أعترف بأنها عذّبتني كثيراً، وأنها تركتني لأحزاني البعيدة.. ومضت!!
كانت قد جاءت إليّ في ظهيرة يوم أحد لأعطيها بعض الكتب، وتمشي، غير أنها جلست وأطالت جلوسها. كانت صامتة تنظرُ إليّ بتأمل واضح، وتستمع إلى حديثي بانشداه عجيب. تهزُّ رأسها، فيتراجف قلبي، وذؤاباتها تحوّم فوق جبينها كأنها رفُّ عصافير، وتبتسم لأرى حدود شفتيها الرقيقتين، وبياض أسنانها المتشابكة، ما أجملها!!.
[كنت أسمع بها، ولا أعرفها، لكن خيط لهفتي لها امتدّ منذ ذلك المساء العتيق، حين التقيتها في معرض للرسم. رامقتها، وهي تقف قبالتي مباشرة، ونظرت إليَّ، لكأنما كنا على استعداد مشترك لتلبية نداء روح واحدة مقسومة نصفين. كانت نظرتها عميقة وبعيدة مثل غابة لا تخوم لها، ولأنني عجول في كلّ شيء، واريتُ نظري عنها بعدما أشعرتُها بأنها بعثرتني، واقتربت. كان لابدّ لها من الاقتراب، فقد تلاقى بصرنا وهي تدلف من الباب واقفة على خطوتها الأولى. كنت مفتتح رؤيتها في ذلك المساء الذي غصّ بالكثيرين]
حاولتُ، وقبل أن آتي إلى المعرض أن أمنع نفسي عن الحضور، لأنني لا أحبُّ معارض الرسم في ساعات افتتاحها؛ تلك الساعات التي تكون مرهقة ومربكة وبعيدة عن الفن؛ لكن صديقي الوهيبي، صاحب المعرض، ألحَّ عليَّ، قال: أودّ أن أراك قربي، فأنا أحسُّ بأن الثياب الجديدة والأمكنة الجميلة لا تخفي ارتباك السنين الماضية. تعال أرجوك!! فوافقته، وجئت. أحسست بأن تلامع عينيه، وهو يراني داخلاً، أمرٌ يخصني وحدي. كان يريدني أن أراه وقد أحاطت به الوجوه الجميلة، والزهور، والروائح الرائعة، ودنيا الألوان. وما أن سلمتُ عليه حتى بادرني قائلاً:
* "أترى.. من كان يتوقع بأننا
سنصير شيئاً مهمّاً"!!
[كنت أعرفه بالتفصيل، وكان يعرفني تماماً. كنا طفلين في العاشرة نجوب شوارع دمشق في حالة من التشرد الجديرة بالبكاء الضاج. كنا نبحث عن قطع النحاس والألمنيوم وبقايا العظام وكسر الزجاج.. من أجل بيعها بفرنكات قليلة.
أذكر بأننا تعاركنا ذات صباح على عدة عبوات صغيرة من الألوان. كانت يدي أول من أمسكها. حسبتها عبوات (بويا) من النوع القصير، وقد عملت من قبل ماسحاً للأحذية، وعرفها هو، قال:
* "إنها ألوان للرسم. اتركها لي"!
كانت أصابعي متشبثة بها جيداً، لكن قولته الراجية المدفوعة بنظرته المنكسرة، جعلتني أعطيها له عن طيب خاطر. كنتُ أعرف بأنه يرسم جيداً، فقد كان يرسم لي ولغالبية طلاب صفنا. وكان الأستاذ حمودة يمتدحه كثيراً. يقول عنه شاطر، إذا لم تأخذه الفدائية سيصير رساماً كبيراً وهكذا كان فعلاً.
[ يا الله، مات الأستاذ حمودة، ولم ير الوهيبي في مثل هذا المشهد الباذخ!].
المهم، بعد تلك النظرة الطويلة، اقتربت سوزان! يا إلهي، طولها زينة، مثل حورة كلُّ شيء فيها مضموم إلى الأعلى. اقتربت، فتابعتها بنظراتي السائلة. جعلت من بصري سياجاً يحفُّ بها لتتقدم نحوي بالضبط. اقتربتْ، وواقفتني مواجهة. كنت أعرفها من مقالاتها في الجريدة. كانت مجنونة بالحقائق، والعمل الميداني، وكانت تعرفني من صوري المنشورة هنا وهناك، ومن الأحاديث التي تثار عن كتاباتي. وقبالتي، على خطوتها الأخيرة وقفت. مدّت يدها نحوي، فأخذت كفها في كفي، وهززتها بلطف شديد، ورامشت هي بأهدابها، لكأنها أمطرت في قلبي. ونسيتْ كفها في كفي، كفها الناعمة كمفرش العشب. وهمهمتْ، وهمهمتُ. ولم أفهم من كلامها سوى قولها، سأزورك قريباً. فرحّبتُ بها. لابدّ أن وجهي الفضّاح كشفني، فأدركت اندفاعي نحوها!! وأفلتتْ كفها، ومضت نحو الوهيبي مهنئة، وحين تركته لتتنقل أمام اللوحات، بدت لي هادئة حالمة مثل طيور الحمام!
