بنت من المخيم
يا سيدي أنت لا تعرف سعدية كما أعرفها ويعرفها أهل المخيم.. البنت سعدية الطويلة السمراء لم تكن في العشرين كما نقلت وكالات الأنباء.. ولم تكن عنيفة صاخبة ميالة إلى "الشيطنة" كما طاب لهم أن يقولوا.. كذلك لم تعشق ابن الجيران منذ أيام الطفولة كما قال أصحاب الرأي هنا وهناك.. سعدية هذه أبسط بكثير من كل التعاريف، وأكبر بكثير من الكلمات والجمل والخطب.. إنها بنت المخيم.. وربما لا تستطيع أن تفهم ما معنى بنت المخيم..
يا سيدي عندما بدأت الانتفاضة.. كانت سعدية لا تخرج من البيت إلا قليلاً.. وبصراحة فقد كانت -أقصد سعدية- انطوائية إلى حدّ ما.. وسعدية هذه لم تدرس كثيراً، ولكنها كانت تجيد القراءة والكتابة، وإلقاء الشعر.. وعندما يطيب لها أن تخرج من البيت -أقصد سعدية يا سيدي- كانت تدور في الشوارع وحيدة وكأنها تبحث عن شيء ما.. والانتفاضة لم تبدل سعدية ولم تغيرها.. هل كان الأمر لا يعنيها.. لا أظن.. ولكنها سعدية.. سعدية التي فاجأت الجميع فيما بعد..
يا سيدي كان ذلك اليوم يوماً مشهوداً.. كأنّ البيوت كانت تمشي وتركض وتقاتل.. جنود الاحتلال كانوا حائرين ضائعين لاهثين.. الحجارة تسقط من السماء، وتنبع من الأرض وتنصب من كل الجهات.. عدد الشهداء يزداد ساعة بعد ساعة.. الجرحى في كل مكان.. أما الاعتقال فحدّث ولا حرج.. يومها كانت سعدية في المقدمة.. وفي كل مكان.. هل صارت سعدية أكثر بكثير من بنت واحدة.. صدقني إذا قلت لك ربما.. كلنا كنا نرى سعدية وهي تقاتل.. تحمل الشهداء أو الجرحى.. تركض.. تضرب.. ترفع العلم.. تسقط.. ثم تضحك وتقوم لتقاتل من جديد.. أصبحت أسطورة، أو ما يشبه الأسطورة.. وأخيراً تجمعت في صورة واحدة لا يمكن أن تنسى على مر الأيام .. صورة غريبة جميلة رائعة.. وكان ذلك اليوم مستمراً..
أحد جنود الاحتلال أمسك العلم الفلسطيني ورماه على الأرض، واقترب منه ليدوس عليه.. فجأة نبتت سعدية ورفعت العلم وضمته إلى صدرها.. لطمها الجندي وشدّ العلم.. لطمته سعدية وشدّت بكل ما لديها من قوة على العلم.. هاجمها.. هاجمته.. ضربها.. ضربته.. اجتمع عدة جنود وأخذوا يضربون سعدية.. أحدهم استطاع أن يأخذ العلم منها.. ركضت سعدية وبكل قوتها دفعت الجندي وألقته على الأرض.. أمسكت رقبته وأخذت تضغط.. تجمع الجنود وتكاثروا كالذئاب.. ولكن كل ما في الأرض من قوة تجمع في سعدية.. الجندي أخذ يتخبط.. ترك العلم.. سعدية أخذت العلم وخطت خطوات.. انهال الرصاص.. لا أحد يعلم كم كان عدد الرصاصات التي اخترقت جسدها.. للحظة أو للحظات توقف كل شيء.. ساد هدوء غريب لم يعرفه ذلك اليوم بطوله وعرضه. خطت سعدية خطوات أخرى.. لم يصدق جنود الاحتلال أعينهم.. انهال الرصاص بغزارة.. وأبى جسد سعدية أن ينطوي.. رفعت العلم المخضب بدمها وزغردت.. ثم انحنت.. لوهلة ظن الجميع أنها ستسقط.. لكنها تناولت حجراً وقذفته.. ثم تقدمت.. جنود الاحتلال تراجعوا وقد ركبهم الذهول.. سعدية رفعت يدها فرفرف العلم.. وبقيت هكذا إلى حين..
يا سيدي يفترض أن تصل قصة سعدية هنا إلى النهاية.. ولكن أهل المخيم يصرّون على أن سعدية لم تمت.. بعضهم يقول أنها ذهبت لتقاتل الاحتلال في مخيم آخر.. وبعضهم يؤكد أنها مازالت في المخيم الذي عاشت وكبرت فيه.. والجميع متفقون على أنها لم تمت.. وربما أقسم البعض أنها ما زالت تركض في المخيم وتضرب جنود الاحتلال بالحجارة..
طلعت سقيرق