عندما انتهت الحرب العالمية الأولي بفوز الحلفاء و ردد العالم مبادئ ويلسون الأربعة عشرة علي اعتبار أنها ستنصف الشعوب المقهورة استناداً إلي مبدأ حق تقرير المصير ، ذهب زعماء مصر يرأسهم سعد زغلول إلي المندوب السامي البريطاني ونجت للحصول منه علي موافقة علي السفر إلي باريس لعرض قضية استقلال مصر علي مؤتمر الصلح هناك.
كان من المتوقع أن يدعم مؤتمر الصلح في باريس الحماية البريطانية المفروضة علي مصر، و لكن مصر كانت تريد أن تعرف حقوقها تجاه بريطانيا كما كانت تعرف حقوقها تجاه الخلافة العثمانية.
و لكن ونجت رفض، و أدعي أن سعد زغلول و عبد العزيز فهمي و علي شعراوي لا يمثلون الشعب.
و لابد أن نذكر حقيقة تاريخية ظهرت بعد نشر المراسلات بين ونجت و الحكومة البريطانية، و هي أن ونجت كان يوافق علي عرض مصر لمطالبها في مؤتمر الصلح فيقول في مراسلاته للحكومة البريطانية “إذا لم تعالج هذه المسألة المشتعلة الآن، فمن المحتمل أننا سنواجه صعوبات كبيرة في المستقبل، و اعتقد أنه من العدل أن يعرف السلطان و الوزراء و المصريون جميعاً موقفهم”.
و لكن رد الخارجية البريطانية التي كان يرأسها بلفور جاء كالتالي ” الوقت الذي يصبح فيه ممكناً منح مصر حكماً ذاتياً لم يحن بعد”
و حتي تكون لسعد زغلول صفة الوكالة عن الشعب في المطالبة بحقوقه ، بدأت حملة توقيعات علي عرائض بتوكيل سعد و أصحابه. و أشعلت حركة توقيع التوكيلات المشاعر الوطنية و أصبح الشعب في مواجهة سلطات الاحتلال التي نشطت في قمع حركة توقيع التوكيلات.
و زاد الاضطراب بعد قبول استقالة وزارة حسين رشدي الذي استقال احتجاجاً علي عدم السماح للوفد بالسفر إلي مؤتمر الصلح وفي باريس، عدم السماح أيضاً لحسين رشدي و وزير المعارف عدلي يكن بالذهاب إلي لندن لمناقشة آمال مصر في الاستقلال مع الحكومة البريطانية.
و كان قبول استقالة وزارة حسين رشدي الوطنية من السلطان فؤاد إذاناً بالقطيعة بين السلطان فؤاد و الوفد بزعامة سعد زغلول، فقد أرسل الوفد خطاباً قاسياً للسلطان فؤاد فيه كثير من التأنيب علي قبول استقالة حسين رشدي و كان الأولي بالسلطان فؤاد أن يقف بجانب الوزارة المتمسكة بحق مصر في عرض قضيتها و آمالها في الاستقلال.
كان هذا الخطاب الموجع هو ورقة الطلاق بين السلطان فؤاد و الوفد ، فانتهز الإنجليز الفرصة و قاموا في 8 مارس 1919 باعتقال سعد زغلول و محمد محمود و حمد الباسل و إسماعيل صدقي و ساقتهم إلي ثكنات قصر النيل و منها إلي بورسعيد ثم نفتهم إلي جزيرة مالطة.
ما كاد نبأ اعتقال و نفي سعد يسري بين الشعب حتي اندلع لهيب الثورة يوم 9 مارس في القاهرة و المدن الكبري ثم القري، و لم يعد هناك مكان إلا ويضج بالثورة الوطنية.
و خرجت جميع طوائف الشعب في هذه الثورة، فقد كانت ثورة شعبية بحق، شارك فيها العمال و الطلبة و الفلاحين. حتي المرأة خرجت في مظاهرات فهزت المجتمع بجرأتها ووطنيتها. و أنقض الفلاحون علي خطوط السكك الحديدية و البرق فقطعوها.
استدعت الخارجية البريطانية ونجيتWingate ، و حل محله لورد اللنبي الذي استعمل الفرق البريطانية للسيطرة علي الثورة، و حدثت صدامات بين الثوار و القوات الإنجليزية، و قتل عدد غير قليل من المصريين في هذه الصدامات.
و في النهاية تراجعت إنجلترا و قامت بالإفراج عن سعد زغلول و رفاقه، و أعلنت أنها مستعدة للتفاوض بشأن استقلال مصر، و سمحت لوفد سعد زغلول بالسفر إلي أور,با، و لكنهم وجدوا الأبوب موصدة أمامهم، فقد وافقت الدول الكبري علي الحماية البريطانية علي مصر، و لم يسمح لمصر عرض قضيتها.
و الحقيقة أن أهم ما في ثورة 1919 من ناحية استقلال مصر، هو أنها مثلت الأسوأ علي الإطلاق في كل الاحتمالات التي وضعها الاحتلال البريطاني في التعامل مع ملف استقلال مصر، و ظلت الثورة بعد ذلك تمثل الفزاعة التي يخاف منها الإنجليز و يخشون تكرارها، مما جعلهم مستعدين لتقديم مزيد من التنازلات في موضوع الاستقلال.
كما أن مطالب سعد زغلول في الاستقلال كانت تمثل أعلي درجات الاستقلال، و يقابلها في نفس الوقت عرض بريطانيا الذي كان يمثل أقل درجات الاستقلال الذي ترغب بريطانيا في إعطائه لمصر، فجاءت ثورة 1919 و تضامن كل فئات الشعب مع مطالب سعد و انتشار روح الوطنية و التوحد خلف قائد واحد ، جاء كل ذلك ليعطي وزناً أكبر لدرجة الاستقلال التي يتبناها سعد، و أجبرت بريطانيا عن أن تعلي من سقف تنازلاتها لتصل إلي نقطة الالتقاء مع أي حكومة مصرية تقبل التفاوض معها.
و هذا ما سنراه في إلغاء الحماية البريطانية علي مصر عام 1922 م.