خلعت مصر عن نفسها الحكم الملكي واستبدلته بحكم جمهوري فيما عرف بثورة الضباط الأحرار، وكان على المصريين أن يؤسسوا عقداً اجتماعياً جديداً يتم بموجبه الكشف عن مزايا الحكم الجمهوري، والتخلص من مآزق الحكم الملكي...وكان الرئيس اللواء ـ محمد نجيب ـ هو أول رئيس للجمهورية المصرية، والذي تمتع بشعبية واسعة لما عرف عنه من المعرفة والاستقامة والوطنية، وحظيت أقواله كما أفعاله بالاهتمام والنقاش والتفاعل حولها...
مجلة المصور وعلى مدى أعداد ـ كما غيرها من المجلات ـ تناولت أفكاراً أساسية في الحكم منها علاقة الرئيس بالانتماء الحزبي، ورأيه بالبرلمان وما يمثله من سلطة تشريعية وواجبه في مراقبة السلطة التنفيذية، وضرورة استقلاله وحرمان أي فرد ـ حتى رئيس الجمهورية ـ من إمكانية حله..
ينظر إلى آراء الرئيس محمد نجيب بكثير من الاهتمام خاصة في ظل الأوضاع التي رافقت بدايات الجمهورية المصرية، حيث تذكر بعض المصادر سعي أغلبية قيادة مجلس الثورة آنذاك إلى كبت الحريات وتقييد سلطة البرلمان لحساب صلاحيات واسعة للرئيس، حيث كان واجهة لحكم قيادة الثورة الفعلي الذي كان يعمل من خلفه.
من مجلة المصور اخترنا هذه المقتطفات التي تعالج بعض المسائل ذات الصلة بما يجري في مصر والعالم العربي وما يتطلبه من تغيير أو إصلاح في أساليب الحكم التي لم تعد تتواءم مع المتغيرات الداخلية والخارجية ..
*المصور 1954
" قالت بعض الأنباء، أن سيادة رئيس الجمهورية اللواء ـ محمد نجيب ـ سيكون رئيس ـ الحزب الجمهوري الاشتراكي ـ الجديد. ولا نحب أن نصدق هذا الخبر، ونرجو أن يكون غير صحيح للأسباب التالية:
أولاً: لأن منصب رئيس الجمهورية يجب أن يكون فوق الأحزاب. وهذه هي مهمة رئيس الدولة، وهذا هو وضعه فهو في كثير من الظروف ـ الحكم ـ وهو في كثير من الظروف ـ الميزان ـ وـ صمام الأمان ـ عندما تعم الفوضى الحزبية.
ثانياً: إذا أراد ـ العسكريون ـ أن يمارسوا السياسة الحزبية المدنية، وجب أن يتركوا مناصبهم في الجيش، ولقد سبق لهم أن أعلنوا ذلك. وسيادته رئيس ـ مجلس الثورة ـ الذي يتكون من ضباط الثورة . ولا ندري كيف يكون الوضع، إذا تحول الرئيس وزملاؤه الأبرار إلى ميدان الحزبية السياسية.
ثالثاً: تقتضي ـ الحزبية ـ في معركة الانتخابات أن ينزل ـ رئيس الدولة ـ إلى الميدان وأي ميدان.. وما العمل إذا شاءت الاحتمالات الفقهية أن يفشل الحزب الذي يرأسه رئيس الدولة في الانتخابات... كيف يكون الوضع؟ وكيف يكون موقف الشعب؟
وفي رأي آخر عن البرلمان علقت المجلة تحت عنوان " لا تضعوا مصير البرلمان في يد فرد ":
"... أعلن الرئيس اللواء محمد نجيب أنه لم يسر بخاطره في حياته أن يتخذ طريقاً لحكم الشعب غير طريق الحياة النيابية، وقد أهاب بالشعب أن يستمسك بها، لأنها الطريق الوحيد الذي يحول دون طغيان الفرد،وعندما أهاب محمد نجيب بالشعب أن يستمسك بالحياة الديمقراطية دعاه بقوة أن يدافع عنها بماله ودمه وإيمانه.. ولا شك أن هذا هو أعظم ما يقوله رجل جمع في يده السلطات، حتى وصفته بعض الدول الأجنبية بأنه " دكتاتور " إن الرجل الذي يطالب الشعب بأن يحارب في سبيل حريته ضد الطغيان، لهو الرجل الخليق بشرف المواطن، والله لكأني به يصيح في الناس بقولة شكسبير ـ لا يمكن أن يستأسد رجل في شعب، إلا إذا كان هذا الشعب قطيعاً من الأغنام ـ وكأنه يطالب الشعب بأن يكون مجموعة من أسود تذود عن عرينها..
