إن قضية اللاجئون الفلسطينيون وحق عودتهم معضلة كبرى وأساسية ومفصلية في تاريخ الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، مما ينبئ أنها تتعرض لمخاطر جمة وكثيرة في المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية منذ توقيع اتفاق أوسلو وحتى يومنا هذا، باعتماد حلول ما بين التوطين في مكان الإقامة والتعويض أو الانتقال إلى بلد ثالث للسكن الدائم أو العودة إلى حضن الدولة الفلسطينية العتيدة والي تاريخه لم يطبق خيار من الخيارات المطروحة لان حكماء إسرائيل قالوها سلفا سنفاوضهم إلي مالا نهاية .
إلا انه لم تأخذ ذكرى نكبة فلسطين زخماً إعلامياً وشعبياً على المستويين الفلسطيني والعربي وأبعد منهما، مثلما تأخذ هذه الأيام في نسختها الثالثة والستين مفعمة بعبير الربيع العربي الواعد والقلق في آن معاً.لن يستطيع من هو دون الأربعين عاماً، وربما أكثر، أن يتذكّر فعالية شعبية على أرض الكنانة المصرية تحيي ذكرى النكبة، مع يقيننا بأن قضية فلسطين لا تفارق وجدان وعقل وذاكرة الشعب المصري. وكذلك الأردن ولبنان والشعب السوري الواقع تحت أدوات القمع النظامية المستأسدة علية.
الذكرى الرابعة والستون للنكبة، لم يعد يوماً فلسطينياً، بل عاد يوماً عربياً بقيادة مصرية. الفلسطينيون أعلنوه يوماً للزحف إلى فلسطين، وبعضهم ذهب حد التخطيط للصلاة في المسجد الأقصى، لكن ليست الأمور بهذه البساطة واليسر، بل تعترضها ظروف موضوعية جبّارة، ولا نظن أحداً يتجاهلها.
هناك في الأمر بعد سياسي لا يخلو من رمزية من النوع المجدي والمؤثر في تراكمية إحياء القضية الفلسطينية والنفخ في قربة كانت في ما مضى مخروفة، والأمر تغيّر الآن. وبهذا لابد من القول الفصل الذي ينبغي أن يعلمه الكبار لتوريثه للأجيال القادمة.
حيث منذ اتفاقية كامب ديفيد الأولى بين الحكومة المصرية ونظيرتها الإسرائيلية، ظهرت نغمة سمجة تتكرر كلما تصاعدت الخلافات بين الدول العربية بشأن الموقف من الدولة الصهيونية ومن تفاصيل الصراع العربي-الإسرائيلي، حيث يبدأ الحديث الدعائي وترديد الأكاذيب بالتصريح أو بالإيحاء، أن الفلسطينيين هم الذين باعوا أرضهم لليهود الذين أقاموا عليها دولة إسرائيل، مع الإشارة من باب 'الكرم' وإيجاد المبررات إلى أن ذلك تم تحت تهديد المذابح.
والحقيقة أن الكثيرين ممن يتحدثون عن أسطورة بيع الفلسطينيين لأرضهم لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث للوصول إلى الحقيقة، لأن الحقيقة، في الغالب لا تعنيهم في شيء، وما يعنيهم هو خوض مبارزات سياسية كنوع من النفاق للحكومة، وهي غالبا لا تحتاج هذا النفاق ولا تحترمه، لأنه في النهاية يضر بفرص استعادة التعاون والتماسك العربي، ويضر بالموقف العربي وفي القلب منه موقف مصر من القضية الفلسطينية. وكل هذا يدفعنا لمحاولة الوصول إلى الحقيقة في هذه القضية من كل المصادر العربية والدولية وحتى الإسرائيلية، وذلك لأن الحقيقة وحدها، هي المطلوبة لحسم الموقف من هذه الادعاءات.
وبداية لابد من الإشارة إلى أنه عندما كانت البلدان العربية خاضعة لنير الاحتلال العثماني الذي يعد سببا رئيسيا في تخلف البلدان العربية وبالذات مصر وبلدان الشام، فإن الأوربيين والأتراك أصبح لهم الحق في تملك الأراضي الزراعية وغير الزراعية في البلدان العربية التي تحتلها تركيا العثمانية بعد صدور الفرمان العثماني الذي يعطيهم هذا الحق في عام 1876. ونتيجة انتشار المرابين الأوروبيين وبصفة خاصة اليهود في البلدان العربية الخاضعة لنير الاحتلال العثماني (التركي)، فإن رهن الأراضي الزراعية ثم بيعها للأجانب بعد الفشل في سداد الديون، قد توسع بشكل غير عادي نتيجة نتيجة الإنفاق الترفي السفيه لجانب مهم من طبقة كبار الملاك الزراعيين، وأيضا نتيجة الظروف بالغة الصعوبة التي كان الفلاحون الصغار والمتوسطون يعيشون فيها والتي كانت تضطرهم للاقتراض أو رهن أراضيهم تحت وطأة اضطراب أحوال الزراعة بشكل تابع للطقس أو لمستوى الفيضان أو الجفاف، وأيضا نتيجة الضرائب المفروضة عليهم، أو اضطراب أسعار الحاصلات الزراعية التصديرية.
