1
وزارة الأحلام (رواية)
محمد الأصفر
إهداء
إلى آمال ومهجة وجبير
عام 2000 م كتبت نصا قصيرا عنوانه تجدد، نشرته في بعض الصحف الليبية وفي بعض مواقع النت، وصدر ضمن مجموعتي القصصية حجر رشيد وضمن روايتي سرّة الكون، يقول النص:
"أرجعـت الذاكرة إلي الآن، فابتسمت، أشعلت سيجارة، نفثت منها بطريقة متواصلة، المنفضة بعيدة وأنا كسول، أوقفتها على عقبها فوق البلاط، تتبعت الجمرة وهي تهبط وتحرق ما يعترضها حتى وصلت إلي القطن، انطفأت بسهولة فكرت..
لماذا لا تستخدم هيئة المطافئ القطن في الإطفاء؟!
لكن قلت لنفسي: مالي ومال القطن.. خليني في همي.
أحبها وتحبني ونريد أن نتزوج والظروف الآنية قاومـتـنا.
ذهبت هذه المرة بالذاكرة إلي الأمام، يبدو أنني توغلت كثيراً في هذا (الأمام) وجدت نفسي ممسكاً بعكاز وهي بجانبي تتكئ علىّ وتسير ببطء وبعض الخصلات البيضاء تبزغ من رأسها كسحاب خلفه سبورة.
أكتـب بالطباشير: اللحم، العظم، الشعر، الظفر، كلها ليست قطنا.
تأملت رأسها الواقف على قاع السماء وتمتمت:
ما كنت أدري أن للزمن أفواه تمتص بنهم.
يـا رب.. يا خالق كل شيء.. يا مدبر الأمر.. سلمني حياتي دفعة واحدة.. طفولتي شبابي.. كهولتي.. شيخوختي.. أعطني حرية تشكيلها فأنا حر.. أريد أن أبدأ بالشيخوخة لأن من أحب التقيت بها بالأمس وفرقتنا ظروف الآن.. واجتمعنا في الغد.. هي الآن تسبح بجواري دون أي مشكلة دون أي ظروف، نضحك معاً، نبكي معاً، نصعد درجات العمر معا، نلجم أفواه الزمان معا، نستأصل نهمها، ليكون وصولنا عودة لأرحام أمهاتنا، ولكن أين هي الأرحام التي ترضى أن تئد؟!!".
أنظر الآن إلى شاشة حاسوبي.
أتأمل الطفلة التي تحتلها، لن أعلن حرب تحرير، احتلالي من الطفولة ينفعني، أشحذ أصابعي، وأواصل الكتابة في خيالي متأملا في طفلة شاشتي، طفلة طازجة تنظر إلي بعمق، لا أفعل شيئا حيالها سوى مبادلتها النظرة بالمثل، عمر نظرتي تجاوز الخمسين عاما، عمر نظرتها عامين وربع فقط، من فمها يتقاطر الحليب اللعاب الابتسامات، من فمي تتقاطر الصرخات.. الآهات.. الأحلام.
قطراتها ممكنة التحقق، قطراتي أشك أنها ستتحقق، القطرات أحلام، أمال، نحلم، ننتظر، ربما لا ننتظر، نحلم، الانتظار ربما لا ينتج حلما، وربما لا يعني ذلك أن العُجالة تنتجه.
ها أنا هذا لا انتظر، ها أنا هذا لا أحلم، ها هي الطفلة تحلم، وأحلامها تصعد إلي، تتحقق بأسهل من السهولة، أحلامي تهبط وشبه استحالة أن تتحقق، لن أغرس دفء الأحلام في تراب الزمن، سأغرسه في تراب روحي وأتمرغ عليه، وأنام عليه، وأحلم أثناء نومي بأحلام عشوائية لا أختارها، اتركها تختار كائني النقي، تمارس على حصير سباته ألاعيبها، سأصحو بعد كل غفوة لأغتسل من عفن الأحلام ثم أنطلق زاحفا صوب الشمس أو القمر وإن لم أجدهما فسأبكي وأسكت وأنصت وأرى فلا أحس بأحد إلا بهذه الطفلة التي تنظر إلي بعمق فأبادلها النظرة ذاتها، لا أكثر ولا أقل.
أواصل اللعب بهذه السعادة، لا أحطمها حتى عند الارتواء والملل، لماذا نتحطم نحن دائما؟ هل هناك من يلعب بنا حتى يشبع ويرتوي ويمل؟ وهل اللعب طعام وشراب ولذائذ متنوعة؟، دعونا من طرح الأسئلة ولنركلها بعيدا عنا.
نظرتها العميقة لا تشعرني بملل، إذن كل ملل أشعر به سأعتبره مزيفا، سأجدد نفسي، وأصلح من حالها، سأبدع طرقا مبتكرة للفرح، نظرتها العميقة منجم من المعنى، أحفر فيه بأنوار روحي واستمتع.
الأطفال لا يتسببون في الملل لأحد، خيالهم متجدد، روحهم متجددة، يرتقون ولا يضمحلون، سأنظر إلى هذه الطفلة بكلي وعندما أشعر بالتعب ارتاح قليلا وأعود للنظر إليها، ستكون دائما أمامي، نظرتها العميقة انتقشت في ذاكرتي، صارت نقشا مشرقا بازغا بصورة طرية كفجر أو كأي شيء يجلب السرور.
كتابتي عن الطفلة ستأتي جميلة بمذاق نفسي، كتابتي عن نفسي أشك في جمالها رغم الجهد المدعوم ببعض الموهبة والخبرة وأدوات الكتابة والأدب.
