للنشر....ملتقى المصباح الثقافي
عزيزي الزائر / عزيزتي الزائرة شارك معنا بجمع المحتوى الادبي والثقافي العربي وذلك بنشر خبر او مقال أو نص...
وباستطاعت الزوار اضافة مقالاتهم في صفحة اضف مقال وبدون تسجيل

يرجي التكرم بتسجبل الدخول اذا كنت عضو معنا
او التسجيل ان لم تكن عضو وترغب في الانضمام الي اسرة الموقع
او تريد الاطلاع والاستفادة من موقعنا تفضل بتصفح اقسام الموقع
سنتشرف بتسجيلك
الناشرون
شكرا لتفضلك زيارتنا
ادارة الموقع
للنــــشـر ... ملتقى نور المصباح الثقافي
للنــــشـر ... مجلة نوافذ الادبية
للنشر....ملتقى المصباح الثقافي
عزيزي الزائر / عزيزتي الزائرة شارك معنا بجمع المحتوى الادبي والثقافي العربي وذلك بنشر خبر او مقال أو نص...
وباستطاعت الزوار اضافة مقالاتهم في صفحة اضف مقال وبدون تسجيل

يرجي التكرم بتسجبل الدخول اذا كنت عضو معنا
او التسجيل ان لم تكن عضو وترغب في الانضمام الي اسرة الموقع
او تريد الاطلاع والاستفادة من موقعنا تفضل بتصفح اقسام الموقع
سنتشرف بتسجيلك
الناشرون
شكرا لتفضلك زيارتنا
ادارة الموقع
للنــــشـر ... ملتقى نور المصباح الثقافي
للنــــشـر ... مجلة نوافذ الادبية
للنشر....ملتقى المصباح الثقافي
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

أدب ـ ثقاقات ـ مجتمع ـ صحة ـ فنون ـ فن ـ قضايا ـ تنمية ـ ملفات ـ مشاهير ـ فلسطين
 
الرئيسيةاعلانات المواقعالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلغرباء منتصف الطريق ـــ عوض سعود عوض  رواية ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق – 2006 610دخول
نرحب بجميع المقالات الواردة الينا ... ويرجى مراسلتنا لغير الاعضاء المسجلين عبرإتصل بنا |
جميع المساهمات والمقالات التي تصل الى الموقع عبر اتصل بنا يتم مراجعتها ونشرها في القسم المخصص لها شكرا لكم
جميع المواضيع والآراء والتعليقات والردود والصور المنشورة في الموقع تعبر عن رأي أصحابها فقط
هــذا المـــوقــع

موقع وملتقيات أدبية ثقافية منوعة شاملة ، وسيلة لحفظ المواضيع والنصوص{سلة لجمع المحتوى الثقافي والأدبي العربي} يعتمد على مشاركات الأعضاء والزوار وإدارة تحرير الموقع بالتحكم الكامل بمحتوياته .الموقع ليس مصدر المواضيع والمقالات الأصلي إنما هو وسيلة للاطلاع والنشر والحفظ ، مصادرنا متعددة عربية وغير عربية .

بما أن الموضوع لا يكتمل إلا بمناقشته والإضافة عليه يوفر الموقع مساحات واسعة لذلك. ومن هنا ندعو كل زوارنا وأعضاء الموقع المشاركة والمناقشة وإضافة نصوصهم ومقالاتهم .

المواضيع الأكثر شعبية
عتابا شرقية من التراث الشعبي في سوريا
تراتيل المساء / ردينة الفيلالي
قائمة بأسماء خريجي المعهد العالي للفنون المسرحية.. سوريا
موسوعة المدن والبلدان الفلسطينية
الـنـثر في العصر الحديث.
سحر الجان في التأثير على أعصاب الانسان
"الشاغور".. الحي الذي أنجب لــ "دمشق" العديد من أبطالها التاريخيين
مشاهير من فلسطين / هؤلاء فلسطينيون
قصة" الدرس الأخير" ...تأليف: ألفونس دوديه...
كتاب - الجفر - للتحميل , الإمام علي بن أبي طالب ( ع )+
مواضيع مماثلة
    إحصاءات الموقع
    عمر الموقع بالأيام :
    5819 يوم.
    عدد المواضيع في الموقع:
    5650 موضوع.
    عدد الزوار
    Amazing Counters
    المتواجدون الآن ؟
    ككل هناك 41 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 41 زائر :: 2 عناكب الفهرسة في محركات البحث

    لا أحد

    أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 1497 بتاريخ 04.05.12 19:52
    مكتبة الصور
    غرباء منتصف الطريق ـــ عوض سعود عوض  رواية ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق – 2006 Empty
    دخول
    اسم العضو:
    كلمة السر:
    ادخلني بشكل آلي عند زيارتي مرة اخرى: 
    :: لقد نسيت كلمة السر
    ***
    hitstatus

     

     غرباء منتصف الطريق ـــ عوض سعود عوض رواية ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق – 2006

    اذهب الى الأسفل 
    كاتب الموضوعرسالة
    للنشر
    الإدارة
    للنشر


    المشاركات : 3446
    . : ملتقى نور المصباح الثقافي

    غرباء منتصف الطريق ـــ عوض سعود عوض  رواية ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق – 2006 Empty
    مُساهمةموضوع: غرباء منتصف الطريق ـــ عوض سعود عوض رواية ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق – 2006   غرباء منتصف الطريق ـــ عوض سعود عوض  رواية ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق – 2006 Icon_minitime15.05.12 2:17

    1-
    غرباء منتصف الطريق ـــ عوض سعود عوض

    رواية ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق – 2006


    دهم القلق قلبكِ، أفقت مذعورة، سافرت أحلامك، تجري النيران في دمك، لا تعرفين من أين جاءك هاجس الخوف، جسدك الملفوف بالظلال والعتمة فرض إيقاعاته وتناويحه، بدت أيامك كالزوابع التي تلف صدرك، كالعجاج الذي تعصف به الخماسين داخل جمجمتك، نحل جسمك وبت تشكين من صداع دائم، تتحول أيامك إلى كآبة، متفردة في آلامك، في تفسيراتك، غير قادرة على النسيان، حاولت أن تنسجمي مع مخاوفك، أن تبدي طبيعية، ظلت سماؤك ملبدة، ماذا تفعلين وأنت لا تثقين بالآخرين، الوحيدة التي يمكنك أن تضعي رأسك في حضنها وتسردي ما حل بك فرات.‏

    ماذا بوسع فتاة رقيقة أن تفعل؟ سألتِ نفسك هذا السؤال وغيره، ومع ذلك، لابد من شخص تقذفين أمامه ما في صدرك، جففت دموعك، أدركت أن الحديث في أمور تخصك يحتاج إلى شجاعة، وأنت لا تملكين ذرة منها، مترددة، أطياف الماضي تلاحقك، همسات مفعمة بالطعنات تتسلل إلى فؤادك.‏

    - هيا يا هلا جئت أسمعك!‏

    تفاجئك بكل جديد و رائع، أثبتت عمق صداقتها وإنسانيتها. كل ما فيها يشع ألقاً. اقتربت وقبلتكِ. مشطت الأفق بنظرها، ابتسمت ووضعت يدها بيدك، كيف لهذه الفتاة المعجونة بالحلوى مثل هذه اللفتات والمواقف الرائعة؟! نخلة سامقة عصية، ستبادلها هذه اللفتة بمواقف جميلة، وستمنحها نهارات مليئة بالورد، أمكنة عدة ستدعوها إليها، حيث سترميان همومهما وسط الجمال، تعودان كطفلتين تحلمان.‏

    تشرعين صدرك للنسيمات. أنت بحاجة لأن تنطلقي، الطبيعة التي تصورتها زنزانة، تهبك المرح وما لم تحلمي به، تبدو الحياة مرحة، العطاء يجري في أشجارها وورودها، تنفض عنك الغبار والدخان، تفردين جناحيك، يكفيك من الجنون ما حدث، لقد بت تؤمنين أن كل فرد يستحق في ظرف ما شيئاً من الجنون. النيران التي اشتعلت وقضمت كالوحوش لياليك، لم تغيّر لب أفكارك، فالحياة بقدر ما تأخذ تعطي، وبقدر ما تقدم من غدر وطعن تمنح الفرص، هذه المقولة لم تكن في يوم سوى ترف لا علاقة لـه بواقعك، تتبدل زاوية الرؤية، النظرة إلى الكون والإنسان، وكما تتعاقب الفصول وتضيع، ضاعت منكِ الدروب وأنت تبحثين عن ذاتك، غير مرة اضطررت أن تبحثي، وعندما تتوه الدروب وتحلمين بالأساطير والحب يأتيك الخريف ثانية. مقدر عليك أن ترتدي السواد، لم تشكين؟ ثمة من هو قادر أن يحول ضعفك إلى قوة، وقوتك إلى تصميم وعناد، ستثقين به ما دامت فرات تثق به، تحتاجين إلى أصدقاء، لا حل أمامك سوى مصارحتها وطلب المساعدة.‏

    يهوي جسدك تحت ثقل الواقع، الوجه شاحب والعينان جامدتان سرق الليل أنوارهما، المطر بلل رموشك، تلاشت الألحان وباتت ليس أكثر من قرع على حجر أو وعاء معدني. نسفت الصورة التي رسمتها في مخيلته، ويوم توقع أنه أول إنسان تحادثينه وأنه أول حبيب، لم يتوقع أن ماضيك على هذا القدر من الغرابة. سألك:‏

    - لماذا لم تصارحيني؟‏

    كانت إجابتكِ طعنة أخرى، ندمت على صراحتك، والحديث عن خصوصياتك، تساءلت عن جدوى ذلك وأنتما تعيشان الحاضر! لكنك أقررت أن الفتاة زجاجة، ماضيها يلاحقها، ولا أحد يغفر، الذكرى تدخل أدق تلافيف دماغك، تصير جزءاً من مكوناتك، حقيبة تحملينها أنى ذهبت، تطاردك في النوم واليقظة.‏

    مزيج من الذكريات المؤلمة تلف رأسك، جف قلبك بما ذرف من مطر، لقد غدا غير قادر على الفرح ولا الحزن، عيناك خاويتان تتغرغران بالدمع، تذرفين كبرياءك وحياتك والإنسانية والحب، فارقك المرح، فارقت النعومة بشرتك، لا شيء تتزينين لأجله، نظرات الشكوك والصمت تلاحقك، تركت الأقدار تسيرك، عافت معدتك الطعام، سنبلة تنحنين، عودها يتقصف لأقل نسمة، الغمام غطى وجهك، قلبك غاف لا يحسُّ بالحياة، تحزنين على ثقتك بالآخرين. أرسلت بصرك إلى البعيد، غشاوة غطت عينيك، تدورين في حلقة مفرغة لا تؤدي بك إلا إلى الانزواء والشعور بالظلم، تحدقين، الماضي يتقافز، عيناه ترجوانك كشف المستور، أو تكذبين كل ما سمع، تدركين أنك جازفت. الحزن يبرعم في جوفك، أيفيدك البكاء؟ من يمسح دموعك ويواسيك؟ تستجدين عزة النفس، لا تريدين أن تكوني متعة، لم تفكري بأن حياتك أكذوبة، يذهب النهار والشمعة تفقد ضوءها.‏

    كم أحببتِ الأغاني التي تطلقها الحناجر! كم أحببت البنفسج والياسمين والورود! كم أحببت الطبيعة وشاركتها مرحها! كم حلمت أن تأخذي من الشمس حزمها الضوئية ومن الليل نجومه وأقماره! تراقبين الغروب، تدفنين النور في صدرك، تفرشين حناء الشمس مع آخر خيط من خيوطها على الدروب، تمردت على النوم، عفت الطعام، ضمر عودك، وجهك شاحب ويداك ترتجفان، وجفناك تلونا بخطين داكنين، بدأت تكثرين من شرب الشاي والقهوة، كل شيء خامد، العواطف، الأحاسيس، القلب، العينان، الفم.‏

    جاء دورك لتسمَعي صديقتك، فرات ليست بلا متاعب، منذ تركت دمشق وسكنت في الغوطة، تسرب اليأس إلى حياتها، سكنت مع أمها في شقة، وأختها هدى في شقة مجاورة، أين ستسكن إن تزوجت؟ وأين سيسكن أخوها المسافر؟ أليس لهما الحق في البيت كما لأختها؟! تنازلت عن حقوقها مقابل أن توافق أمها على الإنسان الذي أحبته، أغلقت باب غرفتها تستعيد تحذيرات أمها، تخرج لتلتقي بمن ارتاحت إليه ذابلة العينين متوترة، يسألها فتحكي قصة صديقتها التي تتعذب، في النهاية تشكو حالها، تتصور أن الأنثى لم تخلق في الشرق إلا للعذاب.‏

    تخلد إلى الصمت، ظلت أياماً لا تحادث أحداً. تجيب بهزة من رأسها. تذهب إلى غرفتها أو إلى شقة أختها التي تتعاطف معها، أما هي فتعد ضحية وفاة والدها المبكرة، الذي كان نبع حبها. تتذكره. يشجعها على الدراسة والتسجيل في الجامعة في الفرع الذي تختاره. تدمع عيناها. تناجي صورته. تحدثه. يهبها الصبر ويدلها على الطريق، تستشهد بأقواله فتجن أمها، وتجيبها: إن الأموات لا ينطقون!‏

    تعزي ذاتها، ما زالت خاضعة لسيطرة أمها، شجعتِها على المقاومة ونسيان الماضي، تحترم رأيك وإصرارك على الإقناع، طلبت إليك أن تتدخلي وتقنعي أمها بضرورة سفرها إلى أخيها. نقاشاتك صرخة في واد.‏

    تحاولين أن تكوني قوية. أن تتغلبي على ضعفك، بحاجة إلى طبيب يشخص حالتك، لم تتوقعي أن كلام الطبيب سيكون القشة التي قصمت علاقتك واستقرارك. جاء الكشف صدمة جديدة وقعت على مسامعك، أنت ذاتك غير قادرة على التكذيب، كان طلب إعادة الفحص والتدقيق فيما قاله الطبيب إحراجاً وورطة للطبيب ذاته، الذي لم يفعل شيئاً، بل أكد كلامه وبدأ يشرح أشياء لا أحد يرغب بسماعها.‏

    عدت وحيدة إلى بيت فرات، حدثتها بما حصل، وطالبتها أن تبحث لك عن سكن مستقل، لن تحتاجي بعد الآن إلى أحد، أيامك معدودة، عليك أن تلتزمي الفراش ولا تغادريه إلا إلى القبر.‏

    الآن تشعرين أنك عارية، لا شيء يسترك، كل ما أخذته في الحب والأخلاق من دروس ليس أكثر من أكذوبة، السماء رمادية كما الرماد الذي يجثم على صدرك، جسدك ينتفض، ترددين وأنت ساهمة أمثالاً وأقوالاً عن الغدر والحزن والحياة.‏

    -2-‏

    الشام تتمرد على النعاس، يشرق حسنها، مفاتنها واضحة كالشمس، طلتها كلها إغراء وإغواء، تستحم بطيوبها، تنحدر النجوم على أرصفتها شلال نور وشموع، تحيل الكلمات إلى أغان، تحيل الورد والياسمين إلى عطور، طوفان من الحب يحيل المدينة إلى نهار، الليل ينام جانب أبوابها ينتظر الإذن بالدخول، ينتظر أن يسيطر الوسن على أعين سكانها، يحاول أن يصل إلى الرموش، تطرده الأنوار، تصحو باكراً وهي تتحدث بروعة السهرات والأمسيات الهادئة، منها أمسية لم تنم فيها المدينة لحظة، نامت الريح والعتمة نوماً عميقاً، نسيمات تستدر الغناء في البيوت. من الذي يغني؟ من التي تصدح بأبيات شعر؟ ومن التي سببت هذا الشعاع الذي أنار المدينة لثوان؟ تساؤلات أطلقتها أكثر من حنجرة، لم تكن الإجابة حاسمة، إذ قيل بأن تلك الليلة كانت ليلة حالمة، ليلة ولادة فرات، لحظة شقت طريقها إلى الحياة، تحوّل قاسيون إلى نجم وهالة نورانية، أورقت الأشجار وأزهرت ونأت بحملها، أما بردى فتحول نبعه إلى نهر من لبن وعسل طوال المخاض.‏

    علمت أمها أن شأن ابنتها سيكون عظيماً، نذرت أن تعطيها لشخص يناسبها، يحفظ دينها وجمالها، أخبر الأب زوجته أن زائراً جاءه وعليه أن يسميها فرات تيمناً بالماء العذب، لم تكن الأم موافقة على الاسم ظلت تناديها بغيره سنوات. لكن الطفلة أحبت اسم فرات، فلم تعد تجيب أحداً إلا إذا ناداها به، مولودة في ليلة الجمعة المباركة، التي يسهر فيها سكان المدينة حتى الصباح، يعبون من ماء بردى قبل تلوثه، وماء الفيجة بعد أن يوزع على البيوت، وربما لهذا ساد اعتقاد أن القيامة لن تكون في تلك الليلة، هناك الحريصون على دفع السماء إلى الأعلى، وعدم تمكينها من تغيير مكانها أو الانطباق على الأرض.‏

    نظر حامد إلى عيني فرات، سعيد بما سمع عن يوم ولادتها، وسعيد بمعرفته بالشام والغوطة وبها، يريد أن يحتفظ بالثلاثة، أن لا يتخلى عن واحدة. قال:‏

    - أصدق ما تقولين!‏

    - ما فائدة ذلك وقد فقدت أحلامي!‏

    مد يده إلى دفترها: «هل تسمحين؟»‏

    نكست رأسها ولم تجب، نظر إلى عينيها، فإذا بالمرح يسرح فيهما، رفعت يدها عن دفترها، وأردفت ذلك بابتسامة، سحبه وفتحه، شاهد صورتها، تأملها، حاول إمساكها، لكن يدها امتدت، غير الصفحة وهو يبتسم، طالعته صفحة أنيقة عليها رسمة دب، قرأ اسمها المكتوب بخط أنيق واسم مدرستها، قلب صفحاته، كل صفحة فيها جديد، فيها فن، بصوت مرتفع قرأ:‏

    «فرات الوردان. مدرسة النيل الثانية للبنات».‏

    حدجته بنظرة سريعة، نظرة حائرة وطيف ابتسامة على شفتيها، هزت برأسها ولم تعلق، أردف:‏

    - فرات اسم جميل!‏

    هزت كتفيها وزمت شفتيها. هذه الحركة تفردت بها. أشعلت ابتسامة جديدة، اشتعل قلبه فرحاً، تطلع إليها منتظراً أن تقول، أن تعلق بشيء، بعد وقت قالت:‏

    - اسم عادي!‏

    - بل اسم كله ندى وموسيقا، فيه طرب وخصب وجمال.‏

    بدا الانشراح على محياها، عيناها تبرقان، تعانقان الموجودات، وابتسامتها الدافئة تعيد التوازن لشخصيتها، فجرت في داخله فيضاً من العواطف، شعر بدمه يسرع، يسابق الشرايين إلى فؤاده، يستجيب لانشراحها، عيناه تسرحان في عينيها، يدقق في تقاطيع وجهها الذي يشي بروح متقدة وارتياح وفرح، تابع حديثه:‏

    - أأنت من هنا؟‏

    - أنا من دمشق!‏

    أعلنت باعتزاز ومالت بجسدها إلى اليمين، أصدر ثوبها حفيفاً، بينما غطى اللون القرمزي وجهها، تحاول إعادة الدفء إلى روحها وقلبها، تتدفق الأحلام من نظراتها، احتفظت بابتسامتها أطول فترة ممكنة.‏

    حدقت إليه، وجه طفح، عينان سوداوان، أنف دقيق وشاربان في بداية تكونهما، شعر أسود خشن وجسد تبدو عليه القوة، كادت تسأله من أين أنت؟ إلا أنها عرفته من لهجته أولاً ولونه الحنطي، وفراستها المستندة إلى مسحة الحزن والألق المشع في عينيه. ابتسمت وتململت في جلستها، بدا جمالها عارياً من الشوائب، جمال مربك، يحاصر، يدهش، أوحت عيناها بما أرادت القيام به، همست بأنها تود المغادرة، طلب فنجاني قهوة، عاد ثانية لتقليب دفترها، يتوقف عند بعض الصفحات، وهو يبدي اهتماماً زائداً ويطلق عبارات استحسان، دائم النظر إلى ثغرها، أحس بتغريد العصافير، بجاذبيتها، حدق بها وقال:‏

    - أنت لست جميلة فقط، بل وفنانة بامتياز!‏

    ـ 3 ـ‏

    هذا أنت يا حامد لم تغيرك الأيام، لم تنس أنك أُخرجت من بيروت بعيد الاجتياح الإسرائيلي، سافرت مع من سافر إلى اليمن، في عدن أحسست بالرطوبة التي لا تطاق، بعيداً عن مسقط رأس والدك، وعن مسقط رأسك، لم تتوقع أنك ستسأل عن سفرتك القسرية، تظن أن تنقلك بين أقطار الوطن العربي مسألة عادية، لكن الكثير مما تعتقده صدمك، تعيش مأساة تشرد جديدة، شوارع المدينة العريضة حفظتها، شاطئ البحر برائحته الزنخة أبعدك عن (الكورنيش)، الناس طيبون ومتواضعون، إلا أنك لم تستسغ جلسات مضغ القات وتخزينه.‏

    أضعتَ أيامك، ذاكرتك المشوشة تؤلمك، تعيدك إلى الماضي، بتَّ لا تستطيع المكوث في غرفتك، تحولت إلى متسكع بين البحر والشوارع والحانات، شعرت باليأس يغزوك، فجأة قررت إنهاء تشردك والعودة إلى الغوطة، جافاك النوم، جداول وروافد من السنين السالفة، تتسلل إلى نوافذ ذاكرتك، عبق الغوطة ينتشر في أوردتك وصدرك، تحمرُّ عيناك، تهذي.‏