ونتيجة لكل ذلك فإنه في مصر كبرى الدول العربية، بلغت ملكيات الأجانب من الأراضي الزراعية نحو 713.1 ألف فدان في عام 1917، وهي توازي نحو 3 ملايين دونم (الدونم هو وحدة مساحة الأرض في فلسطين والأردن ويساوي 1000 متر مربع). كما كان هناك في مصر في عام 1930 نحو 3.4 مليون فدان، أي نحو 14.3 مليون دونم، مرهونة للبنوك العقارية والزراعية وبنوك الأراضي، وكان جانبا كبيرا منها مرهونا للأجانب، ولولا أن قانون الخمسة أفدنة الذي صدر عام 1913 كان يحظر الحجز على الملكيات الزراعية التي تقل عن 5 أفدنة، وعلى أراضي الوقف أيضا، لكان جانبا كبيرا من أرض مصر قد خضع للحجز والبيع. ولم تنتهي هذه الدائرة الجهنمية من نهب الأجانب لمصر في هذا المجال إلا بصدور قانون تحريم بيع الأراضي الزراعية للأجانب عام 1951، ثم استقلال مصر الحقيقي في عام 1952.
وفي كل الأحوال فإن أي بلد خاضع لاحتلال أجنبي ولا يوجد به قانون لمنع بيع الأراضي للأجانب، يمكن أن يتعرض لاستنزاف أرضه إذا عرض الأجانب من أجل شراء هذه الأرض، أسعارا عالية بدرجة مبالغ فيها تتجاوز كثيرا أي عائد يمكن أن تدره الأرض. وفي هذه الحالة يكون الهدف من عملية الشراء، هو الوجود والسيطرة. لكن حتى في هذه الحالة فإن عمليات بيع الأرض يكون لها سقف لا تتجاوزه، لأنه عندما يتزايد وجود الأجانب ويستشعر سكان البلد أن ملكيتهم لبلدهم مهددة، فإن عمليات البيع تتوقف لأسباب سياسية-اجتماعية، وتتحول إلى قضية وطنية.
وكل ما سبق يعد مقدمة ضرورية لدراسة ما حدث في فلسطين المحتلة، ولنعرف هل ما حدث في فلسطين كان حالة خاصة، وهل أقيمت دولة إسرائيل على أراض اشترتها، أم على أراض اغتصبتها؟ وإذا كانت قد اشترت أي أراض فمن الذي باعها لها؟
عند بدء الهجرة اليهودية لفلسطين فى عام 1904 بشكل واسع النطاق يتجاوز هجرة جماعات البيلو من المتدينين التى بدأت فى ثمانينات القرن التاسع عشر، كانت فلسطين بلد خاضع مثل العديد من الدول العربية للاحتلال العثماني الذي يسمح بملكية الأوربيين للأراضي في البلدان التابعة لتركيا العثمانية. وخلال الفترة من عام 1904-1914 ، هاجر إلى فلسطين نحو40 ألف يهودى استقر بعضهم فى المدن الفلسطينية ، بينما استقر ربعهم فى 47 مستعمرة اقيمت على مساحة 420 ألف دونم (حوالي 100 ألف فدان) تم شرائها بالأساس من مالكين عرب غير فلسطينيين كما سنوضح فيما بعد. وقد مول شراء معظمها البارون اليهودى أدموند دى روتشيلد. وشكلت هذه المساحة، نواة الاقتصاد الزراعي اليهودي في فلسطين. وقد توسع هذا الاقتصاد بشكل سريع مع قدوم موجات جديدة من المهاجرين في ظل الانتداب البريطاني، مع منح سلطات الانتداب لمساحات من الأراضي العامة للصهاينة، وأيضا مع عمليات شراء اليهود للأراضي الزراعية بصورة أساسية من المالكين العرب غير الفلسطينيين أو من المالكين الفلسطينيين غير المقيمين للأراضي الزراعية في فلسطين، بإغراءات المال أو تحت التهديد أو بسبب المذابح الصهيونية ضد الفلسطينيين العرب والتي روعت البعض منهم ودفعتهم لبيع أراضيهم والنجاة بأنفسهم وأسرهم. ورغم كل عمليات الشراء، إلا أن ملكيات اليهود من الأراضي الزراعية الفلسطينية لم تتجاوز 1.6 مليون دونم (نحو 380 ألف فدان)، عند إعلان إنشاء دولة إسرائيل عام 1948، وهى مساحة كانت توازي نحو 11.4% فقط من إجمالي مساحة الأراضي الزراعية في فلسطين والبالغة 14.1 مليون دونم من أصل مساحة الدولة كلها البالغة 26.2 مليون دونم. وهذه النسبة لملكية الأجانب للأراضي الزراعية في فلسطين كانت تقل عن نسبة ملكية الأجانب من الأراضي الزراعية في مصر والتي كانت نحو 13% عام 1917. وهذا يعني أن الصهاينة لم يشتروا فلسطين بل اغتصبوها في حرب عام 1948 وما سبقها من اعتداءات على الفلسطينيين ومن ارتكاب المذابح ضدهم. وهذه الحقائق قاطعة وكافية لنسف الأكذوبة التي يروجها بعض الصهاينة ويرددها البعض في بعض المجلات المصرية عن عدم علم أو سوء قصد.
