للنشر الإدارة
المشاركات : 3446 . :
| موضوع: قلوب مثقلة بالحجارة. / ندا أبو عساف 05.05.13 15:27 | |
| كصورة موزعة لطفل تائه لا تشبهه ؛
الأمر يبدأ بتقطيبه , لا بأس من السعال , سعلة جافة أو سعلتين , تأوه متوجع وارتجاف في الفك السفلي يغالب غصة ثم تبدأ الخربشة حتى تنتهي الكلمات . ومن حولنا تتطاير الأوراق - أثناء ذلك - في كل مكان للأسفل أنصاف أوراق متآكلة وهائجة ومجعدة بها سطور مشطوبة بعناية وبعضها مثقوب من فرط الضغط على القلم , وسقوط القلم محض وهم , محض كناية عن انتفاء الكلام فحبره تشربته الأوراق وكونت منه بحيرة زرقاء فاضت لتغرق بقية الأوراق , وها هي دمعة تتدلى من عيوننا أخيرا تتجه صوب قلوبنا وتكبر رويدا رويدا حتى تصل حجم تعجز أجفاننا عن حمله لتسقط على الورق مشبعة بالأسى وهذه الدمعة تفسر كيف يتشوه بعض الكلام , كيف تتمزق وتتجعد الصفحات الأولى من دفاترنا وكتبنا القديمة فنعجز عن قراءة صفحات وصفحات وحين نصل للجزء السليم نجد أنه لا معنى له . ويختتم المكتوب بخروج الزفرة وتشوه الكلام , ومرور ساعي البريد لابسا عباءة التخفي .
لم يعد الكلام معبر بما يكفي , أو قادر على الإفصاح , لم يعد سلاحا يعيننا على النصر في حروبنا الكلامية , أصبح متضعضعا أمام الفراغ الكبير الذي حل بقلوبنا فجأة , الفراغ الذي تركوه , ما نكتبه مجرد ثرثرة وضعت فيها رموز تبحث عن يد تفكها .
امسك بورقة وبلل إصبعك بدمك وارسم خريطة لقلبك وحدد المكان الذي قد تكون موجودا فيه الآن , ستختار المنتصف , لأن الهدف دائما منتصف الأشياء . والقمة حلم كبقية الأحلام بعيدة المنال , وبعد المنال ذريعة اعتدنا أن ننفي بها عن أنفسنا تهمة عدم الإصرار .
وكما كنا نمسك بالخرائط في صغرنا ونضع أصابعنا الملوثة بالحلوى ونقول لأنفسنا : حين نكبر سنذهب إلى هذا المكان , وكما كنا نمسك بالأطلس الملون ونتعارك على امتلاك الأماكن فيه مندفعين بجمال الألوان والصور , نكبر وتتلاشى فتنة الخرائط حتى ننسى شكلها , ونتذكر فقط المكان الذي نملكه وكبر معنا والذي كلما كبر أصبح أكثر هجرانا وأقل بعدا , قلوبنا . وأشبه برقعة بيضاء ناصعة , خالية من الأسرار والهموم , والفوضى التي يخلفها الغياب , كانت قلوبنا بالنسبة لأطفال قلوبهم مسترسلة في النور .
عندما أفكر في الأمر بعد كل هذا العناء أين نحن منا وفينا , إن لم نكن في قلوبنا .. أين يمكن أن نكون ؟ أم كانت دقاته تعزف لحن الفناء ؟ ما كان يمكن أن نكون أكثر من كومة صغيرة من العظام المكسو باللحم في هذه اللحظة داخل قلب موجوع خاو مع بضعة أعضاء أخرى تعمل بكسل ونهر من دم يسير كخيط الموت يصعد منها تجاه قلوبنا , هكذا تتقزم قلوبنا راسمة خارطة جديدة - غير التي نحسب أننا رسمناها - لقلب أسود تسود فيه فوضى مشاعر خالية من كل شيء , كل أحد إلا الموتى والشيطان .