    مكتوب عليك العودة إلى دمشق في ليلة خريفية حالكة الظلمة شبيهة بليلة ولادتك، بعد أيام شعرت بنشوة تتوحد بجسدك، نشوة جعلتك تحسُّ بالدفء، تراقب الشمس كيف تشرق وترتفع في الجو جارة جدائلها. شفّت السماء عن نهار جميل وسماء عالية مرحة، لم تكن مشتاقاً لخالتك كثيراً، تابعت سيرك، تركت الأقدار تسيرك، تنفذ قرار نقلك، تدعي أنه جاءك بلا سبب، لا شيء يأتي من فراغ، فتش عنه في حديثك وفي تعليقاتك الساخرة وفي أشياء أخرى تعرفها ولا تريد أن تصرح بها، اتهموك أنك غير مرن، تظن أن الأمور «فلتانة»، لم تتعلم بعد ما يجنبك المساءلة، أن توظف داخلك أحد الضباط الغيورين على مصلحة الوطن، فلا تعود تتفوه بكلام فارغ، اليوم جاءك النقل، نزل عليك من السماء، شيء لا راد له، عليك أن تكيف نفسك، كنت تصل مدرستك بنصف ساعة، أما اليوم فتحتاج إلى ما يزيد على ساعتين، وإذا تماديت لا شيء أمامهم إلا الفصل.‏

    ارتديت معطفك ودمدمت بأغنية حزينة، حاولت أن تجيب على أسئلة طرحتها على نفسك، مزاجك لم يكن على ما يرام، انتبهت إلى المكان الذي ستحط قدمك فيه، إذا زلت ستسبب لك متاعب أنت في غنى عنها الآن، السماء تفيض دموعاً، وعيناك جمرتان تحرقانك. نظرت في المرآة، ومسدت بيدك على المعطف الذي ما يزال يفي بالغرض لهذه السنة. فتحت المظلة بعد أن سويت شريط الحديد المحني. سنوات ومدرستك لا تبعد عن بيتك إلا قليلاً. تبدأ حياة جديدة، ستضطر فيها إلى تغيير نظام حياتك. عليك أن تأخذ الباص إلى ملعب العباسيين ومن هناك وسيلة نقل أخرى توصلك. تحشر جسدك بين الصاعدين. الباص يقف في المواقف الرسمية، وأحياناً في غيرها إذا طلب أحدهم ذلك بصوت عال وبلهجة تنم على أنه مدعوم. وبين وقوف السائق أو عدم وقوفه يتلقى سيلاً من الشتائم.‏

    المدير الجديد عارف أيوب مشفق عليك. دائم التنقل ما بين الإدارة وصفك. كان يبقى في إدارته أو يتنقل بين الصفوف. أما اليوم فليس لـه عمل سواك، يحضر دروسك ويعطيك التوجيهات التي مللتها، يضع ملاحظاته على دفتر تحضيرك، وعندما لا يجد أية ثغرة ينفذ منها، يضحك ويداعبك فتظهر أسنانه، يمزح معك وهو لا يجيد الفكاهة.‏

    - هل هناك عقوبة أكبر من مزحه؟!‏

    يدعوك إلى الصلاة والصوم، يعظك لتكون مواطناً صالحاً، تكظم غيظك، لا تستطيع أن تصرح برأيك، أن ترد على دعوته، وتقول لـه إنك لم تصلِ وربما لن... وإنك مواطن صالح تحافظ على نقائك، يرد عليك بصوت يسمعه المدرسون إن الفرق بين المؤمن والكافر ترك الصلاة.‏

    هذه نهايتك يا حامد رفضت أن تحني هامتك، وها هي تصل إلى الأرض، رفضت عرض من جاءا إلى بيتك، يحدثانك عن القيم والحياة وما يجب عليك فعله لتجنب النقل. استشهدا بالقاموس المحدث الذي يتلاءم مع المجتمع المدني والذي بفضله سيطير العصفور بلا جناحين. ويتسلم المناصب من يفهم المعاني الواردة في هذا القاموس. قال الأول:‏

    - من الظلم أن تجازف بمستقبلك. قال الثاني:‏

    - أنت ابن عمتي، العقوبة لرفيقنا، فقط عليك مساعدتنا لتحقيقها.‏

    - الثمن غال يا بن خالي!‏

    أنت اليوم تطلب عفو مديرك، الذي ارتفع صوته، وبدا عليه الشباب على الرغم من شعره الأبيض وتجاعيد وجهه. تشعر أن أقواله تخرج من حنجرته لا من قلبه، أحسَّ أنك تنفذ ما يقول ويأمر إشفاقاً عليه، ارتفعت وتيرة التهديد فتنامى خضوعك، تجيبه حاضر، تكرم، سأنفذ ما تريد بالحرف الواحد، يتمادى ويخبرك، إن فصلك من العمل متوقف على تقرير مني، تنحني أكثر لكونه صاحب فضل، وعندما تحدثه وتطالبه أن يرفع التقرير وينهي عذابك، تهل دمعتان من عينيه، يبدو وجهه ثقيلاً، يهرب إلى الإدارة، يستعيد قوته، يعود ليقول أي كلام وقد يكون أعنف من السابق، تضحك لفكاهاته وتصفه بأنه صاحب ظل خفيف، صاحب دعابة وروح مرحة، حتى عندما وقف أمام الطلاب ووصف الذين لا يصومون بالكافرين، صفقت لكلامه وكأن ما قاله لا يعنيك، مع أنك تعرف أنه يقصدك، في اليوم الثاني جاء إلى صفك يطيب خاطرك، ويطلعك على سر حزنه وتصرفاته، انهمرت دموعه وهو يصرح عن اعتقال ابنه منذ سنوات، ابنه الذي لم يزره إلا مرة واحدة، والتهمة الموجهة إليه ربما إذا فكرت جيداً ستعرفها.‏

    شعرت أن مواساته ضرورية. وأن عليك أن تقول له: تفرج يا أستاذ سيخرج ابنك مرفوع الرأس إذا كان غير مذنب، ربتَّ على كتفه ووعدته أن تظل مثال المعلم المخلص، بعفوية أكد فيك هذه الصفة وصفات أخرى لم تكن تتوقع سماعها منه.‏

    الأستاذ عارف نشيط، مدير بكل ما في الكلمة من معنى، ما إن يجلس على الكرسي في الإدارة حتى ينبهه ضميره لأشياء تجوز وأخرى لا تجوز، يدور على الصفوف، لا يتوقف إلا عندك، يضحك فتبادله بابتسامة، في الفرصة يكمل توجيهاته وهو يتطلع إليك، وفي كل مرة يفتر فمك عن ابتسامة تمتص غضبه، تفاصيل كثيرة يؤكدها، التحضير، دفتر العلامات، دفتر المعالجة والتشخيص، التفتَ إليك ليخبرك، إن مديرك السابق كان معلماً عنده، أخذ يشرح كيف استلم الإدارة، ودور زوجته التي أبلغته بأنه سيصير مديراً لإحدى المدارس، ورفضه إرساله قبل نهاية الدوام، لكن وبعد عشر دقائق اضطر إلى حني رأسه، أعطاه ما يريد من إجازات، كان هذا آخر عهده به.‏

    ـ 4 ـ‏

    هذا اليوم يختلف عن غيره من الأيام. عليكَ أن تفيق باكراً. تخرج بعد شروق الشمس، في الليل انتابك قلق، خفتَ ألا تصحو في الوقت المناسب، نومك المتقطع جعلك جاهزاً حتى قبل الوقت الذي قررته.‏

    لفحتكَ ريح باردة، فركت يديك، البخار يخرج من فمك، نظرت يمنة ويسرة لم تجد أحداً، أسرعت لتصل أبكر، وتحصل على شيء من الدفء. السماء عابقة بالغيوم، تختفي الأشعة ولا تظهر إلا لحظة تجاوزت الغيمة وجه الشمس، حبات المطر تصدر لدى نزولها إلى الأرض أو في بركة ماء صوتاً أجوف كاشتعال عود الثقاب، خطوط متكسرة تجوب صفحة السماء، هبوب يحرك الأغصان يغريها بالتمايل، لفتت شجرة الحور انتباهك، لاحظت حركاتها وليونة أغصانها، تذكرتَ خضرة ثوبها حيناً وخلفيته الفضية حيناً آخر، وكيف ترتفع الأغصان في حركة متناسقة مع حركة الريح المغزلية، الأوراق تتوق للانعتاق، تفننت بإظهار حبها للأفق أشبه بفتاة مدت ذراعيها لاحتضان القمر.‏

    تتكرر هذه الحركات بعشوائية. أما من استعصت من الأشجار على الانحناء والميلان فتكون كالمتصوفة تعيش لحظة التأمل والتذكر.‏

    مهرجان من الألوان يغطي وجه السماء، غيوم بيضاء ورمادية وسوداء. تعرض الأخيرة مهارتها وزوابعها، تحول السماء إلى دخان وغبار، والأفق إلى لون سديمي، تلفك نسمات باردة، تسري القشعريرة في جسدك، الغيوم تهرول شرقاً، الرياح تدغدغها. تتناثر أشبه بلاعبي كرة القدم في بداية اللعب. نسمات أكثر برودة تهب. نظرت إلى الساعة إنها السادسة والثلث. تحث خطاك، تهرول، لو رآك أحد لظن بك الظنون، راقبت الطريق وتابعت الركض وما هي إلا فترة قصيرة، حتى وصلت إلى الموقف، وفي نيتك أن سيارة النقل الداخلي تنتظرك، خاب ظنك، نظرت شرقاً لا أثر لأي شخص، ولا لأية حافلة، لا شيء سوى بعض السيارات التي تخفف من سرعتها لدى اقترابها. لكنها تتابع سيرها.‏

    عدت بذاكرتك إلى سنوات خلت لحظة رأيت شاخصة «الترام» الذي كان يمر محدثاً جلبة، يدندن، يصعد الركاب وعلى وقع موسيقاه وتبختره يجدون أنفسهم وسط دمشق في قلب المرجة. نظرت حولك، لم تعد وحيداً، آخرون بدؤوا بالتوافد. بعضهم مسرع وآخرون غير مبالين. يقفون إلى جوارك إن كانت وجهتهم العاصمة. أو على الطريق المقابل كبعض العمال والجنود الذين ينتظرون وسائط نقلهم الخاصة.‏

    تحتضن ذاكرتك الطريق الموصل من بيتك إلى الشارع العام ، على جانبه أشجار الجوز التي تجاوزت شبابها. وعلى الطرف الآخر ساقية على ضفتيها الأشجار المثمرة والورود والعليق. أما اليوم فقد اختفى هذا الجمال، البلدية قررت سقف القناة الزراعية التي لا مياه تجري فيها، بعد أن تخلى الفلاحون عن فلاحة أرضهم وزراعتها. باعوها بالأمتار والقصبات بعد أن ارتفعت أسعارها. فتكومت أكداس البنايات دون رخص. وتحولت الطرق الفاصلة بين البيوت إلى أزقة لا تتسع لمرور أكثر من سيارة صغيرة.‏

    سألت نفسك عن الحسن الذي كان، أين هو؟ أين الأشجار؟ حذاؤك ونهاية بنطالك تلوثا بالوحل. الطريق الظليل الجميل، تحول إلى كومات من التراب والأوحال، ثلاث سنوات والمشاريع تتوالى، مشروع إيصال مياه الشرب إلى البيوت، مشروع إيصال المجاري إلى المصب العام، وكلها لم تنته.‏

    الغوطة تتعرى، سُرق ثوبها المزركش، فلم تعد الغوطة واحة، ولم تتحول إلى مدينة، لعنة أطلقها قاسيون على الإسمنت، وعلى (المجارير) التي توسدت المجرى.‏

    جاءت سيارة النقل الداخلي، وأنت ما تزال تعيش مع الماضي، لم تنتبه لوقوفها، ولا لتدافع الركاب وصعودهم. أحد جيرانك شدك وقال:‏

    - هيا يا حامد.‏

    أغلقت ذاكرتك وأسرعت إلى السيارة قبل أن تتحرك وتتركك على الرصيف.‏

    صعدتَ، خطفتْ نظرك فتاة جالسة في أحد المقاعد الأمامية. أول مرة تراها، جذابة، تفيض أنوثة، البرق يتلامع من محياها، كادت تنفلت منك كلمات ترحيب، انتبهت إلى الموجودين، أحسست بشيء دفعك للتحديق إلى عينيها، عينان عميقتان، أحست بمراقبتك، وميض ابتسامة على شفتيها، خفت عليها، أمثالها يصعدون في حافلة؟! أهي حلم أم شعاع من نجم بعيد؟! تحاصرها الأعين، تنزل حيث تنزل، تقف قريبة منك منتصبة القوام، كل منكما ينظر في عين الآخر. صعدتما الحافلة المتجهة إلى باب مصلى هناك افترق طريقكما، إذ اتجهت إلى حي الميدان، بينما اضطررت إلى متابعة طريقك.‏

    تكرر الصعود والنزول، حاولت أن تحتفظ بملامحها، أن ترسم تقاطيعها، من الصعب نسيانها، في الصف تغزو مخيلتك وتفعل الشيء ذاته في الشارع والبيت. بادلتك الحديث، تحاول أن تقرأ في تعبيرات وجهك وأي الرجال أنت. في عينيها بريق وسحر يصعب عليك التخلص منهما، تحاصرك في النوم، تسهر مع طيفها في انتظار الصباح.‏

    تحاول أن تصفها على الورق، فتاة ذات قوام أهيف. تشرّب الكثير من الحليب مع قليل من الياقوت. عيناها تسرحان في الأفق، شمس مرحة تعانق محياك، شعرت أنك أمام فتاة غير عادية، فتاة خارجة على القانون. كلها فوضى، تسكن مجرة الغوطة، لا تسدل الغطاء على وجهها ولا تلبس قفازات تغطي كفيها، وجهها مرآة وصدرها بستان وحديقة، أحسست بها، توغلت داخلك، قبضتْ على تفكيرك وفؤادك، انجذبت إليها، أنت على استعداد أن تترك دروس ذاك اليوم وتمضي نهارك معها. أن تكتشف كيف تستعير الفصول نقيضها، وكيف تشعل الحرائق في دمك! تخضر صحراؤك، تحولك إلى أسير، تصادر قلبك، أنفاسك، أحلامك. تتوحد الغوطة بطلتها. تطرز الفرح والأغاريد، الأغاني تزفها لروحك، سرحت وفي ظنك أن مجرد التعارف سيهبك اللذة والمتعة! لم تعلم أنها مخلوقة من نار. تكوي لياليك بالحرقة والغصات، تمضي معها دقائق تسميها أحلى الأوقات، تنسف اتزانك، تحاول أن تعود إلى هدوئك، إلى ماضيك، أن تنساها، يزحف بحرها ويرشقك برذاذ ناعم ينسيك المتاعب، لم تعد قادراً على نسيانها، الياسمين يذكرك بقدومها، ودمشق مدينة الياسمين، أنى اتجهت تجده، فكيف تنساها، تنسى فتاة مخلوقة من الياسمين؟ عطرها يملأ ساحات تفكيرك، تراها كل يوم، تحادثها، تفكر بلقائها بعيداً عن الناس. كل ما فيها يغري بالمجازفة، مددت لها وردة، نظرت إليك، تحركت يدها، تناولت الوردة وضمتها إلى دفترها، تذكرت ما سمعته عن الدمشقيات ولغة الورد، وإن مجرد قبول هدية من هذا النوع تفسح المجال لعلاقة مميزة، الورود أفراح تتراقص في القلبين، كل ما فيها من ارتباك يفضحها، غادرت السحب أبراجها وتكومت على شفتيها، قالت:‏

    - أنا لا أملك قلباً لأحب يا حامد!‏

    حاصرتك فرات بهذه الجملة التي استوقفتك طويلاً، أهي حقيقة أم مجرد دعابة وعبث نسائي؟ ظننت أنك قادر على سبر ماضيها، بعد لقاء أو لقاءين، ليس بالضرورة أن تفهم كل شيء دفعة واحدة، تظل عواطفها عصية، تبدل حياتك وتنسفها، لتتحول إلى نقطة مضيئة في مسيرتها، تهب الطمأنينة لروحها، أما ذاتك فمزيد من المتاعب والقلق واستعصاء النوم. الآن تأكدت أنها تحاصرك، تأتيك مع الهواء، مع الماء، مع الأحلام الجميلة، مما زادك إصراراً على نبش حياتها، وإزالة الغمام عن محياها، ليحتفظ وجهها بإشراقته.‏

    ما زال لقاؤكما برعماً، في سماء عينيها سحب كثيفة اتفقتما على اللقاء وخططتما لـه لحظة بلحظة، كنتما سعيدين، سيفتح كل منكما فؤاده للآخر، ستنفث الغيوم إلى الأفق، اصطدمت بصعوبات، لم تتصور أنها عصية إلى الحدِّ الذي يجعل ماضيها حاضراً، تجربتها تلاحقها، وأنت غير قادر على جلب الترياق وتخليصها من السموم التي انتشرت في جسدها، وغطت على خفة روحها! جلستما متقابلين، شعت عيناها، نظرت إليك وشردت، وجهها سحب تحمل الزوابع، نجمة مسورة بليل، جسدها يتمايل وهي جالسة، تهز بأطرافها، انتبهتَ إلى حركاتها، إلى عينيها اللتين تتفحصان وجهك، بادلتها النظرة بمثلها، وردة تسافر في عروقك، في أنفاسك، في نظراتك وأحلامك، تحلم بمستقبل غير قادر على تحديد معالمه، بصماتها العصية على الفهم تجعلك متوتراً، المطر وهبك شيئاً من السكينة، يغريكما بجلسة طويلة، الهطل في الخارج يرسم بصماته الأخيرة على شوارع المدينة وأبنيتها. شتاء سبعة وثمانين غريب الأطوار. قضم الكثير من فصل الربيع، المطر انهمر بغزارة في آذار ونيسان ربما بغزارة كوانين أو أكثر، يلاحق البرد الناس، ينهمر الثلج في آذار، نظرتْ من خلال زجاج النافذة وعلقت: "الحياة لا تطاق يا حامد! أفكر في الرحيل، في ترك الغوطة."‏

    الغيوم تتوالد من جديد في صدرك، وفي سماء مغطاة بالألوان الداكنة، في داخل فرات طفلة مشاكسة، تحاول التخلص من القيود المفروضة، أن تطير كالعصافير، لكن كيف وهي غير قادرة على الحصول على ربطة خبز أو كيس خضار أو فواكه أو قليل من اللحم، ليس لديها طاقة للانتظار أمام المؤسسات، صف النساء طويل، منت نفسها أن أمها ربما استطاعت الحصول على حصتها من الخضار والفواكه، وإذا كان حظها رائعاً تجلب معها علبة سمنة.‏

    تنهدتَ وابتسمت، اعترفت أنها على حق، لكنك لا تستطيع مصارحتها، أنت تحبها ولا تريد أن تخسرها، أنت الرجل لم تستطع الحصول على كيس خضار أو فواكه، تذكرت كيف وقفت في صف طويل، مع اقتراب دورك يتحول الحلم إلى حقيقة، لحظة مددت يدك للحصول على ما تريد من التعاونية، زقزق في داخلك ألف عصفور. تدعو الموظف لتناول النقود وإعطائك ما طلبت، ظننت أن دورك قد وصل، وأن قوتك قادرة على الاحتفاظ به، تمسكت بحديد الكوة، الرجل الذي أمامك أخذ ما أراد، يحاول الخروج، في هذه اللحظة جاء رجال سدوا الطريق، ترنح الصف ذات اليمين وذات الشمال، بقيت ثابتاً مكانك، لكن الشيء الذي لم تضعه في حسابك أنه بعد أن أخذ حصته ولم يجد طريقاً جانبياً للخروج، جرب قوته، فوجد النقطة الأضعف خلفه، كور جسده وبدأ بالتراجع، مما مهد لدخول الذين على يمين الصف ويساره إلى الكوة. وهذا ساعده على تركيز قوته بخلخلة الصف، استمرت حالة الدفع إلى الخلف والأمام والجانبين، كانت حصيلة ذلك أنك ركبت على ظهره وصرت خارج الصف. لم يكتف بذلك بل شتمك ووصفك قليل الذوق! فركت جبينك، نظرت مذهولاً، كيف تفكر بالمؤسسات وفرات أمامك، نظرت إليك نظرة ذات معنى. وقالت:‏

    - نحن هنا!‏

    تأملتها، كل ما فيها ينطق بالنعومة والجاذبية.‏

    الريح تشتد، تتلاعب بشعرها وبأطراف فستانها، تتسلل إلى جسدها إلى أكثر الأماكن حساسية، حنت جسدها، بيدها ردت نهاياته، تشدُّ على وسطها، راكضة عكس الريح، تاركة لـه حرية مداعبة ثيابها ضاغطاً على جسدها مبرزاً مكونات أنوثتها وتفاصيلها، الهواء تمرد، تجاهلته ومشت غير آبهة. تمهلت في سيرها وكادت تتعثر، قبل أن تفترقا لوحت بيدها وأسرعت.‏

    لا تملك فرات فائضاً من الوجد. ظنت أن علاقتكما ستظل مجرد صداقة بريئة، لكن شيئاً ما في داخلها بدأ يخربش، وردة روحها تنتعش. تحاصرها، تستعيد كلماتك، تتخيل شخصيتك وتدقق النظر إلى عينيك، تكتشف أنك موجود في كل ركن من غرفتها، لم تنم تلك الليلة، سهرت وأخذت تلوّن السماء المطرزة بحزام من النجوم، أبعدت السحب، أحست بحيويتها، هرب النوم على وقع الأحلام والذكريات، ترهقها العتمة وأحياناً تؤنسها، طائر يهجع في صدرها يغرد، قلبها يدق على ألحانه طوال الليل، مع تباشير الصباح تنطلق النايات، يطير فؤادها صوب اللحن، تنشد الأغاني، ما زالت غير قادرة على التخلص من ماضيها.‏

    الزمن يعيد برمجة حياتها، تنفتح أمامها كوى، ترصد حاضرها، تنفتح لها الحياة، لكنها تظل أسيرة تجربتها، كلماتكَ الرقيقة تفعل فعلها، تنتظر أن تمنحك الحب، أن تنتصر على ذاتها، تنتظر غيمتها التي قد تمطر في حقلك، ذكراك تفجر شجونها، تأتيها مع الشهيق، مع الماء، مع امتداد النظر إلى الأفق، مع القمر، مع الصباح، تحاصرها، وجودك حاضر في رأسها. يؤرق روحها، تحفر في فؤادها مجرى للفرح، تزرعك في مقلتيها وردة، ياسمينة تحسُّ بالصدمة التي تصيب أيامها، أتستسلم أم تتمرد؟ تفتح الأبواب باباً بعد باب، تشعر بالمرض يدهمها عليها أن تقاومه، أن ترسم بهدوء أيامها وتعيد سيرة أيامها الخوالي، تفرح لطفولتها، وتذرو ماضيها القريب في الهواء، تتخلص من الحمل الثقيل، ومن أسئلة تتردد في صدرها ولا تجد إجابة مقنعة عن بعض جوانبها.‏

