على باب الملجأ،
اعتاد أن يقف ساعات طويلة في نهاية الأسبوع.
يراقب الفتيات الخارجات بوجوههن المصفرة المتعبة، وعيونهن الراقصة، وشعورهن المرتبة، وأطوالهن المتفاوتة.
يرامق الوجوه جميعاً ويدقق فيها واحداً واحداً؛ حتى أنه كاد يحفظها بكل تفاصيلها، فباتت مجموعة من الصور المتتالية ما أن يلمح أحدها حتى يعرفها جميعاً، فيتمنى لو أن هذا الوجه أو ذاك يصير وجهاً لفتحية!!
لقد عرف أنها أودعت هنا في هذا الملجأ بالذات منذ عشر سنوات فائتة ، وفي أثناء سفره!! وضعتها أمها التي طلقها في ساعة طيش وغضب ، وقد أرسلت إليه رسالة، أخبرته فيها أنها أحبت فتزوجت فسافرت مع زوجها الجديد إلى خارج البلد، وأنها أودعت ابنته التي كرهها الزوج الجديد في ملجأ "الطفولة السعيدة"، فطار عقله وجنَّ لأن زوجته المطلّقة غدرت به وبابنتها أيضاً بعدما رجته قبل سفره أن يترك لها البنت لتربيها أحسن تربية طوال السنوات التي يسمح لها الشرع بحضانتها؛ في أول الأمر رفض بشدة، قال للذين وسّطتهم زوجته:
* "زهرية ، امرأتي ، وأعرفها،
تكرهني كره العمى. إن تركت البنت فتحية لها
ستربيها ضدي ، وهيهات أن أقنع البنت بي
حين تعود إليّ بعد سنوات من القيل والقال،
والتعليم والتلقي!
لا شك أن فتحية ستكرهني لأنها لن تجد فيَّ إلا وحشاً أبعدها عن أمها"!!
لكن ضغط أولاد الحلال ، وتوسلات زهرية، وبكاء البنت المرّ.. كل ذلك جعله ، في نهاية الأمر، يوافقها ، فترك لها فتحية وسافر حين ضاق المكان عليه ؛ لكنها لم تحفظها!!
فجنَّ الرجل لأنه ما كان يتوقع أن يحدث مثل هذا لابنته؛ حيلته الباقية في هذه الدنيا، ولأنه لم يتمكن فوراً من ترك أعماله التي ارتبط بها في البلاد التي سافر إليها، فهو لم يعد إلى ابنته مبكراً ليخلّصها من أنظمة الملاجئ وقسوتها.
حاول كثيراً أن يترك كل شيء ويعود فأخفق !! انتظر إلى أن واتته الظروف فحزم حقائبه ورجع! ولم يتوقف إلا أمام باب ملجأ "الطفولة السعيدة" وقد بحث عنه طويلاً! حين قرأ العنوان، ابتهجت روحه، فعبَّ نفساً عميقاً لكأنه يخرج من نفق، وهبط الدرج إلى آخره، ووقف أمام الباب الحديد الأسود ليتأمل المكان، فأحسَّ بقسوته ووحشته أيضاً ، فلا نبات هنا ولا زهور ، ولا شبابيك ولا هواء ، ولا صخب ولا ضجيج، وهزّ رأسه بحزن وقرع الباب بشدة، وانتظر بارتباك واضح ، ثم قرعه على عجل وانتظر، فجاءه رجلٌ عجوز طويل ضامر. فتح الباب له، ودعاه إلى الدخول دون أن يسأله ماذا يريد ، وأغلق الباب وراءه بضجة عالية، ثم مضى في الممر الطويل الضيق، يقوده العجوز الضامر الرث الثياب إلى غرفة مفتوحة، شديدة الإضاءة.
وهناك قابل مديرة الملجأ. عرّفها إلى نفسه ، وسألها عن فتحية، فأنكرت معرفتها بها وهي تبتسم. أعاد السؤال بإلحاح وترجٍ فأنكرت أيضاً، وقد اعتكر وجهها وأظلم، وعندئذٍ أخرج رسالة زوجته الباهتة الحروف ورماها أمامها، وقال لها:
* " أرجوك ، البنت عندكم،
هذه رسالة أمها،
وأنا أبوها، جئت لآخذها.