وعدت إلى البيت فرحاً. كنت ممتلئاً بها، فقد رافقني طيفها طوال ذلك المساء. ظلَّ معي أياماً عديدة. صرتُ أراه قبالتي، وإلى جواري، وفي مرآتي. كان معي في كل شيء. أحسست بأنها أغلقت عليَّ نهاراتي، بل إنها، راحت تعذبني في الليل أيضاً، فهاتفتها مرات عديدة، ولم أجدها. أخبرت زملاءها في الجريدة ورجوتهم أن تتصل بي لأمر هام جداً، ودون نتيجة. حاولت أن أنساها، وأن أقنع نفسي بأن ما حدث ليس سوى لحظات عابرة، وأن حديثها كان للمجاملة وحسب. لكنني ما استطعت. كانت معي، داخل روحي؛ امرأة تأتي بعد ألف عام من الغياب، فتوقظني على وحدتي المرعبة، والسنوات التي تكرُّ بلا حساب، ومضيت إليها. سألت عنها في الجريدة، فقالوا لي: هي تكتب للجريدة، وليست موظفة فيها، ترسل مقالاتها وتحقيقاتها بالبريد فتنشر، وهم لا يعرفونها أصلاً، وحرت بأمري. وندمت، لأنني لم آخذ رقم هاتفها، أو عنوان سكنها، وما كان لي سوى أن أنتظرها، لعلها تأتي!!
وجاءتني فعلاً في ظهيرة يوم أحد لتأخذ بعض كتبي، قالت لي إنها مقصرة في قراءة كتبي بعدما تكاثر الحديث عني مدحاً وقدحاً. تمنيت، وهي لا تزال واقفة أمامي، لو كان بمقدوري أن آخذها إلى صدري في مرجحة لا تنتهي. أتت غفلة، دون أن تخبرني، بعدما يئست من حضورها، وقد حسبتها خيالاً ليس إلا!!
[لو أخبرتني، لتقيفت لها بأحسن ما لديَّ من ثياب، ولنقعت كفي في الماء الساخن، ودلكتهما بالكريم بحثاً عن طراوة مضاعفة، ولرفعت زغب خديَّ، وشربت برميلاً من القهوة لأبني لها صحواً خاصاً بها. لا أدري لماذا علقت حياتي عليها، وأنا النفور الملول]!
حين جلستْ، حاولتُ أن ألغي كل شيء، رنين الهاتف، ومقابلة المراجعين، وتسجيل المواعيد. لكنها رفضت. قالت لي:
* "أريد أن أراك وأنت تعمل..
أرجوك" !!
فعلاً، كانت محقة، فالهواتف المتقطعة، ودخول المراجعين وتسجيل الملاحظات، كل هذا منح اللقاء لطفاً وحلاوة. كنت فرحاً بها، أتأملها، وكانت تكتشفني على مهل بكل حواسها وصارحتني بأن هذا اللقاء تأخر خمس سنوات فقط، فقد عزمت أن تتعرف إليَّ منذ قرأت مقالة مكتوبة عني، كان صاحبها يشتمني. آنذاك انزعجت جداً لأنها أحستْ بأنني مظلوم؛ وفتحت حقيبتها، وأخرجت جريدة قديمة، ونثرتها أمامي، فرأيتُ المقالة تلك، وتعليقاتها المكتوبة بالحبر الأخضر؛ كانت تدافع عني بكلماتها الصريحة الحادة دون أن تعرفني؛ فأحسست بأنها تضع اللمسة الأخيرة على امتلاكي؛ ودونما وعي مني، وصفحة الجريدة بين يديَّ ويديها، ونظري ونظرها متوحدان فوق السطور والحروف.. أخذت كفيّ بين كفيها وضمّتهما إلى صدرها، وضغطت عليهما، فتلامعت عيناها لكأنهما تدمعان، وسرت في وجنتيها حمرة شفيفة كحمرة الرمان. وشعرت بها تدنو مني أكثر، لربما زاغ بصري، فأنفاسها الحارقة تتلاهث قرب أنفي تماماً. وهمهمتْ وهي تنهض:
* "نلتقي في المساء"!!
ومشت، وهي تترك وراءها نثاراً من الضوء المُذاب، دون أن تلتفت أو تستدير! وعدتُ إلى عملي مدهوشاً، فقد أوقدتني المخلوقة، ومضت!!