    فرات حولتك إلى رجل قلق وحالم، لا ترى من الدنيا إلا طلتها، ولا تتذكر من الأحاديث إلا أحاديثها، وجدت نفسك أمام فتاة ذات ذكاء، تهبك ابتسامتها ودفقة من نيرانها، تحيلك إلى جمر ورماد، تزرع أملاً في فؤادك ينمو ويثمر، وكما يحدث بعد اللقاءات الأولى، تتأجج العواطف ثم تهدأ قليلاً. تسأل نفسها، ماذا بعد؟ عرفت أنها لا تسعى للاقتران بأحد، لكن محطتك دفعتها لإعادة أفكارها، تعيش معك لحظات زمنها كلمع البرق. استطاعت أن تكتشف عواطفك، بات من السهل أن تشعل في هشيمك النار، وسيكون من الصعب أن تعيد التوهج لرماد انطفأت جمراته، لتبرهن أنها تحبك، بدت تائهة، متقلبة المزاج، تداري انفعالاتها بلباقة، أما إذا هبت الريح فلا تملك ما تفعله سوى رفع يديها إلى الأعلى، تبدو ضعيفة لا تملك قدرة لإيقافها ولا لدفعها، تشعر أن لكل علاقة وجهين، هي ذاتها بوجهين، وجه أنثى تتسلق بصحبتك رابية الحب التي في أعلاها الشوك والدموع، ووجه ابنة المدينة التي تنصت إلى أمها، ولا تستطيع قول كلمة تعكر مزاجها، تبحر في المجهول، في طريق السعادة المجهولة، حبها جرة مكسورة لا تنفع للعرض ولا لخزن الماء، كانت ذاهلة، تصطبغ وجنتاها بالأرجوان، هل تخدعك أم في حياتها طعنة؟ اعتذرت وقالت: "غداً نلتقي وأحدثك."‏

    لم يعد القمر ينير دروبها ولا قلبها، اختفى من السماء ومن صدرها، تنظر إلى السماء وإلى الأرض، تبحث عن موطئ قدم في رحاب الصدر الواسع، أما السماء فلن تكون أكثر من لحاف غير قادر على منحها الأمان والنوم.‏

    ـ 5 ـ‏

    أنت تحاول فتح أبواب موصدة، لشدة إغلاقها بدا فتحها غير ممكن. المفتاح لم يعد قادراً على التغلغل ما بين الصدأ والحديد. ومع ذلك نذرت نفسك لأصعب المهام. ها أنت ذا تفتح النافذة المغلفة التي أوصدتْها فرات. رسمتَ في ذهنك أجمل صورة لها. تحملها قطرة ندى على كفيك. الحب سيزيل ما بينكما من جبال وهضاب، الصحراء تخضر وتصفو السماء وتغرد الطيور.‏

    كانت مندفعة للتخلص من ماضيها. لم تحسب أن قصة جديدة بانتظارها، أن مغامرة تنتظرها، وهي بتقبلها السير إلى جانبك، بوضع يدها في يدك، باحتفاظها بالوردة، إنما تهيء نفسها لمرحلة جديدة. وإن كانت لا ترغب بتجربة حب، لكنها ستجد نفسها قد وقعت في المصيدة من حيث لا تدري. هي غير قادرة على تشوف أيامها. أفكارها تسير القهقرى. تجتر أحزانها. تحجب السعادة عن روحها وقلبها يدق. من آلامها انفلتت رغبة عارمة وسؤال يدعوها إلى التجربة. عاد البريق إلى عينيها، والفرح إلى وجهها. تهمس بكلمات ناعمة. تأتيها الأحلام الجميلة. كل شيء فيها ناعم، كل شيء فيها راقص. ابتسامتها ونظراتها وحديثها. روحها المرحة لم يهبها الله إلا لقلة من عباده. روح شيطانية بجسد بهي. نظراتها تختزل دواوين الشعر. عبقت بالياسمين. تتلاقى الأعين. تدقق في تفاصيلها.‏

    تعكس المرآة جمالها. جبهة جلواء تجعل الوجه يميل قليلاً إلى الاستطالة. عينان واسعتان وبشرة تقطر حليباً مع قليل من العقيق على خديها. شعر مسترسل وأنفاس تعبق بالمسك. عطرها خمرة، وجسدها رشيق ومكتنز. تنظر إلى وجهها، تزين شفتيها بالأرجوان. تتأمل جسدها، تحس أنه خفيف. ردت غرتها إلى الخلف ونثرت شعرها للنسيم. معجبة بفتنتها وكبريائها.‏

    اعتدتَ على رؤية وجهها البشوش. شعرتَ بعاطفة تتغلغل في شرايينك. الأحلام تتسلل إلى روحك. تهرول إلى الشمس، إلى البساتين الرائعة، فإذا بك أمام فتاة من نرجس. فتاة كالزئبق. فاجأتك بموهبتها. فنانة تداعب ريشتها الأحزان. تسخر من الأيام التي حرمتها من العبث الجميل على أطباق الكرتون. زجت بها في أتون التدريس. نصف معلمة أو كما يسمونها وكيلة.‏

    الأغصان لا تموت إن وجدت تربة صالحة. تبرعم فتتوالد أفنان غضة تشق طريقها. لو وجدت فرات تلك التربة لكانت مجازة من كلية الفنون الجميلة. لو كانت أية فتاة لودعتها وابتعدت عن طريقها. الأمور لم تعد ملكك. لقد فجرت شخصيتك وألهمتك مجموعة قصائد.‏

    اتفقتما على اللقاء، جاء أناس كثيرون ومضوا، بعضهم انتظر بضع دقائق قبل أن يرحل، أنت الوحيد الذي انتظر أطول فترة، وهي الوحيدة التي لم تأت، تذرعت أنها مريضة، لم تصدقها، ولم تعطها فرصة للدفاع عن ذاتها، اقتربت منك أكثر واعتذرت، لم تفتح فاك بكلمة، غيوم تسرح في أفق وجهك، رمقتها بنظرة، تحاشتها، هرب لون وجهها، تطلعت إليك، وعلى شفتيها ابتسامة فجرتها لإرضائك، واعدة إياك باللقاء ثانية في الزمان والمكان ذاته اليوم.‏

    بان على وجهك الفرح كالطفل الذي يحصل على قطعة نقود معدنية، داعبت أناملك الغيوم، اجتاحت السحب موجة من الفوضى، تركض على غير هدى، تقترب في عملية جذب ثم تتناثر أوصالها وتنزل فوق الصخور والتراب والرمال والمدن، فتشعر الأرض بأنوثتها وتخلد لأحلامها.‏

    جاءتك فرات عروساً في أحلى ملابسها، تسللت يدك وأطبقت على كفها في مناوشة متعمدة، وحركات لا إرادية، دهشت لقوامها، لزينتها، لعطرها، لابتسامتها، لحضورها، صعدتما سيارة أجرة وطلبت إليه أن يتوجه إلى الشادروان، نهبت السيارة الطريق، كانت أبواب المقاهي والمقاصف والمطاعم مغلقة، موسم افتتاحها لم يحن بعد، وقفتما أمامه وأسندتما ظهريكما إلى بوابته: "إلى أين أيتها الجميلة؟"‏

    في نهايات الشتاء تتعرى الدروب وتقفر الربوة من روادها، تبدو كالأكشاك المقفلة، لم يكن سواكما، نظرت إلى عينيك نظرة مرح، مددت يدك لإيقاف سيارة والعودة إلى المدينة، ردت يدك اقتربت منك وقالت: "أنا وأنت والطريق نمشي حتى نصل إلى المرجة أو ربما الغوطة!"‏

    الدروب التي ستسلكانها طويلة، تحتاجان ساعتين وربما ثلاثاً، لم يعد يهمكما الوقت، نذرت نفسها أن تمضي المساء وقسماً من الليل معك، بدت محبة للمشي، سارت إلى يسارك، روحها الشفافة تمنح جسدها خفة ورشاقة، التصقت بك، تسمع دقات قلبك، تبدو لا مبالية وغير خائفة لا من عتمة الليل ولا من الناس، ولا من أي تأخير، باختصار وصفتها متمردة.‏

    كانت متمردة حين قررت لقاءك، ومجنونة حين قررت السير إلى يسارك وحيدين، كل خلجة من خلجات فؤادها تصلك، فرحة بجنونها الذي لا يقاوم، تغذ السير عبر الدروب المهجورة في ليل المدينة، على يمينكما بردى غارقٌ بأوحاله. كلما ابتعدتما عنه شعرتما بنسيم الربوة وقاسيون، ما يشفع لـه أنه وهب ذاته وظل عارياً، يدها المدسوسة في يدك تستسلم للعناق، بينما وجهها الذي يفيض نعومة ورقة يفجر المرح في أعماقك، عطورها تستفز حواسك، وابتسامتها النضرة تهبك الهيمان، نظرت إلى عينيها وقلت: "ما أجملهما! كم فيهما من الدفء والأحلام!"‏

    تبتسم ويتمايل قوامها، تقترب وتبتعد وكأنها في رقص صوفي، يدك تحتضن خصرها، الأفنان متشابكة، تستنشق عطرها، تهمس:‏

    - الحب أنتِ، فكيف لا يكون رائعاً!‏

    - أنت تجعلني ضعيفة يا حامد!‏

    وقفت قبالتك تهبك عطرها وأنفاسها، فرحها وابتسامتها، تدقق في ملامحك، وتنصت إلى كلماتك، انتقلت ذبذبات صوتك إلى فؤادها، ملأته حناناً وشوقاً، ملامح الطفولة والخفر تغزو وجهها، تستيقظ طفولتها وترسل ابتسامتها، حنيتَ هامتك لشفافيتها وجاذبيتها، حديثكما تمارين غزل عفوي، غزل الأعين، الأيدي، الصمت، تسحب الأنوار الباهتة ظلالها على طول الشارع، انهزمت خيوط الشمس وسلمت أنوارها إلى عالم آخر، شعرتْ بالغربة بالحاجة للاحتماء، اقتربت منك وهي تستنشق أنفاسك، تخلصتْ من خفرها حين اقترابها والتصاقها بجسدك، أصدر ثوبها حفيفاً ناعماً في تلك اللحظة، فطنتْ إلى وجودها في مكان عام، ابتعدت قليلاً، بينما ظلت كفها في كفك اليسرى، الرصيف خال إلا من بعض المارة الذين يحسدونكما، يتطلعون إليكما ويهمسون بكلمات غير مفهومة، الحب في عينيكما، والنشوة تستوطن جسديكما، خفتما، حالة العشق التي تتلبسكما لم يرها أهل الشام في الذين يمشون على قارعة طريق عام، هو من أكثر الطرق ازدحاماً بالمواصلات، ومثل هكذا شوارع لا تخلو من زعران، ابتعدتما عن الرصيف مع اقترابكما من التقاطع الذي يوصل إلى مشفى المواساة، شددتها من يدها لتظلا على الرصيف حتى لا يحصل ما هو سيء، لا تملك سلاحاً وليس لديك قدرة رد هجوم صاعق ومباغت، أبدت رغبتها في الهرولة لقطع المسافة الخطرة ما بين التقاطع حتى مشفى الأطفال، التقطت أنفاسها وأسندت ظهرها على حائط المشفى، ومن هناك تابعتما بعد استراحة قصيرة سيركما باتجاه الأوتستراد، حيث الإنارة جيدة والناس لا ينقطعون عن الحركة، بان الانشراح على تصرفاتكما، المدينة الجامعية على يساركما، وأصوات عاشقين يتبادلان التحيات وتعبيرات تنم عن الحب، وصلتما الأوتستراد الذي يوزع المواصلات من وإلى دمشق، الأنوار تنير دربكما، لم تشعرا بالتعب، اقتربتما من المطار المدني القديم، عند بناء معهد التدريب المهني التابع للأونروا قررتما العودة على الرصيف ذاته، غمامات متناثرة تسرح في الجو، شرفات حاملة لنباتات الزينة، ريح ساذجة تلهب جنونكما، شعرتما بالطفولة تغزوكما، تراقبان السيارات والجزر الخضراء المنتشرة قريباً من الطريق العام، وصلتما إلى ساحة الأمويين، سرتما قريباً من نصب المعرض، تابعتما إلى جسر الرئيس، ومن هناك إلى المرجة وسوق الهال والعمارة، ظلال مدينة دمشق القديمة ترحب بكما، بعد خمس ساعات افترقتما وبكما من الجنون للبقاء في الشوارع حتى الصباح.‏

    لم تنم تلك الليلة، استعدتَ كل لحظة وكل كلمة، طاردك طيفها، تحط بجانبك، حاضرة في خيالك، قلبك ينبض، تمسك يدك وتداعب أصابعك، تشد كفك وتفركها، تنظر إليك مبتسمة، لن تبحث عن تفسير لجنونها، الناس في العيد لا يفكرون إلا في الفرح، يتصرفون ببساطة، وقد تصرفت كطفلة، قبل أن تودعك نطقت الجواهر قالت: "هذه ليلة ميلادي، لقد أضفت إليها ذكرى لن تمحوها السنون!"‏

    أحسستَ أنها باتت جزءاً من ذاتك، من حياتك، شيء واحد نادم عليه، لو عرفت عيد ميلادها لما أرهقتها، ولأهديتها ما يزين جيدها، المناسبة لم تفت، وما حصل لم يكن سيئاً لتندم عليه، إنه أحلى ذكرى وأحلى عيد ميلاد، كلاكما لم يخطط لهذا المسير الطويل، الذي أحسستما به يمضي وكأنكما التقيتما قبل عشر دقائق، الزمن لم يمنحكما فرصة تقديره، الزمن والذاكرة والمكان توحدوا في المسير، لم تعد فرات غريبة، ولم تعد تحسب حساباً لتصرفاتها المتناقضة، بعد أن تأكدتَ من حبها. حبك لم يعد وهماً، وأنت لم تعش على الأحلام، كانت حقيقة رائعة، دق قلبك لطلتها، وقعت في حب فتاة كلها أنوثة وجاذبية قلت لها: "الحب أنت، العذاب أنت، الحب حول الدروب التي سرناها إلى ذاكرة، وأنت إلى قصيدة!"‏

    لم تتوقع أن جنونها سيحل عليك كما حصل. تحضنك ويدها تشد على يدك، ضحكتها تصل الطرف الآخر من الشارع. بردى يتحسر على ماضيه، يتذكر الشعراء، يلوم الحضارة التي جردته من مياهه النظيفة، من جماله. ضحكتها تتواصل، ترنّ، تفقد بردى تواضعه، تنسى ذاتها.‏

    نفثتَ دخان لفافتك، كل ما في جسديكما يعانق الآخر، في بحر لا نهاية لأحلامه، حلت منديلها وشدت به خصرها، أحسست أن جسدها يفور، كل ما فيها دافئ على الرغم من النسيمات الباردة التي تطير شعرها، وقفتَ تنظر إليها والنسيمات توشوشها، تستمع إلى أسئلتها التي لا تنتهي، ضاعت إجابتك، ضاعت مفرداتك لحظة سألتك أن تصفها، وقفتَ تتأمل قوامها، وقفتْ مبتسمة، تنتظر رأيك، تاهت الجمل، قلت كلمة واحدة ظننت أنها تفي بالوصف: "مجنونة!"‏

    -6-‏

    عدتُ فرحة، هذه أول مرة أعود مبتسمة. منذ عامين أغلقت الدروب في وجهي، لا أحضر فرحاً، ولا أية مناسبة، أجلس وحيدة في غرفتي أجتر الماضي. هذا اليوم تصرفت بكل لطف، حييت أمي وقبلتها، طوحت حقيبتي في الهواء، وذهبت إلى غرفتي، وأنا أحجل، تفحصت سريري والنافذة وخزانة الملابس ومكتبتي المتواضعة، كل شيء يثير الغرابة. كيف أعيش بغرفة كلها فوضى؟ شعرت بحاجة لإعادة ترتيبها، لحقت بي أمي وهي تحمل حقيبتي، بحركات سريعة علقت ملابسي على المشجب، نظرتُ إلى أمي التي تقف مذهولة عند الباب، بمرح تقدمتُ وسحبتها من يدها لتساعدني في تغيير وضع السرير: "ماذا حدث يا بنتي؟"‏

    علقت بكلمات لم أتوقع سماعها، تصرفتُ وكأنني لم أسمع شيئاً، أسرعت وفتحت النافذة، استنشقت دفقة نسيم عليل. ما بين الواقع والدهشة هددتها إن استمرت في السخرية، سأخرج من البيت ولن أعود إلا ليلاً، أشعرتها أنني مسرورة، وعليها أن تشاركني سروري أو تدعني، بلعت ريقها بصعوبة، غادرت غرفتي وتركتني أرتبها كما أشاء، أرادت أن تعرف ما وراء تصرفي، الآن لا تطمح لنقاشي، كل شيء سيظهر في وقته، امتقع وجهها وبدت عليه علائم الذهول وهي تعود إلى غرفتها.‏

    غازلت يداي كل قطعة في البيت، وغازل فؤادي كل ركن فيه، جاء ترتيبي الجديد لغرفتي ولغرفتها وغرفة الجلوس تعبيراً عن أنوثة شفافة، تركت بصماتي في كل مكان حللت فيه، لم لا يكون التغيير في ذاتي وفي الابتسامة التي تشع على شفتي؟ سألت نفسي والغبطة تلفني، لقد تأكدت الآن أن البيت صورة عني، رؤيتي للأمكنة الفارغة والمشغولة، للمزهريات، لوضع الكراسي. بدا وضع غرفتي دون كرسي وطاولة غير معقول، أحضرتهما من غرفة الجلوس، حاولت ألا أترك مكاناً شاغراً، إذ وضعت وسط الغرفة «طربيزة» ومزهرية كبيرة، وفي صدر الغرفة طاقة ورد، أما النباتات الطبيعية فواحدة في غرفتي والباقي في الشرفة والصالون، أعطيت أختي واحدة والقفص الذي حوى عصفورين عاشق ومعشوق، بقيت أعيد تنسيق الغرفة حتى العاشرة ليلاً، بينما كانت أمي تغط في النوم.‏

    في عصر اليوم التالي تسللتُ إلى بيت أختي، فتحت باب القفص، أخرجت العصفور الأول ثم الثاني، طارا، رددت باب القفص، ومن الشرفة رميته إلى الرصيف، حدث هذا دون دراية أحد، انتبهتْ أختي إلى بكاء أبنائها، لحقتني تسألني عن القفص والعصفورين، لم أجب، الأمر لم يعد يعنيني، القفص والعصفوران تصرفت بهما ولن أندم، لكنني تألمت عندما علمت أن العاشق والمعشوق لا يعيشان بعيداً عن القفص، هما بحاجة إلى من يقدم لهما الأكل، والآن إما التهمهما قط جائع، أو اصطادهما طائر جارح، أو وقعا بقبضة من لا يرحم، سأكون السبب في موتهما أو شقائهما، نسيتُ هذه الأفكار السوداء، ذهني مشغول بأفكار أخرى، وليس بي حاجة للألم، إنني مقبلة على حياة جديدة، على علاقة تنسيني كل آلامي، الصمت يداعب ينابيع روحي، الفرح يتسلل إلى أوردتي، يلملم حكايا الحب، جلست جانب النافذة، أتأمل الغوطة وشمسها التي تحولت إلى قرنفلة حمراء، وطرقها الفرعية الترابية، طرق طويلة متعرجة تمتد على جانبيها أشجار الجوز الهرمة، وسواق تتلوى تساير تعرجات الطريق، أو ربما الطريق يسايرها، أطفال ينعمون باللعب، يتقافزون وكلهم غبطة وسرور، أشم رائحة الغوطة، رائحة الأشجار، رائحة الأرض بعد المطر، تولد الحياة ويولد معها تصميم على أن تظل جميلة، دخلت أمي تحمل صينية قهوة، نادتني لأشرب القهوة وتقرأ بختي، شربت فنجاني وناولتها إياه، قلبت الفنجان وهي تنظر إلى عينيّ، رأت فيهما اشتعالاً وبريقاً. قالت:‏

    - خير والصلاة على النبي، أرى شاباً يلاحقك، ينظر إليك بود، نيته سيئة، عندما تقعين في حبه، سيكشف عن نياته، حدثيني يا بنتي، أنت لست بحاجة إلى تجربة جديدة، يكفيك ما مر؟‏

    - ماذا أقول لك يا ماما؟ إنه لأمر جيد أن تخافي عليّ، لكن الأمر ليس كما ظهر لك، اليوم جاء الموجه التربوي، حضر درساً نموذجياً خرج وهو مسرور، أعدّ تقريراً جيداً، قال للمديرة، إنني ممتازة وكنز ثمين للمدرسة، وعدني بالتثبيت، ألا يحق لي أن أفرح؟‏

    - إن شاء الله تتحول أيامنا إلى فرح، الموجه جاء اليوم، أما فرحك البارحة وقبلها أسببه الموجه أيضاً؟ أدام الله الأفراح، هل هناك ما يجلو قلبي غير فرحي بك، يوم آراك عروساً؟!‏

    قالت ذلك وقلبت الفنجان ثانية، تابعت قراءته لتخبرني بأن أمامي طريقين، واحدة معبدة توصلني إلى ابن خالتي، والأخرى كلها وحول تؤدي إلى الغريب.‏

    - لا يا أمي أنت لا ترين الياسمين وأشجار الزينة التي تظلل طريقي، ضحكت أختي وقالت:‏

    - لا فرح يعلو على فرحك، قسماً سأرقص وأغني كما لم أرقص وأغن في حياتي، همك قصف ظهري، يضرب حظك.‏

