زياد منى*
إن انهيار الوضع الداخلي الفلسطيني وأقصى حالات التردي التي وصلت إليها حالة الحركة الوطنية الفلسطينية وقياداتها السياسية من مختلف الاتجاهات بعد سلسلة التنازلات المجانية للعدو، والتي توجت بالاقتتال المستمر وانعدام أي مرجعية سياسية أو حقوقية لحل الخلافات الوطنية، واستقواء أطراف فلسطينية بقوى عربية ودولية للمحافظة على موقعها وامتيازاتها، لم يؤدِّ فقط إلى انفضاض الشعوب العربية عن القضية العربية المركزية، وفقدانها أي اهتمام بها، سوى التضامن المجرد الذي لا يعرف حولاً ولا قوة مع شعب مناضل، بل أيضاً جعل من الفلسطينيين في كل مكان «مكسر عصا» تعود إليه بعض القوى وتستخدمه أداة في صراعاتها الداخلية والخارجية، وتنافس حتى العدو الصهيوني في كراهيته لهم.
من المسائل المعروفة، أنه منذ نكبة العرب في فلسطين، ما من سياسي طامع في السلطة وطامح للزعامة إلا واستخدم قضية فلسطين سُلَّماً ليصعد به إلى سدة الحكم، وأنه ما من طاغية أراد تسويغ بقائه في السلطة إلا واستغل شعب فلسطين وقضية العرب الأولى، وما من انقلابي ومتآمر ومتحزب، أو حتى وطني قومي صادق، إلا وكانت فلسطين وقضيتها المركب الذي ركبه ليبحر به في غمار الحركة السياسية بهدف الوصول كرسي الحكم «المقدس». هذا الوضع العبثي دفع الشعب الفلسطيني في نهاية المطاف إلى قبول تأسيس حركة سياسية فلسطينية «مستقلة»، وإلى تمسكه بشعار «القرار الفلسطيني المستقل» ـــــ وهو «كلام حق قصد به باطل» ـــــ الذي لقي ترحيباً غير منظور في الشارع الفلسطيني، مع أنه استخدم لغايات غير التحرير والمحافظة على القضية.
القاعدة الثابتة السائدة في مرحلة الصعود القومي العربي، حتى في مرحلته ما قبل البرعمية التي ظهرت عقب هزيمة محمد علي واقتحام بريطانيا المستعمِرة المشرق العربي وترويجها لمشروع إقامة كيان يهودي في فلسطين، كانت أن التمسك بفلسطين/ استعادتها، القضية القومية العربية بامتياز، هو المدخل لمحاولة كسب عقول الشعوب العربية وقلوبها.
التراجع عن هذا الهدف القومي السامي بدأ بهزيمة عام 1967 أولاً، ثم تصاعد إثر مجازر أيلول الأسود في عام 1970/71. بعد تلك المذابح باشرت الحركة الوطنية الفلسطينية نفسها الانحدار والانحراف السياسي والفكري عندما تبنّت مشروع المساومة «الساداتي» مع العدو على الوطن، وقبول «الأمر الواقع» الذي تجلى في تبني منظمة التحرير الفلسطينية عام 1974 ما عرف باسم «البرنامج المرحلي» أو «برنامج النقاط العشر» لمصلحة تأسيس (سلطة وطنية «مقاتلة» [كذا!])، الذي مثّل المنطلق السياسي والفكري للتخلي عن فلسطين لمصلحة هدف قاصر وهمي خيالي عقيم.