أما عن الذين باعوا الأراضي الزراعية التي بيعت في فلسطين لليهود الصهاينة فإن المصادر الموثقة تشير إلى أن الملاك اللبنانيين باعوا أراض زراعية فلسطينية كانوا يملكونها وتبلغ مساحتها 388.8 ألف دونم، منها 240 ألف دونم باعتها عائلة سرسق اللبنانية وحدها وأدت إلى تشريد عدد كبير من العائلات الفلسطينية التي تنتمي لعرب الرمل والتى كانت تضع يدها على أراضى الغور التابعة لحيفا. كما باع كبار الملاك الفلسطينيين غير المقيمين أراض مساحتها 359 ألف دونم ، وباع كبار الملاك الفلسطينيين المقيمين نحو 167.8 ألف دونم، بينما باعت حكومة الانتداب والمؤسسات الدينية والشركات الأجنبية 91 ألف دونم لليهود ، في حين باع صغار الملاك الفلسطينيين نحو 64.2 ألف دونم ، وباع الملاك السوريين نحو 56.5 ألف دونم. وهناك نحو 444.1 ألف دونم تم بيعها بين عامى 1936 ، 1945 عبر مبيعات لم تسجل فى سجلات الملكية حتى نهاية عهد الانتداب البريطاني على فلسطين، فضلا عن مبيعات هامشية بلغت 8 آلاف دونم باعها ملاك مصريون، و 8 آلاف دونم باعها ملاك إيرانيون.
ورغم كل هذه المبيعات التى مكنت اليهود من تأسيس القاعدة الأولى لاقتصادهم الزراعى، إلا أن النقلة الكبرى لهذا الاقتصاد الزراعى تمت بالعدوان والاغتصاب عند إعلان الدولة وما أعقبه من نشوب حرب عام 1948 حيث تمكنت إسرائيل من السيطرة على 6,6 مليون دونم جديدة من الأراضي الزراعية الفلسطينية فيما بين منتصف مايو 1948 حينما أعلنت الدولة ونشبت الحرب، وبين ربيع عام 1949 عندما أعلنت الهدنة وذلك بالإضافة الى نحو 1.6 مليون دونم من الأراضي الزراعية كانت بحوزتها. وبذلك ارتفع نصيب إسرائيل من الأراضى الزراعية فى فلسطين كلها من البحر إلى النهر إلى 58.2% عند إعلان الهدنة عام 1949 .
وفضلا عن هذه الأراضى الزراعية المستغلة اقتصاديا ، سيطرت إسرائيل على النقب فى خضم حرب الاغتصاب عام 1948. وإضافة لكل ذلك فإنها سيطرت على الموارد المائية فى فلسطين المحتلة عام 1948 وتحكمت فى توزيعها بشكل كامل واستغلتها لتطوير اقتصادها الزراعي. كما أنها استولت خلال عدوان 1967 على الجزء الباقي من فلسطين (الضفة الغربية وقطاع غزة)، وقامت منذ ذلك الحين وحتى الآن باغتصاب أراض فلسطينية عامة والكثير من الأراضي الخاصة، وأقامت عليها مستعمرات إسرائيلية ضمن استراتيجيتها لاستكمال اغتصاب فلسطين.
وبعد كل ما سبق ألا ينبغي للبعض منا أن يكفوا وإلى الأبد عن ترديد الأكاذيب الصهيونية عن إقامة الدولة الصهيونية على أراض باعها الفلسطينيون لها، وأن يركزوا، بدلا من ذلك على بناء الوعي العربي عموما والمصري خصوصا بكل قضايا هذه الأمة، وبشكل مبني على الحقائق والعلم ولا يبتغي إلا وجه الوطن والمباديء الإنسانية العليا كأساس لتعبئة كل أبناء أمتنا العربية العظيمة وفي القلب منها مصر، من أجل تحقيق مصالحها وأهدافها الداخلية والخارجية والوصول بها إلى المكانة التي تستحقها في عالمنا المعاصر.
اعداد/
دكتور هشام صدقي ابويونس
باحث في الاقتصاد السياسي