ولم يخلق إلى اليوم أسلوب للحكم يرتفع بنفسه عن السيئات. فالحاكم بشر، ومن طبيعته الخطأ، وقد مرت دول العالم جميعها بغالب أساليب الحكم. فمرت بذلك في تجارب قاسية مريرة دفعت ثمنها من دم أبنائها في أجيال متعددة.. وقد لجأت إلى الأسلوب الواحد مراراً لعلها تجد فيه ملجأ يقيها أضرار الحكم التي استبدلته به، حتى استقر غالب أمم الأرض أخيراً على أن الحياة النيابية هي أفل أساليب الحكم أخطاء. وأي رجل يقول أن هناك حكماً بلا خطيئة.. هو قول يدل على التهور وعدم الحنكة..
ومن أظهر عيوب الحكم النيابي البطء الذي يلازم إصدار التشريعات، ولكن لا ننسى أن هذا البطء يعطينا قوانين ناضجة تتفق وحاجات الشعب.
قد يظن الكثيرون أن خير من يضع القوانين هم المشتغلون بالقانون. وهذا رأي خاطئ من أساسه، فهناك فرق بين وضع القانون وبين صياغته..
ووضع القانون هو عبارة عن فكرته والهدف منها، والقانون يتناول كل فرد إن لم يكن من ناحية فمن ناحية أخرى.. فهو يتناول في أحكامه المالك والزارع والتاجر والصانع والأجير وأصحاب المهن فإن لم تكن هناك مجموعة من كل هؤلاء لتبين وجه الحق فيما إذا طبق القانون على طوائفها ـ ولد القانون ناقصاً هزيلاً ـ ولا يمكن أن تجتمع هذه الطوائف إلا في مجلس نيابي..
أما صياغة القانون فتأتي بعد الإلمام بفكرته وأحكامه، وهنا يأتي عمل المشتغل بالقانون..
لقد قدمت مشروعات قوانين ورأينا آراء أعضاء المجلس تكشف لنا عن أمور كانت خافية عن كل المشتغلين بالتشريع... وجرى عليها التعديل بما يتفق وما كشف عنه هؤلاء الأعضاء..
ولا شك أن رقابة السلطة التشريعية على السلطة التنفيذية هي أهم ما يجب أن تأخذ به مصر.
ولكن هذه الرقابة تصبح عديمة الجدوى إذا أحس النائب أن مصير حل المجلس بيد إنسان.
يجب أن يشمل الدستور من الأحكام ما يحصن المجلس ضد الحل، وعندها يتبين لكم أن النائب سيهاجم كل فاسد ويحطم كل طغيان..
محمد نجيب (1901 ـ 1984)
ولد في السودان لأب مصري وأم سودانية
تخرج من الكلية الحربية بالقاهرة وعمل بالحرس الملكي
درس الحقوق وحصل على الدبلوم وكان يحضر للدكتوراه، وكان أول ضابط في الجيش المصري يحمل هذه الشهادة، أجاد عدة لغات أجنبية.
اشترك في حرب فلسطين 1948 وكان برتبة أميرلاي (عميد)، وأصيب في معركة دير البلح إصابة بليغة في صدره
قاد ثورة 1952 وتولى رئاسة الجمهورية، وكان أول رئيس للجمهورية المصرية (حزيران 1953ـ تشرين الثاني 1954)
برزت خلافاته مع قيادات الثورة بسبب ما اعتبره نزوع قيادة الثورة للانتقام من الصحافيين والسياسيين وزعماء العهد الملكي، فتقدم باستقالته في شباط 1954ووافق المجلس على الاستقالة، لكنه عاد عنها بطلب من قيادة الثورة بعد مظاهرات عارمة اجتاحت مصر والسودان..
عام 1954 أقيل من جميع مناصبه ووضع تحت الإقامة الجبرية التي استمرت حتى 1973 حيث رفعت عنه بأمر من الرئيس السادات.
له كتاب يحتوي على مذكراته وآرائه.
*المصور
مجلة سياسية اجتماعية فنية منوعة مصورة
صدرت في مصر منذ عام 1924 وما زالت تصدر حتى الآن
صاحباها اميل وشكري زيدان