أحمد الدبش (*)
بوقوع نكبة عام 1948 غادر الشعب الفلسطيني أرضه ووطنه، تاركاً وراءه كل ما يملك من حطام دنياه، على أمل العودة إلي دياره خلال أيام أو شهور معدودة على ابعد تقدير كما وعدته الجيوش العربية الفذّة، إلا أن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن.
فالجيوش العربية التي دخلت فلسطين لتحريرها من القوات الصهيونية، بدأت تتراجع وتنسحب تحت ستار الخطة العسكرية تارة، وبناءً على اتفاقات الإذلال ـ الهدنة ـ مع العدو تارة أخرى.
ولتبرير هذا الموقف عمدت الأنظمة العربية آنذاك إلى طعن أبناء فلسطين في مصداقية وطنيتهم، واتهامهم بالخيانة والعمالة وبيع أراضيهم للأعداء الصهاينة.
هذه الأكذوبة التي ما فتئ الصهاينة وبعض أنظمتنا العربية يروّجونها عبر كل وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، حتى نجعت هذه الأكذوبة ـ في الشعوب العربية التي كانت أجهل من أن تتبين ما فيها من كذب وتلفيق، ولكن هل صحيح أن أصحاب البلاد باعوا أراضيهم، أم أن الذين باعوا الأرض قوم آخرون؟ ولو ثبت أن بعض أهل البلاد قد باع أرضه فهل صحيح أنه باع باختياره وعن طيب خاطره؟ وللجواب عن ذلك نقول:
دور بريطانيا في انتهاب فلسطين
كانت الأرض هي الهدف الرئيسي للغزو الصيهوني؛ لأنه بدون أرض يستحيل إقامة مستوطنات، وبالتالي يستحيل إسكان الغزاة، كذلك يستحيل زيادة قدرة فلسطين على الاستيعاب، ويترتب على ذلك كله استحالة زيادة الصهاينة العددية بما يجعلهم قادرين علي تحويل هذا الجزء الفريد من وطننا العربي إلي دولة صهيونية.
عملت الإدارة البريطانية على انتزاع الأراضي من المواطنين العرب ونقل ملكيتها للمهاجرين الصهاينة.
كان الصهاينة عام 1918 يملكون 2% فقط (نحو 162.500 فدان) من مجموع الأراضي البالغ (6.580.755 فداناً)، وفي السنوات الثلاثين التالية اشترى اليهود أراضي إضافية فأصبح مجموع ممتلكاتهم عند انتهاء الانتداب في أيار/ مايو عام 1948 (372.929 فداناً) أي (5.67 في المئة) من مجموع أراضي البلاد، ومع ذلك فإن حكومة فلسطين قدرت في عام 1948 أن "اليهود كانوا يملكون أكثر من 15% من الأراضي الزراعية في فلسطين".
ولم تنقطع مقاومة بيع الأراضي لليهود وطوال عهد الانتداب أو بالأصح الانتهاب، وقد حصل الصهاينة علي المساحة الإضافية (210.425 فداناً) بين عام 1918 وعام 1948 من مالكيها السوريين واللبنانيين الغائبين عنها والمقيمين خارج فلسطين، أما الأراضي التي باعها الفلسطينيون خلال الانتداب فلم تزد مساحتها علي (نحو 100.000 فدان) على الرغم من الأسعار العالية المعروضة والتشريع الذي كانت غايته حتى عام 1939 تسهيل نقل ملكية الأراضي إلي الصهاينة.
فقد عملت الإدارة البريطانية علي انتزاع الأراضي الزراعية من المواطنين العرب، ونقل ملكيتها إلي الصهاينة الغزاة، ومما تجدر ملاحظته أن الأراضي الزراعية التي امتلكها الصهاينة قبل عهد الإدارة البريطانية في فلسطين كانت لا تزيد عن 700.000 دونم (الدونم ربع فدان)، وقد استندت الإدارة البريطانية في تمليك الأراضي لليهود على المادة الساسة من صك الانتداب ـ إذ نصت على "حشد اليهود في الأراضي الأميرية والأراضي الموات غير المطلوبة للمقاصد العمومية". وهكذا أتاحت هذه المادة للصهاينة الحصول، من دون مقابل، على الأراضي الحكومية في فلسطين التي كانت تبلغ 42.5% من مجموع أراضي اليهود.
ولكن الإدارة البريطانية لم تكتف بذلك، بل اتخذت الإجراءات الكفيلة لإجبار العرب على بيع أراضيهم، وقد تمثلت تلك الإجراءات التعسفية بما يلي:
1. فرض الضرائب الباهظة على الأراضي، ما أثقل كاهل المزارع العربي، فحاول التخلص منها لتراكم الضرائب وتوقيع الحجز عليه.