ما بال القلوب بدأت تضيق ؟ فما اتسع قبلا لخمس يتسع للسادس , عني كنت قد قررت أن أغير قلبي بقلب آخر يحملني فيه يمنحني الوسع يقرأ آية الكرسي قبل عقلي ليطرد بها الشيطان , بحثا عن الصمت عن الاحتواء عن اللجوء وتبقى المجازفة دائما في الهرب في اللجوء إلى الشخص الثقة , في الانطواء ، كلجوء فتية الكهف وقد قيل خمسة وسادسهم كلبهم وأقول أنا ثلاثة ورابعنا الشيطان . حيث ما زلت أشعر بالأسى نحوهم وما زالوا وان برحت أجسادهم أماكنها ، الدموع التي سكبتها ، كل ذلك الفراغ . كل شيء ، كل الوجود وما أراه ، حتى فنيت جميع الأشياء مخلفة الفراغ , فراغها الذي لم يغطه الغبار بعد بل دار حوله فحسب مشكلا إياه , رسم قلبي خارطته ولم يحدد سوى إحداثيات المقابر ورموز الشيطان .
و تذكرت البارحة أنني لم أعد نفس الإنسانة فسخطت على مرآتي . فأنت لا تعرفيني ، تعتقدين بأنك تعنيني ، لكنك تعنين بذلك أخرى , تعودت أن تسوف أفعالها , وعلى جبهتها كدمة واضحة كعلامة فارقة تخلد ارتطامها الأول بالبؤس , فهي إن لم تعن البؤس الفعلي الحقيقي فهي تحذرها من حافته . ضيعت حياتها كلها تعتقد بأنها مجرد نفسين لا أكثر في جسد واحد , وما زالت تتأمل الحياة لنفسين وتتألم ألم نفسين . أنا نسيتك ونسيت بأنك كنت موجودة , ونسيت بأنني نسيتك فعلاً , آسف فلم يعد في مقدوري أن أحاول أن أستردك . فكيف أسترد شيئا نسيت أنني نسيته ؟
.
حين يكون الكون مناسبا للذين يحبون التعامل مع وفي الظلام ويتقبلون كل شيء بالعمى دون حتى أن يبصروا .
اليوم لم يولد بعد , يا ترى أين ذهب الصباح ؟ إذا لم يحدث له مكروه ففي الغد كيف سيبررون لنا غيابه ؟ على مدى سنوات طوال كان الصبح يصبح والشمس تشرق والفلاح يسابقها نحو حقله فتبا لفلاح تسبقه الشمس لحقله , وأبناءه يلعبون مع ضوء الشمس يطاردونها ويتتبعونها مدفوعين بالبرد القارس وأمهم تهرب منها نحو الظل بعد أن لفحتها حرارة التنور , حتى أن خبزها اليوم أبى أن ينضج فتكور عجينا متفحما كـ كسوف الشمس كيف يغيب الصباح ؟ عن الحوائط التي نخرتها أشعة الشمس . عن المُقعدة التي اعتادت أن يوقظ عينيها ضوء الشمس . وبقايا سنابل قمح منهارة تنتظر حرارة الشمس لتمتص عنها ثقل الندى . وأصص الزهور ترقب شمسه لتتبعها لتكسو الشرفات زهورا تغوي بها اليعاسيب لتخرج من خلاياها . عن الظلام ونجمة الصبح . وابتداء من الغد سيعلن الوجود الحداد ظلام إن لم يعد الصباح . وفي الغد قالوا أن الشمس دارت حول الصباح وغربت عنه !
.
وملوحا ببقايا يده فلم يعد يملك السيطرة على أغلب أصابعه يسأله مودعا : متى عدت ؟ الوحدة جففت خلايا ذاكرته ؛ نسي العجوز اسمه وعمره , وحين نودي عليه لم يجب , سألوه عنه فقال : لا أظنه موجود . لم يعد يعرف من هو بالتأكيد وحين توجه بالحديث مع آخر لم يتلق منه قبولا لصمم الهرم وليس لعداوة كما ظن . عاد غير موجود وحيد تجفف الوحدة خلايا ذاكرته وحين عاد الغائب يحدثه , نظر إليه وسكت ؛ نسي مهارة الكلام .
.
و كما يعرف الأعمى طريقه وكيف حين يصل يجلس يتحسس آسفا خدوش عصاه , وكيف يسأل بلسانه وأنامله المحترقة : هل برد الطعام , الشاي ؟ وكما يحشر اللصوص الجائعين الصغار الهاربين بقطعة حلوى من البقال , برغيف خبز من الخباز أجسادهم الصغيرة في الأزقة الضيقة وفي النوافذ المشرعة ليبرد كعك الأمهات الساخن, ليجف الثوب الوحيد الذي يملكنه , وبين الأقدام في الزحام , وكما يتقن اللصوص إخفاء أثرهم , وحدها النسور تعرف متى ينضج الطعام فمن تاه في الصحراء أعياه الظمأ والمسير سقط حلقت فوقه النسور وحامت حوله الأفاعي , تعرف بأنه سيموت لكنها تنتظر خروج روحه حتى يصبح طعاما جاهزا .