[والتقيتها مساءً. كانت مثل طائر يهفو إلى عشه، وكنت كالطائش الحيران. حسبتها ستأخذني إلى مكان ما، أو أن تترك لي الخيار، لكنها لم تقترح شيئاً، فقط، حاذتني مخاصرة، وراحت تقصُّ عليَّ أخبارها المحزنة، فواسيتها. عرفت بأنها وحيدة مثلي تماماً، وأن الأحلام بعدت، والرغائب ولت، ولم يبق لها سوى نافذة صغيرة على قدها، ترى الدنيا الكبيرة منها، وتغصّ.
مشينا في شوارع عديدة، واسعة وضيقة، والحديث يلفّنا، كنا كلما تعبنا، مررنا بحديقة، واسترحنا فيها. كان القمر كبيراً وقريباً جداً، جعل السماء صحناً واسعاً من الفضة المشتهاة. وامتد الليل، ونحن نمضي من شارع إلى شارع، ومن مكان إلى آخر. وأشرقت الشمس دون أن نعبأ بها، ثم غابت. وعاد القمر فآنسنا قليلاً ثم غاب. كانت تحكي لي وأحكي لها، دون أن نرى أحداً من الناس في الشوارع، والحدائق، والأمكنة الأخرى، شعرت بأنني غني بها عن كل شيء. لا أريد أحداً غيرها، ولا أشتهي شيئاً بوجودها ، لكأنني عشت هذا العمر الطويل منتظراً قدومها. وصارحتني بأنها ومذ رأتني تتعذب، لكأنها كانت تبني عشاً لي في صدرها. وما أن انتهى حتى التقينا. وأن غيابها الطويل لم يكن سوى امتحان لها. أشعرتني بأنني أعرفها منذ أمد بعيد، لذلك اقترحتُ عليها أن نمضي إلى البيت، بيتي أو بيتها، لا فرق، فرفضت بشدة، ومشينا مرة أخرى. مررنا بطيور، وأزهار، وحيوانات، ومحطات لقطارات مهجورة. وحين هدّنا الجولان، جلسنا على الرصيف البارد. وما أن شرعنا بالحديث، حتى أحسسنا بأن الرصيف راح يتحرك تحتنا، وقبل أن نفعل شيئاً، سَحَبنا الرصيفُ كبساط متحرك شديد الانزلاق نحو منخفض فسيح. فتشبث أحدنا بالآخر وانشدَّ إليه، لكن السرعة الشديدة طوّحتنا. فمضت سوزان في اتجاه، وأنا في اتجاه آخر؛ كان المنخفض كهفاً واسعاً، بارداً ومعتماً جداً. ناديتها بملء الصوت، فما استجابت إليَّ. ناديت مرات ومرات ودون جدوى. وطفقت أبحث عنها في كل الأرجاء، فصادفتني دروب، وأشواك، ومنحدرات، وجرذان، ولم أجدها. لابدّ أنها كانت تناديني أيضاً فلا أسمعها، وتبحث عني فلا تجدني، وظللتُ ألوَب وأبحث عنها، ولم أعثر عليها!!
فجأة رأيت، وسط العتمة المديدة، فانوساً يدنو مني. وقبل أن يقترب أكثر. جفَّ حلقي، ولفتني الحيرة، وضجَّ قلبي، وثبتت عيناي، كان وقع خطا حامله يتعالى في صخب وضجيج كالخيل في ساعة الغضب. واقترب أكثر. صار بمحاذاتي تماماً. فرأيته معلقاً بيد رجل ضخم، بطنه كبيرة، على رأسه قبعة من القش ، وعلى صدره ألوان زاهية، حذاؤه ثخين ومدبب، وحزامه الجلدي رفيع جداً ينتهي بحبات خرز لامعة. وإلى جواره سوزان، ذابلة الوجه، شاحبة. ترامقني من خلف كتفه بأسى!! ولم يتوقفا. تقاويت على نفسي وصرخت بالرجل، وناديت سوزان فلم يحفلا بي. تقدمت من الرجل وتشبثت به لكنه عبرني وكأنني أتشبث بالهواء. ناديت وصرخت، وبكيت.. ودونما رجاء أو أمل. ركضت وراءهما فخانتني رجْلاي، ولم ألحق بهما. ولا أدري من أين خرج إليَّ نمل كثيف لايُعد، وراح يحيط بي.. لكأنني استنفره عليَّ كلما ناديت سوزان، أو صرخت بالرجل. وواصلت ركضي وراءهما، والنمل يطردني، وقد تسلق جسدي، وراح يمتصني، فأصابني بحالة من الخدر اللذيذ، ورويداً رويداً خارت قواي، وغاب صوتي، وانطفأت رؤيتي، فوقعتُ على وجهي فوق صخرة كبيرة مسننة حادة. فسال دمي، وشهقت جروحي، وعلى الرغم من ذلك، ظللتُ أفرُّ من النمل، وأزحف باتجاه الرجل الضخم وسوزان الباكية في عتمة لا أول لها ولا آخر]!!.
حسن حميد