أوهام حرب 1948
يوسف فضل
إعتاد بل عودني صديقي حسن ابراهيم على احتساء فنجان الشاي معي في المكتب يوميا بعد ان يعصر عليه الليمون الذي يحضره معه من بيته . وقد اغتنمت فرصة هدوء مشتركة لنا خالية من الاعباء الادارية وطرحت عليه سؤال : " هل لك ان تلقي الضوء على دور الجيوش العربية في حرب عام 1948؟". اعتدل في جلسته ورد:" انك تنكأ جروح كادت ان تشفى لكن اثار مرارة الهزيمة ما زالت ماثلة امامي مع ان الحياة مثل شهرنا هذا ، شهر رمضان الكريم تنتهي بسرعة . اعتقد ان روايتي لن تضيف شيئا جديدا إلا اني ارى ان الجديد فيها انها ليست من مصدر عربي رسمي بل ستكون اقرب الى السرد الشعبي والمشاهدة العينية وان جاء تدوينها متأخرا ". أخذته فترة قصيرة من التفكير يلملم بها معلوماته لينطلق قائلا:_
أذكر انه كلما حلت ذكرى 15 أيار ( مايو ) 1948م يتبارى اصحاب الاقلام العربية في تحميل الهدنة الأولى والثانية في تبرير مسؤولية الهزيمة التي حلت بالجيوش العربية في فلسطين والقاء اللوم على جلوب باشا الذي كان قائد الجيش الاردني وقائد الجيوش العربية التي دخلت فلسطين لتحريرها لكن الوقائع تقول انه عشية انسحاب بريطانيا من فلسطين في يوم 15 أيار 1948 كرر أرنست بيفن وزير خارجيتها دعوة بريطانيا لدول جامعة الدول العربية السبعة وقتئذ بوجوب دخول جيوشها الى فلسطين للحفاظ على المناطق العربية التي سينسحب منها الجيش البريطاني . وهكذا دخلت الجيوش العربية واحتلت المدن العربية الفلسطينية نابلس وطولكرم وجنين والخليل وغزة ودير البلح والمجدل وبير السبع ورفح وهي مدن بعيدة عن اماكن تجمع اليهود اي ان الجيوش العربية استقرت في الاماكن العربية المحددة لها فقط وقد رافق هذا الدخول جو من الهياج الهستيري والصخب الاعلامي والهتافات المدوية في السماء حتى ان الشتائم كان لها نصيب في التعبير الاعلامي الشعبي والرسمي العربي الموجهه ضد الاستعمار والصهيونية .
ألتزمت الدول الاربع الكبرى ، امريكا والاتحاد السوفيتي وبريطانيا وفرنسا الراعية لاسرائيل الصمت المطبق بل باركت هذه الدول دخول الجيوش العربية لفلسطين . إذ كانت تلك الدول تحكم العالم بعد ان اكملت إذلال شعوب اقوى أمم الارض المانيا وإيطاليا اليابان . وقد اعلنت الدول الكبرى الاربع حظر كامل على استيراد السلاح والعتاد الحربي على العرب . ولم يستطع العرب الحصول على السلاح حتى من السوق السوداء .
كانت العاصمة السورية اكثر العواصم العربية صخبا وضجيجا إلا ان أبرز الجيوش العربية التي دخلت فلسطين كانت الجيش الاردني والمصري والعراقي . بيد ان الجيش السوري أحتل بلدة سمخ العربية الواقعه على نهر الاردن ولم يتقدم شبرا واحدا بعدها باتجاه قرى عربية كانت تطالبه بالتقدم لحمايتها من الاحتلال اليهودي .
