أشياء لا تحكى
طبع صفحة وجهه على الزجاج وحدق بالأشكال المرسومة على الجدار البعيد.. ضرب العصفور الهواء بجناحيه وابتعد.. يطل الشباك على الشارع الرئيسي.. ما زال الرصيف صامتاً ساكناً وهو يستقبل أول نسمة من نسمات الغبش الصباحي الطري..
مطَّ رقبته بعد أن أبعدَ وجهه قليلاً عن الزجاج.. أدار رأسه وهزه عدة مرات.. ثم استقرت نظراته بعد أن استدار بنصف جسده الأعلى، على الوجوه النائمة.. كان المقعد تحته يابساً قاسياً.. وحدها ابنته الصغيرة ريما كانت تبتسم وتطلق كركرة حلوة في فضاء الغرفة الضيقة.. خمّن أنها تعايش في الحلم لعبة من اللعب التي تتمنى أن تحصل عليها.. أو لعلها تركض الآن في الحديقة القريبة حافية القدمين.. أو.. ربما.. واستدار ليطبع وجهه على زجاج الشباك من جديد..
رائحة الصباح طازجة.. والغبش يزول ويرتفع شيئاً فشيئاً.. بعد قليل، تأخذ الخطوات في طرق الرصيف.. عندها ستترك زوجته الفراش.. ويأخذ الأولاد في فتح عيونهم واحداً بعد الآخر.. يدخلون الحمام.. يخرجون.. يدورون في البيت.. يتناولون الطعام.. بعدها يفتحون الباب ويذهبون.. كل إلى مدرسته.. عندها تحرك زوجته المقعد.. تدفعه.. تتركه قريباً من الطاولة.. تضع أمامه بعض الطعام.. ترتدي ثياب الخروج وتذهب إلى طلابها الصغار.. بعدها يسود السكون.. يحاول أن يستند على طرف المقعد.. يحرك العجلات.. يدور.. البيت ضيق.. كم من السنوات مضت.. كان يركض ويمرح ويملأ الدنيا بضحكات لا تنتهي.. ينادي فيلتم الآخرون.. يفرد الورقة.. يحرك قلم الرصاص ويشرح.. يقول: "تنفيذ العملية يحتاج إلى دقة متناهية" تهتز الرؤوس موافقة.. يعطي الأوامر.. يتحركون.. الدورية قادمة.. الأشياء تحدث بسرعة.. انفجار.. جنود الاحتلال يتطايرون.. رصاص.. انفجارات.. تضيء الدنيا.. يذبحه الألم.. يغيب عن الدنيا.. وعندما يفتح عينيه لا يجد غير فخذين ملفوفين بالكثير من الأربطة والضمادات البيضاء.. تحاول الزوجة أن تخفف عنه.. تتدحرج السنوات.
مدّت الصغيرة ريما كركرتها في الفضاء.. قالت له ذات يوم: "بابا عندما نذهب إلى هناك سأحملك وأدور بك في كل الشوارع" ضمها إلى صدره.. أغمض عينيه.. امتدت الشوارع والبيوت والوجوه.. كان يحمل ريما ويركض بها في الشوارع.. البنت الحلوة تضحك.. الشوارع تضحك.. البيوت تضحك.. يقفز مثل أرنب بري.. تصيح ريما "يسقط الاحتلال".. ينبت الأطفال من كل مكان.. يركضون.. الحجارة تطير.. تنعكس أشعة الشمس على أكفهم وتشع.. يضحك.. البنت الصغيرة تضحك.. يضحك الوجه المطبوع على الزجاج.
الخطوات بدأت تلوك الرصيف.. الزوجة تحركت.. البنت الصغيرة مدت كركرتها.. الزوجة تنهدت وتمطت.. ظل وجهه مطبوعاً على الزجاج.. الخطوات تأكل الرصيف والقلب.. الأشكال المرسومة على الجدار تقترب.. وحدها الصغيرة تقترب مغادرة الفراش.. تضع يدها فوق يده.. تترك خدها ينام على فخذه.. يسحب وجهه المطبوع على الزجاج وينظر في عينيها.. تضحك.. يهز رأسه.. تأبى الابتسامة أن تحط على شفتيه.. الزوجة ترسل صوتها الحاد.. البنت تتركه وتركض.. يحمل وجهه الثقيل بيديه.. ينظر إليه من كل الجهات.. يرى في العينين غيماً ومطراً وأشياء لا تحكى.. يقربه من الزجاج.. يطبعه بتشنج.. ويتركه هناك إلى ما لا نهاية..
طلعت سقيرق