ إلى كل السبل الكفيلة برد الاعتبار
وسأنفتح على كافة البوابات، وأنا أراها مغامرة نضالية جميلة لأنها ستكون فرصة سانحة لملاحقة خيوط الشطط الذي لحق بي حتى النهاية.
وتقبلوا، السيد النائب المحترم، فائق تقديري واحترامي.
الإمضاء:
محمد سعيد الرّيْحَاني
سؤال: "الحاءات الثلاث" مشروع إبداعي وتنظيري يهدف إلى التعريف بالقصة المغربية القصيرة عبر ترجمتها للغة الانجليزية، ثم نشرها ورقيا باللغتين العربية والانجليزية. إلى أي حد نجح هذا المشروع؟ وهل حقق الغاية المرجوة منه؟
جواب: أود في البداية التمييز بين أمرين جمعهما السؤال معًا. فأنا أميز بين أنطولوجيا "الحاءات الثلاث: مختارات من القصة المغربية الجديدة" الصادر على ثلاث سنوات 2006م و 2007م و 2008م في ثلاثة أجزاء وهي: "أنطولوجيا الحلم"، و"أنطولوجيا الحب"، و"أنطولوجيا الحرية"، وكان الهدف منها تحسيس الكتاب خصوصا بالطابوهات الكامنة في كتابتهم في أفق الوعي بها وتجاوزها، وبين ما هو أعم وأشمل من الأنطولوجيا، وهو المشروع الغدوي في الكتابة القصصية المغربية والعربية.
أنطولوجيا "الحاءات الثلاث: مختارات من القصة المغربية الجديدة" صدرت كاملة في نسختها العربية وترجمت إلى اللغة الإنجليزية، ونشرت جزئيًا (ثمانية نصوص قصصية) ضمن أنطولوجيا "صوت الأجيال: مختارات من القصة الإفريقية المعاصرة" Speaking for the Generations التي أعدتها جامعة أوليف هارفيه بولاية تشيكاغو الأمريكية، ونشرتها دارا نشر "ريد سيه بريس"، و"أفريكا وورلد بريس" في ترنتن بولاية نيو جيرزي الأمريكية، يونيو 2010م. وقد تم إدراج كتاب "صوت الأجيال: أنطولوجيا القصة الإفريقية الجديدة "ضمن دراسة المؤلفات في جامعة هارتفورد Hartford بولاية كونكتكت Connecticut الأمريكية لموسم 2011م/ 2012م. فيما ستجمع الأجزاء الثلاثة من أنطولوجيا "الحاءات الثلاث: مختارات من القصة المغربية الجديدة" لتصدر في هونغ-كونغ في مجلد واحد يحمل عنوان: "The Three Keys: An Anthology of Moroccan New Short Story".
أما مشروع الكتابة القصصية الغدوية التي أصدرنا في شأنها البيانات الأدبية، فهي مشرعة على الزمن شأنها شأن كل المشاريع الأدبية التي تنضج مع توالي الأيام. ولكن حين يصير الجهد والمهمات، كل الجهد والمهمات، على عاتق رجل واحد فمدة النضج تزداد طولا وتأخذ وقتا أكبر. ومع ذلك، فالمنجز من المشروع، بشهادة نقاد مغاربة كالدكتور: الحبيب الدايم ربي والدكتور محمد يوب وغيرهما، أكبر مما تحققه مؤسسات يفترض فيها رعاية الثقافة والفن والأدب في البلاد، وكل ذلك تم ويتم بصفر درهم من الدعم من أي جهة غير راتبي. ومع ذلك، فهذا الإصرار على إنجاح المشروع وهذه النجاحات الأولية تثير خوف الكثيرين، ومن بينهم بعض "النقاد" الذين بدؤوا يناصبونني العداء.
من أعجب ما أعجب له هو دفاع النقاد المستميت عن استقلالية الأدب، وحين تطرح مسالة استقلالية الإبداع الأدبيّ عن النقد الأدبي، تغيب الاستقلالية وتنمحي. وعلى ضوء هذا التوضيح، لم يرق للنقاد المغاربة الفصل الذي دعوت له في بيانات التأسيس المعروفة بما في ذلك دعوة النقاد بتدبر أمر تلقي النصوص وترك أمر الكتابة والتنظير لها للكتاب الذين يشكلون مجموعاتهم، أو مدارسهم كما فعل السرياليون والدادائيون وقبلهم الرومانسيون، والواقعيون، والطبيعيون.
