امرأة الحديقة!!!
كنتٌ قد سمعتُ عن هذه الحديقة قبل أن آتي إليها! فقد تناقل الناس أخبارها بدهشة غير عادية وكأنها أعجوبة من أعاجيب الدنيا. تحدثوا عن الطبيعة الآسرة، والجمال الأخّاذ، والسحر الحلال، والنساء الفاتنات! قالوا: إن زيارتها، ولو مروراً، فرصة نادرة قد لا تتاح في الزمن إلا مرة واحدة، لهذا... ذهبتُ إليها مدفوعة بأشواقي لرؤية ما هو غريب ومدهش.
ارتديت ثيابي على عجل، وتركتُ مكان نومي، وخرجت مبكرة مع غبشة الصباح، قاصدة الحديقة الواقعة في المنطقة الشمالية حيث هي الجبال العالية المكسوة بالثلوج الدائمة.
مررتُ بسيارات الأجرة المصطفة أمام مدخل الفندق الذي أنزل فيه، ونداءات سائقيها المتداخلة تتعالى بصخب وفوضى من أجل اصطياد الزبائن. كنتُ أتفرس في أشكالهم وهيئاتهم لكي أتخير واحداً منهم أتوسم فيه الصبر، والشهامة، وقلة الكلام. مررتُ بهم جميعاً، ثم عدت أدراجي إلى الوراء، واخترتَ السيارة الأولى الأقرب إلى الفندق لأنني أحسستُ بأن سائقها الأشيب قد يناسبني. حين اقتربتُ منه، سمعته يقول لي:
ـ "تفضلي.. سيدتي!"..
فاندسست داخل السيارة، فانبسطت أساريره، وهو يرتمي وراء مقوده باندفاعة الشباب، ثم أشعل هدير سيارته، والتفت إليَّ وسألني:
ـ "الحديقة... يا مدام"؟!...
فهززتُ رأسي موافقةً، فانطلق!..
كان الشارع الذي عبرته السيارة محاطاً بأشجار الزيزفون من الطرفين؛ أشجار ضخمة جداً ذات أغصان رفيعة جداً، بدت من بينها أكشاك بيع المرطبات، والدخان، والطيور، والسندويش السريع. وعلى سلسلة الجبال العالية كانت ألوان الأكشاك الكثيرة والمتعددة تزيد أشجار الزيزفون الملأى بالزهر الأصفر والأبيض الناعم جمالاً بألوانها وأشكالها الطفلية المضحكة، وقد توزعت الكراسي والمقاعد الخشبية الواسعة أمامها كيفما اتفق، ونشط نُدالها في تلبية طلبات الزبائن.
كان اللافت للانتباه اللباس المميز للندل في كل كشك على حدة، وبذلك تميّزت أشكال الأكشاك عن بعضها بعضاً كما تميّز الندل بألبستهم وقبعاتهم عن بعضهم بعضاً أيضاً. كان المشهد أشبه بالكرنفال المعد بإتقان شديد...
في الطريق صادفت مجموعة من الخيول تجر عربات نقل خشبية وقد علاها نفر من الزبائن الضاجين بالفرح صياحاً وغناءً، يلوحون لكل السيارات التي تمرّ بهم، كما يلوحون لكل الناس الذين اقتعدوا ساحات الأكشاك الصغيرة. كان السائق ينظر إليَّ كلما شعر بجمال حركاتهم ولطافة مشهدهم فيضبطني وأنا أبتسم أو وأنا أعبَّر بقسمات وجهي عن استغرابي ودهشتي!.. ولم يتكلم، بل لم أسمع صوته طوال الطريق الذي بلغ كيلو مترات عديدة، وهذا ما أعجبني فيه تماماً، وتملكني الخوف فعلاً، حين غابت الشمس ولم نصل إلى الحديقة، وكأن السيارة مسيرة بقدرة عجيبة. وحين وصلنا. توقفت السيارة أمام أحد أبواب الحديقة، وسألني السائق، وأنا أناوله أجرته المكتوبة على العداد!!..
ـ "هل تحتاجين إليَّ يا سيدتي فأصعد معكِ، لأنني أعرف المكان جيداً، أم أنتظرك هنا"!..
فشكرته وأفهمته بأنني أريد أن أتمتع بوقتي وحيدة، وأن أكتشف المكان بنفسي دونما دليل أو رفيق، وعليه أن يبحث عن رزقه لأنني لا أدري متى سأخرج من الحديقة بالضبط. فأخذ النقود شاكراً، واستدار بكل أدب، ودلف إلى سيارته مرة ثانية. ومضيت صاعدة على درجات مدخل باب الحديقة الواسع جداً المزين بالرسوم المحفورة على الجدران الرخامية، اقتربت من الرسوم كأنني أشدُّ إليها مخدرةً، ولم أهتم إطلاقاً بالأعمدة الحجرية الضخمة جداً والمدورة بإتقان وقد طُعمت بالأحجار الكريمة البَّهارة بألوانها وأشكالها المحيرة. ولم أ عد أرى السائق إن كان ما يزال ينتظرني أم لا، فقد انصرفت كليةً إلى الصور فرأيت نافخ بالونات الصابون الملوّنة، وقد التفَّ حوله رهط كبير من الأطفال يصفقون ويصخبون كلما نفخ بالوناً وطيّره إلى الأعلى أو كلما انطفأ واحد منها، ورويداً رويداً بدأت أدور معهم وأصدق بأنهم أحياء في الحقيقة، فقد بدوا جميعاً في حالة من الفرح الصافي الجميل، وأمهاتهم من حولهم فرحات أيضاً يقفزن ويصرخن في هياج حقيقي كلما صرخوا وتقافزوا..