الواقع ان كافة الجيوش العربية لم تهاجم اي موقع اسرائيلي منذ دخولها فلسطين وحتى خروجها منها مع انها كانت اقوى من الجيش اليهودي . والمفارقة ان اليهود هم الذين هاجموا كل الجيوش العربية كطفل مدلل قد أمن من العقوبة . فقد قام اليهود بهجوم كبير على مدينة جنين واحتلوها بالكامل في طريقهم الى احتلال مدينة نابلس . لكن اللواء عمر علي سارع على رأس لواء عراقي وبدون الرجوع الى قيادته الى سحق الهجوم واسترجاع مدينة جنين . بل انه تقدم الى مسافة 11 ميلا شمالها وصولا الى بلدة زرعين وفر اليهود مذعورين بعد ان تركوا في ارض المعركة مئات القتلى ومئات المركبات المدمرة المحملة بالعتاد والامدادات . لكن الحكومة العراقية سحبت قواتها وارجعتها الى مدينة جنين . بعد سنوات اتضح ان الدول الكبرى كانت وجهت تهديدات عنيفة جدا للحكومة العراقية . وردت الحكومة العراقية انها لم تهاجم اليهود بل اليهود قاموا بمهاجمة القوات العراقية . مع أن مدينة تل أبيب والمغتصبات التي حولها بل والسهل الساحلي والمطارات الحربية والمعسكرات البريطانية التي سلمت لليهود كانت في مرمى المدفعية العراقية المتمركزه في كفر قاسم وقلقيلة وراقات إلا ان القوات العراقية لم تطلق طلقة واحدة تجاهها ولم تدخل في أي معركة بعد معركة جنين .
وفي جنوب فلسطين توقف الجيش المصري في مدينة اسدود بعد ان اجتاز مدينة المجدل لكن اهالي يبنا وبشيت وزرنوقه والقسطينة القبية وسواها راحوا يطالبون الجيش المصري بالتقدم الى قراهم قبل ان يهاجمها اليهود لكن الجيش المصري رفض وتجاهل نداءات الاهالي مثلما تجاهل الجيش العراقي والاردني نداءات مماثله من مناطق كانت لا تزال عربية بل ان الجيش المصري ترك خلف خطوطه مغتصبات يهودية عديدة لم يهاجمها والغريب ان هذه المستعمرات هي التي هاجمت الجيش المصري من الخلف .ربما يفسر سلوك الجيوش العربيه هذا كون دولهم كانت مستعمرة من قبل الدول الاروبية وتحتاج الدول الكبرى في كل شيء .
بعد انسحاب الجيش الاردني من اللد والرملة قام شيخ الحويطات الشيخ حمد بن جازي والشيخ مثقال الفايز شيخ بني صخر باستعادتهما خلال ساعة واحدة من يد اليهود . لكن الجنرال جلوب باشا اعادهما لليهود . الظاهر ان العرب كانوا بحاجة لجلوب باشا ليكون شاهد عيان معهم على طريقة وشهد شاهد من اهله بان الجيوش العربية لم تهاجم المواقع اليهودية حتى انه لم يسمح للجيش الاردني باحتلال مستشفى هداسا والجامعة العبرية الواقعتين في منطقة الجيش الاردني . لكن الجيش الاردني دافع باستماته عن القدس القديمة حيث شن اليهود اكثر من عشرين هجوما لاحتلالها وبعد ان تخلى الجيش الاردني عن الاحياء العربية في القدس الجديدة .
اما المدفعية السورية المرابطة في هضبة الجولان فلم تطلق قذيفه واحدة على مغتصبات طبريا والحولة الواقعة في مرماها أي ان العرب لم يهاجموا أي موقع يهودي مطلقا حتى المناطق المجردة بين سوريا واسرائيل في منطقة بحيرة طبريا وبين مصر واسرائيل في عوجا الحفير والصابحه ونيتساليم التي احتلتها اسرائيل في العهود العربية الثورية اللاحقة حيث التزم الصمت العربي ازاءها . تلك القيادات التي زعمت انها جاءت لاسترداد الارض والعرض والكرامة .
بعد إنتهاء الحرب الاكذوبه لعام 1948 كان احمد الشرباتي وزير الدفاع السوري هو كبش الفداء في سوريا وفي مصر اثيرت قضية الاسلحة الفاسدة وهي قضية وهمية وفي الاردن كان جلوب باشا هو الشماعه التي علق عليها العرب عجزهم وكل هذه الاحداث كانت قبل الهدنة الاولى .