دعوني أثرثر، أتفلسف في جهل وغباء قليلا، صرت الآن تيسا كبيرا، أقصد كاتبا معروفا مشهورا، يمكنني كتابة أي هراء دون وجل أو خجل ودون أن يحاسبني القراء أو يقللون من شأني، الأحلام ثابتة، لكن فعل تحققها من عدمه هو المتغير، البكاء واحد وأسبابه متغيرة، الرغوة واحدة، لكنها في اللبن تختلف عن البيرة، وفي الشاي تختلف عن البحر، أقصد زبد البحر، الطفلة إنسان وأنا إنسان، لكن زمننا ـ على الرغم من أنه زمن واحد ـ متغير ومختلف، العمق واحد لكن منتجاته متغيرة ومختلفة، الطفلة تنظر إلي بعمق وأنا أفعل أيضا، لكن ما يعتمل في رأسها بعد النظر يختلف عن ما يعتمل في رأسي.. لقد تصدع رأسي من الشرح، لقد شرحت لنفسي الآن درسا في الكلام الفارغ وما ينتجه من نتائج مؤثرة في كل شيء، إنني أضيْع الوقت، كتابتي حتى الآن سيئة، أعدكم أنها ستتحسن قريبا، فقط الآن لم أعرف كيف أدخل إلى موضوع الرواية، مازلت استدرجها للخلق، لن أتوقف عن الكتابة وسأكرر المحاولة من زاوية أخرى، لن أحذف الحشو الماضي، ربما يكون جيدا بعد اكتمال الرواية وامتشاق سياقه المناسب، سأمنحه فرصة الحياة، لن أتعب في ذلك، لن أخسر شيئا، الكمبيوتر مريح، وضغط حروف لوحة المفاتيح أكثر راحة، وطنجة التي أنا فيها الآن رائعة، الوقت فجر، والمكان هادئ وساكن، وبجانبي زجاجة ويسكي صغيرة، من اللاتي يمكن وضعها في جيب السروال أو الجاكيت، شراب السعال الذي اشتريته من مطار تونس استهلكته والحمد لله، بفضل الله والدواء شفيت من السعال وأسرع من شفائي إفطاري الطنجاوي على المسمّن الساخن بالعسل الأصلي وزيت الزيتون والآتاي الأخضر بالنعناع، الفجر يؤذن الآن وسأكون سخيفا وقذرا ولا أستحق الحظ البهي لو أني أخذت رشفة من زجاجة الويسكي، سأسكب ما تبقى فيها في المرحاض وألعن القلب الذي أبى أن يطاوعني.
الآن:
أنظر إلى أذن طفلتي بإمعان.
في أذن الطفلة قرط ذهبي صغير، في أذني ثقب أقفلته بثور الزمن، آه من الزمن وبثوره التعيسة وآه من طفلة طازجة تنظر إلي بعمق، وماذا أفعل حيال نظرتها إلا أن أغسل نفسي في صفائها؟!.. خلعت ملابس نفسي، رميتها في ماء النهر، دخلت صفاء طفلتي كي أغتسل، غرقت في صفائها الذي يسحرني الآن، ويمنحني هدوءا نسبيا، سأترك عمقها الظريف يتأملني، العمق الذي لم يترهل بعد، أحتاج إلى هذا العمق الطازج الآن، سطحي مخدوش، مخدد، مسمّر على حصير وسط ظهيرة صحراوية مغبرة، الملح الذي ينز ممتزجا بعرقي يشربه الهواء لتكون وجبة نسيمه بمذاق البحر.
آه سجّل:
الإنسان بحر.. البحر عميق.. مظلم.. مالح.. غامض.
لو كان الإنسان عذبا للثمه النحل ولتحصلنا على توليفة جديدة من أنواع العسل:
عسل ربيع الإنسان..
عسل خريف الإنسان..
عسل صيف وشتاء الإنسان ولكلٍ بالطبع فوائده الجمّة.
لكن الإنسان يطرد النحل، لا يحتمل لسعه إلا على مضض ولغرض الاستشفاء.
أحتاج إلى هذا العمق الصغير الطازج الآن، سطحي مضـبـب مسمّر على حصير وووو إلخ، العمق الصغير الطازج لم يفسد بعد، مازال محتفظا بسِمَة البراءة التي خلق عليها، لم ينتج ذنوبا لا تصاحبها توبة نصوح، لم يتلوث بالأخطاء المقصودة أما العفوية فتلوثها لا يضر.
***
وأنا مشدوه أتمتع بجمال عارضة أزياء تايلندية تعرض رشاقتها على شاشة التلفاز، كسرت هذه الطفلة نظارتي، جذبتها فجأة، ورمتها بشدة على حافة السرير.
هل غارت الطفلة من تجاهلي القصير لها؟
هل كبرت فجأة في لحظة لتصير زوجتي؟
حافة السرير تألمت، صرخت:
وما دخلي أنا يا شقية؟ حطميها على عظام جمجمته.
قرصتْ حافة السرير الباردة، وابتسمتُ للطفلة معتذرا من القلب.
الآن نظارتي عوراء، ركنتها في درج الذكريات، سأهديها للمسيخ الدجال إن حضر، أو إلى السيد موشي دايان إنْ تاب عن الجرائم التي ارتكبها في حق الضعفاء، لن أصلحها أبدا لدى محل النظارات، لن اشتري بديلا عـنها، شيء يكسره الأطفال علينا أن نحترمه، نعتبره رسالة من الفطرة الربانية.
آه من جديد، واصلت القراءة كما ذي قبل من دون نظارة، الحروف الصغيرة تكبر لي لتلائم مقاس بصري وبصيرتي والكبيرة فوق الحد تتواضع قليلا وتصير متوسطة الحجم، نظرتي هي نظرتي، لا تكبر أو تصغر مع الحروف، لكن مع هذه الطفلة ذات العامين وربع جربت أن تصغر، هبطت من سلم الخمسين للأربعين، للثلاثين، وجدت الظروف حلوة ولذيذة، واصلت الهبوط للعشرين ثم العشرة الثمانية الخمسة فالأربع سنوات.