2. منع تصدير الحبوب والزيت، وهما أهم المحاصيل، فتكدست وهبطت أسعارها هبوطاً كبيراً، وعجز الفلاح الفلسطيني عن تسديد الديون والضرائب واضطر الى بيع أرضه.
3. أصدر "هربرت صموئيل" قرارًا بتصفية البنك الزراعي العثماني في فلسطين، وتحصيل معظم ديونه عنوة من صغار المزارعين، ما أجبرهم على بيع أراضيهم لسداد الديون. وفي ذلك يقول "سمبسون " (احد الخبراء الإنجليز) في تقريره: "إن بعض الأهالي اضطروا إلي بيع أراضيهم إما لتسوية ديونهم أو لدفع ضرائب الحكومة أو للحصول على نقد لسد رمق عائلاتهم". وفي صحيفة فلسطين الصادرة في الرابع والعشرين من آب/ أغسطس عام 1930، ظهر مقال بقلم مزارع فلسطيني من طولكرم أوضح فيه العوامل المتشابكة التي أكرهت الفلاحين الفلسطينيين على بيع أراضيهم للصهاينة، قائلاً: "إنني أبيع أرضي وممتلكاتي؛ لأن الحكومة تكرهني على دفع ضرائب وأعشار في وقت لا أملك فيه الوسائل الضرورية لإعالة نفسي وأسرتي، وفي مثل هذه الظروف أكون مضطراً للجوء إلى شخص غني يقدم لي قرضًا أتعهد برده مقرونًا بفائدة مقدارها 50% بعد شهر واحد أو اثنين، وهنا أضطر إلى تجديد الصك مرة تلو المرة مضاعفًا بذلك قيمة الدين الأصلية، الأمر الذي يضطرني في النهاية إلي بيع أرضي حتى أسدد ما يستحق عليّ من ديون لم أستلم في الحقيقة إلا جزءًا ضئيلاً منها".
4. عين "هربرت صموئيل" "نورمان بنتوتيش" نائبًا عامًا، وترك مهمة إعداد القوانين والأنظمة التي عملت على وضع فلسطين في أحوال سياسية واقتصادية وإدارية، تحقق إنشاء الوطن القومي اليهودي.
5. فتح باب الوظائف العامة لليهود حتى أصبحوا أربعة أضعاف الموظفين من العرب الذين تركت لهم الوظائف الصغرى.
ورغم كل تلك الإجراءات التعسفية، لم يتمكن اليهود ـ خلال الفترة التي تولت فيها بريطانيا إدارة وحكم فلسطين ـ من شراء سوى 7% من الأراضي الزراعية بفلسطين، كما لم تكن هذه الأراضي التي انتقلت ملكيتها ملكاً لمزارعين فلسطينيين، وإنما كانت ملكاً لبعض الأسر العربية غير الفلسطينية.
الأراضي التي أسهم العرب في نقلها للصهاينة:
تعتبر فئة كبار الملاك الغائبين ومعظمهم سوريون ولبنانيون هي المسؤولة عن تحويل مساحات بالغة الخصوبة للصهاينة.
إن عائلة "سرسق" اللبنانية على سبيل المثال كانت تملك (مرج ابن عامر) 400 ألف دونم، وهي مساحة واسعة من الأرض السهلية الخصبة تقع ما بين جنين والناصرة وحيفا، بهذا فإن هذه الإقطاعية الكبيرة كانت ذات قيمة استراتيجية؛ لأنها تتحكم بالمواصلات الرئيسية التي تربط بين مدن عربية ثلاث مهمة، وكانت في الوقت نفسه ذات قيمة اقتصادية؛ لأن أرضها من أجود وأخصب أراضي فلسطين، وكانت عيون الصهاينة ترنو إلى هذا السهل وتوجه اهتماماً بالغاً للحصول علي أراضيه الخصبة ذات الموقع الاستراتيجي.
فقد بادرت عائلة "سرسق" اللبنانية بالتفاوض مع الصهاينة، لبيع (مرج ابن عامر)، برغم أن هذه العائلة "لا تملك أن تبيع الأرض إذ ليس لها سوى حق الانتفاع وليس حق الرقبة الذي تملكه الدولة. إن اليهود اعتبروا أن هذه الأراضي ملك صرف لهم، وهو ما كان ليحق للبائع ولا المشتري إطلاقًا"، ولم يتمكن الصهاينة من استلام هذه الأراضي إلا على أسنّة الحراب الصهيونية والبوليس البريطاني بعد أن رفض أصحاب الأراضي الفعليون ـ الفلسطينيون ـ مغادرتها الا على جثثهم، التي تناثرت أشلاؤها على تراب الوطن الذي خضّب بدمائهم الزكية، وسرعان ما تحولت هذه المنطقة الثمينة إلى مسرح تمثل عليه مأساة إنسانية، حيث بلغ عدد الأسر التي اقتلعت من أراضي هذا السهل 1746 أسرة، بلغ عدد أفرادها 8730 شخصًا. وهذه الأرقام لم تشمل كل الذين اقتلعوا، ذلك أن هناك العديد ممن لم تسجل أسماؤهم لسبب أو لآخر.
