لى صديقي الروائي الجزائري جيلالي خلاّص الذي أوحى لي بهذه القصة".
-1-
الآن،
بات أقدم سجين في هذا القاووش الحجري الرطب المعتم، الذي حفظ هيئته، وثقوبه، وعروق حيطانه، وظلمته، وحشراته، وطعامه، ومواعيد مرور الشمس عليه، كما حفظ وجوه ساكنيه، وقصصهم أيضاً!!
لقد آمن ساكنو القاووش بأنه سيعدم هذه الليلة أو الليلة القادمة، لذلك باتوا لا ينامون إلا بعد أن يساهروه إلى آخر الليل مودعين، مشجعين، أما الأسباب فلا يعرفها أحد منهم، كلُّ ماعرفوه أنه سيعدم بسبب الكلام المُرّ الذي أغضب الآخرين، ولم يسألوه ماذا قال، وهو لم يضف شيئاً على قوله:
* " لساني قادني إلى هنا"!!
كان، ومنذ عشرين سنة، ينتظر اللحظة التي سينسلَّ من بينهم بغتةً إلى موعده المضروب، وقد ابيضَّ شعره، وانبرى جسده ورقّ، وذوى عوده، وتضاءلت رؤيته، وزادت رعشة يديه وشفتيه. الآن، بات يعطف على الجميع، ينصح هذا، ويواسي ذاك، مصبراً مشفقاً. يقوم بكل أعمال القاووش، ينظف البطانيات والحصر، ويكنس الأرضية، ويجمع الأوساخ، ويفرغ الدلاء من قاذوراتها النتنة، ويغسل الثياب، والقصعات، والأواني؛ كان لا يهدأ على حال، ولا يعرف طعم النوم أو الراحة طوال وقت النهار؛ وفي الليل، وحينما تكثر المنغصات،وتبدأ حفلات التعذيب، يذهب طيّ العتمة لكي يُعذب طواعية، بدلاً من أي منهم، فهو ميت! إن اكتشفوه ضربوه وأعادوه، وإن لم يكتشفوه سألوه وضربوه ثم أعادوه أيضاً!! كان يعطي ثلاثة أرباع طعامه لرفاقه، يقول لهم:
* " خذوا، فأكلي خسارة،
لن أبقي لهم سوى عظامي.. وأنفاسي فقط".
كان منظره، وهوعائد من حفلات التعذيب، مرعباً، وموحشاً وقد لفَّ جسده الدم، وعلاه الورم، فلا يتألم أو يئن لاعتقاده بأن ماينتظره أصعب وأشرس، لذلك فهو يوفر كل هذا لذلك الوقت، وفي لحظة ضعف بادية يستجيب لعطف أصحابه ومواساتهم لكي تشفى جروحه سريعاً ليقوم بأعمال القاووش صباحاً. كان يبدو كمن يودّ أن يموت قبل أن يعدموه فعلاً، ومع ذلك ، كان أكثر مايزعجه، وينغص عليه هدأته، ساعاتُ الفجر، حيث يتعالى، فى الخارج، وقع الأقدام الراكضة، والأصوات الزاعقة، وصليل المفاتيح، وإغلاق الأبواب بحدّة، وفتحها بضجيج عالٍ،كان يحسُّ بأنهم أتوا ليأخذوه في الموعد المنتظر، لكن وما أن تنهض الشمس حتى يخفت ضجيج القلب الهلوع ليباشر حياة يوم قادم، وبدل أن يغفو أو يستكين ينشط في إيقاظ أصحابه بحماسة بادية، لكأنه يخبرهم بأنه نجا مرة أخرى، وأن حياته حقنت بأمل جديد.
وعند الظهيرة يكون التعب قد هدّه تماماً، وأخذ أصحابه في غفوة لابدّمنها، فينكمش في زاويته يراقبهم واحداً واحداً، وقد غفوا، فيحسّ بدموعه تسحُّ على خديه حارة موجعة، لأنه سيفارقهم عما قريب، وقد ألفهم حتى باتوا أهله ، بعدما رحل والداه حزناً وقهراً عليه، وقد أدركا بأنهما افتقداه للأبد!!