لولا نظرة الطفلة التي حذرت نظرتي كي لا تنجرف أكثر إلى تحت فتتجاوز العام الواحد وتكون صفرا وأرقاما عدة تحت الصفر العمري لكانت نظرتي قد تجاوزت في هبوطها العام الأول من عمري، وربما والله أعلم أكون قد ولجت رحم أمي وخصيتي أبي، لأضيع في عوالم المضغ والعلق والأصلاب والترائب والظلمات وما قبلها، عوالم مجهولة صعب تخيلها لأنني لم أعشها والحلم بمجرد تصور لها لا يضيء الطموح.
عندما كانت نظرتي تنجرف بسرعة سعيدة إلى أسفل دون انتباه للمحطة المقصودة الواجب التوقف عندها تلقتني الطفلة براحتيها الطريتين الغضتين لأكون معها في هذا العمر، عامين وربع، تنظر إلي بعمق، أنظر إليها بعمق، الحقيقة صرت في هذا العمر الصغير لا أفهم كلمة عمق، سألت الطفلة فأجابتني أنها أيضا لا تفهم، ستسأل الآبار التي حفرتها في الرمل على شاطئ جوليانا وتجيبني، لكنها فيما بعد أخرجتني من ملكوتها الزمني، لم تذكر لي السبب، لكن فهمت تلقائيا أني انجرفت إلى أسفل وفي رأسي كل همومي وإرثي الذي جمعته في رحلة نموي في الحياة.
كان لزاما في بادئ الأمر أن اغتسل أولا من ركام ومرارة الخمسين عاما وأكثر، وأنجرف إلى تحت بهدوء حتى أصل إلى هذه الطفلة، وفي لحظة الانجراف أرمي لكل عقد عشته من الزمن وجبات همومه وعلومه وخبراته وعُهدته التي أتحفني بها، كان لزاما ولزاما ولزاما زمن الانجراف أن أقذف بمكتسباتي إلى كل يوم عشته سابقا، حتى أصل إلى العامين وربع بمتطلبات واحتياجات وشجون العامين وربع فقط.. لكن لم يحدث ذلك، وعلى الرغم من ذلك تمتعت كفاية، لم يمنعني ثقل رأسي الذي هبطت به من تذوق المتعة، وأنا أهبط شعرت أنني أخف وأشف، وعندما كنت معها شعرت بطفولتي، بحثت عن أمي لأرضعها فلم أجدها، ناولتني الطفلة إصبعها فامتصصته وكدت أعضه من فرط الحلاوة، وفعلا كنت طفلا على سجيتي وعضضته، فصرخت الطفلة، وجاءت أمها من المطبخ تجري، ضمتها إلى صدرها وأخرجت لها ثديها وألقمتها حلمتها فنامت الطفلة فورا، ونمت إلى جانبها فورا، في هذه الأشياء أحب كلمة فورا موت، نمت لا داريا بالزمن وهو يمر، لقد تجاوزت الساعة الآن ميقات عمري، نظرة الطفلة مازالت تثيرني، عمقها مازال يتعمق في روحي، لقد وصل إلى الماء وتجاوزه وإلى النفط وتجاوزه وإلى العصب والعظم والنخاع وتجاوزها، لقد تعمق في عمقي حتى اخترقني وصرت عبر هذا العمق مخترقا من نظرة طفلة، إنْ كَبُـرَتْ وكبِرتُ أنا فلن نلتقي، وإن هبطت إليها وكَبُرتْ هي أيضا لن نلتقي، وكيف هو اللقاء إذن؟، هي على الورقة الآن، في أعلى الورقة، في أسفلها، بين السطور، ممتزجة في البياض في الحبر في كهرباء الحاسوب، الطفلة عندما هبطت إليها أخرجتني من ملكوتها، لديها لا وعي يعمل، جعلتني أشك في براءة الطفولة وفطرتها، جعلتني أشعر أن في كل طفل شيطان وملاك، يتشاجران يختلفان ويتفقان ليقوم كل واحد منهما بدوره المرسوم له من قبل الرب.
لا أدري هل الملاك قبِل بهبوطي والشيطان قرر إخراجي أم العكس؟
ليس معنى ذلك أن الملاك في الجانب الموجب من منظور الحياة وأنه لا يضر أحدا.. أحيانا تفعل الأرواح الطيبة أخطاء غير مقصودة، فالملاك مخلوق وليس إله أو نائب إله أو حتى نبي معصوم من الخطأ حسب ما أخبرت به النصوص المقدسة.. كثير من الناس أضرت بهم الملائكة ونفعتهم الشياطين، تأملوا في الحياة وستجدون أمثلة.
أنا حزين جدا، الطفلة أبعدتني وعدت إلى حقيقتي، عدت إلى موقعي فوق الخمسين، يائسا بائسا حائسا مذهوب الشيرة وسعيدا جدا بهذا البؤس واليأس والحيسان وذهاب التركيز عني لأن سببه طفلة عميقة، ولأني أيضا وجدت شرابا روحيا منعشا فوق الثلاجة فتأملته بنظرة عميقة جدا، ثم لعنت الجميع، لعنتهم بحب، بطريقة لعنة غلاء ما فيها داء.
عدت إلى جهاز الحاسوب، وضعت صورة الطفلة على شاشته، انهمكت أتأملها وهي تتأملني، لا أتكلم، هي تتكلم، بأصابعي أنقش مشاعري نحوها، أمتص مشاعرها نحوي، الحروف سعيدة، ترتقن على الشاشة ببشاشة وانسيابية، الطفلة تتأملني، في نظرتها عتاب ما، تحاول أن توصلني رسالة ما، آه من دهاء الأطفال، آه من بريدهم الساطع الصدوق الحدس، لا أستطيع خداع طفل وبإمكاني خداع العالم.