رغم كل العراقيل، يمضي المشروع بخطى حثيثة؛ لأن التصور واضح ومكتمل، والإرادة قوية وثابتة، والفعل الإبداعي المجسد للتصور سائر على قدم وساق. فالمشروع لم يطلقه موظف في الجامعة حتى يجمد بين دفتي المقرر الدراسي، ولا هو مشروع أطلقه ناقد ينتظر من الكتاب من يحقق له تنظيراته على الأرض حتى يذهب هذا المشروع أدراج الرياح. إن المشروع وراءه كاتب قادر على تحقيقه وجعله واقعا ماثلا للعيان. المشروع وُلِدَ ليبقى وهو الآن يحقق -في صمت- النتائج تلو النتائج.
بقي أن أعلن بأن المشروع يشمل القصة القصيرة، والقصة القصيرة جدًّا، ولي قيد الإعداد للطبع ثلاثة مجاميع قصصية قصيرة جدا تضم مائة وخمسين 150 نصا كتبته بين 2008م و 2012م على خطى "الحاءات الثلاث": "خمسون قصة قصيرة جدا" (الحاء الأولى: حاء الحرية)، و"خمسون قصة قصيرة جدا" (الحاء الثانية: حاء الحلم)، وأخيرا "خمسون قصة قصيرة جدا" (الحاء الثالثة: حاء الحرية)...
سؤال: "عبزف، القرد الهجاء" قصة قصيرة من توقيعك، أثارت جدلا كبيرًا في الأوساط القصرية وخارجها، وخلفت استياء في صفوف الأدباء، ولدى بعض محبيك وعشاق كتاباتك لما راج حولها. هل كانت القصة ردا عن قصد؟ ومن كان وراء إشعال الفتنة بينك وبين القاص الآخر؟
جواب: قبل إصداره لرائعته "الشيخ والبحر"، صرح الكاتب الأمريكي المعروف أرنست همنغواي بأنه بصدد كتابة رواية عن صياد شيخ في بحر مليء بالقروش، وحين سيكتمل العمل ستحيل الرواية على أشياء أخرى كثيرة تتجاوز الصياد الشيخ وتتجاوز أسماك القرش.
كان هذا تصور أرنست همنغواي للعمل الأدبي الذي لا يمكن رهنه بدلالة معينة وأسوار محددة. فالعمل الأدبي قد يكون سيرة ذاتية مضمرة يغلفها ظاهر من جود المخيلة، فتبرعم روائع الروايات كثلاثية أحلام المستغانمي أو "البحث عن الزمن المفقود" لمارسيل بروست وقد يكون غير ذلك.
"عبزف، القرد الهجاء" قصة قصيرة ككل النصوص القصصية القصيرة مفتوحة على كل القراءات والتأويلات. وهي تدور حول قرد هجاء يُؤْمَرُ فَيُنفذ ما يؤمر تحت التهديد باللكز والنهر والضرب.
"عبزف، القرد الهجاء" نص سردي قصير قرأه القراء في كل مكان من العالم العربي، وفهموه دونما وساطة. وأستحضر بالمناسبة تعليق هدا السرحان، المشرفة على ملحق "صالون الأربعاء" الأسبوعي بجريدة "العرب اليوم" الأردنية على النص بعد قراءته ونشره قائلة: "ما أكثر العبازفة عندنا في الأردن أيضا".
فـ"العبازفة" بتعبير هدا السرحان هم نفسهم "آل عبزف"، كما أسمي أشباه الكُتاب ممن يختارون الطريق السهل، طريق الارتماء بين أرجل المبدعين لعرقلة تركيزهم على مسارهم. ومن بين "عبازفة" التاريخ الأدبي العربي، يمكن الاستشهاد بالحطيئة في الجاهلية وصدر الإسلام، والأخطل وجرير والفرزدق في العهد الأموي، واللائحة طويلة تمتد أرجلها إلى العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين.
سؤال: "مشاعل القصر الكبير"، موقع الكتروني انتقى فيه الأستاذ مُحَمّد سَعِيد الرّيْحَانِي مجموعة من الأعلام القصرية التي أبدعت في عدة مجالات. هل فكر في إضافة حقول معرفية أخرى نبغ فيها أبناء مدينة القصر الكبير؟
جواب: "مشاعل القصر الكبير" هي مبادرة إلكترونية بسيطة أطلقناها للتعريف بالوجه المضيء لمدينة القصر الكبير، وقطع الطريق على أشباه مراسلي الصحف الذين بسبب ضعف تكوينهم الثقافي، لا يجدون ما يبعثون به لجرائدهم غير أخبار الاغتصاب والسرقة والقتل والنصب والاحتيال، فيشوهون وجه المدينة المغربية ووجه الصحافة التي تتحول معهم من صحافة تصنع الرأي العام إلى صحافة إثارة تتوسل عابري السبيل لاقتنائها.