    ما زال الفنجان بيد أمي، قلبته وهي تشير إلى التعرجات التي على صفحته:‏

    - هذا يا بنتي طريق الآلام، ستختارينه، وعندما تتجرح قدماك ستعودين كسيرة الجناح، لماذا لا توفرين العذاب وتختارين طريقاً لا أشواك فيه، إن قلت نعم سأكسر الفنجان وأزغرد لتختفي الآلام من حياتك.‏

    - قلت لك يا ماما لا أريد الزواج، سأظل معك، هل تكرهينني؟‏

    - أنت تعاندين سنة الكون!‏

    تأملت أمي بينما غصت في أحلامي، خبرت الحياة واحتضنت الأمواج العاتية، وهأنذا جبل يحتضن الريح والغمام. أنظر إلى الحياة وأنا محصنة بدرس سابق، هل صحيح أنني غير قادرة على تمييز الألوان؟ وأن التعابير المرسومة على وجهي تكشف ما بداخلي؟ يتوالد الفرح في صدري، يستجدي المطر، ليغسل الماضي ويجرف بطريقه كل الأخطاء، أدور حول ذاتي، استجمع حياتي في فنجان قهوة، أدور كحلزون فقد قوته، يثمر الحزن في صدري سواداً، تطاردني الألوان من جديد، أنا الفنانة التي خبرت الألوان، أبدو غير قادرة على الاختيار، الذي إن لم أحسنه هذه المرة ستقذفني الحياة خارج رحمها، أركض صوب الغناء، أحاول التخلص من الكوابيس، التقي بحامد وأنا ذاهلة. هل أنا قادرة على منحه الحب؟ وهل أصارحه بالماضي؟‏


    يتبـــــع
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    للنشر
    الإدارة
    للنشر


    المشاركات : 3446
    . : ملتقى نور المصباح الثقافي

    غرباء منتصف الطريق ـــ عوض سعود عوض  رواية ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق – 2006 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: غرباء منتصف الطريق ـــ عوض سعود عوض رواية ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق – 2006   غرباء منتصف الطريق ـــ عوض سعود عوض  رواية ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق – 2006 Icon_minitime15.05.12 2:18

    7-

    أمضي أربع ساعات في الذهاب إلى المدرسة والعودة إلى البيت، أفقد جزءاً من وقتي بانتظار الحافلة وسط ازدحام شديد لحظة وقوفها، إذ يندفع الجميع اتجاه الباب، الواقفون في الممر أضعاف الجالسين، هرج وصراخ ومشاجرات، ثم في بعض الأحيان التوقف المفاجئ وتعطل الحافلة، أشبه بسير القطار العثماني الذي يتعطل ما بين محطتين، عليَّ بالصبر وعدم الشكوى، فالشكوى لغير الله مذلة، وحتى لا أذل نقلت، لم يكن في حسابي أن ما أتعرض لـه كل يوم هو رواية ذل.‏

    لم يكن مجيء الحافلة أو وقوفها في المواقف الرسمية هو الإشكال، أحياناً أنتظر ثم لا أجد موطئ قدم لأصعد، وإذا حالفني الحظ وتمسكت بالباب، علي أن أثبت قدميّ وأتمسك جيداً حتى لا أقع، أمزجة مختلفة تعلن عن ذاتها، من الركاب المستعجل واللامبالي والمدعوم، الذي يقرر أن يفعل شيئاً مميزاً ليفهم الناس أنه قادر على ما لا يقدرون عليه، آخرون لا يهمهم سوى الشغب يصدرون همهمات ونكات لاذعة، بعضهم يستغل الازدحام فيقتربون من الجنس اللطيف في عملية غير لطيفة.‏

    هذا اليوم نحس من بدايته، تأخرت السيارة وتعطلت قبل وصولها إلى محطة التوت، اضطررت أن أتابع المسافة إلى ساحة العباسيين مشياً، يصل باص الدوار الجنوبي، أركض خلفه، يقف بعيداً عن الموقف للحظات ويتابع سيره، كأن هذا الصباح قد تآمر عليّ، أخرجت لفافة ثانية وأشعلتها من الأولى، وبدأت أنفث دخانها غير مهتم للتأخير عن الدوام. التلاميذ الآن يصعدون فوق المقاعد أو ينتظرون في الباحة أو عند الباب، أما المدير فيشتم ويسب على هواه، يلعن الساعة التي رآني فيها، وأنا لعنت الساعة التي رأيت فيها وجهه.‏

    نزلت من الباص عابساً مقطب الجبين، استقبلني عارف أيوب بالصياح، قلت في نفسي «لاقِ الصياح بالصياح تسلم» لكنني لم أسلم هذه المرة، وجدت الموجه التربوي بانتظاري سألني:‏

    - لماذا تأخرت يا أستاذ نصف ساعة، أجب دون أن تتذرع بالمواصلات؟‏

    سكت ولم أجب وعندما طالبني بالرد. قلت:‏

    - أنت سألت وأجبت في الوقت نفسه!‏

    - هنيئاً يا أستاذ أيوب بالسيد حامد الذي يرد الإجابة بأسئلة، حضر حالك يا أستاذ لأحضر عندك الحصة الثانية.‏

    - إنه اليوم الأول لتغيير البرنامج الأسبوعي.‏

    وقف القدر بيني وبينه، جاء ثانية بعد عشرة أيام للسبب ذاته، ولسوء حظ المفتش كان صوتي مبحوحاً، بعد أيام عاد مرة ثالثة ليحضر، طوال خمس وأربعين دقيقة وأنا أشرح وهو يسجل ملاحظاته، الصف منضبط ومتجاوب، توقعت أنه سيشكرني، وأن علامتي لن تقل عن خمسة على سبعة، لكن رأي الموجه كان عكس ما توقعت، إنه درس خائب، هناك ست نقاط سلبية مقابل نقطتين لصالحي، كانت النتيجة تأخير الترفيع والزيادة السنوية.‏

    بعد انتهاء الدوام خرجت مشتت الفكر، تملأ رأسي غيوم متفرقة، ما إن تستقر حتى تصيبني بالدوار، تتمدد كالأخطبوط، تبرز تعبيراتها على محياي، ويزحف الحزن إلى قطرات الدم الواردة إلى القلب، أحسُّ بالتعب، أنتظر قريباً من مكان موعدي مع فرات، وأتنقل ضمن الوقت الباقي لقدومها، أمر بالبرامكة حيث تحول «كراج» السيارات المنطلقة إلى المنطقة الجنوبية المحيطة بدمشق إلى سوق للتهريب، البضائع معروضة على الأرصفة، ملابس جنز، كنزات صوفية، أدوات كهربائية، دخان من مختلف الأصناف، يصيحون: «مارلبورو، فايسروي، كنت، ال إم... العلبة بعشر ليرات والكروز بمئة».‏

    غيوم رمادية وسوداء تندفع من الغرب، تملأ السماء، الهبوب يزداد، تدور الزوابع محملة بالأوراق والغبار، تتكاثف الغيوم أكثر، يقصف الرعد، ريح رخوة ممزوجة برذاذ تهب، رفع الناس مظلاتهم، المهربون متمسكون بأماكنهم، وأنا متمسك بمكاني بانتظار فرات، جاءتني باشة، وضعت يدها بيدي، وباليد الأخرى رفعت مظلتها، حشرت جزءاً من جسدها والتصقت بي لنكون تحت مظلتها، دعوتها إلى إحدى «الكافتريات» المنتشرة هناك قرب الجامعة، بحجة المطر وأننا لن نجد طلبها في سوق التهريب في هذا اليوم، اقترحتُ أن نجلس نصف ساعة ثم ننطلق إلى شارع الحمراء لشراء ما تريده من ملابس، رفضت اقتراحي وقالت:‏

    - على أرصفة شوارع دمشق تجد كل شيء، حتى في أسوأ الظروف.‏

    - ما دام هذا رأيك سنقوم برحلة في زوايا التهريب، فإذا لم نجد طلبك هنا، فثمة أسواق تتفوق على هذا السوق، في القابون، السومرية، السيدة زينب، القصاع، مخيم اليرموك... سنذهب إليها جميعاً حتى تجدي ما تريدين.‏

    في سوق البرامكة لم تجد طلبها، في الطريق إلى محطة الحجاز أطفال يتقافزون، ينادون على الدخان الأجنبي وكاسات الشاي وفناجين القهوة والعطور الفرنسية والصحون الصينية، خلاطات الفواكه الإيطالية وساعات اليد التايوانية... ساعة من اللف والدوران، مقابل المؤسسة الاجتماعية العسكرية، قريباً من سبيل الماء وجدت طلبها، خراطة أمريكية وصفتها بأنها ممتازة، بعد أخذ ورد حول السعر دفعتُ مئتين وخمسين ليرة ثمنها، اعتبرتها هدية عيد ميلادها، عرضت عليها استئجار تكسي إلى بيتها، أشفقت عليّ، صعدنا في باص حكومي، همستُ بجملة لا أقصد منها أكثر من المزاح، اثنان طلبا إليّ أن أنزل عند ساحة التحرير، دفعاني باتجاه الباب، إلا أن تدخل فرات أنقذني من ورطتي، نزلا وهما يهدداني بأنني لن أفلت من أيديهما إذا أعدتها، ابتسمتْ وأقسمت نيابة عني، بأنني لن أتفوه بأشياء لا أدرك مدى خطورة البوح بها.‏

    مساء صعدت إلى سطح بيتي، نسيت آداب الغوطة، نسيت أن أصيح وأنبه الجيران إلى صعودي، رأيت مصادفة وجه جارتي المحرم عليّ رؤيته، خرج زوجها يصيح وينعتني بأوصاف لا تليق بابن الشارع، لم يكتف بذلك بل قرع بابي ولقنني درساً في الأخلاق والحفاظ على الجار دون أن ألفظ حرفاً.‏

    صباحاً قررت حمل الندى على راحتيّ، احتضنت النور في اللحظات الأولى وشهدت تراجع العتمة وهربها، سأخرج كل يوم في هذا الوقت، وتجنباً لأي طارئ سأمر ظهر اليوم على سوق التهريب، وأشتري ساعة تعمل على البطارية، ترن حسب نظام خاص، تظل ترن حتى استيقظ، لن أتأخر ولو اضطررت إلى مغادرة البيت دون إفطار، أصلاً ماذا سأتناول كأساً من الشاي ولقمة تبل الريق، في المدرسة أستطيع إرسال تلميذ في الفرصة، يشتري سندويشة بثلاث ليرات، سأصطدم بتعليمات المدير الذي لن يتساهل معي، سأطلب هذه الخدمة من الآذن الذي سينفر ويتقاعس في أداء عمله، في اليوم التالي يؤخر متعمداً إحضار الشاي في الفرصة الأولى، وفي اليوم الثالث يتأخر أكثر، وفي اليوم الرابع لم يحضر الشاي، احتد المدير، استدعاني وطالبني بالتوقيع على كتاب ينص على عدم إرسال الآذن خارج المدرسة أثناء الدوام الرسمي.‏

    يتضاحك المعلمون من تعليقات المدير على الفلافل والمسبّحة، وكيف أنهما لا يمنحان الجسم قوة، تهدان الصحة وترخيان البدن، رائحة زيت القلي كرائحة السمك، ينهي تعليقاته لتبدأ تعليقات زملائي الذين يهدفون إلى دفعه إلى حافة الجنون والصراخ وفقدان الأعصاب، كانوا على الأغلب يحققون ذلك، يستدرجونه للانفعال، فيبدو عصبياً، مما يستدعي حاجته إلى بيت الخلاء، يعود والموضوع في ذهنه، كما لو أنه يريد إحراق العالم بعود ثقاب، يقرع الجرس والسندويشة في يدي، تمتد يده، لكن قبل أن يصادر السندويشة أرميها إلى السلة بعصبية، أتناول حبة مهدئة قبل توقيعي على دفتر الزيارات الصفية، إحدى ملاحظاته عدم استخدامي للألوان، ولحسن حظي لم يمسح التلاميذ السبورة، ناديته وسألته عن هذه الملاحظة، تطلّع إلى السبورة وشاهد استخدامي لأربعة ألوان، استغرب ورود مثل هذه الملاحظة، لا يريد أن يعترف بأن التقرير معد سلفاً، تذرع بقوله:‏

    - لا تؤاخذني يا حامد العتب على النظر!‏

    - لن أناقشك بما هو وارد في التقرير، لأنك تذكر أشياء لم تحصل، ما يهمك توقيعي، تكرم وهذا هو.‏

    عدل من وضع نظارته، اختلف لون وجهه، بدا الجفاف في فمه، استفزته هذه الكلمات، ترك الدفتر وأسرع ثانية، مفعول حبة «اللازكس» يزيد، يشعر بالراحة التامة بعد طرح سموم الجسم، يخرج نشيطاً، يغسل يديه ثم يبدأ بالوضوء، بعد أن ينتهي يضع قطعة الصابون في جيبه ليعيدها إلى الإدارة.‏

    -8-‏

    النسائم تحرك الأغصان المثقلة بحملها، تتسلل الروائح الذكية، يعبق بها الجو، تصب شمس نهايات فصل الربيع نورها، بؤر ضوء متفاوتة بحسب كمية النور المتسلل من بين الأوراق والأفنان، تتراقص كمياه بركة صافية ألقي فيها حجر، الفراشات تطير وتحط على الورود والنباتات المزهرة، ترتاح من حرارة الجو، تبتعد عن سواقي المجارير، تدخل عمق الغابة، تدخل إلى منطقة هادئة حيث لا تسمع إلا طنين الحشرات وزقزقة العصافير.‏

    حاول الناس نسيان ما حصل، الصمت والظلام يخيمان على الصدور، يعيشون حالة ذهول، سُمع عويل نساء الغوطة، فناحت نسوة أخريات في مدن وأرياف عديدة في سورية وخارجها، ارتفعت رايات سود فوق أشجار الجوز، فالنقود التي تدفئ الجيوب والقلوب، والتي تجعل الثغور مفترة تبخرت في ليلة سوداء.‏

    ذهب المودعون أول الشهر انتظروا من الصباح حتى المساء، ولم يقبضوا أرباحهم ولم يحصلوا على أموالهم، ازداد اللغط وكثرت الدعايات والمواعيد، جاؤوا في اليوم الثاني وفي الأيام التالية، والنتيجة أن أيديهم فارغة، نظروا إلى غوطتهم فإذا الآليات تعاقر أشجارها، بثوان تهوي أضخم الأشجار، فتحيلها من سيدة متفردة في جمالها إلى أكوام من الإسمنت والخراب، بيعت الكنوز، ولم يبق من الخضرة إلا القليل، كثرت الأموال في يد فلاحيها، بعضهم وزع نقوده على أولاده وأحفاده، آخرون وظفوها في مشاريع خاصة، أكبر هذه المشاريع الإغراءات التي قدمها «راني» أربعون بالمئة تصل نسبة الأرباح، هذه النسبة كانت نعمة ونقمة في الوقت ذاته.‏

    لا أحد يعرف لماذا اختار السيد «راني» أن يكون مكتبه في الغوطة، انتشرت دعايته كما تنتشر النيران في البترول، تدفق الناس يسألون عن صحة ما سمعوه، رأوا بأعينهم كيف يأخذ المودعون أرباحهم في بداية كل شهر، أو تضاف إلى مبلغهم ليتضاعف، تساءلت النسوة عن فوائد الذهب الذي فقد بريقه في صناديق الأعراس، الصاغة فتحوا محلاتهم، استقبلوا اللواتي يبعن مصاغهن، والمصاغات الموروثة من الأجداد، تزاحمن أمام المكتب، دفعن ما معهن من أموال، والمرح يسري في أجسادهن، الذهب المخبأ لا يدر ذهباً ولا فائدة منه، الأموال إذا شغلت تدر ذهباً، يكفي أن أرباحها مضمونة، بارك الله في الأوراق النقدية، في التجارة، الفلاحون تباروا في بيع أراضيهم بالقصبات والدونمات، كل ما قبضوه أودعوه مقابل ورقة مكتوب فيها بعض المعلومات الشخصية، وقيمة المبلغ المودع، وتوقيع مسؤول المكتب، مرت سنون وسمعته كالمسك، توافد الموظفون وسكان الأرياف والمدن إلى مكتبه، وفي جيب كل منهم غلة العمر.‏

    وصل الخبر إلى الدول المجاورة، فجاءت رؤوس أموال ضخمة من الأردن ولبنان، أما موظفو البنوك في دمشق وفي غيرها من المدن السورية، فقد باتوا بلا عمل سوى سحب المودعين لأرصدتهم، وإيداعها عند السيد راني، التي احتلت دعايات منتجاته في التلفاز مساحات جيدة، إذ فاقت الدعايات الأخرى كلها.‏

    حزم الموظفون النقود، وضعوها في أكياس قنب، لا أحد يعرف إلى أين ذهبت. ما بين الواقع والحلم خطوط منحنية تفضي إلى كوابيس، بات المودعون يرونها في مناماتهم، يحسون بالنيران تلتهم أشجارهم وأفئدتهم ونقودهم، تحولت الغوطة إلى جحيم، تمطر الدروب أحزانها، الوجوه مغبرة ومكفهرة، تتكوم أفواج تتلوها أفواج أمام مكتبه، ماذا يفعلون بعد أن أعتقل؟ ماذا يفعلون وقد غادرتهم أحلامهم؟ الألوان الرائعة تحولت إلى لون واحد رمادي وباهت.‏

    لم تعد الجيوب عامرة بالنقود، شاخت الأجساد والأحلام، ناحت الغوطة على أهلها، وناح أهلها على غوطتهم، لطموا وجوههم، ولطمت الأشجار والنباتات حظها العاثر، بينما قهقهة السواقي ذات المياه الملوثة، المودعون يصرحون للمسؤولين في الدولة عن مبالغهم المودعة، والدموع تنهال على خدودهم، اكتظت الدروب بالنائحين، تحولت الغوطة إلى أنثى تندب حظها العاثر ومغتصبها، ازدادت كمية الزفير، تلوث الجو، تلوثت الأرض، ماتت الأشجار واختنقت العصافير.‏

    نادت أم سمير ابنتها فرات، وسألتها عن آخر أخبار راني، استغربت سؤال أمها التي أخبرتها بأنها أودعت عنده خمساً وعشرين ألف ليرة، هو كل ما اقتصدته من المصروف من أيام زوجها. نظرت فرات إلى أمها التي ادّعت طوال العام الماضي، بأنها لا تملك قرشاً واحداً، قالت والحزن يقطع نياط قلبها:‏

    - هذا المبلغ يا ماما مع أجرة بعض الدروس الخصوصية يكفيني دراسة ويكفينا مصروفاً حتى أتخرج من الجامعة، لماذا ضننت عليّ؟‏

    - أرجوك فرات لا تقلبي المواجع، سألتك سؤالاً محدداً!‏

    - وأنا لا أملك إجابة!‏

    -9-‏

    قال بعض الناس: «إن الله يحب دمشق، فقد خلصها من الوحدة».‏

    قال آخرون: «إن الله يحب دمشق، لأنه خلصها من عهد الانفصال الذي قضى على وحدة قطرين عربيين هما مصر وسورية».‏

    مما لا شك فيه أن الله يحب دمشق، فقد وهبها طبيعة جميلة وماء من روحه، ماء يدعو للمحبة، إذ يقال في مياه الشام العاصمة:‏

    في زمن سحيق لا أحد يعرف قدمه، يوم كانت مياه نبع بردى ترتفع مترين أو ثلاثة في الفضاء، من أعلى الجبل برز خيال اثنين، شاب وفتاة، اقتربا من النبع، طلب الفتى إلى عروسه أن تنتظر في مكانها، ليجلب لها الماء بحفنتيه، اندفع بسرعة فلم يسيطر على نفسه، لامس المياه المندفعة وهوى، فتشت عنه حبيبته عبثاً، سبع سنين وهي تبكي، تصادفت آخر سنة بهطول مطر غزير، جرفها وجرف دموعها، وهناك في أسفل النبع التقت مع روحه، فوهبت لهذه المياه أنوثتها، من يومها قيل فيها:‏

    مباركة أيتها المياه‏

    يا من اتحدت أنثاك بذكورتك‏

    فوهبت الشارب ذاك الظمأ الجنسي‏

    أيتها المياه المتزاوجة‏

    يا من وهبت عذريتك وشفافيتك ونقاءك لبعض العذارى‏

    ووهبت أنوثتك لشوارع المدينة وصباياها‏

    ليلة مخاض أم سمير التمّ الجيران على صراخها، أبو سمير فاجأه تعسر الولادة، غيّر ملابسه ونزل إلى الشارع ليوقف أية سيارة، لينقل زوجته إلى المشفى، سمع زغرودة وأصواتاً تناديه وتردد: «الحمد لله على سلامتك»، شكر السائق وأعطاه ما فيه النصيب، لقد منَّ الله عليه بأنثى، صار لديه اثنتان وذكر، هدى وسمير وهذه المولودة التي قرر أن يسميها اسماً مرادفاً للماء.‏

    تذكر أبو سمير ترقب زوجته لليلة الجمعة بفارغ الصبر، تتزين وتتعطر وتحضر نفسها لسهرة قد تطول حتى الصباح، تعتقد أنها ليلة مباركة، ترفرف فيها روح الإله على المدينة، قاسيون الفتى الشامخ حفيد كنعان وأيل، يحرس عاصمته ويحتضن بيوتها برفق، كما يحتضن الأب أولاده، يرد عنها كل شر، ويظل ساهراً تلك الليلة لا يغمض لـه جفن، النسوة يعتقدن بأمور أخرى لها علاقة بالحب بين الزوجين، يمنحن جمالهن وبركتهن وأجسادهن في هذه المباركة بملء إرادتهن، ويعتبرن الامتناع عن ذلك يفتت الأسرة ويغضب قاسيون وأجداده، يتفنن في المسامرة والمداعبة والاغتسال، يغتسلن مرات، ويظل الحمام ساخناً طوال الليلة، المياه المباركة تدغدغ تكوينات الجسد، تعيد فتوته وتأججه، من لا تستحم تلك الليلة، لا تستطيع أداء الصلاة أو التفكير بشكل متزن، تشعر بحمل ثقيل، تخمد ويذوي جمالها ولا تسلم من فتك الأمراض، وإذا حملت ولم تباركها المياه، فإن حملها سيكون وبالاً.‏