لو أضفنا جملة ـــ كما تخدعه الشعارات بأنواعها ــ ستكون الجملة تقريرية، لكن لا بأس من هذه التقريرية عندما تأتي في مكانها أو محلها، فاللتقرير جماله الخاص.
***
أحتاج إلى طفلة غبية كي لا أحترق من عمق نظرتها، هل الغباء برودة أم خرطوم مطافئ يرش جريش ثلجه على ضياعي؟!
ربما يكون الغباء أشد وطأة على النفس من الذكاء، لكن قد يأتي هذا الغباء على صورة:
بساطة صدق شفافية تلقائية فطرة سذاجة، فيكوي مشاعري أكثر ويشعل آلامي ويُكئِبها، سأنظر إلى الطفلة كما تنظر إلي، نظرة عمق جذابة، تسعد دواخلي، تبهج ظواهري، الأطفال يجعلوني ابتسم حتى وهم نائمون في مُهدهم، الفكاهات والطُرف وكل كوميديا ألوان الطيف غير قادرة على جعلي ابتسم، بل تزيدني عبوسا على عبوسي، أحيانا أضحك لموقف طريف فـُجائي يحدث أمامي، أضحك من دون أنْ أبدأ الضحكة بابتسامة، أضحك فجأة وأبتلع الضحك فجأة، أضحك بدون صدى، لا أسجل في ذاكرتي هذا الموقف، الذي لم أبدأه بصورة طبيعية، أي بابتسامة تتسع تدريجيا:
تحرث اللسان
تبذر اللهب
تشرح النفس
تعزف على أوتار الحنجرة ألحان ضحكتها.
نظارتي كسرتها الطفلة، فرحتُ لذلك كثيرا، الحروف التي أقرأها فرحت هي الأخرى، كانت حزينة بسبب هذا الحاجز الزجاجي، الآن تتواصل مع دموعي مباشرة، تتواصل مع نور اختلاجاتي مباشرة، لقد أنهكها العازل الزجاجي الواقف حجر عثرة أمام خصوبتها، شج كيانها، أدماها، عبث بها بالتكبير والتصغير، أي التقعير والتحديب وزدْ الاستواء، لكن بواسطة هذه الطفلة استطاعت الحروف أن تضع حدا لهذا العبث، فأعادت الزجاج إلى حظيرته المعهودة:
في كؤوس المطابخ والحانات
في الأطباق
في القوارير
في المرايا
وآه من المرايا !!
في الأبواب والنوافذ
في قصور سليمان وبلقيس وغيرهما.
لقد أبعدته الحروف الشجاعة نهائيا عن عتبات المآقي، كي يتاح لها رؤية العيون مباشرة، كي تحس العيون بدفء الكلمات ونبضها، وتحس الكلمات بحنان العيون وبريقها وردود فعلها وحتى بللها المالح.
ربما الحرف ذكر
ربما الحبر أنثى
ربما النظرة أنثى والعيون ذكر
ربما العيون أرحام والحروف أجـنـّـة
ربما تموت الحروف في مذابح أو بصورة طبيعية
ربما تموت فجأة من دون سابق إنذار
ربما الطفلة تـمرح الآن
ربما الطفلة تحلم الآن
ربما الآن قد أنجبت بالسلامة
ربما لم تمت هي ولا الحروف أبناؤها
ربما الحروف تبكي ثم يغلبها النعاس
ربما ترضع الحليب
ربما تنمو وتكبر
ربما تشق طريقها في الحياة
ربما تعيش الآن عبر شعب كامل مضطهد داخل كتاب
ربما تتجدد مع الزمن
ربما تنتقل من طبعة إلى طبعة
ربما تتحول إلى هيأة إلكترونية
ربما يعيش بعضها في صدور العالمين إلى الأبد
ربما تنتقل من صدر إلى آخر
ربما إنْ مات القارئ تحولت على قبره إلى أزهار متألقة
ربما لأن غذاء الأزهار هو النور وليس الماء
ربما لأن لا أزهار تعيش في الظلام..
ربما لأن في الظلام لا نرى الأزهار ولا حتى نتلمسها..
ربما نشم أحلامها فقط فنشرع النوافذ.
***
حكاية"ربما"هذه حلت لي المشكلة، أدخلتني إلى صفحات جديدة من هذا العمل بسهولة، أحيانا ألجأ إلى كتابة شبيهة بالشعر، ليس رغبة في إبداع الشعر، لكن كي أتقدم أكثر في العمل، الطفلة قالت لي صح، أنا أيضا أفعل ذلك، كيف تفعل ذلك؟ لا أدري، لكن أحس أنها صادقة، فلكل عمر قصائده، وقصائد الأطفال هي الأجمل، لقد نسيت العديد من القصائد التي قرأتها ودرستها في المدرسة ولم انس فلنقل ابتسامة طفلة صغيرة.. لا.. لا.. سبق أن حكينا في هذا الموضوع.. ولنعدل الجملة إذن بـ:
ولم ننس أغاني الأطفال التي استمعنا إليها عبر مسلسلات بداية المساء في التلفاز الليبي أو التي يتغنى بها الأطفال في الشوارع والأزقة والمدرسة في المناسبات الدينية مثل:
طلعت يا محلى نورها.. شمس الشموسة
شارعنا القديم.. شارعنا زمان
ياما العبنا فيه.. مع أولاد الجيران
بإمكان كل كائن أن يتذكر الأغاني التي سمعها وعاشها في الطفولة وأن يتغنى بها وحيدا أو برفقة أو يترنم بها في صمت، سيشعر بالسعادة وراحة البال وإني جربت ذلك في لحظة حزن وكآبة وقد شعرت بتلك السعادة الوجدانية، فقبل أن أبدأ كتابة هذا النص سقط مني أو قل سرق مني كل المبلغ الذي حضرت به إلى تايلند وهو 800 دولار وعندما اكتشفت ذلك شعرت بالحزن والكآبة وكل شيء يزعج النفس، لكن تداركت المأزق سريعا وقلت النقود لا تريدني فماذا أفعل لها؟.