إن الخيانة هي السبب في ضياع هذه المنطقة. ولم تكن الخيانة وقفًا على عائلة "سرسق" فمعظم العائلات اللبنانية والسورية مارست هذا النوع الرخيص من الخيانة، وبذلك فإن مساحات أخرى من الأرض الفلسطينية ذات القيمة الاستراتيجية والاقتصادية باعتها عائلات عربية إلي الصهاينة ومنها:
وادي الحوارث، تبلغ مساحته (32 ألف دونم)، هذا الوادي كان من الصفقات الحاسمة في معركة الأراضي التي كانت تصطرع بين عرب فلسطين من جهة والصهاينة تساندهم بريطانيا من جهة أخرى، فقد انتقل هذا الوادي من عائلة "التيان" اللبنانية إلي الصهاينة، وتمت هذه الصفقة في عام 1933.
فماذا كان رد الفعل الفلسطيني؟ لقد "هب المواطنون للدفاع عن أراضيهم فحصدتهم النيران فاستشهد العديد وتمددت النساء علي الأرض لمنع السيارات من الدخول، فلم تأبه السلطات بهن وقامت بالمرور فوق أجسادهن فمزقتهن إرباً أرباً، وعجنت بجثثهن الأرض، واعتقل العديد من شباب الوارث وخرج الباقون على وجوههم يهيمون".
ويا له من عار فما حدث في وادي الحوارث يتكرر في أراضي وادي القباني البالغ مساحته (18 ألف دونم)، والذي اشتراه "شفيق زيتونة "اللبناني عام 1929 من آل القباني، وبالرغم من أن العقد أصبح لاغيًا بين كل من شفيق زيتونة وآل القباني، فلم يُرضِ هذا السيد زيتونة، بل ذهب وارتمى في أحضان "الأدون خانكين" ـ السمسار الصهيوني، وكيل عن شركة الصندوق القومي اليهودي ـ واتفق معه على بيع الوادي، فلم يُرضِ ذلك آل القباني الذين تقدم شخص منهم بشكواه للمندوب السامي، ولكن من دون جدوى، فلم ينصفه المندوب السامي!! وتم بالفعل انتقال الوادي للصهاينة بثمن بخس.
كما شارك ملاك كبار "لبنانيون آخرون" في بيع أراضي الفلسطينيين على نحو ما حدث حين باع الأمير "أحمد شهاب" شقيق "خالد شهاب" ـ رئيس الوزراء اللبناني في ذلك الوقت ـ 1300 دونم بواسطة شقيقه الأمير "خالد" في أراضي الناعمة في منطقة الحولة إلي جمعية صهيونية، وقد تقاضى شقيق رئيس الوزراء مبلغ 300 ليرة عثمانية من ذهب كرشوة مقابل إتمام هذه الصفقة المشبوهة، وتصديق على الإفراز كونه شريكًا في هذه الأرض، كما باعت ذات الأسرة 1100 دونم أخرى لليهودي.
وباع الأمير "سعيد الجزائري" من دمشق أراضي تله واقعة على حدود فلسطين تقدر مساحتها بـ (3700 دونم) لليهود مقابل مبالغ مالية طائلة.
وباع "آل اليوسف" السوريون أراضي البطحية ـ التي انتقلت لليهود ـ ست عشرة قرية جميعها واقعة في هضبة الجولان عام 1934.
ومن دمشق أيضًا باع "آل العمري" قريتي إجليل، والحرم التابعة ليافا، مساحتها ستة آلاف دونم لليهود.
وتولت أسرة "المارديني" السورية بيع مساحة من أراضي صفد لليهود، كما باعت أسرة "المملوك" في صور في لبنان قريتين في قضاء عكا لليهود، وأيضا باعت أسرة "الأحدب" اللبنانية أراضي لها في فلسطين.
