1- الرسام
لقد انتظر هذه الفرصة منذ زمن بعيد، وها هي تدنو في هذا المساء، فهم قادمون ليروا لوحاته الجديدة في غرفته الصغيرة التي يسمّونها كوخ الألوان!!
بكَّر، مع الغروب تماماً، في إعدادها وترتيبها. انتقى اللوحات الهادئة الألوان، ودفعها إلى المقدمة، وجعل صدر الغرفة الواطئة المقشورة الدّهان للوحة (نساء الفجر) التي امتصّت من عمره سنوات حتى أتمّها، كانت عصيّة مثل سلوى!!
2- سلوى
كانت طويلة بيضاء ملأى، تحبُّ الموسيقى والشعر، والبيوت العتيقة، والناس. لها غمازة وشعر أسود طويل يحكيان أكثر من الكلام؛ سلوى عطشه الأبدي الذي حبَّبَ إليه الناس والمدينة.
* " قال: المدينة سكين راعفة"!
* " قالت: المدينة دفء وأصحاب"
* " قال: المدينة برودة، وسهر، وأولاد حرام"!!
* " قالت: المدينة حبيب، وعريشة ياسمين، وحفنة من زبيب أشقر".
* " قال: المدينة علقم"!!
* " قالت: الوقت سكّرها"
* " قال: الغرفة معتمة رطبة، تضيق عليَّ"!!
* " قالت: ليست أضيق من أحلامنا".
* " قال: العجوز حفيظة مؤجرتي، تترصد حركاتي"!!
* "قالت: تخاف عليك".
وصمتا، تاركين لكفيهما مواصلة الحوار"!!
3- العجوز حفيظة
حين رأته في المرة الأولى، أحسَّت أنها تعرفه منذ زمن بعيد، وما أن طلب منها أن تؤجره إحدى غرف قبوها، حتى وافقت ودونما سؤال. مشت أمامه وأومأت له أن يلحقها، وبعد خطوات قليلة دلّته على غرفته. فتحت الباب، فخرج هواء ثقيل دافىء، وأضاءت المصابيح، فنهض أمامهما سرير صغير مغطّى بشرشف أخضر اللون، وطاولة صغيرة عليها صحن سيكارة من البللور، وزهرية ورد فارغة، وفي الطرف البعيد بدت ثلاثة رفوف من صاج الحديد مغطّاة بطبقة من الجرائد القديمة، وجرة ماء محشوة في كيس من الخيش المقلّم باللون الأحمر، وكأس ماء نحاسية مدوّرة، وبعدئذٍ، قادته إلى المطبخ، وقالت:
* "هنا تطبخ، وتصنع قهوتك،
وفي الغرفة ترسم وتنام" !!
ولم يقل لها شيئاً، بل همهم لنفسه:
* " إنها فهيمة، عرفتني من الألوان التي صبغت أصابعي وأطراف قميصي"!!
واستدارت دون أن تقول له أية كلمة أخرى، وظلَّ هو يرامقها، وهي تخطو نحو غرفتها المجاورة، إلى أن غابت!!
4- الرسام
عرف الكثيرين في المدينة الواسعة، لكنه لم يحب سوى قلّةٍ منهم. كان وحيداً تماماً لولا وجود سلوى التي عوّضته عن كائنات عديدة؛ بها أطفأ أشواقه وحنينه لقريته البعيدة التي لا يتذكرها الآن إلا على شكل طيف يتوازع ما بين أمه وأبيه؛ طيفٍ يبتسم له حيناً ويعبس له أكثر الأحيان !!
5- سلوى
كانت وحيدةً مثله تماماً، تعيش مع أمها المطلقة منذ زمن بعيد. ليلاً، تنسجُ الأحلامَ التي تمحوها النهارات القاسية. تبكي بعيداً عنه كما يبكي هو بعيداً عنها؛ فلا يلتقيان إلا مسافة ضوء شمعة؛ لحظتئذٍٍ، تهبُّ سلوى واقفةً، تتمنى له أحلاماً وردية وتقبّله، ويتمنَّى لها نهاراً بكراً ويقبّلها، وحين تُفلتَ الكفُّ كفَّها.. يسقط القلبان في ضجيج يرجُّ المدينة!!
6- العجوز حفيظة
راقبته في أيامه الأولى، ثم في شهوره الأولى، ثم في سنواته التالية، فاعتادت عليه. كانت، وفي كلِّ مساء، تأخذ له صحناً من طعامها، تقول له:
* " أنت ابني، كلْ من يديَّ" !!