.
وحدهم الملوك يدخلون كل البيوت , يصافحون كل البشر يشاركونهم الحب والكره ,البخل والجشع والألم والمعاناة , متنقلين في كل الأمكنة من البنوك حتى محلات بيع الخردة . يستضيفهم الناس بحفاوة , يستقبلونهم في الخزائن العصية على أطول يد, والمحافظ المربوطة بحبال في معصم اليد , وفي الجيوب الممزقة , وغطاء رأس الجدات وصدورهن وربما جواربهن , محشورين في حصالة طفل يعلمه أبواه الادخار , أو في عين دميته المفقودة , يصافحهم البخلاء كل يوم حتى يطمئنوا أنهم لم يرحلوا , يكرمونهم ويبكون بحرقة رحيلهم , ويأبى الكرماء استقبالهم .
.
مثل سبحة معدودة الحبات هو الكذب محصورا . حين كذب كان صادقا جدا , لأنه طالما كان صادقا حتى اكتسب ملامح الصادقين , فقط لأن فرصة الكذب لم تسنح له من قبل . ظن أن الكذب في غاية البساطة غير أنه معقد للغاية , جربه رهيبا والحق أنه جلب له المتاعب ما إن جربه تعرف صفته الخاصة تعرف كيف يرتفع حاجبه وكيف تزم شفتيه وكيف يثرثر بعد كذبته كي يؤكدها , الحيل والمشاكل التي وضعه فيها , الصدق الذي قابله في حين كان مستمرا في الكذب , والكذبات اللاحقة التي تكبر شيئا فشيئا ليحافظ بها على صدق كذبته الصغيرة , حتى اكتسب ملامح الكاذبين . فرص الصدق يصعب التقاطها رغم أنها سانحة للجميع .
.
الأشياء التي تمنحها الحروب للجند سواء هزموا بأحسم الأسلحة , أو انتصروا . احتضار بطيء وأوسمة وألقاب ترفض أن تتنازل عنهم وصور قديمة وربما نصب تذكارية وبنادق بأسمائهم تعلق في المتاحف , حتى الرصاصة التي تستخرج من أجسادهم تغلف وتعطى لهم كذكرى حرب تجددها كلما نظروا إليها يشعروا بالألم وكأنها عادت تخترق صدورهم من جديد , ومشاهد تعود تسلبهم نومهم وتسلبهم النسيان والكثير من الأمن والسلام الذي يتوفر عادة حين ينتصف الليل . وتأخذ منهم في المقابل أرواحهم أو بعض أطرافهم , وتلومهم بعقد مقارنات بين هباتها والمقابل .
.
قلوبهم مثقلة بالحجارة .
وبعض ورد ممزق جاف حمل لمسافة طويلة تعب حامله وألقاه في قلوبهم من ينفث فيه روح الحياة وأريجها ؟ ذلك البدين الذي قتله اليأس , لم تسعه الأبواب الدوارة يدخل من المخارج وأبواب الطوارئ , وحين تحطم الكرسي تحته عرف أن البدناء لا يمكن لهم أن يتظاهروا بالرشاقة . والأطفال الذين تغسل لهم أمهم أفواههم بالصابون حين ينطقون بكلام سيء , كبروا وما زال طعم الصابون في أفواههم مرا كلما تحدثوا فركنوا إلى الصمت . ذلك الصبي الذين لا يملك فسحته انتظر بحالة أثيرية الريح لتسقط له التفاحة الوحيدة المتدلية من الجذع وحين سقطت اكتشف أنه حين كان ينتظر سبقته الدودة إليها . ذلك الذي لم ير البحر تخيله , تحدث عنه , وكيف أنه مستودع أمين لكل ثمين . وحين رآه البحر ابتلعه . وتلك التي تجلس بجانبه تتظاهر بأنها تطرق الباب وتنطق " طق , طق " لم تفهم بعد أن أبواب القلوب غير مسموعة . وصاحب الإصبع الوحيد قطعه بعد أن عضه كثيرا , قطعه ليحرره من آلام الندم التي لا تحتمل . ذلك الطفل الذي انتهت به حياة الطهر والسذاجة حين تعرف ذلك الموت الذي يتسلل في الهواء وفي الماء وفي شجرة كيف يموت الناس في التلفاز كالذباب , بعد أن مسك بالمبيد وظنه محض لعبة تعجب كيف قتل كل هذا الكم من الذباب ؟
.