-2-
الآن ، في هدأته،
يلتهمه طيف وجه هنومة الأسمر الناحل،وهمسها الطروب، ينهض وجهها دافئاً طرياً كالصباح، فتبدو ابتسامتها البيضاء نافذة لرضا الروح، وتترامش عيناها النديتان صبيباً من العسل المذاب، ويغصُّ. يشعر بأن الحياة جديرة أن تعاش مرة أخرى من أجلها ، بل من أجل أن يمشي على الدرب الموصل إليها فقط!!. ويتساءل: من يدري، هل ظلت على وعدها أم أنها طارت كالعصافير الجميلة الجفول؟! يتذكر أيام كان يواقفها قرب مدخل الدرج الوسيع تحت بيتهم تماماً، في العتمة الكاشفة، يسمع دقَّ قلبها، وتلاهثَ أنفاسها الحرّى وهي تتخافت وتعلو باضطراب شديد، ويرى جمال ضحكتها المكتومة، ويستعيد الهمهمات التي كانت تحكي أكثر من الكلام (آه،كم كره الكلام)، ويحسُّ ببرودة أصابعها البليلة بالرجفان وذوب كفّها الصغيرة طي كفه في لحظة أغنى من الوقت وأحلى من فضة السكر.
تبدو خلالها ألوفةً مثل قُبرة، ونافرةً كنحل شرود، ينظر إليها كالمشدوه، يودّ لو يلمّس على شعرها الطويل الأسود، لو يأخذها إلىصدره فيطفئ حبيبات العرق الصغيرة اللامعة فوق شفتها الوردية العليا، يدنو منها أكثر، لكنها تطيّر إلفتها في لحظة واحدة، فتفزع مثل طيور الحمام، وتغمعم بالوداع واجفةً ، تُفلت كفها من كفه، تناوله حفنةً من ورق دالية الدار، وتمضي، وقد بدا طولها زينةً يموج كهودج من ريش النعام، ينتبه على عجل كمن يستفيق من حلم فيجمجم منادياً، يرجوها أن تتريث قليلاً ، أن تبقى... لكنها لا تلتفت أو تستدير، تترك له رنين خطوها، ولذع كفها الدافئة،ومشهد الإياب النحيل!! لحظتئذ تصيرُ أحلى وهي تبتعد وتنأى كلما تخافت خفقُ نعليها وانطفأ فوق درج الرخام!!
يتذكر كيف واعدها بأن يملأ الدار بصخب الأولاد وضجيجهم، وكيف واعدته هي بالدفء والرضا والأمان، لكن الأيام كرّت بقسوة فأخذت منه هنومة وعالم الأحلام؛هنومة التي يسكره شميمها كالوليد، وتبعثره طلّتها كرفٍّ من طيور القطا القبول.
هي وحدها، الآن، التي تشده إلى خارج هذا المكان الذي ألفه، ولأجلها وحدها.. يتمنى لو أن القدر يساعده ... لكي يراها ولو مرةً واحدة، وبعدها لاشيء!! ويزمّ شفتيه، ويدعك وجهه بيباس أصابعه، يتلمس الجروح التي شقّها في وجهه بعدما علم برحيل والديه، ويهزُّ رأسه، وتتلامع عيناه بطيف من الدمع الحنون، يعود ليفرش بصره على وجوه رفاقه، وقد استسلموا لخدر النوم اللذيذ، يرى نباتات النعناع والحبق الهاجعة قرب الباب التي اشتراها من سجّانه بالكثير من المال؛ تلك النباتات التي رافقته منذ عشرين سنة، والتي كان يستبدلها بغيرها كلما خرّبها سجّانه، من أجل أن يحصلوا منه على المال مرات ومرات؛ لقد عرفوا سرَّ جنونه بالحبق والنعناع، فابتزوه ! تلك النباتات التي كان سيفرش بها مدخل الدار وعتبات الشبابيك، يتذكر الآن كم كان يغيظ هنومة عندما يحدثها عن الحبق والنعناع، عن الطراوة والرائحة، والنعومة والجمال، فتحسُّ هي بالغيرة .. وتتمتم:
* " سترى ... لاحبق ولا نعناع،
لن يأخذك أحد مني "!!
ويخنقه الدمع، فيهزُّ رأسه كمن يساقط الذكريات التي يودّ لو تلتهمه في هذه الوحدة الرائقة؛ لكن ضجةً معتادة تقتحم باب القاووش، تطوي الذكريات وتبعدها!!
-3-
الآن ، ولأول مرة، ومنذ عشرين سنة، يرى حراس القاووش وهم يدخلون المكان مبتسمين على غير عادتهم، يبدون، في لحظة واحدة، كأنهم خلق جدد تماماً، خلق لا يعرفون النهر والقسوة، أو الضرب والسباب. وجوههم ملأى بالود والحبور ، ناعمة ضاحكة، وأيديهم رخية طرية، وعيونهم راعشة بالفرح، لكأنهم استردوا ريق الحياة في هذه اللحظة بالضبط!!