فيبتسم لها، ويبدأ بالأكل دونما انتظار أو أنه يشمُّ الطعام ويدور به كأنه طفل يهدهده أو يناغيه، فتفرح العجوز وتنتشي، وقد وارت ابتسامتها العريضة بكفّها اليبوس، بعدما أيقنت بأنه لن يُخيب أملها أبداً؛ فقد تآلفا على نحو غريب. أهداها لوحةً ضاجةً بالألوان حين أهدته أصيصاً من الحبق والنعناع. قالت له:
* " النافذة عارية من دون حبق أو نعناع"!!
وقال لها:
* هذه روحي، خذيها، علقيها على أحد الحيطان"!!
7- الرسام
دعاهم بحرقة بادية، ورجاهم أن يأتوا بعدما أنجز كلَّ شيء، دعاهم لكي يرى ما إذا كان إعجابهم بلوحاته سيقوده إلى إحدى صالات المدينة المتكاثرة كالفطر. رجاهم أن يقولوا ما يحسّون به، وأن ينتقدوه، وأن يكونوا قساة على لوحاته؛ فهو لا يريد مجاملةً أو كلمات ملأى بالحياء. قال لهم:
* " تعالوا كالمناجل.. أرجوكم"!!
وتواعدوا مساءً على اللقاء. ومع الغروب، أخفى نباتات الحبق والنعناع، وغطّى سريره بصفحات الجرائد، وأخرج الطاولة وزهرية الورد الملأى بالورود الجميلة، وكتل الشمع الخرافية التي سيلتها شموع الليالي الفائتة، ووارى صحون السكائر النحاسية والبللورية، ونقل جرة الماء إلى المطبخ، وأدار عناوين الكتب وألوانها إلى الحائط، ونزع رسائل أصدقائه الصغيرة الملوّنة منها وغير الملوّنة المعلَّقة على ظهر الباب، رتَّبها فوق بعضها بعضاً وطواها بين تضاعيف كتاب. أبعد أمشاط سلوى وشرائطها الملوّنة، وأقراطها الصغيرة جانباً، وسحب السجادة الصغيرة إلى خارج الغرفة، نفضها وأسندها إلى الجدار؛ أراد أن يُبقي المكان كلَّه للوحاته فقط، لا شيء يغالبها أو يأخذ منها؛ وانتظر، لكنهم لم يأتوا!! بل إن سلوى حبره اليومي لم تأت هي أيضاً!!
8- سلوى
لم تواعده على المجيء، كما لم تره ذلك اليوم؛ كانت مشغولةً بأمها التي أرهقتها كليتاها في الفترة الأخيرة. أخذتها إلى المشفى صباحاً من أجل الغسيل المعتاد؛ لكن الجهاز كان معطلاً! حاولت أن تبحث عن جهاز آخر في مكان آخر لكنها أخفقت؛ لهذا أخذت أمّها إلى طبيبها الذي وصف لها دواء مضاعفاً يساعدها ريثما يصلح الجهاز. كانت سلوى ذلك المساء حزينة مطفأة؛ وكانت أمها راضية لأن الله أكرمها وأنقذها من عذاب الجهاز الفظيع!!
9- العجوز حفيظة
ها هو الليل يتقدم، وهي تراقبه بحزن شديد؛ فقد شرع يعيد الأشياء التي أخرجها إلى أمكنتها المعتادة، وكأن ما فعله لم يكن إلا تبديداً للوقت ليس إلا. بدا لها الآن رجلاً لا تليق به سوى الشفقة الجارحة!!
10- الرسام
أحسَّ أن الغرفة باردة وموحشة من دون نباتات الحبق والنعناع، وجرة الماء، والكتب، والطاولة، والكراسي، وأمشاط سلوى وشرائطها وأقراطها، والشموع ذات الكتل الساحرة، فأعادها جميعاً إلى أمكنتها، فرش السجادة فبدت ألوانها الزاهية، وجمع الجرائد من فوق سريره، وأعاد للشباك نباتاته، وللباب رسائل الأصدقاء الملوّنة، ووزّع الكراسي حول الطاولة، وأوقد الشموع العديدة، وأبدى رفوف الكتب وعناوينها، وأعاد جرة الماء، ونقع خيشها ليبترد ماؤها أكثر، وأخرج صحنين من الخزف الأبيض، الأول ملأه بالفواكه، والثاني بالزبيب الأشقر، ثم جال بنظره في ما حوله، فشعَّ المكان وازدهى بألوانه الباذخة، لحظتئذٍ، تقدم من ثيابه المعلّقة واختار منها قميصاً وبنطالاً تحبًّهما سلوى ولبسهما، وضبط قيافته على مرآته الصغيرة، ثم جلس يدخن بانتظار أصدقائه الذين تأخروا كثيراً، ولام سلوى وعتب عليها بعدما التهمه طيفها وقد جافاه طويلاً؛ سلوى التي ما اعتادها تحرق مساءاته على هذا النحو من القسوة البالغة!!