    للماء لغته وطبيعته اللتان لا يتخلى عنهما، إنه روح الحياة يزرع الخصب والفرح أنى حلّ، لولاه كانت دمشق أثراً حضارياً، بينه وبين المرأة غزل، لا أحد مثلهما متفاهمان، صفات مشتركة تجمعهما، يسبح فوق جسدها، يدغدغ أنوثتها، يبارك خصبها ويزيدها جمالاً ورقة، حتى تصير بشرتها أكثر نعومة، فرات أدركت أهمية الماء وعرفت الكثير عنه، عقدت معه صداقة أبدية فباركها، إذ جمعت إلى جانب رقة الجسد ورهافته الفطنة والنبوغ والأنامل المبدعة وذاك الصوت الرخيم.‏

    كل شيء مع الماء رائع، الأشجار تحني هامتها وتنثر فواكهها، الطبيعة ذاتها تزداد جمالاً، الغوطة تزدهي بثوبها الملون ورقصتها الرائعة، العصافير تبارك عطاء السماء والأرض، تراقب انهمار المطر وهي فرحة، وعندما يصحو الجو تطير مزقزقة محتفلة، وهي أكثر حبوراً من أي وقت.‏

    ذات مساء خريفي وبعد أن تجاوزت الصف العاشر بتفوق، فكرت في مستقبلها. نظرت إلى وجه والدها بشفافية، ابتسمت وهي تتمعن في تقاطيعه، تناولت قلم الرصاص وبدأت رسم وجهه المتطاول قليلاً وأنفه الذي يميل إلى الكبر وشفتيه الرقيقتين، ارتفعت يدها قليلاً لترسم شعره الأسود الناعم الموشى بالشعيرات البيضاء، مع بداية صلع في أعلى الرأس ومقدمته، ظلت تتأمله وترسمه وهو طائع. نظر إلى صورته وقال: "أحسنت يا فرات، أشهد أنك فنانة! لا أمانع في أن تسجلي الفرع الذي تختارينه."‏

    ركضت إلى والدها وضمته بأناملها المرتعشة، قبلته وقالت: "أنت رائع يا أبي! أنت تدفعني إلى التفوق."‏

    أخذ صورته، قرر أن يشتري لها إطاراً ويعلقها على الجدار، أما فرات فقد بدا عليها السرور وكأنها امتلكت العالم، لم تفارق البسمة شفتيها وهي تتابع الرسم، إنها ترسم منظراً عزيزاً عليها يمثل دمشق، اتضح فيما بعد أنها ترسم المرجة، غاصت تلك الليلة بالألوان والرسم، ولم تبرأ منهما طوال سهرتها، كانت الأثيرة لدى أسرتها، تمتلك صفات والدها الجسدية والفكرية، حتى الفن ورثته عنه، يدللها، تبتسم لمداعباته وكأنها امتلكت الكون، نجحت في الشهادة الثانوية، وذهبت لتقديم فحص مسابقة كلية الفنون الجميلة، رسمت لوحة شاهدها أحد المراقبين، نادى للدكتور الذي راح يتأمل لوحتها بسرور، وقبل أن ينتقل إلى غيرها طمأنها بقوله: "أتمنى أن أراك في بداية العام الدراسي في كليتنا!"‏

    لم تكن أمها مرتاحة لاختيارها، أما أبوها فطار من الفرح، وصار يدعوها بالفنانة، يحاول إقناع زوجته بأهمية الفن التشكيلي ومستقبله الجيد، ذهبت محاولاته أدراج الرياح، هي تنظر إلى الفن على أنه شيء زائد لا حاجة لأحد به، صارحت ابنتها برأيها، وطلبت إليها تغيير فرعها لآخر، علاماتها تسمح بذلك. فرات لم تهتم بما سمعته، فقد أخذت قوتها من موافقة والدها، استمرت في الكلية، حريصة على إقناع أمها، تحاول استمالتها وملاطفتها، تشرح لها أهمية الفرع الذي دخلته وأهمية الفن في حياة الناس والشعوب، تذكرها بكبار الفنانين ولوحاتهم الخالدة، حاولت أن ترسمها، رفضت، لكن أمها خففت تدريجياً من هجومها على الفن، ورضخت للأمر الواقع، لكنها من داخلها لم تكن مقتنعة، وتتحين الفرص للانتقام من الفن.‏

    الحياة تضحك لفرات التي لا تعرف إلا المرح، هائمة مسرورة، الدنيا لا تسعها، عيناها تبرقان فيهما فرح طفولي، أنفاسها وأريجها ينشران المحبة، تتمايل دلالاً بينما شعرها يغازل كتفيها وتتسلل شعرات منه إلى صدرها وظهرها، لجسدها اهتزاز قارب فوق الأمواج، كل ما فيها ينطق بالصفاء والعذوبة، والدها نافذتها على الحياة، مرض، لم يمهله المرض ليفرح بنجاحها إلى السنة الثانية، توفى في نهايات فصل الربيع، مات كل جميل بموته، غادرتها ابتسامتها، فارقها عنفوانها، باتت صديقة الأرق والظلام، صمتت الشوارع والأزقة، تسلل الفراغ إلى صدرها، تسلل الخوف وبدأ يقضم فؤادها، انتهت الذكريات الجميلة.‏

    لدمشق بوابات غير أبوابها السبعة، اعتقدت فرات أنها قادرة على فتح بوابة الغوطة، الكثير مما كانت تعتقده خيب ظنها، بعد نجاحها إلى السنة الثانية، بدأت المصاعب، فاجأتها والدتها بأمور كثيرة لم تحسب حسابها، طالبتها بالعمل، فما كان منها إلا الرضوخ، عملت سبع سنوات ولم تثبت في عملها، زملاؤها تخرجوا منذ ثلاث سنوات أو أكثر، حضرت معارض تخرج بعضهم، وكم تحسرت لأنها لم تتابع دراستها، في المدينة ضاقت بهم الحياة، أكثر من واحد طالب بحصته من الميراث، باعوا بيتهم واشتروا بيتين في الغوطة، واحداً لأمها وآخر لأختها المتزوجة، أعطيت غرفة في بيت أمها.‏

    إحساس أم فرات بالخوف جعلها ضعيفة، تتصرف على سجيتها دون أخذ رأي ابنتها، وفي ظنها أنها تفعل ما تفعله لصالحها، فمنذ سكنت الغوطة تشربت آراء نسائها، آمنت أن الفتاة تتعلم لتفك الحرف، ابنتها فكت الحروف والقيود، تمردت، تخرج سافرة، تخاف على جمالها ورشاقتها وخفة دمها، تخاف أن يعتدي عليها ابن حرام، ماذا تفعل؟ تعجل بزواجها، ذهبت إلى أخيها ومن هناك إلى عم فرات، همسا في أذنه بأن ستر البنت زواجها، وأن ابنتها المدللة متمردة على الحياة وأعرافها، لا تراعي لباس البيئة ولا آدابها، الحل هو البحث عن عريس مناسب، أوكلا الأمر إلى أمها، التي أخذت التفويض وبدأت تلف من شيخ إلى آخر تعرض صورة ابنتها، ادعت أنها منذورة لمتدين، وما عليها إلا إيفاء النذر وعمل استخارة.‏

    بعد أيام حضر الشيخ جاد الله ومعه شاب في العشرينات وسيم الوجه. فرحت أم سمير لقدوم الخطيب بالسرعة القياسية، قدمت فرات القهوة، رأت شاباً حنطي اللون دقيق الملامح حلو الطلعة، يقطر الإيمان من وجهه، جلست قبالته ترمقه، وهو يرمقها باهتمام، فتاة طالعة من الجنة، جن جنونه، تمتم وقال: «ما شاء الله»، لم تعترض، ربما لأن لا أحد استشارها، أو لأنها تواطأت مع ذاتها وفضلت السكوت، لتأخذ فرصتها في التفكير.‏

    ماذا بوسعها أن تقول في شاب جاء يخطبها؟ والدها الذي يفيض بهجة على حياتها، باتت تحادثه من خلال صورته، تذكرت يوم قالوا لها إنه مات، لم تصدق، نظرت إليه وصاحت، استغربت كيف لا يرد ولا يتحرك ولا يبتسم، متأكدة أنه يسمعها ويعي ما تقوله، أبعدوها عنه وهي بين اليقظة والإغماء، نتفت شعرها ومزقت وجهها، لماذا تتذكر ذلك وهي أمام شاب وسيم؟ لو كان والدها على قيد الحياة، هل يقبل خطوبة كهذه؟ لم تفكر بالاقتران بشاب قبل الآن؛ مع أنها ارتاحت لعدد من زملائها في الجامعة، تخلصت من وجع رأسها وقررت أن تواجه الواقع، توافق على خطيبها شريطة أن لا تزف إليه قبل عام، وعلى نية التيسير والحلال قرئت الفاتحة، زغردت أم سمير ووزعت الحلوى على الجيران.‏

    فرات في بداية امتحان، علمت أن خطيبها بلا بيت، وبلا عمل سوى ترديد بعض الأناشيد الدينية في الموالد والمناسبات، يمضي يومه في المسجد، ينام في أحدى الغرف الملحقة بالجامع أو عند أحد الشيوخ، بعد الخطوبة بات يتردد على بيت خطيبته، وجد الترحيب، ووجبات الطعام اللذيذة، والمكان الدافئ، مما أغراه بالمجيء، بعد شهر من الخطوبة استولى على سرير فرات، التي تقاسمت مع أمها السرير، ويوماً بعد يوم صار من أهل البيت، يذهب إلى الجامع منذ الصباح، يعود ظهراً ولا يفارقهم، وجوده الدائم وكسله جعلها تمله، تخلصت من عواطفها الشحيحة اتجاهه، باتت تتشاغل عنه، بدأت تسأل أسئلة على غاية من الخطورة، كيف يتجرأ ويخطبها وهو لا يملك بيتاً ولا عملاً ولا شهادة؟ ندمت على موافقتها وتخليها عن أحلامها، هل هي متخلفة لتردد ما تقوله أمها حول القسمة والنصيب؟ أمها تطمئنها، تحاول إدخال السرور إلى قلبها، حفظت ما تقولـه، سيجد عملاً ذات يوم. مرت خمسة شهور وهو يأكل وينام في غرفتها، هل يمكن قبول هذا؟‏

    ردت أمها في محاولة للتخفيف من آلام ابنتها:‏

    - احمدي ربك، خطيبك لا يعرف من الدنيا سوى الجامع وأنت، ماذا تريدين أكثر من ذلك؟‏

    - أنا لا أريد لا أكثر ولا أقل، بل لا أريد شيئاً، آمل أن أحيا كالأخريات، أريد إنساناً يحبني وأحبه، يبيع العالم من أجلي، إن فرض الخطوبة بهذا الشكل إهانة لروح بابا، الذي أعطاني الحرية وعلمني حسن الاختيار، ألم يبق في العالم شباب لأتزوج رامي الشيخ؟!‏

    - الأمر انتهى.‏

    - لا يا ماما مئة قلبة ولا غلبة.‏

    اكتشفت بالمصادفة أنه يدخن، وجدت علبة تبغ أجنبية تحت المخدة، سألته وعرفت أنه يدخن أحياناً، تراجعت عن انتقادها، قالت في نفسها، إن هذا لا يضيره، آلاف الشبان يدخنون، حب التجريب والإطلاع دفعاها أن تشعل لفافة وتأخذ نفساً عميقاً، شعرت بمرارة ودوخة وألم في بطنها، خرجت إلى المغسلة وتقيأت ما في معدتها.‏

    لم يكن التبغ ما شغل فكرها، بل شروده وشعوره بالانقباض وأحياناً بالعظمة، وإحساسه بوجود ضوضاء خارج البيت، ووجود موجات صوتية تعطي اهتزازات داخل الغرفة، بدأت تخافه خاصة بعد أن مدّ يديه وغسلهما من نقاط ماء مدلوقة على الأرض، إذ تصورها بحيرة، ضحكت وخرجت من الغرفة، وهي غير قادرة أن تنسى هذا الموقف. بدأت تسأل نفسها إن كان خطيبها إنساناً صحيح العقل. لامت نفسها على الموافقة قبل أن تعرف كل شيء عنه. في حالات صحوه يستغرب ما ينقل لـه عن حالته، ينكر أنه أقدم على ذلك، يرفض الذهاب إلى الطبيب ويعزو ذلك إلى السهر والإرهاق، إذ ادعى أنه لا ينام قبل أن يصلي الصبح، لم تكن تبريراته مقنعة. أتتزوج من شخص مريض؟ ندمت على سكوتها، اكتشفت عقم ثقافته وعدم قدرته على نقاشها وإقناعها في أي موضوع، إذا عجز يقول: «الله أعلم»، اتهمت أمها بأنها تدمر حياتها، تحول ندمها إلى كره للبيت، لخطيبها، للحياة. بدا قلقها واضحاً في المدرسة وأمام المعلمات. تغيرت تصرفاتها مع زميلاتها وتلميذاتها، آثرت الصمت، هجر المرح حياتها، تخرج صباحاً ولا تعود إلا ليلاً، ترفض الجلوس معه، ترفض الحديث مع أمها، تذهب إلى أختها، تبكي بين يديها على نصيبها وحظها العاثر، وأحياناً تنام عندها، هددت أمها بأنها ستسمم نفسها إن أرغمتها على الزواج منه، لن تتزوجه ولو لم يبق غيره في دمشق، تجيب على أسئلة أمها بكلمتين أو بهزة من رأسها، تردد كلما حل ذكره: "كرهته يا ماما، لا حياة مع الكره، كما أدخلته إلى حياتنا عليك أن تتصرفي."‏

    لمن تصف حالتها؟ هزلت. لا تأكل ولا تشعر بطعم الحياة، ضائعة. بدت عليها علائم الشرود، سألتها أحب المعلمات إلى قلبها زميلتها هلا بقولها: "ما بك يا فرات؟"‏

    لِمَ لا تفتح قلبها لصديقتها؟ إنها مدرسة معها، قد تخفف عنها وعلاقتهما جيدة، تدخن وبالتأكيد تعرف إن كان التبغ يخدر الجسم ويمنح شاربه شعوراً بالعظمة وحب الانزواء، وفي مرات كثيرة يفقد ملكة السيطرة على الأشياء وتقدير حجمها.‏

    تشجعت ووصفت حالتها وهمومها وهي ترتجف، وكأنها تفضي بأمر ستعاقب عليه، هلا إضافة إلى تدريسها تداوم في الجامعة في قسم اللغة العربية، متحررة وهي الوحيدة القادرة على نصحها وتخليصها من ورطة الخطوبة والزواج، حزنت لما سمعته من صديقتها، صار همها أن تخلصها من كابوس خطيبها، الذي استولى على غرفتها وعلى حياتها، وبات مستقبلها رهناً بين يديه.‏

    لم يفترقا بعد المصارحة، كل يوم يأتيان إلى البيت، أحياناً تضطر هلا للنوم عندها، يسهران، يقلبان الأمر مع أم سمير ومع هدى أثناء غياب رامي الشيخ وذهابه إلى الجامع، ما الحل؟ ثمة شكوك حول خطيبها بحاجة إلى دليل، ثلاثة أسابيع وملابسه والغرفة رهن التفتيش، حتى وجدن كمية من مادة تشبه معجون الأطفال لونها أخضر ضارب إلى البني، هتفت هلا بفرح:‏

    - إنها الحشيش!‏

    - لا تظلميه يا هلا!‏

    كان هذا رد أم سمير.‏

    - عندما يأتي سنواجهه.‏

    لم تكن هلا مخطئة في تقديرها، ولتبرهن على ذلك لفت قليلاً منها مع التبغ، ثم طلبت إليهما أن يأخذا نفساً عميقاً، وكل واحدة تشرح حالتها، الأعراض متشابهة، رأس يلف ويدور مع شعور بالزهو. كل شيء قدرته إلا ذلك، واجهته وصرخت في وجهه وشتمته، كانت المفاجأة حين أجاب بصوت عال، وكأنه لم يفعل شيئاً:‏

    - لا يوجد نص يحرم عليّ تعاطيه!‏

    - أنت تلوي عنق الدين يا... اخرج من هنا ولا ترنا وجهك ثانية.‏

    بصقت في وجهه. امتدت يده وصفعتها. اجتمعن حوله. حضر الجيران على أصواتهن وصياحهن وعويلهن، جروه خارج البيت، رمت فرات نفسها على السرير، هل يعقل ما حصل؟ نظرت إلى وجه أمها، أرادت أن تصرخ، أن تقول أهذا هو الحظ والنصيب؟!‏

    أخطأت عندما سكتت، فضلت أن لا تفكر، أن تنسى، لم تتوقعه على هذه الحال، وأنه بلا ضمير، يمد يده ويأخذ كل أسبوع مئة ليرة منها أو من أمها، هل عليها أن تنحرف لتجابه انحرافه، أخبرت أمها قرارها النهائي، أن الذي أدخل الجمل قادر أن يخرجه.‏

    حمدت ربها لأنها لم تمكنه من نفسها، ستدخل إلى الحمام وتمحو كل أثر ليديه، للمساته على جسدها. ستفرك شفتيها اللتين لعقهما في اليوم الرابع للخطوبة، كاد يهم بها، لولا قرع أمها على الباب. خافت وقررت أن تبقي الباب مفتوحاً، ولا تسمح لـه بالاقتراب منها.‏

    صفعت وجهها، كيف للحياة أن تدب بروحها الميتة؟ الذكرى تميت الروح، ما يخفف عنها مصابها، طيف والدها الذي يزورها، ويظل معها يحادثها وقبل أن يغادر يعانقها ويعدها بدوام زياراته، لو كان على قيد الحياة لرفض مجرد فكرة البحث عن زوج، كان على خلاف مع أمها في العديد من الأمور الدينية والدنيوية، يهزأ من أفكارها المستسلمة للقدر، وكأن الإنسان لا يستطيع فعل شيء، ستزور قبره، وستنتقي أحلى باقة ورد، وتطلب منه أن يسامحها لأنها لم تقل رأيها، ولم تحتج على كلام أمها وأفكارها، حين أبلغتها بأنها منذورة للزواج من شيخ، لم تفعل شيئاً، إنها الإرادة الإلهية، الله سبحانه وتعالى يلهمها إلى الصواب ويحدد مسيرتها.‏

    أعلنت فرات أنها غير منذورة لأحد، هي وحدها التي ستحدد حياتها ومستقبلها، ارتاحت نفسها بعد زيارة قبر والدها، قبلت ما حصل على أنه امتحان. بفرح قال حامد: "تهانينا!"‏

    نظرت إلى عينيه المشرقتين بالأمل، سكتت، لم يعد بجعبتها ما تقوله هذه الليلة، حدثته عن ماضيها الذي لم يعد ملكها، يقاسمها إياه أفراحاً وأتراحاً، النادل يقدم فنجان القهوة للمرة الثانية، تناول فنجانه، وضعت يدها بيده، أحست بدفئها، سارت إلى جانبه، إلى يساره، لا تستطيع أن تكون في غير هذه الجهة، تسمع دقات قلبه، وتحس بكل حركة يقدم عليها، أما هو فقد استعد ليحدثها عن ماضيه، ليكون صفحة بيضاء أمامها، لا خربشات عليها، أية خربشة لن تكون إلا لها أو بإرادتها.‏

    -10-‏

    العصافير تنقر في الأرض باحثة عن طعام، هدها التعب، كوتها حرارة الصيف. تفرّ صوب الأكمات والصير المتهدمة باحثة عن قطعان الأغنام والماعز، عن الشجيرات والنباتات البرية الملتصقة بالأرض، طيور ملونة تزين السهل، الدراج مبقع بالسواد والبياض أشبه بثوب الجنة والنار الشعبي، والحجل الذي يكرج على الأرض بخفة يقفز بشكل متوال، والترغل الحنون صاحب الصوت الوديع يهدل وهو يفر لمسافات بعيدة بألوانه السوداء والبيضاء والبنية والشقراء، والهدهد صاحب التاج والطلة يختال بحزمه اللونية رافعاً رأسه إلى الأعلى وكأنه الوحيد في البرية، وطائر الدوري وغيره. يحني الصيادون الصغار رؤوسهم، يخطون خطوات بطيئة على رؤوس أصابعهم، وقبل أن يهجموا على السرب بمسافة قصيرة، يطير لمسافة أبعد قليلاً، تنشط روح الدعابة، يلاحقونها في حركة مد وجزر تتعبهم و تسعدهم، الطيور تشعر بالريبة لدى قذفها بحجر؛ تعرف أن لحظات المزاح انتهت، تسبح في الجو إلى مسافة بعيدة، تجعلهم يكفون عن ملاحقتها، وكل منهم يلقي اللوم على الآخر.‏

    يصيدون بالفخاخ، يجهزونها ويغطونها بطبقة تراب ناعم، هي في الغالب من بقايا أكوام الخلد المنتشرة، تاركين الدودة ظاهرة. يقتفون أثر الطيور، يتوزعون إلى جماعات لكل منها وظيفة. منهم من يكمن، ومنهم من يداور الطيور محاولاً دفعها صوب الفخاخ، بحركات هي مزيج من رقصات بدائية، تتمثل بالتصفير والتصفيق باليدين والمشي البطيء، هذه الحركات تدفع السرب إلى الأمام نحو الهدف. بعد جهود مضنية تقترب الطيور، أحدها ينقر الدودة، ترتفع كتلة التراب في الجو، يتسابقون. كل يتوقع أن فخه هو الذي صاد، تعاد الكرَّة ثانية وثالثة، يعودون بصيد أو دونه وهم سعداء. يصرون على متابعة ذلك في يوم آخر. هذا في أيام العطل والصيف، أما في أيام الدراسة، فإنهم يحضرون أطباق الورق والخيطان، ليصنعوا طائراتهم الورقية، بعد أن ينهوا ربط الذيل بجسم الطائرة، يدفعونها إلى الجو، ترتفع وتتلاعب بها الريح، تحلق عالياً، يركضون والخيطان في أيديهم، يتسابقون ويراهنون على أيها ترتفع أكثر محاولين منع تشابكهن، وكما يساعد الهواء بالدفع إلى الأعلى، فإنه يسبب تخريبهن، الخوف يترافق مع فرح طفولي، لا ينهيه إلا تمزق الطائرة أو انقطاع الخيط، ينتهي مشهد الفرح، يعودون إلى بيوتهم وكل منهم يحاول الحصول على طبق ورق وخيط بديل، وهذا ليس سهلاً، يكلف بكاء ساعات، وقد لا تجدي الدموع في إعطائه ما يريد، يحسب حساب هذا في المرات القادمة، ليوفر دموعه وصراخه.‏