* " فماذا حدث"؟!
إنهم يهمهمون بكلام متداخل، وبصخب عال:
* " إفراج عام"!
فيضجّ القاووش بكل من فيه، يختلط السجّان بالسجناء، لاتمييز بينهم، ولافرق؛ وحال من العناق الحميم تجمعهم. نفر من السجَّان يعانقون رفاقه، منهم من يعانقونه هو أيضاً، لعلهم أخطأوا!! ورفاقه يعانقونه بمودة خاصة، لعلهم أخطأوا أيضاً، أجل لقد طيّرَ الفرح صوابهم. سيعذرهم حتى ولو قبّلوا حيطان القاووش الوسخة، أوحواف الدلاء القذرة، فهم سيخرجون!! سيخرجون إلى أمهاتهم، وزوجاتهم، وأولادهم، وحبيباتهم... سيرون الدنيا مرة أخرى!! ويعيشونها في تجربة أخرى!! تأخذه الحال أيضاً، فيعانقهم واحداً واحداً، فهو سيفتقدهم كثيراً، فبعد خروجهم لمن سيكنس الأرضية، ولمن سيغسل الأواني، ولمن سيعّد الطعام؟! لاشك، أن عقله سيطقُّ إن لم يعدموه وقد غدا وحيداً . يواري دمعه الحزين، ويودعهم بأسى شديد؛ يودّ لو أن خروجهم يتأخر ليلة واحدة فقط لأن سّجانه سيأخذونه فجراً للإعدام، سيكون مشهد الاقتياد صعباً، وبشعاً، وحزيناً، وهو في وحدته الشاسعة، سيقول لهم إن خروجهم خدعةٌ، غايتها أن يأخذوه مبلولاً بوحدته وعزلته الفاقعة؛ سيرجوهم أن يبقوا ليلة واحدة؛ بل ساعات فقط.... كي لايبقى بلا سندٍ، أحسّ أن لحظات سجنه بدأت الآن فعلاً! فهمَّ أن يقول لهم شيئاً، أن يتقرّب منهم، لكنهم ينهالون عليه تقبيلاً وضمّاً، وهم يتمتمون:
* "وأنت ، ياعم عباس، ستخرج أيضاً" !!
ويسمعهم يحمدون الله، ويباركون لأنفسهم، ينتبه للحديث، يأخذه سحر الكلام؛ لأول مرة، ومنذ عشرين سنة، يحسُّ بأن الكلام يعنيه، ترتعش شفتاه، ويتراجف وجهه كلّه، تلفّه كلمات:
* "ستخرج، ستخرج"!!
يعي الكلمات المتكررة؛ يحس بحرارتها ، إنهم يقصدونه هو تماماً، تدور به الأرض، تهتز تحت قدميه، تضجّ حيطان القاووش وتتداخل، تدور هي أيضاً، لا ..النوافذ العليا الصغيرة الضيقة هي التي تدور؛ كلُّ شيء يدور حوله، حتى أطرافه تدورأيضاً ؛ ويبهت الرجل، تتوقف عيناه عن الحركة، يغيب عن الوعي، يخرَّ جسده على الأرض هامداً لاحركة فيه، يسنده الرفاق ويتحلقون حوله، يرشون وجهه، وصدره، ويديه بالماء لكي ينهض أويستفيق، تتداخل أصواتهم وتعرّش فوقّه، ويعلو ضجيجهم، وتشحب وجوههم وهم يلهجون بالرجاء ألا يفسد العم عباس فرحتهم، ألا ينهي المشهد بهذا الموت الفجائي ،أن يتحرك، أو أن يقول كلمة تريح أعصابهم، لحظات قاسية مرة تلفّهم بالخوف والذبول، يرعبهم المشهد، وتأخذهم الظنون؛ يتمنون ألا ينهوا تجربتهم في السجن بموت الرجل الذي أحبوه؛ الرجل الذي لن ينسوه أبداً... يداورونه، ويحاورونه، ويلمّسون عليه بإشفاق شديد، تمتدّ بهم الحيرة وتستطيل، ولكن فجأة، يزايلهم القلق، فيتنفسون بعمق حين يفتح العم عباس عينيه، يراهم متحلقين حوله في جمعة واحدة، والهلع حشو وجوههم ونظراتهم؛ يبتسم وهو يسألهم باقتضاب:
* " سنخرج ... جميعاً"!
فيهزون رؤوسهم بالإيجاب، ويتصارخون مكررين:
* "سنخرج جميعاً "!
وتعود للقاووش ضجته وفرحته مرة أخرى.