تركت كل شيء.. من أجلها "!!
وهزّت المديرة رأسها نافيةً، وطال الحوار وامتدّ، ولكن من دون نتيجة؛ فلم يأخذ فتحية معه؛ بل لم يرها أيضاً.
كانت المديرة متعاونة معه إلى أبعد الحدود بعدما أحست بلوعته ولهفته الحارقة . أخذته إلى مسؤولة الذاتية، وبحثت معها في أضابير البنات جميعاً، فلم تجدا أية إضبارة باسم فتحية ، بل لم تجد أي تسجيل لها في الملجأ، فأحسَّ بأنه يختنق ؛ وأحسّت هي بهزيمته الحارقة!!
عاود هو البحث في التواريخ ، قارن بين تاريخ رسالة زوجته وتاريخ بدايات التسجيل في الملجأ ، فصعق لأن تاريخ الرسالة سابق على تأسيس الملجأ ، ولهذا لم تكن فتحية مسجلة على القيود. كاد يأكل نفسه من الغيظ وقد دارت به الأسئلة والظنون، وحار بأمره، بحث في المدينة عن ملجأ آخر يحمل اسم "الطفولة السعيدة" فلم يجد!! بحث عن فتحية في ملاجئ أخرى ، لكن من دون فائدة. انعتمت الدنيا في عينيه. ذهب إلى أهل زوجته وسألهم عن ابنته فتحية فأنكروا معرفة أي خبر عنها؛ بل أنكروا معرفتهم بمصير ابنتهم التي طردوها بعدما أحبت ساقطاً وتزوجته ، وسافرت معه إلى خارج البلاد.
ساعتئذٍ ، لعن الظروف التي ساقته إلى هذه النهاية المحزنة، المخيّبة، ولم يتجرأ على السفر إلى أهله مخافة أن يضعف أمام أمه فيبوح لها بما حدث!! لذلك ظلَّ طوال السنوات الماضية يبحث عن فتحية، ويسأل عنها هنا وهناك ، وفي كلِّ الأمكنة ، ولكنه لم يصل إلى نتيجة! ولقناعته بأنه سيلتقيها مهما تأخر الوقت ، فها هو، منذ عاد من سفره، يأتي في نهاية الأسابيع وبداياتها إلى ملجأ "الطفولة السعيدة".
يقف بمحاذاة الدرج ، ويراقب البنات في خروجهن ودخولهن لعله يحظى برؤية فتحية؛ فتحية التي هدّته بغيابها المرّ ، وتواريها الذي ضيّع حياته.
أما البنات فقد اعتدن على رؤيته كلما دخلن أو خرجن، فيتغامزن عليه ويتندرن منه تارة، ويتهكمن عليه تارة أخرى، فيؤذيه كلامهن بأنه متسول ، ومتطفل، ورجل بلا حياء، لم يشبع من الدنيا بعد، وأنه عجوز طقّ عقله ليس إلا. ولم تفكر أيّة واحدة منهن بأنه أب يبحث في وجوههن عن وجه ابنته فتحية، لعل الدم يحنّ فجأة فيقودها إليه، ليسمع هتافها المنتظر "أبي ، أبي" الذي سيرجُّ جسده الخرب ، وروحه الذائبة، لحظتئذٍ، وحين يضم ابنته إلى صدره، سيصير شجرة لوز مزهرة؛ تلك اللحظة عصية حرون فهي لا تدنو أو تبين!! وتظلُّ البنات في دخولهن وخروجهن لا يعبأن به، يرمين له ضحكات الأسى، والصخب الحزين، والتلميحات الواخزة، فلا ترى أي منهن تلك الصورة الصغيرة لابنته فتحية التي جعلها قلادة تلفُّ عنقه لفّاً لتدقّ صدره الضامر كل آن وحين!!
حسن حميد