    نظر حامد إلى عيني فرات المتشوقتين لبقية الحديث، تشكلت على شفتيها ابتسامة بريئة، حدقت بعينيه وبشيء من الارتباك، سألته:‏

    - أما زلت قادراً على صنع طائرة ورقية؟‏

    - أتريدين اللعب؟‏

    - أريد أن أهرب بها.‏

    حلق في الجو كطائرته الورقية، التي أعادت إليه ذكرى السهول الممتدة حول كفرخبية، البلدة المنسية التي اختارها أبو صالح والد حامد محطة لسكناه. لا أحد يعرف ما الذي دفعه لاختيار هذه القرية المتواضعة، التي يعتقد أنها كانت في يوم من الأيام ديراً يؤمه المصلون من وادي العجم، لا تضاهيها في القدم إلا الكسوة وقطنا والوعرة. أبو صالح أحبها على الرغم من عدم وجود أقارب لـه فيها، وبعدها عن المخيمات والعاصمة. كثيرون ظنوا أنه الزهد أو الابتعاد عن الذين دفعوه بشكل أو بآخر إلى ترك أرضه. قالوا له: "من يبقى تحت حكم العصابات اليهودية خائن!"‏

    من يلج إلى نفسيته يتأكد أن هذه ليست الأسباب الحقيقية، أبو صالح يهوى الجمال ويعشق الطبيعة، ولا شيء في تلك المنطقة أجمل من البلدة التي اختارها، أرض مجبولة بالزمرد تشع نوراً وعطراً، نساؤها عقيق، أجسادهن فتية ورشيقة داخل ثياب طويلة وفضفاضة، أعناقهن تصافح الأفق، خدودهن تلوح إلى الحمرة الجميلة، وشعورهن طويلة ناعمة. كم أعجب بفتياتها! وريثات عرش بيزنطة وتدمر. فكر أن يجدد شبابه، أن يصاهر أهلها ثمة فتيات بعمر الورد يقبلن به. يتذكر حمله الثقيل زوجته وابنه صالح، فتعاف نفسه الزواج، ويعود للتفكير بحاله.‏

    لم تكن البلدة التي اختارها نائية، نصف ساعة في السيارة أو أكثر بقليل ويكون القاصد لدمشق في المرجة، تربطها طريقان بالعاصمة، طريق الكسوة مروراً بمرانة والمقيليبة، وطريق المزة المؤدي إلى دروشة ومنها إلى البويضية، كفر خبية واحة مسيجة بالزيزفون والورود والبساتين، من الشرق بستان الشلاح المنظم والمزروع بشكل هندسي بالتفاح، الواحدة قد يصل وزنها إلى ما يقرب النصف كيلو مزّة المذاق، من الجنوب الزيتون الذي يمتد بشكل متقطع حتى الوعرة، وربما أشهرها ما كان يخص عمر آغا، من الشمال بساتين منوعة الثمار، تسقى بمياه آبار ارتوازية، أما الأراضي الواقعة في أقصى الشرق فتزرع بالشوندر السكري أو القطن، إضافة إلى غابة من الصفصاف قرب نهر كفر خباني الذي هو أحد فروع نهر الأعوج.‏

    حل أبو صالح على كفر خبية يحمل صرراً على ظهر حمار. بجانبه أم صالح وخلفه طفله، رحب به أهل البلد، أشفقوا عليه، بدؤوا يتهامسون فيما يجب فعله. يشتمون اليهود الذين طردوه من أرضه، شعر أنه بين إخوته وربعه وسط ترحيبهم، ضمه الفلاحون إلى صدورهم، قدموا ما يستطيعون تقديمه، أعطوه بيتاً من اللبن، رفضوا أخذ الأجرة. صاحب البيت قال له: "اسكن يا أبا صالح حتى تعود إلى بلدك."‏

    لم يكن كلامه مستهجناً، لا أحد توقع أن يظل الفلسطينيون خارج أرضهم أكثر من شهر، لكن عندما طال سكنه في الدار لسنوات، قرر أن يشتري داراً أو يبني واحدة مثل باقي الفلاحين. أعطوه قطعة أرض وقالوا له: "ابن بيتاً لك ولأولادك تظل فيه حتى تعود إلى بلدك."‏

    عيناه تدمعان لهذا الموقف النبيل. طيف فلسطين يتراءى في الحلم، في اليقظة، في الدروب الخضراء. ساعدوه في صنع اللبنات التي هي مزيج من تراب وتبن أضيف إليه الماء. فتيات البلدة ساهمن بجلب الماء، كل واحدة تأخذ منديلاً إضافياً وتلفه حتى يصير على شكل إكليل. تضعه على رأسها ليرد ثقل تنكة الماء. شمر أبو صالح عن ساقيه حتى أعلى الفخذ، وشمر جيرانه وأصحاب النخوة، يخوضون بالطين، يعجنونه بالمجرفة، وعندما يصير كتلة عجين. يترك أحياناً لليوم الثاني ليختمر، في صباح اليوم التالي يتسابق الفلاحون للعمل. يصنعون القوالب الطينية التي تتحول إلى جدران لا تهزها الريح، بينما آخرون يحفرون الأساس ويرصفونه بالحجارة، البنّاء يبني اللبنات، يضع بين اللبنة والأخرى الطين الطري، وهكذا يرتفع البناء، الذي يتأكد من جودته كلما أنجز بناء عدة لبنات بميزانه الشاقولي. وهو في العادة يمد خيطه ويرفع المداميك واحداً بعد الآخر، الحماسة تدب بالعاملين، ينسون تعبهم لحظة تمد السفرة. يتناولون كمية من البرغل والبصل، وبعد انتهاء الأكل يحضر الشاي مع علبة تبغ من نوع «تطلي سرت رفيعة» أو علبة «مرجان»، يصل عدد المساعدين إلى عشرة، عشرين، ثلاثين، بل البلدة كلها تنتظر البناء وتساهم به. تزغرد النسوة لدى عقد الأبواب والنوافذ، بعد اكتمال البناء يصلون إلى مرحلة سقف البيت، يمدون جسراً خشبياً بالطول وأخشاباً أقل ثخانة بالعرض. يحضرون القصب وخيطان المصيص، يصعد الصغار ويبدؤون بشد القصب على قصبات سميكة، أشبه بمن ينسج على نول، ثم تمد طبقة من الأكياس والخيش، تليها «الوبلة» تراب مبلل بالماء غير مجبول، ثم طينة السقف والبيت وطرشه بحوارة بيضاء.‏

    أحس أبو صالح بالفراغ يمزقه، بالجبال تطبق على صدره، وبالحنين إلى الدار يقتله، هل يجتاز الحدود ويغامر؟ لا يسأل عن لغم قد ينفجر به أو جندي يطلق النار عليه بحجة تجاوز الحدود، وقد يتهم بالخيانة ويودع في السجن، وإذا استطاع اجتياز الحدود قد يقبض عليه الأعداء ويتهمونه بأنه مخرب! الأفكار السود تراوده، يظل أسير الماضي، روحه متعلقة بأرضه وبيته، هل يذرف الدموع أم يجوب البلاد يندب حظه؟ يوزع حزنه على الطبيعة، يحب السهول والهضاب والمشي في البراري، يظل دائم التجوال في كفر خبية والوعرة، لـه أصدقاء في البلدتين، يسهر عندهم ويعود إلى أولاده وزوجته آخر الليل، ونظراً لقرب البلدتين فقد جابهما وعرفهما شبراً شبراً.‏

    كفر خبية مفتوحة على الحياة، أهلها يمارسون الزراعة، أما الوعرة فتقع في أرض صعبة المسالك حجارتها بركانية مغلقة تماماً، أهلها أشداء ذوو مراس صعب، يعيشون في عزلة، مواردهم الاقتصادية شحيحة، يعتمدون على الرعي والزراعات التي لا تحتاج إلى سقاية، لهجتهم ذات علاقة بطبيعتهم الصلبة، طبيعة خشنة محافظة على تفردها ببعض الألفاظ والنطق. لكن وبعد نكبة فلسطين واستيطان المنطقة الواقعة في مسافة وسط ما بينها وبين قطنا. انفتحوا قليلاً على القادمين الجدد في محاولة للتخلص من عزلتهم ووحدتهم وبناء جسور الثقة والحب مع من حولهم، بدؤوا يبادلون منتجاتهم بطحين الوكالة الأبيض الذي وزع على اللاجئين.‏

    ماذا يفعل أبو صالح، أيظل يحلم أم يتعامل مع الواقع؟ الحدود أقوى من الجميع، بكى وأذعن واندمج في عالم الفلاحين، يشتغل مع بداية فصل الربيع وحتى نهاية الخريف، يرتاح في الشتاء، ينتقل من مضافة إلى أخرى، وأحياناً يستقبل في بيته الساهرين، لم يشعروه أنه غريب، وعندما يتخاصم أطفاله مع أبناء الفلاحين، يقفون إلى جانب أبنائه، يقولون لأطفالهم: «هؤلاء ضيوف والله أوصى بالضيف، الخنازير طردوهم من أرضهم».‏

    عندما بلغ حامد سبع سنوات، قاده والده مع عدد من أطفال كفر خبية للتسجيل في مدرسة وكالة الغوث البعيدة عن البلدة. احتج المدير وقال لأبي صالح:‏

    - ممنوع تسجيل هذا العدد الكبير من التلاميذ السوريين.‏

    - لا ليس ممنوعاً، هم قبل ابني، أتعرف ما فعله أهلهم؟‏

    - هذه يا أبا صالح مسؤولية، على وزارة المعارف السورية أن تفتح لهم مدرسة في بلدتهم؛ نحن وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين.‏

    - الله يساعد الوزارة يا أستاذ. سجل هذا بعض من كرمهم.‏

    - سأسجل الجميع وأتجاوز القوانين. تكرم يا عم.‏

    صار على حامد والصغار الذين سجلوا أن يقصدوا مدرسة وكالة الغوث في خان الشيح، لم يكونوا الوحيدين الذين يأتون للتعليم من خارج المخيم، هناك تلاميذ من الوعرة ودروشة، كان سعيداً برفقة زملائه، ساعة وربع ذهاباً ومثلها إياباً، صار لـه أصدقاء يزورونه، يلفون في البساتين ويحصلون على بعض الفواكه، وأحياناً يصلون شرقاً حتى جبل المانع، يصعدونه ليطلوا على الطريق الذي يربط ما بين دمشق ودرعا، يذكرهم بطلائع الجيش العربي يوم جاؤوا محررين لدمشق من العثمانيين.‏

    مات أبو صالح حزناً وكمداً على بيته بعد عشرين سنة من خروجه من وطنه، شعرت أم صالح بالغربة بعد وفاته، قررت أن تشتري قطعة أرض إلى جانب أخيها في الغوطة، أحسَّ حامد بالغربة، لو كان يعلم البون الشاسع ما بين كفر خبية والغوطة لما جاءها، لكنه النصيب أن يعيش فيها، ويشرب من مياهها الملوثة، وأن يلتقي بفتاة مخلوقة من البدر، امتدت يده إلى يد فرات علامة انتهائه من حكايته، إذ بعد ثلاث ساعات من الحديث، اعتذر على إطالته وذكره لتفاصيل قد لا تهمها كثيراً. بفرح قالت:‏

    - لا تأسف يا صديقي. قلبي الذي كان يدق في صحراء قاحلة وأرض مقفرة لم يعد كذلك، ألم تلاحظ مرحي وابتسامتي المطبوعة على شفتي وفؤادي؟ أشعر أنك غزوتني، وأنني أتغيّر. هل تعرف ما الذي غيرني بهذه السرعة؟‏

    نظر إلى عينيها المبتهجتين وقال:‏

    - الحب!‏

    - لم أفهم!‏

    - بل تفهمين. الحب يا صديقتي يغزونا دون مقدمات، وعندما يقرع جدار أفئدتنا نبدأ بالتغيير.‏

    - لم يمض على تعارفنا سوى زمن قصير. أتسمي ما بيننا حباً؟‏

    - أنت تستنزفينني بشكل رائع!‏

    ابتسمت وبدا جسدها أكثر رشاقة وأنوثة، أنوثة تستدرجه إلى حد الرضوخ، تعرف أنه يحبها قبل أن يصرح، فكيف وقد صرح لها في هذه الجلسة؟ لها حذق الحاسة السابعة، عرفت ذلك منذ النظرة الأولى، الغزل يمنحها حبوراً وجمالاً فوق جمالها. تبتسم وتطالبه أن يقول كل ما عنده قبل أن يتركا المكان. الكلمات تهبط إلى جوفها، تترك فيها رعشة وحيرة، فتبدو بتناقضها وشكلها مزيجاً من الربيع والموسيقا، الشمس تنير داخلها فيبدو كل ما فيها مضيئاً.‏

    تغيرت ملامح فرات، بدا الحزن على محياها، نظرت حولها، وجودها مع حامد نبش شيئاً من حياتها، من ماضيها الذي يؤلمها كلما تذكرته، ضغط على كفها، ونظر إلى وجهها، السماء تتبرج بما تملكه من غمامات، أطياف قزحية تظهر في الأفق، لماذا لا تمنحنا الذاكرة إلا الحزن؟ وجهها عكس حالة الجو، دعاها أن تشعل النور في صدرها. بحزن وألم عميقين علقت:‏

    - ماما لا تدرك ما أريد، وهي لا تريدني سعيدة!‏

    - الحب ينتصر يا فرات مع الإرادة.‏

    - لا أريد أن أصل إلى حافة الجنون، فأنا ابنة التجارب. الحياة لا تعطي بقدر ما تأخذ، وها هي ذي تأخذ كل شيء!‏

    البحر المتوسط أرسل غماماته وأبجديته إلى الغوطة. دفع بالسحب الكثيفة، لتعود الحياة أجمل مما كانت، لتنمو الأعشاب وتزهر الأشجار وتغسل عفن الشوارع. صوت فيروز ينطلق من مذياع قريب. تذكرا صوتها الملائكي، واحتجاجها حداداً وحزناً على زهور ماتت واقفة وهي تقاوم الأعاصير. فيروز مع سكوتها صمتت كل الأصوات الجميلة، بانتظار الفرح، في هذه اللحظة تكاثفت الغيوم أكثر وبدأت تمطر. فقال: هذه دموعنا ردت لنا. هيا قبل أن نبتل!"‏

    -11-‏

    الغوطة ترتدي أثواباً عدة في وقت واحد، كل ثوب دال على عصر من العصور، قريبة من المدينة لدرجة أن جزءاً منها ألحق بأمانة العاصمة، تمثل تعانق الريف والمدينة ولقاءهما، إلا أنه ظل هامشياً، لقاء يبقي الناس في حدود تفكيرهم وعاداتهم. رجالها يعرفون بعضهم بعضاً، كتلة سكانية متجانسة إلى حد ما، أما على جانبي الطريق العام والطرق الهامة الأخرى، فقد ارتفعت بنايات بطوابقها الأربعة، ضمت الشرفات إلى الغرف، لتحجب ما عداها، ولتصير جزءاً من النوافذ الممنوع على النسوة الاقتراب منها.‏

    أشجار الحور لم تعد تتباهى بطولها أمام علو الأبنية التي تناطح السماء، حتى إن بعضها انهزمت أمام الكتل الأسمنتية والطرق المعبدة، السحب تتدافع، تمر دون سلام، ترقص رقصتها المجنونة على أنغام الموت البطيء، تستقبل الشجيرات تلك الدموع بفرح، غير مدركة أن تلك القطرات هي آخر نواح للطبيعة.‏

    سكنت فرات الفيحاء في طفولتها وصباها، عاشت حياتها بلا تعقيد في مدينة مفتوحة، هي واحة وسط بادية، محطة تجارية، أهلها تعلموا الكثير من مفردات الحضارة، ظنت أن الفيحاء تهب ما حولها كل فنون الحضارة، اكتشفت البون ما بين المدينة وغوطتها، لغتان تمازجتا وانفصلتا، في الأولى صوت العلم والعقل والروح وفي الثانية دوي العصور الوسطى، اعتقدت أن خصوبة الأرض وعلو الأشجار وجمال الطبيعة تدفع سكانها للأمام، تتمسك بعروة الأحلام الخلبية، تحلم بالتاريخ والجغرافية والتراث، بصوت أبيها الذي يدوي في سمعها، تحلم بلقاء يوازي عظمة مدينتها، التي صمدت في وجه الرياح والأعاصير والزلازل، وظلت تفور بالخصب والماء، في هذه المدينة المعطاء تلتقي الشعوب على المحبة، يسافر الزمن ويحمل في جعبته التاريخ، ينسى الناس أنهم أبناء أمم شتى، ينسون كل شيء إلا الحب الذي يوحدهم، فتجمع الفيحاء حضارات العالم في صدرها وتهبه لقاطنيها.‏

    سكنت عائلة فرات في حي العمارة الشعبي، في بيت مؤلف من طابقين بمساحة تزيد قليلاً على مئة وأربعين متراً مربعاً للطابق الأرضي، منها ستون متراً باحة مكشوفة، في الوسط بحيرة تتوسطها نافورة، الحيطان من الخارج مبنية من حجارة، أما طينتها فمن التراب المخلوط بالتبن، يتألف البيت من غرفة استقبال على يمين المدخل وغرفتي نوم في صدر البناء وإلى يسار المدخل المطبخ والحمام، أما الطابق الأول فهو أكثر انشراحاً، يطل على الأبنية المجاورة والمتقاربة، الدرج الصاعد من الحجر الأسود فوقه «فرنكة» منخفضة الارتفاع، الدرج الواصل إليها خشبي تداعت بعض درجاته مع الزمن، وصار صعوده مغامرة. للساكنين رحلتان، رحلة الصيف في البناء الأرضي، ورحلة الشتاء في الطابق. الباب الخارجي على شكل قنطرة، مصنوع من خشب سميك ومصفح، تفتح خوخته التي تطل على شارع عرضه ثلاثة أمتار، وعلى أسواق قريبة، ما تزال تذكر أصص الورد ونباتات الزينة التي تنتشر حول البحرة وأمام الغرف والتي تحيل البيت إلى جنة.‏

    العمارة وسوق الهال وكل المنطقة الممتدة من برج الروس إلى شارع الثورة، هي مرتع أهل الغوطة طوال النهار، ذكريات البيت منقوشة على جدار ذاكرتها، كيف ستتركه؟ تفيض عيناها بالدموع، تداعب أناملها حيطانه، تلقي نظرة على أخشاب السقف والنوافذ، على المساحات الواسعة للغرف والباحة، أجهشت بالبكاء وهي تلملم أغراضها في صرر، لقد باعت عائلة الوردان البيت، واشترت أمها بحصة زوجها بيتين، اعتقدت أن الغوطة ستفيض عليهم حباً وحبوراً، حياة شبيهة بحياتهم في العاصمة، إن لم تكن أفضل، لكن مسحة الجمال التي غلفت أدمغتهم بدأت تتوضح، الانتقادات تنصب على لباس فرات، أمها تعلم أن من الصعب أن تغيّر ابنتها لباسها وتصرفاتها والحرية التي ورثتها في دمشق، كانت طالبة في كلية الفنون الجميلة، قادرة على التنقل، تخرج من البيت صباحاً وتعود إليه أنى شاءت، لقاؤها مع زملائها وعقد صداقات أمر تعودته وتمارسه، النسوة تنظر بريب واستهجان إلى تحديها للباس الغوطة وتقاليدها، تسمع حديثهن، تشعر أنها متجاوزة تفكيرهن بقرن من الزمن، أحلامهن لا تتجاوز غرف النوم والمطبخ، في لقاءاتها القليلة تمنت أن تؤثر فيهن، فكان حوار الطرشان، بعضه محرم وآخر إذا صرحت به تتهم بأشياء لا تليق بشخصيتها، أمها تجاوبت مع محيطها الجديد وغيرت طباعها، آمنت بمثل ومفاهيم أهل الغوطة، وأرادت أن تطبق ذلك على ابنتها، التي أعطاها أبوها من القوة ما يكفيها لعشرات السنين، بعد وفاته أحست أن الناس تآمروا عليها، أمها أقرب الناس إليها بينهما فجوة وبون.‏

    تفقد الغوطة جزءاً من غطائها وخضرتها، تغرق في سبات عاجزة عن بث شكواها، فقدت دندنة الترام الذي ربطها بدمشق، لا شيء سوى ثرثرة السواقي التي تتغذى من فروع بردى ومن المجاري، قاسيون الشامخ شعر أن السّل هجم على رئتيه، بات يسعل وينتحب غير قادر على إعادة ما اقتلع من أشجار.‏

    فيض من الألم يتجدد، تحترق لحظة الحب، الحزن غطى حامداً وفرات، يبحثان عن سبل تجاوزه، حاولا أن يدفناه كل بطريقته الخاصة، لكن لحظات كهذه بدل أن تمحوه تجعله حاضراً، يعودان إلى البداية وإلى التساؤل، وإلى النتائج التي توصلا إليها، الألم جزء من النفس الإنسانية، يسكنها، يعشش في خلايا الصدر ويصير جزءاً من نبضات الفؤاد في كل منهما، القدر ساقهما ليتبادلا بدل كلمات الحب والعشق خيبتهما، إنهما لا يشبهان أي حبيبين، لا يتغزلان إلا لماماً، المديح والكلام الخجول يبدو وكأنه من قبيل الواجب، الذي يفرض عليهما أن يتحدثا بإطراء، حتى لا تتحول لقاءاتهما إلى روتين لا يقال فيه إلا السلام وكيف الحال، هذا الشعور تواطأا على إبقائه الخيط الواصل بينهما، يشعران بخجل حقيقي لدى سماع بعض كلمات الغزل، كل منهما يقرر بينه وبين نفسه أنه سيتجاوز الحالة ويعبر عن آرائه، عما يكنه اتجاه الآخر، في النهاية يفترقان دون أن يقولا شيئاً مما خططا له، كل واحد يراجع ذاته ويُحضر أحلى الكلمات التي ستقال، لكن طبيعة اللقاء والهموم التي تحملها تبقي الكلمات في الحلق، ذات ليلة فارقه النوم، فكانت الرسالة التي خطها دون تخطيط مسبق، قال فيها ما عجز لسانه عن نطقه:‏

