هو بداية ذلك الشارع الضيق والطويل , الممتد من الطريق العام وباتجاه الغرب وصولا إلى حي عين الزمان....
على جانبيه اصطفت بيوتنا القديمة ذات الحجارة السوداء , تسند الكتف إلى الكتف غير مكترثة بقوانين البناء والوجائب والمساحات المفترض أن تفصل بينها , فهي لا تؤمن بها , لقد كان لها تشريعها الخاص في الهندسة , ألا وهو الألفة والاحتضان...
كانت تحضن بعضها بعضا كما كان يفعل أهلها وساكنيها في الدبكة قديما.....هذه هي حارتنا القديمة , وكان اسمها (حي القبو)...
في منتصف ذلك الشارع تقريبا كان بيتنا القديم , البيت الصغير الجميل الذي ولدنا فيه , واحتضن طفولتنا , وشهد أولى خطوات المراهقة . البيت الذي كانت أمي دائما تشكو ضيق مساحته ,, والذي غادرناه قسرا منذ مايزيد عن ستة عشر عاما ,, ورغم ذلك لم يراودني أي حلم لليلة إلا وشاهدت نفسي هناك.........
كان محاطا من جهة الشارع بسور عال من الحجارة السوداء , يكحلها خط من الإسمنت الرمادي كحاجبي رجل كهل ,, وتتسلقه (مديدة) بغنج , وتستلقي عليه بكسل , لتكاد تغطيه بأذيال أغصان خضراء غضة متدلية منها بدلال... تتوسطه بوابة ,أذكر أنها كانت من التنك والخشب يوم كنا صغارا ,ثم حل محلها أخرى حديدية سوداء مفتوحة دائما خلال النهار ,لاستقبال أي ضيف أو عابر مر من ذلك الطريق
أعبر تلك البوابة إلى أرض الدار الواسعة التي ملئناها صراخا وضحكات طفولة , وخططنا أرضها بالطباشير ,وأرهقنا شجرة الزيتون العجوز لكثرة مالعبنا بالمرجوحة المعلقة على أغصانها القوية ...
ووسط أشجار الفاكهة وبين الزريعة ,تستقبلني تلك الابتسامة الدائمة والوجه الطيب الذي حفرته التجاعيد, وتلك العينان اللتان تشعان فرحا لدى رؤيتي أقبل من بعيد
يحتضنني ويشد بيديه القويتين ,ويمسد شعري وهو يقول لي (ارفعي راسك وخلي خطواتك واثقة ,ودعستك عالأرض قوية) .. كان يصر على بث الثقة والقوة في نفسي كلما رآني , أنا الفتاة الوحيدة في ذلك المنزل منذ جيلين أو ثلاث , كم كان يحبنا ويشعر بالدفء بقربنا ,هو الذي عاش ثلاثين عاما على أمل عودة ابنه المفقود , ولم ينفق ذلك الأمل بداخله يوما حتى لفظ أنفاسه الأخيرة, انتظره كثيرا ولم يأت ,,وربما لن يأت أبدا .........
أشيح بنظري ,إلى ذلك الباب المفتوح على أرض الدار , وتلك المرأة المتربعة في صدر الغرفة مقابل الباب ,,ضاحكة تفتح ذراعيها لتضمني وتشمني بشوق , ككل مرة تعوض بهذه الضمة كل ماحرمتها منه الحياة التي قست عليها كثيرا ,وضنت عليها بأن تبقي لها أحد أولادها حيا لأكثر من ساعات قليلة بعد ولادته ,هي الجدة حسيبة التي حاولت أن تشبع بنا أمومتها الجائعة دائما..
إنها ذكريات الزمن الجميل , التي مشى فوقها كما مر فوق أقدم وأعرق مدينة , دفنها كم دفن إحدى أهم كنائس العالم ,وكما دفن حي القبو.
الشارع المحوري الذي ليس له من اسمه نصيب,, الذي قسم بيتنا وحارتنا القديمة إلى نصفين متجاهلا كل تلك الألفة والحميمية والعراقة . غض الطرف عن دموعنا نحن أطفال الحارة آنذاك,ودموع شيوخ أرادوا أن يموتوا حيث ولدوا . وبنفس القسوة تجاهل الأعمدة الرومانية والآثار المنقوشة على جدران القبو الذي حمل الحي اسمه.
لم يرض الجد أبو فايز أن يترك بيته وحارته ولم ينتقل معنا إلى بيتنا الجديد والكبير,ولكن البارد.رمم ماتبقى من تلك الدار القديمة وعاش فيها ولكن بدوننا هذه المرة ,وبدون أرض الدار الواسعة إلا قطعة صغيرة منها, وماتت الجدة حسيبة لأنها شعرت للمرة الأخيرة أنها أيضا فقدت أولادها لكن للأبد هذه المرة.. ولم ينتظر مع الجد سوى شجرة الجوز ..
ثم مات الجد كما أراد في ما تبقى من داره الكائنة, في ماتبقى من حي القبو..ومرت الأيام وكبرنا وكدنا ننسى ملامح الجد ,كما نسي أهل السويداء ملامح مدينتهم القديمة ,وتلك الآثار المدفونة تحت الشارع .لكن الجد لم ينس يوما,,ويمر علي دائما في أحلامي يتفقدني بين الحين والآخر ,يمسح رأسي بيده الخشنة ,يقبل جبيني , ويرحل بهدوء.........