وعليه، كان شرط الحظوة بصفحة على موقع "مشاعل القصر الكبير" بالنسبة للأدباء هو التوفر على إصدار ورقي في الرصيد، وبالنسبة للمطربين كان الشرط هو التوفر على ألبوم مسجل، وبالنسبة للرياضيين كان الشرط هو لعب مباريات دولية، أما بالنسبة للفنانين التشكيليين فكان الشرط هو نوعية المعارض المدونة في سجل الفنان.
في البداية، كان هناك تفكير في تخصيص حيز للمسرح والسينما، لكننا لم نصادف أسماء بارزة تشرف المدينة وتتشرف بها. ولكننا الآن بصدد التفكير في إضافة باب جديدة ربما ستخصص للإعلام.
وأود أن أنوه بأنني كنت صاحب الفكرة ومصمم الموقع، ولكن هناك أيضا جنود خفاء تحمسوا للمشروع وأمدوني إما بالأسماء أو بالصور الفوتوغرافية، أو بالسير الذاتية، أو بالروابط التشعبية التي قادتني لكنوز مدينة نسيها حتى المقيمون بين أزقتها ممن يفترض فيهم حماية ذاكرتها.
ومن بين هؤلاء الجنود، الفنان التشكيلي محمد الرايس المقيم بإسبانيا، والذي تكفل بحكم اهتمامه وحضوره الفني برموز الفن التشكيلي في المدينة، والأديب محمد العربي العسري الذي تفضل مشكورا بإمدادنا بالصور النادرة لأدباء المدينة ما كان بالإمكان الحصول عليها ولو من متحف اللوفر، والكاتب الشاب أبو الخير الناصري الذي تفضل عن حب بإعداد سير كبار شعراء المدينة، والشاعر الشاب أنس الفيلالي الذي أعاد للذاكرة القصرية عدة أسماء أدبية صادفها في إبحاره على الشبكة الدولية للمعلومات (الإنترنت)، أو لاقاها في نشاط من الأنشطة الثقافية التي يساهم في إحيائها، فكان ما تطالعونه اليوم، موقع
"مشاعل القصر الكبير"، وكان ما جعل الناقدة السينمائية القصرية أمينة الصيباري تقول بما يشبه الاعتزاز بانتمائها للمدينة: "شكرا لكم. لقد أعدتم لي عشقي المفقود لأوبيدوم نوفوم Oppidum Novum" (=الاسم الروماني القديم للمدينة).
سؤال: حصلت على جوائز عديدة، ماذا يشكل لك الحصول على جائزة معينة مقابل عمل إبداعي من توقيعك؟
جواب: الجائزة في العمل الإبداعي مثل الشهادة في المسار الأكاديمي، كلاهما يهدف للتحفيز والتشجيع والتكريم والتشريف والاعتراف.
سؤال: أيهما أريح للأستاذ مُحَمّد سَعِيد الرّيْحَانِي في الثلاثة: الكتابة أم الترجمة أم البحث؟
جواب: أنا أبحث حين أرغب في المعرفة، وأعبر حين يكون لصوتي جدوى ومعنى، وأترجم حين أسمع أصواتا تستحق السماع.
السعادة أجدها فيهم جميعا حين يتوفر شرطا التركيز والوقت.
سؤال: ما هي الدوافع الكامنة وراء إصدار كتاب "تاريخ التلاعب في الامتحانات المهنية في المغرب" بجزأيه، الأول عام 2009 والثاني عام 2011؟ والى ماذا أفضى احتجاجك واستنكارك لهذه التلاعبات؟
جواب: الدافع كان هو قول "اللهم هذا منكر".
أما الغاية فكانت ابتغاء مرضاة "الحق"، ابتغاء مرضاة "الله".
سؤال: من سُنّةِ الله في الكون الاختلاف في الرؤى والآراء، والقاعدة تقول: "الاختلاف لا يفسد للود قضية". إلى أي مدى يمكن تصديق هذا القول؟
جواب: أنا أميز بين "الاختلاف" وبين "العداوة".
"الاختلاف" مفهوم عقلاني وثروة مادية ورمزية ودليل غنى. فما من شيء يكسب الجوهرة بريقها غير وجيهاتها المختلفة العاكسة للنور والسالبة للألباب. و"الاختلاف" أيضا طاقة متحكم فيها لانحصار مجال الاختلاف في حيز محدد يكون ملعبا تسود فيه قوانين اللعبة وتنتصر فيه الروح الرياضية. وبهذا، يصبح "الاختلاف" رافدا من روافد تنمية الشخصية الفردية والمجتمعية نحن دائما في مسيس الحاجة إليها.