    حبيبتي فرات:‏

    "ربما نرتبك وتتحول جلستنا لمناقشة تفاصيل صغيرة عن متاعب التدريس والحياة وأي شيء آخر، ولا نناقش ما جئنا أصلاً من أجله، قبل أن تخرج الكلمات من فمي يعيدها العقل ثانية إلى جوفي لتختبئ فلا ترى النور، لا ننتبه لأنفسنا، أتساءل لم لا تبادرين منعي الحديث خارج موضوع الحب في حضرتك؟! يبدو أنك معلمة متساهلة مع تلاميذك، وأنا طالب كسول لا يجيد قول ما عليه أن يقوله لمعلمته.‏

    إن ما هو مشترك بيننا يشير إلى أننا نحب بعضنا بعضاً لدرجة الوله، يكفيني أن أنظر إلى وجهك الجميل وعينيك اللتين تجمعان خصب العالم، وإلى شعرك وكيف تردينه لتريني بشكل أفضل، إن أحلى ما بيننا لحظة الصمت، أشعر أن روحي تهيم، تبحث عن روحك، عندما تجدها تتعانقان، تقولان ما لا نجرؤ على قولـه، وبعد يا عزيزتي هل تقلقين مثلي وتتقلبين في الفراش، أم تنامين لمجرد وضع رأسك على الوسادة؟"‏

    لم يكمل الرسالة، أمسكها بكفه، قرر أن يمزقها، لكنه عاد وسواها من التجاعيد التي لحقت بها، طواها ووضعها في مكان آمن لا يد تمتد إليها، تساءل عن جبنه، كيف يكتب لها رسالة وهو يراها في معظم الأيام، عليه أن يسمعها ما يريد مباشرة، فلا شيء أجمل من لغة العيون والشفاه لحظة تبادل الغرام، لكن الحزن المتأصل في قرارة ذاتيهما منعهما، هل هما قادران على تجاوزه؟‏

    بعد صمت رأى أن ما فعله لا يليق به، عليه أن يحترم صمتها وحزنها وآلامها، الآلام ميزة إنسانية دونها يفقد الفرح طعمه ومبرر وجوده، يتحول إلى شيء عادي، ومع الزمن يصير مرضاً وألماً، كما الضحك في غير مكانه والبكاء في موقف مفرح!‏

    بدأت فرات تتعود حياتها الجديدة، في التدريس تنسى ذاتها، تنسى ماضيها وطفولتها، تصالحت مع مأساتها، باتت كلماتها أكبر من سنها، وكأن الله وهبها قول الحكمة، آلمتها كلمات حامد عن اللاجئين، سكبت دموعها التي بللت مخدتها وصدرها، أحست على أمها تفتح الباب وتتجه نحوها، حاولت مسح دموعها والتخلص من آثار الحزن، لم تهبها الفرصة الكافية، لتعود إلى طبيعتها، اقتربت منها وضمتها إلى صدرها تهدهدها وتسألها:‏

    - ماذا يا بنتي؟‏

    - لا شيء يا ماما إنه الحزن الذي يدهمني بعد فقد بابا، أبكي ذاتي وأيامي القادمة، أحياناً تنتابني نوبة حزن وأنا في الصف، أحاول أن أسيطر على ذاتي، فلا أستطيع، أفتعل أي شيء ألهي به الطالبات، بينما أكفكف دموعي وأجففها على مهلي.‏

    حاولتْ أن تخفف عنها، أن تدخل إلى قلب ابنتها وتكتشف أسرارها، والحزن المسيطر على حياتها، تشاغلت عن أمها، تفحصت مكونات غرفتها، خرجت إلى الصالون، الجدران تحاصرها، تمنع الشمس والهواء، البيت يطبق على صدرها، تشعر بثقله، البيت الذي تجاوزت مساحته مئة متر مربع، تراه زنزانة منفردة! لا أخ ولا أخت ولا صديقة ولا مؤنس، شقيقتها هدى يكفيها بيتها وأولادها، وهلا يكفيها المصائب التي تتوالى عليها، وحامد يكفيه تشرده وبعده عن وطنه، تتناول قلمي الرصاص والفحم، تخربش، ترسم طيوراً سوداً وسط سماء رمادية، ترسم خيمة سوداء وأطفالاً أنصاف عراة يمدون أيديهم تجاه الجنوب، ونساء متوحدات مع الطبيعة ينقلن من أعشابها وخيراتها ما يسد الجوع، وأسلاكاً شائكة... تجلس على الكرسي، تسهر وهي ترسم حتى ساعة متأخرة، فرغت شحنة عذابها، اندست في فراشها، تأتيها الأحلام، صباحاً تفيق مشرقة ريانة، وقد أخذت من الشمس شيئاً من ضيائها، استمرت في الرسم، أربع لوحات جاهزة بعد شهر، صبت فيها فنها، لتكتشف أنها لا تعبر فقط عن حياة حامد بل عن داخلها.‏

    عندما تقرر الرسم، لا تزعج أحداً، ولا تستقبل أحداً، ولا ترتبط بأي مواعيد، حتى شقيقتها هدى التي تزورها وتتطفل عليها، في محاولة لإخراجها من أحزانها ومن أجواء الرسم، لا تفلح، تحاول فتح موضوع أو أكثر، تفشل في استدراجها للنقاش، تقوم لترى ما أنجزته من باب الفضول، مدركة أن شقيقتها تقتل الوقت، تفرغ شحنة الأحزان على الكرتون، أنكرت فرات أحزانها، أخبرت أختها بأن لوحاتها تحمل الأمل، في الأولى إشعاع، وفي الثانية أطفال، وفي الثالثة نساء وفي الرابعة التصميم، فأين التشاؤم؟‏

    - الحق أنك ترسمين ذاتك وانفعالاتك وإن جاهدت لإخفائها، إلا أنها ظاهرة بالنسبة لي.‏

    كادت تبوح بموضوعات اللوحات، التي استمدتها من مأساة فلسطين، نظرت إلى أختها وبلغة تنم عن المرح قالت:‏

    - هل تودين أن أرسم شيئاً منفصلاً عن ذاتي؟‏

    - ارسمي الفرح، المناظر الطبيعية، أي منظر من الغوطة، من دمشق، من بردى، من المرجة وسوق الحميدية والحريقة والعمارة، والأحياء الراقية في أبي رمانة والمالكي وفيلات المزة والقصاع...‏

    - أنا أرسم شيئاً آخر غير دمشق، ولكن دمشق موجودة في كل لوحة!‏

    - إنها أحجية!‏

    - اللوحة لغة لا تصرح عن كل ما فيها، تحتاج إلى جهد وقراءة حتى لا تظل عصية على الفهم.‏

    يختصر حامد لوحات فرات بقوله: «إذا كان الله قد أبدع من الذرات المادة، فإن لأناملك روح الخلق القادرة على تشكيل الذرات».‏

    طالبها أن تتابع طريق الفن، وعدها أن يقف إلى جانبها، ها هو ذا يدفعها إلى إقامة معرض بعد أن صار عندها عدد من اللوحات.‏


    يتبـــــع
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    للنشر
    الإدارة
    للنشر


    المشاركات : 3446
    . : ملتقى نور المصباح الثقافي

    غرباء منتصف الطريق ـــ عوض سعود عوض  رواية ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق – 2006 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: غرباء منتصف الطريق ـــ عوض سعود عوض رواية ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق – 2006   غرباء منتصف الطريق ـــ عوض سعود عوض  رواية ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق – 2006 Icon_minitime15.05.12 2:20

    -12-

    في صباح الأحد الخامس عشر من آذار عام سبعة وثمانين، التقى بفرات صباحاً، وهما ذاهبان كل إلى مدرسته، قال:‏

    - البارحة عيد المعلم العربي كل عام وأنتِ بخير.‏

    - التهاني مشتركة.‏

    - تهاني بزيادة الرواتب التي صدرت بمرسوم.‏

    - يا حسرة أنا وكيلة وقد لا تشملني، حتى لو شملتني سيصير دخلي تسعمئة ليرة، ماذا تساوي في هذا الزمن الأغبر، الأسعار زادت وقفزت منذ بداية العام، ماذا يفعل الراتب؟ لولا الدروس الخصوصية لبعض تلميذات الصف السادس في مادة الرياضيات، لكان وضعي مأساوياً.‏

    نظر إلى وجهها الرائع، إلى حبات الندى التي تلمع على جبينها، إلى ابتسامتها التي تشف عن كبرياء، سألها عن نوع شهادتها الثانوية، أجابت بكل فخر:‏

    - الثانوية العلمية، مجموع علاماتي أهلني الدخول إلى معظم الكليات العلمية، فضلت الفنون الجميلة، يا حسرتي عمر السعادة قصير، والبقية تعرفها!‏

    تمشي برقة ودلال، كأنها تعبر أرضاً تطؤها للمرة الأولى، كل خطوة مدروسة، وكل حركة توحي بما فيها من أنوثة وجاذبية، تتوسد الشمس شفتيها، تمنح ثغرها نداوة الصباح وأنواره، وترتاح العصافير على أفنان أناملها، في حين يمنح الياسمين صدرها نهاراً كله ربيع وثمر، قبل أن يودعها اتفقا على اللقاء مساء، الشتاء يصارع أيامه الأخيرة، وآذار نسي أنه ملك لفصلين، تمرد على غير عادته، هبت العواصف الباردة، فغدا الكون كبسمة طفل، المطر انهمر خلال الأيام الماضية بكميات كبيرة، شدّ البرد شهر آذار، نسي نفسه، نسي أن يوقظ الأشجار والنيام، أن يغمر الكون في ثلثه الأخير بالربيع والورود، صحا متأخراً، قرر أن يثبت وجوده، فرق الغمامات، عادت السماء إلى لونها الأسطوري.‏

    منح آذار حبه وشمسه في الأيام الأربعة الأخيرة، بينما فرات عاجزة عن منحه الحب، كيف لـه أن يكتشف تقلبات الطقس على محياها؟ أن يغوص في ماضيها، إذا كان غير قادر على معرفة لون بشرة وجهها الحقيقية، أو لون شعرها، أو معرفة عمرها، أو نمرة قدمها؟ تُفضل أن تطلب نمرة أقل ولو ظل كعبها خارج الحذاء، أما العمر فإنه يتوقف في العشرين.‏

    تحرقه نيرانها، يهرب في محاولة لدخول فردوس الروح، فردوس جسدها الماثل في مخيلته، تنتشي نظراته بأطيافها التي يستعيدها لحظة بعد أخرى، سأل نفسه عن مصدر الأفكار التي جاءت في غير مكانها، إنه ينتظرها، ستحضر بعد دقائق، عليه أن يهيئ ذاته لاستقبالها، أن يبتسم، لقد جاءت في موعدها، ترتدي ربيع الغوطة والساحل، دخلا أقرب كافتيريا، شعرا بالدفء، خلعت معطفها ووضعته إلى جانبها على كرسي فارغ، انتشر عطرها، شعر بنشوة، أول مرة يتغلغل عطرها إلى روحه، إلى أنفاسه، أنفاسه تهفو إليها، بدا عليه المرح، تمتم:‏

    عندما تكونين مضرّجة بالياسمين‏

    وفي أحلى أزيائك أتذكر قدرة الله‏

    أؤمن أنه كان في أبهى حالاته لحظة ولادتك‏

    أحس بالنعومة لدى وضعه يده بيدها، بتضاريس جسدها المتناهية في الأنوثة، أطال بقاء كفه في كفها، حدق بها، وعندما لم يجد الكلمات المناسبة للتغزل، سألها عن عطرها، أجابت باعتزاز:‏

    - إنه الياسمين، هل أعجبك؟‏

    - الله، إنه رائع! لقد سحرني.‏

    - ألا تعرف أن السيدة تعرف من عطرها!‏

    - أهو العطر أم الصدر وصهيل النهدين، أم الشعر المصفف بطريقة فنية مغرية؟! الأفضل أن أرفع يديّ وأسلم!‏

    ابتسمت فبدت أكثر جاذبية، وبدا الكون ملعباً للعشاق. قالت:‏

    - كلامك يستبيحني ويهبني قمة النشوة، أحس بكياني وأنوثتي على وقع الغزل، دعني أنسى نفسي، ودع الآلام تسافر إلى مجرة أخرى، لا شيء أمامنا سوى الحياة، التي علينا أن نُبدعها لتظل جميلة.‏

    - أنت إبداع الخالق، دعيني أتفحص مسامات وجهك، أرسم الابتسامة على ثغرك، فما بينك وبين النار والماء لغات مشتركة، فليت كل طين العالم وماءه فرات.‏

    مالت برأسها وتمايل جسدها رهافة وغنجاً، أرسلت حزم ضوء من عينيها، أدرك أن روحها وجسدها يعيشان نشوة اللقاء، في روحها يكمن المرح، يأخذ مداه، عليه أن يواصل استنفارها وتحريض جسدها، تحريضها على الكلام والتعبير عن حالتها، والانفلات من الواقع، من العقل إلى الحلم والخيال:‏

    شعر أن السماء ارتفعت أكثر، وأن الأرض اتسعت، وأن الشمس صارت أكثر نوراً، وأن التي تجلس قبالته تملكت خياله، أفقدته اتزانه. حدق إليها، عيناه لا تفارقان جسدها، يراها في مكونات الطبيعة، في كل جميل، تأملها، رآها هائمة في عالم آخر، مد يده إلى جيبه وأخرج هدية، عبارة عن سلسال فضي يحمل الحرف الأول من اسمها، ترددت في قبولها، قال: "اعتبريني تلميذاً يتودد إلى آنسته لتعطيه علامة زائدة، اعتبريني طفلاً يحلم بعطف معلمته الجميلة، يحلم بابتسامة، بمناسبة عيد المعلم أقدم هديتي البسيطة."‏

    تناولتها، فتحت محفظتها ودستها داخلها، نظرت نظرة حنان فيها الكثير من الأنس والمسرة، الكثير من الطفولة التي افتقدتها، فيها عواطف وثورة وتمرد، قررت المغادرة، من غير اللائق أن يتركها تعود وحيدة، عليه أن يوصلها إلى باب البناية ثم يعود إلى بيته وأهله، من باب الفضول دعاها لزيارته، ليعرفها على أمه وإخوته، أجابت بالرفض، قالت:‏

    - أنسيت أين تسكن؟ بأي صفة أدخل بيتك؟ وماذا ستقول لأمك وجيرانك؟ كيف تدافع عني أمام مجتمع لا يرحم؟ صحيح نحن أصدقاء، الغوطة لا تعترف بالصداقة بين الجنسين، ترفض أن يختلي ذكر بأنثى تحت أي حجة أو ذريعة، غداً نلتقي، ستكون هلا معي!‏

    - هل ستعطيك رأيها؟‏

    - لست بحاجة إلى رأي أحد فيك، إنما هي تمر بأزمة وعلينا أن نقف إلى جانبها. ستحدثك عن ذلك. وداعاً!‏

    -13-‏

    الزمن انعكس على حياتك، صرت لا تشعرين بمروره إلا وقت غروب الشمس أو شروقها، تدركين أنه الليل، لا أحد يستطيع أن يهبك نعمة الاهتمام بالزمن، الذي صار كالمكان شاهداً على استلابك، هل يمكن أن يصيرا قاسيين إلى هذه الدرجة؟ تحرك شعور الغربة والألم، الماء في جوفك مرّ، فمك جاف ولسانك قطعة حجر، لعنت الساعة التي احتلت فيها بلدتك، لتغدي نازحة إلى مدينة غريبة عنك، أنت هلا بنت أبي حسن جودة المعروف في الجولان بشجاعته وطول قامته، يحصل معك ما حصل ولم تقم القيامة بعد! جئت إلى دمشق وكلك أمل ألا تخذلك، جئت متحررة، أورثك والدك الاعتماد على النفس، بعد سنة من عملك في التدريس، قررت أن تدرسي ثانية، أن تتقدمي مع الطلاب الأحرار لنيل شهادة الدراسة الثانوية، لتسجلي في كلية الآداب، منذ ثلاث سنوات وأنت تنجحين كل عام، أمضيت السنتين الأولى والثانية في المدينة الجامعية، لم تتخلي عن المبيت فيها إلا بعد طلب أخيك وإلحاحه أن تعيشي معه في بيت واحد في دمشق، ومع ذلك ظلت غرفة باسمك في السكن الجامعي.‏

    شعرت أنك كبرت بعد عملك، وأن جسدك انتفض وثار، كل ما فيك بركان، برزت تقاطيع أنوثتك وتفاصيلها، وبات قوامك مغر، قوام ضامر أهيف وجيد مرمر، عينان عسليتان براقتان، ووجه دائري، أما الشعر الخرنوبي فغزير، ينحدر على منكبيك ويصل إلى أواسط ظهرك، جسد حنطي نحيل، وذهن متقد، لم تعدي طفلة تبحثين عن لعب أو فتيات صغيرات تلعبين معهن، بل شابة تنوء بحمل أعباء الزمن الذي خصك بمزيد من المآسي، يقبض على كل جميل في حياتك، حتى أحلامك البسيطة تتكسر وتتحول إلى كوابيس.‏

    الأنين المكتوم في صدرك يحولك إلى عصبية، يقتلك، حدثت فرات بقصتك، أنت أمام حامد خجولة، كيف تحدثينه ومن أين تبدئين؟ هناك أشياء لا يستطيع اللسان نطقها، يفهمها السامع، تقترح فرات الذهاب إلى الربوة وتناول العشاء، تختار طاولة بعيدة، لم تكوني عادية الجمال كما وصفتك لحامد، الحق أن جمالك صارخ ومثير، كل ما فيك دقيق باستثناء عينيك اللتين تفيضان حزناً، تصطنعين الابتسامة، تخلدين إلى ذاتك، تشردين، تقرصك فرات يحمر وجهك، تعودين ثانية إلى جو المائدة، تبدين مذعورة، خائفة، صدرك يرتعش، تدخنين وقلبك ينبض فزعاً، تدخلت فرات وخلصتك من حرج البداية، قالت: "صديقتي هلا مرت بتجربة فظيعة!"‏

    نظرت إليكِ ودعتك للحديث، تراخيت على الطاولة، تحدقين بهما، تبحثين عن كلمات مناسبة لقصتك الفريدة، لا تريدين أن تخدشي أسماعهم، أن تذكري التفاصيل التي مرت بك، تشيرين من بعيد، وبما أن فرات على علم بكل شيء، فإنها تعلم كل إشارة وكل كلمة، وكل غصة أو شهقة، وكل عبرة من عبراتك التي تمسحينها قبل أن تنزل إلى خديك، تفضلين أن تظلي متماسكة، أن تعطي رؤوس أقلام والباقي يكونه الذهن، لا تستطيعين شرح أو الحديث عما مر بك، ربما يغمى عليك، كانت لحظات الصمت أو النحيب كافية، سيطرت عليك غلالة من الغضب أفقدتك رشدك وتوقفت عن السرد، الحزن يحتضن وجهك، تهاطلت دموعك، حاولت التغلب على فيضان بردى، على أحزانكِ، شهقت وأخرجت منديلاً ونشفت دموعك، قلت:‏

    - أنا آسفة يبدو أنني انتهيت!‏

    - الحياة يا عزيزتي لا تتوقف، علينا أن نفكر فيما يجب علينا عمله، الماضي المؤلم يتطلب شحذ هممنا لتجاوزه وبناء المستقبل.‏

    «بدأت حكايتي مع قاسم الصلصال يوم أبدى اهتماماً زائداً بيّ، أوصلني قريباً من بيتي، يوم دعتنا المديرة إنعام لحضور حفلة عيد ميلادها، تأخرنا، طلبت إليه أن يوصل بعض المدعوات، أبقاني آخرهن، افترستني نظراته، غازلني وبدأ يمتدح جمالي، كان لطيفاً ليلتها، دعاني إلى المطعم في اليوم الثاني وحاول أن يستدرجني إلى غرفته، رفضت، حاولت فهم شخصيته المضطربة، يدعي أنه يحب الآخرين، ويشتم كل الذين في طريقه، الأيام ظلمته، دعوته إلى النظر إلى الحياة بالتفاؤل، إلى الثقة بالآخرين، أن يسامح الذين أساؤوا إليه ويبدأ من جديد، أن لا يقابل الشر بالشر، أن يفعل ما هو جميل، سمع كل همسة وأثنى على كلامي ووعدني أن يبدأ حياته من جديد، اعتقدت أنني انتصرت على الشر داخله، كنت كيمامة تهدل خارج السرب، حاولت التسلل إلى داخله لمعرفة كل صغيرة وكبيرة، سألته عن قريته أجاب:‏

    - أنا من الشمال من قرية لا وجود لها على الخارطة تسمى «مزرعة الصفصاف». وأنتِ؟‏

    - أنا من الجولان.‏

    نظر إلى عينيّ وابتسم، ابتسمت وسألته عن عمله، أخبرني أنه يوصل السيدة إنعام زوجة معلمه إلى المدرسة صباحاً ويعود بها ظهراً، يشرف على تجارته، علمت أنه يهرب الدخان والأدوات الكهربائية... طالبته أن يبحث عن عمل شريف، قال:‏

    - إذا كان هذا هو شرط القبول بي سأفعل!‏

    - يا سيد قاسم ما زلنا في بداية علاقة، أشعر أن من واجبي أن أخلصك من كل ما هو سلبي في حياتك.‏

    - وهل لديّ ما هو سلبي؟‏

    - ما معنى أن تمد يدك إلى فخذي وتحاول أن تقبلني في السيارة! وتسمعني كلمات لا تليق بمربية! تبرر ذلك بأنك تتغزل! إن من يتغزل يرفع مستوى التخاطب، الغزل يفرض أن تتحدث بكلمات رقيقة وناعمة».‏