فلتذهب بعيدا عني، لن أتركها تفسد هدفي من الرحلة وهو الكتابة، سأتجاوز الأمر، سأقلب صفحة الضياع، سأعوّض المال الضائع سريعا، سأكتب نصا لا يقدر بثمن، لا يضيع من جيبي أو يتم نشله أو سرقته أو نسيانه، أجرة الفندق كنت قد سددتها في الوطن لوكالة السياحة مقدما، والطعام رخيص في تايلند خاصة في الجزر البعيدة عن العاصمة بانكوك، إذن يمكنني تدبر أموري بقليل جدا من المال، سأفطر مجانا جيدا في الفندق، وسأضحي بوجبة الغداء كرجيم إجباري وفي المساء أتعشى في مطعم رصيف، سأنسى هذا الأمر برمته الآن، وأركز على الكتابة فقط ولن أشرب بيرة مجددا مهما كانت ثالجة ومكلل زجاج كأسها أو قارورتها بالقطرات الأنيقة، لن أشرب أي مشروبات أخرى تذهب الذكاء باستثناء الماء المعدني والعصائر الطبيعية الخالية من الكحول، فالحرام ليس لدي فيه حظ، ما إن ارتكبه حتى تحدث لي كارثة، هذا إن اعتبرنا الكاتب مسلما دينه يحرم الصهباء ويعتبرها أم الكبائر، أما إن كان الكاتب ليس مسلما، فيمكننا حذف المقطع الذي يبدأ من (فالحرام ليس لدي فيه حظ.... إلى ما إن ارتكبه حتى تحدث لي كارثة)، بالطبع الكلام السابق ليس رأيا من مؤلف هذا الكتاب إنما تداعي متدفق من الروح الساردة التي تحكي هذه الرواية.
عدت إلى الفندق راجلا وفي الطريق كنت أغني أغنية أطفال، كان يعرضها التلفاز الليبي عندما كنت طالبا في المدرسة تقول:
هات الشنطة تعال ورّيني.... أيش خذيت اليوم يا حسين
عارفك شاطر وتهنيني..... ديمة مذاكر درسك زين.
ركزت على كلمة درس في الأغنية وذاكرته في دماغي جيدا.
بالنسبة لي تضيع مني نقود لا أتأثر أكثر من نصف ساعة حتى وإن كان المبلغ مليون، جربت هذا الأمر مرارا ولم أعد أشعر بمرارة حدوثه، لقد ضاعت مني أشياء ثمينة أهم من المال، مثل أخي الوحيد ومستقبلي المهني وترابط عائلتي وتكيفت مع الأمر، إنها الحياة وقوانينها التي لا نملك لها دفعا مهما زعمنا أننا حاذقين، لا تعنيني ضياع الأشياء المادية إطلاقا، لكن عندما تضيع مني كلمة أحب أن أكتبها أموت عدة مرات، وأقلب العالم وأجوبه حتى أجدها، أمسك دائما كتابا ضخما أو ضئيلا لأقرأه وفي البداية أقول:
"يا أنا يا هو"
أي لابد أن أكمل قراءته ولا أتركه يعجزني، من العار والمخجل أنّ تعجز عن قراءة كتاب، وأواصل القراءة حتى أنتهي منه في أقرب وقت ممكن لأن الكتب المنتظرة من أجل القراءة طابور طويل لا ينتهي، زحام شديد بينها، تنافس مجنون محموم بينها، كل كتاب يبحث عن قارئ، يدوس الكتب التي في طريقه، لا يوجد في الأدب كتاب نبيل لديه إيثار، يسمح بالعبور لكتب أخرى غيره أو على الأقل التي ليست من أرومته، أعتقد أنه لا يوجد كتاب نبيل إلا كتاب واحد وهذا رأي الكاتب وليس الروح الساردة وهو (القرآن الكريم) الذي لا يزاحم أحدا ولا يدوس على أحد، ولا ينتهز فرصا بواسطة قوة بلاغته وروحانيته ولا يمارس الأنانية على البسطاء والضعفاء.. فعلا كتاب مقدس جليل.. لكنه دائما يتغلب علي، أعجز عن القراءة فيه طويلا.. سأقول:
أن ذلك بسبب الشيطان.
لكن سأقول أيضا:
أنا الآخر مشارك في المسألة.. ينبغي أن أقرأ في هذا الكتاب العظيم يوميا لأتطور روحيا ولغويا وحياتيا ولأعرف الله بعمق كما عرفه من قبل أناس أحبهم كمحي الدين ابن عربي.
***
الطفلة الطازجة الناظرة إلي بعمق هي أيضا ستتذكر أغان غنتها لها أمها وهي حبلى بها أو وهي في نصف عامها الأول أو شهورها الأولى وستشعر بالسعادة، هي الآن تنظر إلي بعمق مكلل بابتسامة، هي أغمضت عينيها الآن وعادت إلى الوراء، إلى عمر طفل أصغر يتأملها بعمق كما تأملتني بالضبط، يوقفها في الوقت المناسب قبل أن تنحدر إلى السديم، يتلقاها براحتيه الصغيرتين اللتين أخرجهما بشقاوة من ثنايا اللحاف المزنرّ بالقمّاط، كانت الطفلة تنظر إلى قرص القمر الفارض نوره رغم ما يحيطه من كثبان السحاب، ربما يكون قد شعر بالغيرة فجذب قرطها بعفوية عنيفة فصرخت عاليا فجاءت أمها تجري، لقد شرم الطفل أذنها، بكت الأم وبكت الطفلة وبكى الرضيع المشاكس أيضا الذي سكت فورما ألقمته أم الطفلة حلمة ثديها.