منحنون , منحنون ولكنهم غير مقصومي الظهر .
أولئك الذين ما زالوا يدفعون من أعمارهم الكثير مقابل حصولهم امتياز حضانة بينهم , التقطوهم أيتاما تائهين يطرقون أبواب الحنان ثم مع مر السنين نسوا انعدام أواصر القربى مدفوعين بالحنان والعادة , ما زالوا خائفين رغم هذا يدفعون من أعمارهم . أولئك الذين يقفون يسألون عن سعر هدية ثمينة يقدمونها لأمهاتهم , لزوجاتهم يدسون أيديهم في جيوبهم حين يخرجون خائبين كما يدس المرء يده العاجزة في جيبه . أولئك المرضى بالشك وزعوا كرههم ومقتهم غير أن شكهم لم يكن قويا على أية حال لأنه تلاشى بسرعة حين سألوا أول أسئلتهم وتلقوا الرد تخلصوا منه وعادوا يستردون كرههم الموزع , ولم يعده لهم أحد . أولئك المرضى المنهكين الذين بشروا بأنهم سيتمتعون بصحبة أمراضهم فصلا آخر . أولئك الذين هربوا من الزلزال عادوا آمنين في العام التالي متيقنين أن لا تغيرات في زوايا الشارع .. سوى حفرة ابتلعته كله , وأن الأرض لم تعد جائعة , وذلك الذي عاد معهم زار قبرها , شعر بالهزة , ظنها إشارة منها حتى تزلزت بهما الأرض لفظت جثتها ودفنته بجانب قبرها . أولئك الذين تعبوا من مواساة أنفسهم , خلقوا لهم بدعا غريبة خلقوا منها لأنفسهم أملا يحاول بشجاعة أن يواسيهم .. لكن عبث , فالبدع تبقى بدعا . أولئك الثرثارون يخفون أوجاعهم بالثرثرة كانوا في عجلة من أمرهم في البحث عن النسيان السهل حتى فقدوا أرواحهم وما زالوا يبحثون عنها , ثرثروا ليملئوا الفراغ الذي ينتج عن غياب الروح , هم نفسهم أولئك الذين يبحثون عن العزاء في الثراء , فباعوا الكلام , و اللا محسوس واللا مرئي من مبادئهم , مشاعرهم ومن كلامهم وحتى حركاتهم , ظنوا أنهم سيشترون العزاء وحين خابوا فطنوا أنهم خسروا كل شيء حتى وجوههم فأصبحوا يلونونها كالمهرجين بخدين ورديين وفم أحمر وحواجب زرقاء متنكرين مستترين يهربون من البشر ومن ذواتهم .
طالما عانت الشوارع من زحمة العائدين إلى ديارهم .
وحدها القرى لا تنجب الشوارع , ولا تتحمل عناء تجميلها والبحث لها عن أسماء . وحدها القرى تنام في أعماق الليل دون أن يصافح نور القمر وجوه ملامحها السهاد والأرق , تعرفهم النجوم قبل أن يتعرفوا عليها ولا تصافح شمسها في الصباح وجوه عابسة . وحدها منازل القرى تتجمع حول قباب المساجد ومدفع العيد , يخبز فيها الخباز خبزا مقدرا بعدد , وتسهر في ليلها الأم تمسك بقطعة قماش مبللة لتخفض حرارة ابنها . وأخرى تهز سرير طفلتها , السرير الذي تناوب على النوم فيه كل أطفالها . وفتاة تقوم بأشغال الإبرة تسمع المذياع وتنتقل معه إلى عالم آخر لا تفقه منه الكثير حتى يعيدها وخز الإبرة . وحدها القرى لا يباع ربيعها ورودا في الأسواق , ويحتمي أهلها من قيظ الصيف في ظل أحد المصاريع المغلقة ليدخل الهواء من الآخر , ويغزو خريفها بأوراق الأشجار المزروعة في دورهم حتى أطباق طعامهم . وحدهم الفلاحون في القرى يبذرون البذرة وينتظرونها حتى تزهر ثمرة ناضجة . وحدها الأرواح في القرى تسري إلى ربها خفيفة مطمئنة .
النص نشر باسمها رحمها الله في كتابها رماد أثأب وكتابها الآخر أحياء محنطون حياة معطوبة | |
|