في مرحلة الهزيمة والتراجع هذه، التي تتحمل الرجعية العربية المسؤولية الأولى عنه من دون تبرئة قوى أخرى منها، التي توجها اجتياح لبنان عام 1982 وطرد الحركة الوطنية الفلسطينية منها وتشريدها في بقاع العالم، مرحلة السيادة المطلقة لأموال النفط وأخلاقياته غير القويمة، على مختلف مناحي الحياة المادية والروحية في بلاد العرب، انقلب النضال من أجل فلسطين إلى هرولة، بل إلى تبارٍ بين أنظمة التخلف والرجعية إلى محاربة فلسطين ومطاردة شعبها، فصار كل من يحلم بنفسه سلطاناً يدفع ثمن رضى أميركا عنه بالتبرؤ من فلسطين وتقديم «فروض الطاعة والولاء» للعدو الصهيوني. وصار كل حاكم مرتعباً من فقدانه سلطانه و«حياة النعيم» فيه، يطلب دوام رضى «الأم الحنون» أميركا الكامل عليه، يدفع الثمن من جيب الشعب الفلسطيني وعلى حساب قضيته، مستخدماً مختلف الذرائع مثل «الواقعية» و«القانون الدولي» و«الشرعية الدولية» وما إلى ذلك من مصطلحات الاستسلام المملة. وفقط ضمن هذا السياق، وجب فهم مبادرة «خادم الحرمين» بعد أحداث 11/09، التي تلت (مبادرة خادم الحرمين «الأول»)، حيث شعر بغضب أميركي تجاه نظامه الذي ولّد طالبان والقاعدة، والتي قيل إنه قدمها ضمن ما وجب وصفه بحركة مسرحية هزلية، والتي تبيح لأنظمة العربية التخلي عن آخر ما كانوا يدّعون التمسك به من «ثوابت»، أي: حق العودة.
لكن إذا نظرنا إلى مواقف وممارسات تلك الدول صاحبة المواقف «المعتدلة» و«العقلانية» عندما يتعلق الأمر بسلطتها وأراضي «دولها»، تجدها تمارس العكس وزج شعوبها في صراعات أزلية مع جيرانها «اللدودين» من أجل قطعة أرض حدودية، حتى لو كانت صحراء جرداء. لنتذكر الصراعات الحدودية العربية التي وصلت إلى الصدام العسكري في أحيان كثيرة: مصر وليبيا دخلتا في صراع حدودي مسلح على قضايا حدودية، وليبيا ومصر؛ ثم: ليبيا وتونس، وتونس وليبيا؛ وكذلك الصراع المسلح الأزلي بين الجزائر والمغرب؛ والجزائر وموريتانيا؛ وكذلك اشتبكت السعودية عسكرياً مع اليمن، واليمن مع السعودية؛ وتصارعت السعودية مع بريطانيا المحتلة إمارات «الخليج المتصالح» وقتها، ومن ثم مع الإمارات العربية المتحدة على واحة البريمي؛ ولا ننسى الخلافات الحدودية بين البحرين وقطر؛ والكويت والعراق، والعراق والكويت؛ والعراق والأردن، والأردن والسعودية... إلخ.
المقصود هو التساؤل: لماذا تطالب حكومات عربية شعب فلسطين بالتخلي عن وطنه لمصلحة مشروع استعماري استيطاني همجي، محتضَر أصلاً وفي طريقه إلى الزوال، فيما هي على استعداد للدخول في حروب لا نهاية لها مع «الإخوة الأشقاء الذين تربطنا بهم روابط الدم والتاريخ واللغة والدين والعادات والتقاليد... إلخ»، من أجل بضعة أمتار تدعي أنها اقتطعت من أراضيها قبل ألف ألف قرن؟
قبل الاسترسال، نود ذكر موضوع، فقط شهادة للتاريخ: يبدو أن لبنان هو البلد العربي الوحيد المستعد للدخول في صراع مع جاره لنفي سيادته على قطعة أرض حدودية يقال إنها تمثّل جزءاً من أراضيه، مع أنه يمكن حل «المشكلة» ببساطة بالعودة إلى خرائط تقسيم الدولتين المستعمرتين بريطانيا وفرنسة المنطقة ضمن اتفاقيات سايكس بيكو. هذا «الكرم» دافعه ليس حباً في «الجار الشقيق» وتنزهاً عن «متاع الحياة الدنيا»، بل تخلص من أعباء قد تفرضها «تهمة» التقاعس عن المطالبة بتحريرها أسوة ببقية الأرضي اللبنانية المحتلة التي حررتها سواعد أبطال حزب الله في ملاحم بطولية ندر مثيلها في تاريخ العرب المعاصر.
الآن نعود إلى تصريح السيد جبران باسيل، وزير الاتصالات اللبناني الذي ادعى فيه أن الفلسطينيين باعوا بلادهم، والذي لم يقبل التراجع «الصحي» عنه. ومع أننا لا نرى في ذلك التصريح تدويناً تاريخياً موثقاً ومعتمداً، وأنه يدخل في باب «التنافس» على كسب ود قطاع انتخابي ضيق الأفق محشو بفكر طائفي عنصري بغيض معاد لكل ما ينتمي إلى العروبة وقضاياها، إلا أننا نرفض زج فلسطين في صراعات حزبية وانتخابية.