الحليب يواسي الصراخ، الدم النازف من الأذن أيضا واساه الحليب، لقد حلبت الأم على الأذن النازفة سبع دفقات كي يتطهر الجرح الذي سببه الجذب والذهب وربما رغبة النهب، بعدها ألقمت طفلتها ثديها، فصار الطفلان أخوين بالرضاعة وصارت الطفلة تكبر والرضيع يكبر خلفها، وفرق عام واحد غير مؤثر إطلاقا إن قررا الارتباط بالزواج، سنتخيّل أنهما في المستقبل أحبّا بعضهما البعض ثم بعد كر وفر اجتماعي وديني تزوجا، وجدا شيخا فضائيا أفتى بصحة الزواج، لأن كميّة الحليب قليلة جدا وربما كانت بدون قصد إرضاعه إنما إسكاته وتهدئته من لحظة فزع رأى فيها دما ينهمر من أذن إنسان غيره هو من تسبب فيه، الدم استدعى له مشهد قطع الحبل السُّـري الذي استقبلت به الحياة صرخاته البكر ومشهد فقيه أو طبيب الختان الذي ختنه في يوم أسبوعه مسببا له ألما مبرحا لا يحتمله الكبار أصحاب العزم فما بالك برضيع هش في بداية نموه.
توقفت عن الكتابة الآن.. أحتاج لبعض التدليك والراحة واسترخاء القلب، أيضا إفطار الفندق المجاني سينتهي الساعة العاشرة والآن التاسعة والنصف صباحا من يوم الجمعة 9ـ7ـ 2010 م، سأتغذى اليوم كسكسو تونسي في منطقة سوكومفيت التجارية، صاحب المطعم تونسي متزوج من امرأة تايلندية، يعد وجبة الكسكسو بنفسه كل يوم جمعة، بعد صلاة الجمعة بنصف ساعة يكون الكسكاس قد خلى من كل حبيبات الكسكسو، تتأخر يفوتك الكسكسو، ويوم جمعة بدون كسكسو لا أشعر به، لو غيرنا أسماء أيام الأسبوع بأسماء وجبات سيكون الكسكسو من نصيب يوم الجمعة، يعني ممكن نقول:
الجمعة كسكسو أكلة مغاربية
السبت حرايمي أكلة يهودية
الأحد سباقيتي أكلة فاتيكانية أوروبية
الاثنين بازين أكلة ليبية
الثلاثاء أرز أكلة أسيوية
الأربعاء مقلوبة أكلة شامية
الخميس باميا وملوخية أكلة مصرية
أي تصير أيام الأسبوع تنعت كالتالي:
كسكسو
حرايمي
سباقيتي
بازين
أرز
مقلوبة
باميا وملوخية
أي نقول مثلا صدر الملحق الثقافي لجريدة كذا اليوم الكسكسو الموافق لـــ 9 -7 – 2010 م.
وبإمكاننا تغيير الأكلات في كل الأيام إلا الجمعة الذي سيختص بها الكسكسو لعدة اعتبارات ليس هنا مجال ذكرها، بالعربي لا أعرف هذه الاعتبارات، لقد جاءني مقترح الكسكسو عبر الإلهام، عندما أكون قد درست الأمر أكاديميا سأفصل وأحلل لكم الاعتبارات العديدة لاختصاص الجمعة بالكسكسو، لكن جماعة الإلهام مرفوع عنهم القلم، وبإمكان المعترضين محاكمة الموهبة إن قبضوا عليها، بعدها أشرب شاي في مقهى لبناني أو قهوة اسبريسو في مقهى أوروبي، بعدها أدخل إلى مقهى نت لأرى بريدي وهل من شيء يفيدني فيه ثم أتابع جديد العالم في الثقافة والفن والرياضة فمن خلال هذه الثلاثية الإبداعية سأفهم سياسة العالم ومجريات أحداثه وأقرر كيف أتعامل معه لهذا اليوم، بطريقة هجومية أم دفاعية أم فنية أم أدبية أم رياضية أم عهرية وغيرها من طرق التعايش السلمي أو الحربي مع مجتمع الحياة القاسي قسوة الكآبة، بعدها أعود للفندق وأجلس مجددا للكتابة، أضع صورة الطفلة أمامي على شاشة الحاسوب وأنطلق كما تقول الميديا الإعلامية العربية قـُـدُمـــاً.
***
الحرارة والرطوبة معتدلتان، لا تسببان في سواد ياقة القميص، الوقت عشية، ضاحية نانا والسوكومفيت ببانكوك مكتظة بعرب الخليج والأفارقة وقليل من اليابانيين والكوريين والأوروبيين الشرقيين، العاهرات كالعادة يقفن صفا طويلا عند مدخل بوابة فندق جريس، وعند نواصي الشوارع القريبة، عاهرات غالبيتهن أسيويات وأفريقيات وبعض اللاتينيات وعربيات الشرق الأوسط والمغرب العربي، العاهرات الروسيات والأوربيات والأمريكيات لا يقفن في الشارع، ينشطن في حانات ومراقص فنادق 5 نجوم وسعرهن غالي من 100 دولار وأطلع فوق، الصبايا والفتيات الخليجيات يتمخطرن بعباءاتهن السوداء وأوشحتهن الشفافة، انثناءات العباءات وانسدال الأوشحة وليونة الأجساد ونعومتها يحدثن معا تناغما رائعا تتذوقه العين من خلال ما يرسمه فنان القماش المجنون من لوحات تلتصق على الأجساد فتنقش مفاتنها الشهية، اللوحات تتجدد مع كل خطوة، مع كل انحناءة، مع كل وقفة ذهول وتدبر تقفها فتاة أو امرأة في وسط الطريق من أجل سؤال نفسها إلى أين أذهب الآن، معظم الخليجيات اللاتي رأيتهن يتسوقن ويتسيحن أجسامهن رشيقة وشابات وذوات أنوف طويلة دقيقة نوعا ما، بشرتهن قمحية اللون تميل إلى البياض قليلا، أكفهن وأقدامهن مُحنّاة بطريقة النقش، العجائز القليلات بينهن يضعن خمارا معدنيا يحجب الأنف والفم، البقية متزينات على خفيف وسافرات الوجوه ويلكن اللبان بشيء من الغنج، منهن من تسهى عن نفسها فتنفخ فقاعة علكة وتفرقعها لتهبط خيمتها الممزقة على شفتيها المروجتين بلون يتماشى مع زيها واكسسواراتها، الشعر مغطى بأوشحة ملونة شفافة قليلا، بعض الخصلات المتمردة تطل من تحت الوشاح وترسم على الصدغين أو الجبين خيوطا بديعة جالبة للبهجة.