11- سلوى
كانت في تلك اللحظات تكتب له قصيدة اعتذار، وترجوه لو أن وجهه يتوحّد ووجه أمها، أن يصير هو هي، فبهذا فقط لا تنشق روحها كلَّ مساء إلى نصفين، نصف له ونصف لها، وتصير هي كلَّ هذا الخواء!!
12- العجوز حفيظة
ظلّت تراقبه وهو ينتقي ويرتّب، كأنها ترى شريطاً مصوّراً يعاد أمامها للمرة الألف!!
13- الرسام
لم يدر كيف أحسَّ أن سلوى دلفت، ودلف وراءها الأصدقاء أيضاً، فابتهج لمرأهم جميعاً، وامتصَّ غيظه وعتبه بعدما حضروا أخيراً. ولم يكن أمامه وقد رآهم يحتشدون ويتدافعون أمام لوحاته إلا أن يقوم بدوره معرّفاً، وشارحاً، ومقارناً أيضاً. أبدى لهم تفاصيل الفن الدقيقة وأسراره العظيمة، وراح يرامقهم فرحاً، وهو يرى حالات الانخطاف والدهشة وهي تلفّ وجوههم، فتوّرد وجهه كما تورّد وجه سلوى، كأن خمرة مشتركة سرت فيهما. كان سعيداً بهم؛ ضاجاً بفرح طفولي لم يقو على مواراته أبداً!!
14- سلوى
ها هي تقرأ على مسامع أمها إحدى قصص ألف ليلة وليلة، تمشي مع الشطار، وتقابل الخلفاء، وتنشد الأشعار، وتمرّ بالأسواق، تنتقي الجواري والخيول والرجال؛ ثم فجأة، تشهق وقد شهقت أمُّها شهقتها الأخيرة؛ لحظتئذٍ، يضجُّ المكان وينعتم، وتتطاير الكلمات والأسطر، ويطوى الكتّاب!!
15- العجوز حفيظة
الآن، وبعد مرور كلّ هذا الوقت الطويل، ما عادت تطيق صبراً وهي تراه وحيداً يتقافز أمام لوحاته، يتلفت حواليه لكأنه يتحدث إلى آخرين أحاطوا به، فراح يشرح لهم عن الألوان ومعاني الموضوعات وتعبيراتها، وبصوت ضاجٍ عالٍ، تسمعه يتحدث عن طبقات اللون وخصوصيته، ومفارقاته السرية ما بين لوحة وأخرى وسط حمّى من النشاط المفرط الذي يبديه في آخر الليل!!
لقد اعتادت، ومنذ سنوات، أن تراه كلَّ مساء، وهو يرتّب لوحاته على حيطان غرفته، ويعدّ طقسه المسائي الطويل هذا؛ يظلُّ على اضطرابه وحيرته وهو يراقب الوقت، يجول ما بين اللوحات وباب غرفته المفتوح ، يقوم ويقعد منتظراً قدوم أناس تأخروا في المجيء، وتظلُّ هي، إلى آخر لحظة، تنتظر أي شيء جديد يغيّر رتابة المشهد أو يحرف الطقس عن نهايته المعتادة؛ ولكن دون جدوى. وحين تحسّ بأن الانتظار سيفتك به، وقد تقدّم الليل، تنفر إليه، تقرع بابه المفتوح منبهةً، فيلتفت إليها؛ يراها واقفةً في ثبات وهي ترميه بنظرات العتب الطويلة؛ فيرتبك في حضرتها، وينطوي على نفسه، يحسُّ أنها كشفته مرةً أخرى، وأنه خذلها في هذا المساء أيضاً لأن الآخرين الذين انتظرهم طويلاً لم يأتوا؛ يودّ لو كان بمقدوره أن يصارحها الآن بأن لا أصدقاء له، ولا حبيبة، وأنه يخفي هذا عنها إلى أن يحين موعد الاعتراف الأخير، ويسمعها، بدل أن تقرّعه أو تلومه، تهمس له كعادتها كلَّ مساء:
*" أريد أن أنام يا بني،
جئت لأقول لك تصبح على خير
لكي تنام أنت أيضاً" !!
ولا تمضي من أمامه، وقد نكَّس رأسه كراية ، إلا بعد أن تراه قد أغلق الباب والنافذة، وأطفأ المصابيح والشموع.. ونام!!
حسن حميد