إن مجموع مساحة هذه الأراضي التي باعتها العائلات العربية المقيمة في سورية ولبنان بلغ 625 ألف دونم تقريبا ـ طبقا لما أوردته الوكالة اليهودية ـ موزعة على النحو التالي: 400.000 دونم في مرج ابن عامر، و 165 ألف دونم في أراضي الجولة، و32 ألف دونم في وادي الحوارث، و 28 ألف دونم في أقضية الناصرة وصفد وعكا وبيسان وجنين وطولكرم، وتشكل هذه المساحة نسبة قدرها نحو 2.3% من مجموع مساحة فلسطين، إلا أنها تشكل نحو 6.78% من مجموع مساحة الأراضي الزراعية وفق تقديرات عام 1945، و34.6% من مجموع ما حازه الصهاينة في فلسطين، وهي نسبة كبيرة دعمت الوجود اليهودي في فلسطين.
وقد قام أبناء فلسطين بجهود كبيرة في محاربة بيع الأراضي، وكان للمجلس الإسلامي الأعلى بقيادة الحاج أمين الحسيني، وعلماء فلسطين دور بارز. فقد أصدر "مؤتمر علماء فلسطين الأول" في 25 يناير 1935 فتوى بالإجماع تحرِّم بيع أي شبر من أراضي فلسطين لليهود، وتَعُدُّ البائع والسمسار والوسيط المستحل للبيع مارقين من الدين، خارجين من زمرة المسلمين، وحرمانهم من الدفن في مقابر المسلمين، ومقاطعتهم في كل شيء والتشهير بهم.
وقد نشرت الصحف أخباراً عن اغتيالات تمت في فلسطين لأشخاص باعوا أرضهم لليهود أو سمسروا لبيع أراض للصهاينة، نذكر منها فقط ما نشرته جريده الأهرام في العدد 28 و29 تموز/ يوليو 1937م "اغتيل بالرصاص (...) بينما كان في طريقه إلى منزله ليلاً، وهو مشهور بالسمسرة على الأراضي لليهود، وترأس بعض المحافل الماسونية العاملة لمصلحة الصهيونية، وقيل إنَّ سبب اغتياله هو تسببه في نقل ملكية مساحات واسعة من أخصب أراضي فلسطين لليهود، وقد أغلق المسلمون جامع حسن بيك في المنشية لمنع الصلاة عليه فيه، ولم يحضر لتشييعه سوى بعض أقاربه، وليس كلهم، وبعض الماسونيين، وقد توقع أهله أن يمنع الناس دفنه في مقابر المسلمين، فنقلوا جثته إلى قرية قلقيلية بلدته الأصلية، وحصلت ممانعة لدفنه في مقابر المسلمين. وقيل إنه دُفن في مستعمرة صهيونية اسمها "بنيامينا" لأنه متزوج من يهودية، وإن قبره قد نبش في الليل وأُلقيت جثته على بعد 20 متراً.
علاوة على ذلك قام العلماء بحملة كبرى في جميع مدن وقرى فلسطين ضد بيع الأراضي للصهاينة، وعقدوا الكثير من الاجتماعات وأخذوا العهود والمواثيق على الجماهير بأن يتمسكوا بأرضهم، وأَلا يفرطوا بشيء منها. وقد تمكن العلماء من إنقاذ أراض كثيرة كانت مهددة بالبيع، واشترى المجلس الإسلامي الأعلى قرى بأكملها مثل دير عمرو وزيتا، والأرض المشاع في قرى الطيبة وعتيل والطيرة، وأَوْقف البيع في حوالى ستين قرية من قرى يافا. وتألفت مؤسسات وطنية أسهمت في إيقاف بيع الأراضي، فأنشئ "صندوق الأمة" بإدارة الاقتصادي الفلسطيني أحمد حلمي باشا، وتمكن من إنقاذ أراضي البطيحة شمال شرقي فلسطين، ومساحتها تبلغ ثلاثمائة ألف دونم.
وتتمة هذه القصة الطريفة ونهايتها المحزنة والمخزية أن الصهاينة لم يستطيعوا أن يصيروا سادة. وأن يتملكوا الأراضي الباقية والمدن العامرة والقري الوافرة إلا بفضل ساداتنا الجيوش العربية السبعة، وما استطاع الصهاينة أن يأخذوا يافا وحيفا واللد والرملة وعكا والناصرة ولواء الجليل وصفد وطبريا ومئات القرى الأخرى، لم يستطيعوا أن يأخذوا كل ذلك إلا بفضل دخول جيوشنا العربية الجرارة.
ألم تُبَعْ الأراضي الفلسطينية في الصفقات التي عقدت في أروقة رودس ومؤتمرات الهدنة (1949)؟ ألم يتنازل فيها سمسار العرب الذي يلبس تاج الملوك عن نحو (نصف مليون دونم)؟.
وفي ختام المطاف أرجو أن أكون قد وفقت في الإجابة عن السؤال المطروح في بداية دراستنا.
(*) باحث فلسطيني في التاريخ القديم مقيم في مصر