الخليجيات يتجولن ويتسوقن من الدكاكين الكثيرة التي يديرها ويملكها هنود وتايلنديون وأفارقة وصينيون وعرب وإيرانيون، وعندما تثقل أيديهن بالأكياس يوقفن دراجة توكتوك توصلهن إلى الفندق لحفظ ما اقتنين من مشتريات.
بعد راحة قصيرة يعدن مجددا فيدخل بعضهن لتناول الطعام في مطعم شهر زاد المصري أو ناصر المصري وباقي الزنفليقة تواصل سياحتها التسوقية بين الدكاكين.
أراهن كل يوم يتجولن لوحدهن دون إخوتهن أو أزواجهن، الحقيقة أن المنطقة لا تحتاج لأن يرافقهن محرم، فالمنطقة آمنة جدا، لا توجد أي معاكسات للأسر وللنساء، الكل يحترم نفسه، لأن في هذه البلاد لا شيء ممنوع، كل شيء متوفر بكثرة خاصة الفتيات، فالتحرش والمعاكسة الوقحة قليلة الحدوث، النظر فقط في جمال ربي مباح وإن خفت أن تحدث مشكلة مع خليجية محافظة عندما تنظر إليها بطريقة الالتهام فاختصر المسألة وضع نظارة، لكن يا حسرة، نظارتي كسرتها الطفلة.. وفي الوقت نفسه لا أحبذ العوازل أمام الحواس.
لا تمر خليجية دون أن أنظر إليها لا شعوريا، أنظر في عينيها مباشرة، وأهمس لها:
هلا بالطيب الغالي، أو ب يا ناس أحبه أو بأي أغنية خليجية أخرى تخطر على بالي تلك اللحظة.
بصراحة عيونهن شيء غير محتمل، عيونهن واسعة كعيون الظباء وكحيلة وسوداء ومثيرة وتبهذل كل من يقدّر ويتذوق جمال العيون، الطفلة تتأملني بغضب الآن، سأرتق الموضوع، الحقيقة أشعر دائما أن نظراتهن جميلة لكن ليست عميقة كفاية، كنظرة الطفلة التي كسرت نظارتي، الطفلة تنظر إلي الآن بعمق وتبتسم.
لم أتبادل الحديث معهن، لكي يحدث ذلك لابد أن تحوز خليجية بمفردها، وهن مجتمعات يتعذر ذلك، كل واحدة متحفظة وخائفة من وشاية وتشهير الأخرى، وكل واحدة منهن لها همومها السرية وسبب زيارتها إلى تايلند والتي تنحصر معظمها في هذه الأشياء، خذ عندك:
بحيرة تماسيح.. غابة أفيال.. حديقة نمور وسنانير.. سوق عائم.. صفقة تجارية.. جنس.. ترقيع بكارة.. تخسيس.. جلب بخور كمبودي.. تدليك وتجميل.. تقويم أسنان وعلاج لثة.. جلب بتات عرس والخ.
أخيرا في مقهى أوروبي بديكور زيتوني وأسود اسمه ّstar bucks ملاصق لمبنى سوق أرض الطعام (food land ) ابتسم لنا الحظ وحُزنا غزال القارة الذي بالطبع سود أنظاره كما يصفونه شعراء البادية الليبية، كانت جالسة تلعق من كوب طويل مملوء بالآيس كريم، عيناها واسعتان، كفاها وقدماها محنتان، ترتدي عباءة زرقاء غامقة تميل إلى السواد، على رأسها وشاح لازوردي شفاف بلون صندلها، يظهر خصلات شعر جامحة كثيرة على صدغيها وعلى جبينها، شعرها من الخلف مجموع في كعكة صنعت بروزا ضخما للوشاح مما يعني أن شعرها طويل يضرب حتى وركيها، لكنها، لكنها، لكنها بطة، أي سمينة، لا بأس من كونها سمينة، فالسمينات رغم تهدل أثدائهن يظل دمهن خفيفا، وأهم شيء في العلاقات الإنسانية التي قد تتطور سريعا إلى الارتباط الدائم هو خفة الدم، التي ستنتج عبر الزمن خفة الروح.
حييتها بابتسامة فتجاهلتني وواصلت لعق كتلة آيس كريم بلون المشمش، بالطبع لابد أن يكون وجهي باردا أي وقحا فلا استسلم، حييتها مجددا بابتسامة أوسع فردّت علي بابتسامة أبانت أسنانها البيضاء المبللة بمياه الآيس كريم الملونة، صافحتها فلم تمانع هذه المرّة وصافحتني، لم تكن ترتدي قفازا أسود يعزل اللمس المباشر، راحتها دافئة وناعمة ولا تتمنى رفع يدك عنها، وأنا أتمتع بشم رائحة بخورها الكمبودي الأصيل سألتها:
هنا لوحدك أم معك رفيق؟.
أجابتني:
تفضل أجلس أولا.