لقد كتبنا تعليقاً سابقاً على ذلك التصريح الظالم أن الأمم المتحدة سجلت أن 92% من أراضي فلسطين عشية نكبة العرب الكبرى كانت بيد العرب، وأن فقط 5,7% كانت ملك الصندوق القومي اليهودي. ما قصدناه أن ما بيع من أراضٍ حتى تاريخ اغتصاب فلسطين وطرد أهلها منها مقدار ضئيل للغاية، ما يجرد ذلك التصريح من أي صدقية.
لقد كُتب الكثير عن بيع «بيارتة وشوام» أراضي في فلسطين، وخصوصاً عندما كان معظمها يُحكَم من بيروت، لكنني لن ألجأ إلى هذا المنطق العنصري والأعوج الذي يتجاهل حقائق أن عائلات فلسطينية معروفة باعت أراضي للصندوق القومي اليهودي، ويتجاهل الحقيقة الكبرى الأكثر فجاعة وإيلاماً، وهي أن قيادة منظمة التحرير تخلت عن كل شبر من فلسطين، بل غيرت موادّ أساسية في الميثاق الوطني الفلسطيني، وهو الوثيقة الوحيدة التي أجمع عليها الفلسطينيون، ليلائم مطالب العدو والاعتراف بـ«شرعية» اغتصاب فلسطين على كل الصعد، وبذلك «زاودت» على كل العرب الصهاينة الذين باعوا فلسطين «مفروشة» منذ اتفاقية سايكس ــ بيكو إلى أيامنا هذه. وفي الواقع، فإننا نتعجب من ذلك «المنطق» العنصري الذي يتبارى في جمع أسماء عائلات بيروتية وشامية، ولكنه يتمسك بصمت القبور عندما يتعلق الأمر بعائلات فلسطينية وبانتهاك قيادة المنظمة وما انبثق منها من بيروقراطيات لمقدسات العمل الوطني الفلسطيني.
نعود فنكرر: إن كل ما بيع من أراضٍ كان ضئيلاً للغاية ولا يسوّغ إطلاقًا اتهام شعب بأكمله ببيع بلاده وأراضيه للغزاة ما يخدم بالضرورة الدعوة إلى التخلي عن شعب فلسطين وقضيته وإضفاء صفة الشرعية على الكيان الصهيوني الغاصب.
إضافة إلى ذلك، من الضروري التذكير بثلاث حقائق أساسية:
ـــــ إن ملكية أجانب لأراضٍ في دولة ما لا تعني تجريدها من صفة كونها جزءاً من وطن أهله. فعلى سبيل المثال، معظم اللبنانيين لا يملكون أراضي في دولتهم، ولكن هذا لا يمكن أبداً أن يعني أن لبنان ليس وطن اللبنانيين، وبمطلق معنى المصطلح.
ـــــ إن ملكية أشخاص أو مؤسسات لقطعة أرض، مهما بلغ حجمها، في دولة ما لا تنفي عن تلك الأراضي صفة كونها جزءاً لا يتجزأ من الوطن الأم.
ـــــ إن امتلاك فرد أراضيَ في دولة ما لا يجعله مواطناً من رعاياها يحق له التصرف في حاضرها ومستقبلها.
لقد أحزننا تصريح السيد جبران لأنه أتى في وقت بدأت فيه «أساطير التأسيس الصهيونية» بالانهيار أمام الحقائق التاريخية التي تسود مسرح البحث العلمي الآن بعدما ظن كثير من الأكاديميين الصهاينة ـــــ القدامى والصهاينة ـــــ الجدد أن استسلام "أوسلو"، وما سبقه وما تلاه، قد قضى قضاءً نهائياً على نضال الشعب الفلسطيني وتطلعاته لاستعادة وطنه كاملاً وحقوقه فيه.