ورأيت أيضاً مداخل أشبه بالمتاهات تقود إلى حفر وساحات وشوارع ضيقة وأخرى واسعة، والأشجار الكثيرة المتفاوتة بأحجامها وأشكالها تحيط بي من كل جانب..
ورأيت مراتب العشب النجيلية المندّاة وقد افترشتها الأجساد المسترخية العارية كثيراً، وقربها تماماً أفران عميقة متوهجة بالجمر تصطف أمامها مجموعة كبيرة من النساء الجميلات جداً؛ كلُّ واحدة منهن ترمي بنفسها داخل الفرن الأقرب إليها وهي راضية فتتصاعد رائحة الشواء الآدمي، ومامن أحد من الناس يعظهن ألا يكن قاسيات على أنفسهن بهذا الشكل المشين، ورأيت في المقابل لهن مجموعة كبيرة من الشبان يرمون بأنفسهم داخل براميل كبيرة من الخشب المزنر بصفائح الحديد الرقيقة، ملأى بالماء المغلي، يصعدون إلى أعلى الأشجار المطلة على البراميل ويقذفون بأنفسهم فيها، وبعضهم يشجع بعضهم الآخر بكل الهمة والنشاط؛ كان الجميع في حالة غير عادية من الفرح النادر الذي أدهشني...
وتحت، في أسفل الصور، رأيت امرأة في الركن البعيد من الحديقة تبكي وتنوح وحيدة مع كلبها، وقد تنافش شعرها كأجمة شوك، وقربها صورة لرجل مكتهل، مرجل الشعر، أنيق الثياب، مبتسم عن أسنان بيضاء جميلة، وطفل صغير فاتح ذراعيه لكرة تكاد تسقط في حضنه، وقد تطايرت غرته الطويلة، صورة معلقة على شاخصة مكتوب عليها [لا تدوس على العشب... رجاءً]، وخلفها لافتة قماشية بطول عشرة أمتار مكتوب عليها [كنتُ أتمنى رجلاً كهذا، وطفلاً كهذا أيضاً]، وتبكي بحرقة ولوعة كبيرتين، فأبتعد عنها، وقد تعالى نواحها أكثر، أمشي وأنا أحس بأنني لست أنا، لأنني لا أنفعل أبداً بما أرى لكأن حواسي تجمدت أو لكأنها سقطت مني سهواً..
وبينما أنا طيَّ حيرتي، أدقق النظر إلى طيور البط الجميلة السابحة في البحيرة الزرقاء المدهشة بصفائها ونباتاتها الخضر، وكلما أمعنت النظر إليها، تحولت البطات شيئاً فشيئاً إلى تماسيح حقيقية ضخمة جداً وبشعة جداً، وخلال لحظات فقط تسابقت التماسيح في شرب ماء البحيرة فانتفخت كالمناطيد الكبيرة وطارت!..
واستدرت كأنه لم يحدث أي شيء؛ ورأيت شاباً وشابة يجلسان تحت شجرة خروب كبيرة، وقد أرخيا أرجلهما في مجرى الماء الذي يمرُّ بجوارها. كانت الفتاة تبكي وتتوسل وترجو الشاب أن يقبل بها خادمة أو مداساً لقدميه، والشاب مطبق الفم، جاحظ العينين، يضربها بقضيب رفيع من الخيزران يقطر دماً، وهي لا تنفك ترجو وتتوسل. وحين يكفّ عن ضربها ترشقه برذاذ الماء ملاعبةً وهي تبتسم له وترقص داخل الماء بثوبها الشفيف الأبيض الذي يكشف عن جمالها الأسطوري، ودمها يصبغ مجرى الماء بالحُمرة القانية!...
ورأيت بموازاة سور الحديقة القريبة جداً من الجبل، رجلاً ضخم الجثة، متوسط العمر يحفر قبراً، ومن حوله الناس يحفرون أيضاً، يهمون بإخراج موتاهم، وأصواتهم لاغبة تتعالى على شكل أغنيات وأهازيج حزينة وحماسية، كانوا يواصلون الحفر بنشاط مفرط من أجل إخراج الموتى لمحادثتهم! لم أطق المشهد فنفرت إلى الوراء وأنا أغطي عينيَّ، وحالما التفتُّ، لم أجد أحداً من الناس، كما لم أجد السيارات الكثيرة التي كانت مصطفة كالأشجار، كنتُ على آخر رمق، وذهلتُ حين رأيتُ السماء معبأة بطيور سوداء كبيرة الحجم ذات مناقير حديدية،أخذت ترش الأشجار، والنباتات، والدروب، والأبنية بمسحوق أبيض لزج كأنه الصابون، فراح المسحوق يتكاثف حتى صار بعلو قامتي. وفجأة لا أدري من أين خرجت جموع النساء الراكضات اللاهثات؛ بدون وهن يرفعن أكفهن إلى الأعلى ليتلقفن المسحوق الأبيض قبل أن يسقط على الأرض، كن غارقات إلى أكتافهن في رغوة المسحوق، ولم تمضِ سوى لحظات فقط حتى انقشعت السماء، فغابت الطيور السود، وانبعث الناس من كل مكان، وعلت الأحاديث وتداخلت، وضجت أصوات السيارات المندفعة هبوطاً وصعوداً، فأنتبه لنفسي، وأستدير نحو الرجل الذي يربت على كتفي، فأجد السائق الذي أوصلني... واقفاً باحترام شديد يبتسم لي مستغرباً، وحين رمقته بنظرتي الطويلة، قال لي:
ـ "يجب أن تدخلي يا سيدتي، وإلا فاتك الوقت، فالمناظر داخل الحديقة، أجمل بكثير من رسوم البوابة وصورها"..!..
يا إلهي! ما الذي حدث لي؟!..
لكأنني لم أدخل بعد!!
حسن حميد