ساعة أو أقل، وينشغل الجميع بالخروج، يبدون في حالات غريبة متعددة ، منهم من يرقص ويغني، ومنهم من يتأمل ساهماً، ومنهم من يثرثر بأي كلام، أو يتلهى بأي شيء..
وعند هبوط الليل، يطلقهم القاووش واحداً واحداً مثل طيور طال عليها وقت الشتاء، يخرجون كالفارين من النار أو الحرب، يركضون لاهثين، كأنهم يطردون بعضهم بعضاً، لا يلوون على شيء، فلا تُلفت انتباههم الحدائق والسيارات، ولا نوافير الماء، وحركة الناس، ولا مخاصرات العشاق في الظلمة الخافتة.. ينفرون إلى بيوتهم مرة واحدة.
كان العم عباس آخر الخارجين، بعدما حاول إقناع مأمور السجن، أن يبقى حارساً، أو مستخدماً، أو أي شيء، فلا أحد له في الخارج، لا أب ولا أم، لا أخ ولا خال.!! فلماذا يخرج، ومن أجل من؟! ويرفض مأمورالسجن بقسوة ناهرة، ويحار بأمره، لكن إلحاح العم عباس عليه؛ يدفعه إلى أن يبقيه قليلاً، فيأمره بالجلوس، وينشغل عنه بآخرين. لحظات، وعلى حين غرة، يهبّ العم عباس واقفاً، يقول للمأمور:
* "لا ، سأخرج"!!
وعندما يسأله المأمور :
* "لماذا..."!!
يقول له بصراحة :
* "لكي أرى هنومة"!
ويمضي في هدأة الليل شبحاً أو يكاد، يجرُّ خطا واهنة عاثرة، لم تألف المشي الطويل منذ زمن بعيد، يمشي فيتعب، يستريح قليلاً ويمشي قليلاً، وطيف هنومة يتقافز أمامه مثل الحلم ، يمشي فلا يدري إلى أين تقوده الطرقات، فالمدينة تغيّرت كثيراً، وماعاد يعرف اتجاهاتها. يتمنى لو أنه يستطيع قراءة اللافتات وأسماء الشوارع، لكن نظره يخونه هذه المرة، يطلقه إلى البعيد حيناً وإلى القريب حيناً آخر فلا يعود بشيء سوى الضباب والغبش، وأخيراً، يطوي شهوة المشي ، وينام في حديقة أسره عشبها الندي حتى الصباح.
وفي الصباح، رأى الشمس، والضوء، والنباتات، والأشجار، والأبنية، والناس، والسيارات، فأحسَّ بنشوة الحياة، ومضى في بحثه عن هنومة، أيقن، وقد رأى نفسه على واجهة أحد المحلات، بأنه مخلوق من عالم آخر ، لايشبه الناس في شيء، وأن هنومة لن تعرفه أبداً، لهذا ذهب إلى حمام السوق واستحم فاستعاد بعض نشاطه وحيويته، وهناك أيضاً قصَّ أظفار يديه وقدميه، وشعر رأسه الذي قلَّ كثيراً ، وحين اطمأن إلى أنه صار في صورة مقبولة عاود البحث من جديد . تاه وضاع مرات عديدة ، وسأل كثيراً إلى أن وصل إلى الحارة، وهناك عرف العبدولي، الرجل العجوز صاحب دكان السعادة الذي عرفه أيضاً، فرمى تحته كرسيه الخشبي، وسقاه شاياً بالنعناع!!
وقبل أن يسأله عن بيتهم، وعن هنومة، وقبل أن يرجوه أن يملأ له كأسه مرة ثانية... أحاط به سته رجال، عرفهم فوراً من رائحتهم، فانقاد لأسئلتهم، ونهرهم، وقسوتهم، وأخذوه، على مرأى من أبناء الحارة، والعبدولي؛ العبدولي الذي صرخ بهم:
* "لم نره بعد.. لعنة الله عليكم"!!
وهمهم من حوله بعض الناس:
* " لعله هارب"!!
وهناك في القاووش عرف أنهم، اكتشفوا الأوراق التي خبأها تحت فراشه، تحت البلاطات الصغيرة، أوراقه التي كتب فيها مشاعره، وأفكاره كلها بوضوح شديد، وبالأسماء الصريحة!! فقد باح بكل شيء، ووصّف كل شيء، ولام أناساً كثيرين، ونعى مصير آخرين..بعدما ظن أنه ميت لا محالة، وقد نسي أن يأخذها معه حين أفرجوا عنه بعدما أعمى قلبه فرح الخروج.... المفاجئ!!
حسن حميد