وأزاحت حقيبتها المنتفخة من على الكرسي الذي بجانبها، ركنتها إلى جانب قائم الطاولة، عرفت أنه يرافقها أخوها الذي ذهب إلى البنك القريب لتصريف بعض العملة الخليجية بعملة تايلندية، وسيعود قريبا.
واصلت رشف آيس كريمها ورشفتُ أنا أيضا من فنجان قهوتي السوداء، لا أدري هل شعرت أني راغب في التعرف إليها أم أنها رأت أني أحتاج لكرسي فقدمته لي؟، خاصة أن معظم الطاولات عامرة بالأيرائن، فتحت باب الثرثرة معها وعرفت أنها خليجية من قطر لكن أمها مصرية، لذلك أنا يا صديقي سمينة قليلا.
قالت الجملة وهي تبتسم بعفوية.
وجاءت إلى تايلند من أجل التخسيس، لكن تعليمات الطبيب عاجزة عن تطبيقها خاصة في التقليل من تناول الآيس كريم والحلويات والفواكه الحلوة.
قلت لها:ممكن أحبك فأسبب لك الهموم والشقاء فينقص وزنك سريعا
لم تضحك لعبارتي السخيفة والنمطية..
وقالت: الحب العربي لا يسبب في نقص الوزن ولا في زيادته، يسبب في نفخ البطن فقط.
لم أضحك أيضا لعبارتها الموضوعية نوع ما، لكن بعدها تبادلنا فكاهات أجمل وأقوى أضحكتنا بشدة معا وعاد أخوها الذي فاجئنا ونحن في وابل ضحك مشترك لنكتة أخرى قالتها هي فشاركنا الضحك وصافحني بحرارة وأخته قدمتني له كصديق جديد التقت به للتو صدفة في هذا المقهى، لم أر أمارات انزعاج على وجه أخيها وواصل ثلاثتنا الحديث في شؤون الحياة والعالم.
وشاركتنا الطفلة ذات النظرة العميقة جلستنا، عبر حضورها الضمني في قلبي، كانت في مذاق قهوتي، في ترانيم ضحكاتي، كانت تتعمق بنظرتها في مكنونات نفسي إلى أبعد حد، كانت تخترقني، أشعر أنها تقودني، تعرف أن هذا المشهد من مستلزمات الرواية ولم يحدث فعلا، أشعر بغيرتها الساخنة، إنها تحاصرني، تحوزني في زاوية ضيقة لا ينفع معها أي مناورة، تضع في أنفي وفمي لجاما لا فكاك منه، تملأ ذاكرتي بتناسخاتها، مرت نصف ساعة وأنا في جو مبهج مع الخليجية الدُبّة ذات رائحة البخور وأخيها النحيف المتحرر المتسامح، نواصل التخيّل أو الكذب، مرت ربع ساعة أخرى، استلطفتها واستلطفتني، لن تردني لو كان المكان ملائما لتبادل القبلات اليابانية أو الفرنسية أو حتى العربية التي أحب مشاهدتها اليوتوب، ما تبقى من قهوتي برد وما تبقى من كوب آيس كريمها الطويل ذاب، وتحول إلى ماء خاثر ملون، أخوها استأذن أن يغادر لموعد مبرمج سلفا مع صديق:
قال لها:خذي راحتك، نلتقي بعد ساعة في الفندق، ثم غادر.
قلت لها: هل تسمحين أن ارتشف ما تبقى من آيس كريمك الحلو الذائب في كوبك؟.
قالت لي:هل تسمح أن ارتشف ما تبقى في فنجانك من قهوة مرّة؟.
رفعتُ كوبها وهي بدورها رفعتْ فنجان قهوتي، ورطمنا زجاج الكوب بفخار الفنجان على هيأة في صحتك، لحن جميل عزفه فعل الرطم، شربتُ بقية كوبها، شربتْ بقية فنجاني، ثم تأملت قارئة في قاعه الخالي من الحثالة لأنه قهوة أسبريسو معصورة خالية من الرواسب وليست قهوة تركية أو عربية راسبها ثقيل كثيف أغبر، لا يغادر القاع إلا بفركه بالإصبع فما بالك إن طفح لك على القمّة وقرر توريث لونه.
تبادلنا أرقام الهواتف، وتواعدنا أن نلتقي في أقرب فرصة ممكنة.
ـ سأرن عليك بهاتفي حالما أجد وقتا مناسبا، آه قهوتك في لساني مرّة لكنها في روحي حلوة.. ابتسمت ورددت على عبارتها ثقيلة الدم بعبارات أثقل دما وأسخف
ـ لن أخبرك عن مذاق آيس كريمك الذي رشفته لآخر قطرة للتو، فلا أحب قراءة قاع الأشياء الحلوة لأن ذلك......
لم أكمل الجملة ونظرت بعمق في عينيها، فأقفلتهما وفتحتهما بعد برهة لأراهما أكثر بريقا وبللا، الفراق كان صعبا، ومصافحة الوداع جاءت أطول من مصافحة اللقاء، لقد وضعت راحتي اليسرى هذه المرّة فوق راحتها وهي تصافحني، كانت بشرتها ناعمة جدا، كبشرة طفلة طازجة طرية غضة، قلت لها وهي تهم بالمغادرة:
أكيد سنلتقي
قالت لي:
أكييييييييييييييييييييييييد، وهل غادرتك أنا أصلا؟!.
أقول في النص عن العبارات المتبادلة بيني وبينها أنها سخيفة ونمطية وغير جميلة مراعاة للطفلة الغيور التي قد تخرج من شاشتي وتصفعني فأعجز عن الكتابة، هذه السطور الأخيرة لن تراها لأنها نائمة الآن، وها هي استيقظت، سأتكلم عنها في ملزمة أوراق أخرى لأقلب هذه الصفحات على ظهرها، أنا من عادتي الدائمة الكتابة على بطن الصفحة أما ظهرها فأخصصه لتدوين الملاحظات المهمة جدا.
يتبع