لا نريد شخصنة المسألة، لأن المشكلة في المحتوى، لكن يحق للقارئ والمستمع سؤال مُطلِقِه عن مصدر معلوماته، وعنوان أي كتاب قرأه عن قضية فلسطين. فكل متخصص بالموضوع يعلم أنه ليس ثمة من مؤلف توثيقي واحد، حتى بأقلام صهيونية، يدعم هذا الادعاء. لكن ثمة كثير من الكتب التي توثق تعاون قوى طائفية ولاهوتية قيادية عربية مع الحركة الصهيونية والمستعمرين الفرنسيين والبريطانيين بهدف تقسيم المشرق العربي إلى ممالك طائفية مذهبية متصارعة في ما بينها، فضلاً عن كسبها وُدّ الحركة الصهيونية وصداقتها ودعمها. وقد قلنا من قبل إننا ابتعنا منذ سنوات حقوق نشر كثير منها بالعربية، لكننا قررنا عدم نشرها لما قد تسببه من تهديد للسلم الأهلي.
لا نظن أن السيد جبران قرأ أيّاً من تلك الكتب، حتى إنه لم يقرأ كتاباً واحداً عن نضال الشعب الفلسطيني دفاعاً عن وطنه، بما يحويه من مقدسات يهودية ومسيحية وإسلامية منذ قرن ونصف القرن، ليموت في كل مرة ثم يبعث بعد كل انتكاسة أو هزيمة وهو أكثر تصميماً على استعادة وطنه، وليحمل السلاح مجدداً، ضد الصهيوني الغاصب المعتدي.
لذا، نغتنم هذه الفرصة لنكرر دعوة صاحب التصريح لقراءة الكتاب التوثيقي الذي أشرنا إليه في مقالنا السابق، ويضاف إليه مؤلفات أخرى تتعامل مع الموضوع بصدقية وتوثيق يمكننا تزويد السيد جبران بها إن رغب، توضح أن ما سمي «حرب فلسطين» عام 1948 كان حرباً دخلتها الأنظمة العربية وقتها لتسهيل اغتصاب فلسطين ومسح اسمها من القاموس العربي والعالمي، وهو ما يدفع الدول المستعمِرة الخاصة إلى منع نشر معظم وثائقها الرسمية عن مؤامرة اغتصاب فلسطين إلى اليوم رغم مرور المدة القانونية، بل يعود تاريخ بعضها إلى نحو مئة عام خلت. ولا ننسى أبداً أن ما يسمى حالياً «النظام العربي» [الأصح النظام الشرق ـــــ أوسطي الجديد القديم، تمييزًا له من «الشرق العثماني»] هو نظام استعماري الجذور والفكرة والتنفيذ، والكيان الصهيوني جزء لا يتجزأ منه، وما كان يمكن أياً من القوى والعشائر المشاركة في خلقه، من ذوي عون إلى المساليخ من ولد علي أن تحلم بأن توافق الدول المستعمِرة على تسلمها مقاليد السلطة، الصورية أصلاً، في الشرق العربي المقطع الأوصال عنوة، والمحافظة عليها وعلى حدود كياناتها من دون توثيق بصمها على قبول بيع فلسطين للصهاينة من دون أي إبهام أو مراوغة، وإن بقيت كثير من تلك «البصمات» سرية إلى يومنا هذا.
ومن الأمور التي تدعو إلى تزايد الإحباط بالخصوص الصمت الفلسطيني «الرسمي» الكامل عن تلك الادعاءات الظالمة. قد يفهم المرء أن جماعة سلطة «مقر المقاطعة» في رام الله ليسوا في موقع الرد أو حتى الدفاع بعدما تخلوا عن كل شيء، عن الأخضر واليابس، ما يجردهم من أي أهلية للحديث في الموضوع أصلاً، لكن ما يدعو إلى الرثاء صمت تنظيمات ومؤسسات وشخصيات الفلسطينية عن هذا الأمر، مع أنها تتهم «قيادة مقر المقاطعة في رام الله» ليلاً ونهاراً بالتخلي عن «الثوابت» و«الحقوق المشروعة»... إلخ.
فليتمسك السيد جبران بتصريحه الظالم، الذي هو على أي حال ليس أكثر من نقطة ماء تتبخر من دون أثر على جمرة نضال الشعب الفلسطيني المتوهجة منذ أكثر من مئة وخمسين عاماً، لأن التاريخ سيذكر كفاحه من أجل استعادة وطنه، وفلسطين لم تكن يوماً عاقراً، والشعب الفلسطيني ليس مكسر عصا لأحد.
ولا حول ولا قوة إلا بالله!
* كاتب فلسطيني