أما "العداوة" و"الروح العدائية" فتقف على الجهة النقيض تماما من "الاختلاف" وقيم "الاختلاف".
فـ"العداوة" و"الروح العدائية" فمفهوم غير عقلانية وطاقة غير متحكم فيها، ولذلك فلا يحدها لا ملعب ولا أرض ولا الكون كله. إنها حرب دائمة، ولو كانت غير مرغوب فيها على الإطلاق، تدمر الشخصية، وتفسد المنافسة وتخرجها عن سياقها الطبيعي.
بعض الناس يقرنون "الاختلاف" بـ"العداوة" فيحرمونهما معا.
والبعض الآخر يبرر "عدائيته" المتوحشة بكونها "اختلاف" و"رحمة" و"سنة الكون"، وهم لا يعلمون بأنهم بـ"مرضهم" هذا يثقبون السفينة التي يركبونها مع من يناصبونهم "العداء" ، لا "الاختلاف".
سؤال: ما رأيك فيما ينشر الكترونيا وورقيا من أعمال الآخرين؟ هل نستطيع من خلالك الاطمئنان على الجانب الإبداعي في مغربنا الراهن؟
جواب: القادم دائما أفضل. هذه هي قناعتي. فعبر كل الأزمنة والعصور، كان هناك دائمًا الخوف والشك حول ما ينتج من نصوص وأعمال، ولكنه ليس خوفا على الجديد ولا كان خوفا من التغيير، ولكنه خوف على القادم، خوف على المستقبل الأدبي للبلد وللثقافة العربية. إنه خوف يستمد مبرراته من الحس التاريخي للتلقي الأدبي.
وأنا أبني تفاؤلي هذا على توفر ثقافة البلد على تراكم إبداعيّ أدبيّ لا يستهان به، وترسانة فكريّة نظريّة قويّة ضخت الروح في مشاريع أدبية حيّة تنبض بالقوة وتبشر بالخير الأدبي العميم.
سؤال: ماذا تعني لك الأسماء الأدبية التالية: بوسلهام المحمدي، وأبو الخير الناصري، ورشيد الجلولي؟
جواب: بوسلهام المحمدي فعل ما يستحق عليه الرحمة إلى يوم الدين، إذ كان أول من كتب القصة القصيرة بمدينة القصر الكبير في الخمسينيات من القرن العشرين، كما كان أول من أصدر بيبليوغرافيا خاصة بمفكري وأدباء مدينة القصر الكبير عام 2007م بعيدا عن كل روح قبليّة إقصائية، أو محاباتية.
أما أبو الخير الناصري فهو أديب شابّ، أتوقع له غدا أدبيا ناجحًا ربما لكونه يخطو فوق نفس الدرج الذي مررت به. فهو دخل تجربة النشر في نفس السن الذي دخلته فيه عام 2001م، وهو بدأ بالمقالة ليتحول إلى القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا تماما كما فعلت.
بالنسبة لرشيد الجلولي فيبقى روائيًّا موهوبا، أبان عن موهبته في أول جزء من ثلاثيته "الخوف"، وقد كان زميلا في الجامعة في بداية التسعينيات في شعبة الأدب الإنجليزي، وهو اليوم زميل في الكتابة الروائية رفقة روائيين آخرين من مدينة القصر الكبير، مثل: محمد أسليم، وخالد السليكي، وسلام أحمد إدريسو، ومحمد التطواني، ومحمد الصيباري، ومصطفى الجباري، ويوسف السباعي، وبهاء الدين الطود.
سؤال: بم تفضل ختم هذا اللقاء؟
جواب: أشكرك جزيل الشكر على استضافتي لهذا اللقاء الجميل الذي أضاء بومضات أسئلته عوالم رحبة يتجاور فيها الإبداعيّ والفكريّ والنقديّ. لا أعرف لماذا صرت أفضل اللقاءات الصحفية هذه الأيام على غيرها.
هل هي رغبة لمساعدة القارئ على المضي قدما نحو مغامرة القراءة؟
هل هي إرادة لإزالة لبس يستفحل؟
الحقيقة أنني لا أملك جوابًا، لكن الشيء الأكيد الذي أعرفه هو أن عدد اللقاءات الصحفية التي كنت فيها ضيفًا شارف لحد الساعة على عتبات المائة لقاء. فشكرًا لكل فراشات النور التي رفرفت للقائي، ومحاورتي، ووجهت بأسئلتها تفكيري إلى حيث يجب التركيز الشديد والوقوف الطويل.
التدقيق اللغوي لهذا الحوار: أفنان الصالح