    توقعتِ أنك قادرة على تغييره، مع أنك قررت عدم الاقتران به، لم تنهي علاقتك الهشة، تصورت أنه مظلوم، وأن الدنيا تقف ضده، والده لم يعطه حصته من الأرض، ولم يبق لـه بيتاً، جاء إلى دمشق مشرداً، كون ذاته، مظهره يشي بالوقار، لم تعلمي أن الحياة وضعتك في هذا الموقف، وأن هناك أشياء كثيرة عن حياته وعن سبب مغادرته للقرية، لو صدقك الحديث لبصقت عليه، تعرفين أنه كاذب، ومع ذلك قررت إصلاحه، لا تريدين أن تقطعي الخيط الذي يربطك به رغم الإهانات التي اقترفها بحقك، بررت ما فعله بحسن نية، تبتسمين عندما يمتدحك، اعتبرته عابر سبيل في حياتك، لم تحسبي أنه قادر أن يخدرك برشة من عبوة سماها ملطف جو، دفعك إلى غرفته وأرتج الباب، ها أنت ذي تندمين على أفكارك، يضعك في موقف خاسر، صارحك بما يريده، لن تسلمي نفسك، ولن تمكنيه من جسدك، أمام عنادك فح ما بداخله، قال: "نهاية كل حب الزواج."‏

    تناولتِ محفظتك وهممت بالخروج، الباب مقفل، ضربته بيدك ولم ينفتح، هددته بالصراخ، اقترب منك، أبعدت يده وعضضتها، شعرت أن هذه ساعتك، لن تدعيه يفترسك، فهذا أبعد من نجوم السماء، رماك على السرير، كورت جسدك وضممت فخذيك، وضعت يدك اليمنى فوقهما، بينما اليسرى ممسكة بالمحفظة، أنشبت أظافرك في رقبته، وعضضت كتفه الأيمن، لم تتركيه إلا بعد أن صرخ وهرب، شدك ثانية ومزق ثيابك، تدحرجت على الأرض وتمسكت بطرف رجل السرير، عاد يجرجرك فجر السرير بكامله، تجرح جسدك وسال العرق غزيراً.‏

    تجاهدين أن تظلي صامدة، خارت قواك، تتوسلين إليه، لماذا لم تتوسل امرأة أبيه وتدعه يشفي كبته الجنسي؟ أمه فزعت من مرضه المفاجئ، بسملت وتعوذت من الشيطان، بخرت البيت ونذرت أن تكف عن الحرام، بعد أن تعافى نسيت النذر، تخلص من كل ما يذكره بطفولته وصباه، إنه بحضرة فتاة ما زالت تمانع، نفد صبره، بانت أنيابه وانتشرت رائحة عرقه وهو يعاركها، تشنجت وبح صوتها، صدرها يعلو ويهبط مترافقاً مع حالة هذيان، في صباح اليوم التالي جاء بكأسين من الشاي، عاد إلى المطبخ، غيرت وضعيتهما وتظاهرت بالنوم، بعد قليل دعاها لتناول كأسها، شربته وهي تراقبه كيف ينوس ويتحول إلى جسد خاو مخدر، بصقت عليه وهي تعيد في ذهنها ما حصل لحظة بلحظة.‏

    -14-‏

    غبار وهدير وأصوات غريبة لم تألفها أذنك، رائحة البارود تنتشر، تحفر بيديك في التراب، هل أنت قادر على حفر قبر بقياسك؟ تلهث التلال، تدوسها الدبابات وناقلات الجند، يتحطم كبرياؤها، تطوي جسدها وتلملم عورتها، تلملم نباتاتها وتستعد لسبات لا تعرف مداه، تغلق أجفانها على آخر صورة، تحتفظ بماضيها، بذاتها، تحلم بيوم لا أحد يعرف اسمه وسنته، يوم تفيق من النوم والمرض.‏

    عقدتَ صداقة مع الطبيعة قررت أن تظل في بيتك، في أرضك، الذين حولك وصفوك بالأهبل، ماذا بقي من عقلك إذا احتلت أرضك؟ طوت طائراتهم ودباباتهم آخر ذرة من كرامتك، مقتنع أن ما تفعله الجنون، لكنه يحقق ذاتك ويرضيك، يشعرك أنك تستحق الحياة، أشعلت البراكين في جسدك، في روحك، في كل مكان تراه، طالبت زوجتك أن تلتزم البيت، لا تريد أن تضحي بها، أما أنت فلن تبارح مكانك، لا تستطيع منع نفسك من متابعة الأحداث، الفوضى عنوان كبير، الأفق يحجب الرؤية، خيوط دخانية تلف المنطقة، تأكدت أن المسألة لا مزاح فيها، عليك أن تحتفظ بآرائك في صدرك، ولا تعود لترديدها.‏

    أم حسن تخافك، الوحيد من أهالي البلدة الذي ظل في بيته، هل أنت أفهم من الناس أو أشجع؟ معذورة، تنظر إليك بريبة، وكأن لوثة قد أصابتك، ستبرأ منها بعد الحرب، لكنك تعترف أنك لن تبرأ، وأن شيئاً ما قد هز ملكاتك العليا، لن تعيش هنيئاً، تتمنى أن توقف تفكيرك عن العمل، أن يأخذ إجازة سنوية، منذ أيام وأنت تراقب الدروب والسماء، لا شيء سوى ما تثيره الدبابات من غبار، وما تلقيه الطائرات، أتربة ترتفع في الجو ثم تسقط رماداً، تنظر إلى الدروب الضيقة، أوراق صفر تتناثر، تتقاذفها الرياح، تتطاير كالعصافير، تقفز، تسمع صوت وقع أقدامك، تهش، نظرت إلى التلال الغربية، وراء المرتفعات المواجهة أدخنة تتصاعد، تحجب ضوء الشمس عند الأصيل، ارتسمت التلال عبر آخر شعاع كوجه عجوز معفر بالتراب، التل أدرك بحسه العفوي، أنه سينسلخ عن بيئته وتاريخه، بعد أن صعدت الدبابات هامته، وتركت في سمائه شيئاً من دخانها، ارتفع نواح من قلب الأرض، التي ذرفت ترابها الناعم والتحفت بالدخان والعجاج المتصاعد، رفعت زوجتك يديها داعية:‏

    - يا رب تهزم اليهود!‏

    - اسكتي يا زوجتي كفانا دعاء، المعركة حسأدمت والدعاء لن ينفعك.‏

    نظرتَ إلى السهول والتلال وإلى بقايا الشظايا المتناثرة في السهل وعلى طول الدروب، مسحتَ وجففت المطر المنسكب على خديك وصدرك، هنا تستطيع إقامة مملكتك، تحتاج إلى بضعة رجال يقبضون على الجمر، لا يتركون سلاحهم، الحياة محيت من الوجوه، أجساد ميتة لكنها تتحرك، تريد السلامة، ماذا تفعل شجاعتك؟ تشهر البندقية التي أغراك منظرها، تنظر إليها وتغازلها، كما لو كانت إحدى عشيقاتك، تضمها إلى صدرك وتقبلها، جمعت ذخيرة كافية، حتى المدفع جرجرته بعيداً إلى حفرة وخبأته، تمنيت لو تستطيع تفجيره، السيارة القريبة منك حرت فيما تفعل بها، آه لو تعرف قيادتها، تنظر إليها وفي عينيك حسرة، لو كانت ملكك لما احتجت لشيء، ها أنت تجد في طريقك أشياء ثمينة، حلمت باقتنائها في حياتك، لم يكن في حسابك أن الإسرائيليين سيبحثون عنك، ويهزؤون من شجاعتك، لن تسمح لهم بالتطاول أكثر، لديك من الذخيرة ما يكفي لقتال شهر، لم يكونوا أغبياء كما توقعت، جاؤوا يسألونك، أخذوك لتسير أمامهم وتنفذ تعليماتهم، يطلبون منك أن تفتح باب السيارة، ليتأكدوا أنها غير مفخخة، لم يعد لهم حاجة بك، عادوا إليك في اليوم الثاني، وضعوك وسطهم، وأخذوا يضحكون عليك ويحطون من شأنك، بدأت تتمزق من الداخل.‏

    سكت وأنت تحدق إلى وجوههم واحداً واحداً، الضابط حدث عناصره بالعبري، توزعوا يفتشون حول بيتك، أحد الجنود عاد مسرعاً ليسلمه بندقيتك، سألك فأجبت بأنها لك، هددك بالعقوبة، هززت رأسك وفضلت السكوت لتمر الحادثة بسلام، حمدت الله أن الحادثة انتهت عند هذا الحد، طمأنت زوجتك أن الإسرائيليين لن يطرودك، ستظل في أرضك، أما هلالة وحسن اللذان ذهبا مع عمهما، فيمكنهما أن يعيشا في دمشق أو يعودا بعد أن تهدأ الحال، لكن إذا عادا أين سيدرسان؟ فادية وعنود وانتصار ما زلن صغيرات، ذهبن إلى المطبخ لتناول الإفطار، الأم غير مطمئنة، سمعت حركة غير طبيعية، الجنود عادوا من جديد، يحدثون زوجها بالعربي ويأمرونه أن يترك بيته ويغادر إلى دمشق، رأتهم يحيطون به، أحدهم يتقدم منه ويضربه، فما كان منه إلا الرد بالمثل، اختلفت لهجة تهديدهم، سيقتلون أطفاله أمام عينيه إن لم يرحل، سخر من كلامهم، سددوا بدم بارد على انتصار التي تحبو ثم على عنود وفادية، تحولت الطفلات الثلاث إلى كتلة من لحم ودم، ركضت الأم إلى طفلاتها، اختلطت الدماء، توفي الجميع ولم يبق إلا أبو حسن، سددوا إلى قدميه قبل انسحابهم فتكوم فوق الجميع.‏

    ماذا يفيد بقاؤك يا أبا حسن وقد خسرت كل شيء، ماذا يعني أن تعيش بلا رجلين، واحدة قرروا قطعها والأخرى شفيت؟ ستمشي على عكازتين، ستشفق عليك النساء، وربما يرجمك الصغار، كما رجموا قبلك هزاع الأعرج، نسوا كنيته، نسوا أنه إنسان، يستعدون لمنازلته، يتعالى صياحهم، وهو يسب على أمهاتهم بشتائم تزيدهم حماسة، تدفعهم إلى الاصطدام به ليقع على الأرض وهم يضحكون، هو من أوقع عدداً من اليهود في معركة شفاعمر، أصيب فيها ولم يجد من يعالجه، ستكون مثله يا بن الجودة، على الأطفال أن يزفوك، أن يتطاولوا عليك ويرجموك بالحجارة، أن يضحكوا ويسخروا، أما أهاليهم فلن يقولوا سوى بضع جمل تدفع العين للبكاء، لن تنفع لشيء بعد اليوم، تنتظر عودة هلالة لتعذيبها، ولتطلب إليها أن تخدمك: «آه ما أقساك أيتها الأيام، ليتني مت هناك، هل وجودي يعني غير الحزن لابنتي، آه يا هلا أعلم أنك محبة لخدمتي، متفانية، تفعلين ما يسرني، تقصين ما حصل معك». نظرتَ إليها وقلت:‏

    - أنا لا أنفع لشيء يا بنتي!‏

    - أنت رائع يا أبي، إنها ضريبة الاحتلال!‏

    أقسمت أن تصيد من الجنود الإسرائيليين بقدر ما قتلوا من أسرتك، تعرج وعلى كتفك البندقية، تجاوزت الحدود وبقيت شهراً تفترش الطبيعة وتلتحفها، عدت ورأسك مرفوع، أغلقت باب غرفتك وخبأت السلاح، وقعدت تجتر الذكريات، الوحيدة التي تعرف مخبأ السلاح هلا التي شهدت الدقائق الأخيرة من حياتك.‏

    -15-‏

    آه منك يا صلصال طوال عمرك تطارد الرخيصات، ما الذي دهاك لتضع المعلمة هلا في رأسك؟ قررت أن تصيدها، هذه أول مرة ترى نفسك أمام واحدة جادة، لا تخضع ولا تستطيع بدقائق ولا بأيام أن تفعل ما تريد، محاولتك التلويح بالنقود لم تجدِ، وجدت نفسك وجهاً لوجه أمام فتاة تمتلك ثقافة وتناقشك، فإذا بك رجل صموت أحدب قزم القامة حاني الرأس، تنظر بعينيك دون أن تجرؤ على النقاش. على كل الحبال قفزت، لم تبق إلا السياسة، الخوض فيها ورطة تهزم الكبار، فكيف بمدّرسة تظن أنها انتصرت طوال فترة صمتك، ناسية أن المنتصر يرفع إصبعيه، الإصبعان المرفوعان قدماها، لتحرمها أن تتحدث بأمور لا تفهمها: «تظن أن السياسة موجة تركبها وتجدف، ستفهم أنها ليست علكاً» هذا رأي مديرة مدرستها التي رفعت فيها عشرات التقارير السياسية.‏

    استهوتك، تتعذب لأن فخك لم يصدها، عمرك كله شقاء، ما أجمل أن تراها كبقية النسوة تفتح ذراعيها وتضمك! تستنشق عطرها، عطراً هادئاً لم تتعوده، عطراً لا يثير الغرائز، بل يفتح الفكر ويبعث الانشراح، بعكس عطرهن الواخز، الذي لكثرة ما يرششن منه على أجسادهن يعطي مفعولاً عكسياً، من أين لك أيها الصلصال بهذا الشعور الراقي؟ كيف تسمح لامرأة أن تستأثر بفكرك، وأنت تعلم أن أجملهن تركع لليرات؟ هل صرت مثل معلمك تفهم بتصنيف النساء؟ معلمك معذور يعيش معهن عارياً، أما أنت فقد كنت تراهن عملة واحدة، بعضهن وجه العملة وأخريات قفاها، الآن أنت أمام امتحان من نوع آخر، يجعلك تسايرها ولا تفترسها مباشرة، امتحان يخرجك عن دربك الذي اخترته، تنسى الراقصات والعاهرات، وتركض خلف معلمة راتبها لا يكفيك سهرة لليلة واحدة، شلت فكرك وقيدتك، وكأن المدينة لم تنجب غيرها! كلما اقتربت منها زاد عنادها، أتتركها فاكهة دون قطف؟ تتمهل على غير عادتك، اقتربت منها فابتعدت، تحاول إيهامها أنك الرجل المناسب، صاحب أخلاق، تصرخ في وجهك: "كيف أصدق أنك تتحلى بالأخلاق وتقدر المرأة وأنت تحتجزني في غرفتك؟!"‏

    تحاول إيهامها بمروءتك، تحاول أن تضرب ضربتك، لكن مثل هلا لا تنفع معها المقدمات التي حاولت القيام بها، واجهتك قوة شخصيتها، تراجعتَ واعتذرت، لم تعتذر سابقاً من أنثى، أنت الآن في موقف صعب، تشعر أن لطفك سيقربك منها، كنت تعتقد أن فتح ساقي المرأة أسهل من عمل إبريق شاي، ها أنت ذا تُراجع ماضيك، تجد الاستثناء يحاصرك، متأكد أن لا استثناء، ستصل إلى هدفك، لن تجاريها في الكلام، بل العكس عندما نطقت اكتشفتْ عريك، اكتشفت أنك بلا ثقافة، كان يمكن أن تظل صامتاً، تهز رأسك علامة القبول أو الرفض، تحاول أن تجاهد لتحقيق النصر، نصرك يبتعد، وبئرك فارغة جافة، تحدثتْ عن مصطلحات لم تسمع بها، ولا تريد أن تسمعها، وقفت كالأبله، واحدة مثلها تسكتك تجعلك أصم وأبكم، لكنك لن تغفر لها (فذلكتها)، رميت كل شيء خلف ظهرك ومضيت، لم تعد تفكر إن كنت ابن ريف أم ابن مدينة، هل لك أسرة أم لا؟ إن مجرد ذكر ذلك يجعلك عصبياً وفاقداً لهدوئك.‏

    تقود السيارة، تقف وتفتح لها الباب، ترفض أن تجلس إلى جانبك، تنظر في المرآة، لا تشبع من طلتها، تحاصرها نظراتك، عند أول إشارة مرور تفتح الباب وتنزل مثل عصفور يفر من القفص إلى أقرب بستان، تتغير الإشارة تتابع السير، تبحث عنها طويلاً فلا تجدها، وإذا تصادف ووجدتها تتمنع وترفض الصعود، تفكر في أمور على غاية من الأهمية، أنت صيّاد ماهر، لا هي ولا مئة امرأة قادرات على الإفلات من يدك، لكل شيء أوانه، وعندما جاء الأوان وأغلقت الباب تمنعتْ وضربتك.‏

    لقد نفذ سهم الشيطان، عاشت في غيبوبة وعشتَ في متعة ما بعدها لذة، تتسلى بجسدها المخدر، عيناها تشتمانك، تبصق عليك، تفيق على صوت أغان رخيصة، تهل دموعها، أحست بما حدث كالحلم، لم تتأكد أنها الحقيقة إلا في اليوم الثاني، تتساءل عن سهولة عقد قرانك عليها، سارعت للحصول على استيداع بقية العام الدراسي، اعتكفت في غرفتها في السكن الجامعي ثم في بيت أخيها، تجتر آلامها، لم تعد قادرة على الخروج أو الذهاب إلى أي مكان يمكن أن تراك فيه، لن تدعها تعيش في أمان، ما زال العقد غير موثق في المحكمة، بقي النص الذي كتبه الشيخ على السجل الأصلي، تأكدت أنها ما زالت في خانة أهلها، عليها أن تتصرف بسرعة، وألا تكون زوجة لمجرم ولو على الورق، يساومها على شرفها، على الطلاق، شيء واحد عليها أن تصل إليه النسخة الثانية من العقد، قبل أن يطلبها من المأذون ويثبته في المحكمة الشرعية، هذا الأمر يصعب التحقق منه، اليوم ستخرج وتتصرف ولو وجدته ينتظرها عند الباب.‏

    بعد أيام من غيابها سأل معلمته إنعام، التي لا تعرف عنها شيئاً، وأن ما وصلها من مديرية التربية الموافقة على منحها إجازة بلا راتب حتى نهاية العام، ما العمل؟ كل منهما يبحث عن خلاصه بطريقته، لن تعدم الوسيلة للحصول على سجل العقود، هو دائم البحث عنها ليضمها إلى قلبه وإلى بيته زوجة على سنة الله ورسوله، لا يمكنها وحيدة أن تحقق ما تريد، بعد تفكير أقرت أن البداية يقررها حامد وفرات.‏

    أحضر حامد المأذون نفسه بحجة عقد قران، رفضت الخطيبة المزعومة التي تحصنت في غرفة ثانية توكيل شخص عنها أو إعطاء رأيها الصريح، تبرع المأذون نفسه بإنهاء المشكلة، سيأخذ رأيها، ترك دفتره على الطاولة ودخل غرفتها، بعد نقاش دام دقائق طلبت أن تُعطى فرصة للتفكير، بعد أن تأكدت أن حامداً توصل إلى نسخة العقد الأصلية ومزقها، خرج الشيخ مقطب الجبين يحمل دفتر العقود، وهو يتمتم ويشتم الساعة التي أتى بها إلى هذا البيت، إذ عاد بلا إكرامية وزيادة على ذلك سيستأجر سيارة تعيده إلى بيته.‏

    انتهت مؤقتاً حلقة هامة من حلقات كابوس هلا، استنشقت كمية من الهواء، الآن تستطيع أن تفكر، أن تعيد لذاتها الاعتبار، لقد تمزق صك العبودية الذي فرض عليها، هل ثمة كلمة أغلى من الحرية؟! شيء ما منعها من إتمام فرحتها، مغتصبها لن يتخلى عن مشواره الطويل والصعب ولو دفع حياته ثمناً.‏

    توزعوا المهمات أصعبها ما أوكل إلى حامد، عليه أن يقترب من الصلصال بأية طريقة، يصادقه ويدخل قلبه ليعرف كل شيء عنه، مهمة صعبة وصفها بقوله: "إن تنفيذ عملية في إحدى المستوطنات الصهيونية أسهل عليّ من صداقته."‏

    يعلم أن الوصول إلى قلبه يمر عبر الدروب الدنيئة، عليه اجتيازها، أن يتردد إلى أماكن اللهو، يدخل في تفاصيل حياة جديدة، لن يدير وجهه بعد اليوم وهو يرى صور الراقصات والعاهرات في الملاهي، بل سيحدق فيهن ويعاشر بعضهن، حانة الوردة البيضاء في وسط المدينة، وصلها وقرأ أسماء الفنانين وأوقات الافتتاح.‏

    جمع بعض المعلومات الأولية عن الصلصال، شاب ذو نزعة عدوانية، مولع بالقمار وبالنساء، يتردد على أماكن اللهو، ويقضي معظم لياليه في ملهى الوردة البيضاء، يسكر ولا يصحو إلا صباحاً، ينقل معلمته إلى مدرستها في السابعة، عند التاسعة ينقل معلمه إلى مكتبه، يظل في الدائرة ساعتين أو ثلاثاً، يذهب إلى الميدان لإعادة السيدة إنعام إلى بيتها، ثم يعود إلى معلمه حسب طلبه ليعيده إلى بيته، تبقى السيارة معه، يذهب مرتين أو أكثر في الأسبوع إلى شتورا مالئاً صندوق السيارة بمواد مهربة يقدر ثمنها بآلاف الليرات، يبيعها في السوق السوداء، ويربح مئات الليرات، في اليوم الثاني لا تبقى ليرة في جيبه، يدفع ما معه في جلسة أو جلستين في الملهى، وقلما تخلو ليلة من حفلة مع راقصة أو فتاة مخدوعة أو ممن يمتهن البغاء في بيوتهن أو في بيته.‏

    تجاوز الثلاثين ولم يفكر بالزواج، إلا عندما اهتم بهلا التي أكلت عقله، كاد يطير فيها، قرر من أول صعود لها في السيارة أن تكون قسمته، أحبها كما يحب الحشيش والمشروبات الروحية والملاهي الليلية، صدم عندما صارحته بشعورها اتجاهه، أقسم أن يذلها وبر بقسمه، ما توقعه لم يحدث، لم تأته ذليلة ترجوه أن يستر عليها، هربت من بين يديه، أخذت هويته وأوراقاً هامة موجودة عنده، رجل مثله سهل عليه أن ينفذ تهديداته، ماذا يخشى وعلى أي شيء يخاف؟ حرقت قلبه عندما أبلغته أن طريقها غير طريقه، عشرات النسوة عاشر وما من واحدة استهوته، هو نفسه لا يعلم لماذا تعلق بها؟ ولِمَ أصرّ على فضحها؟ لا يهمه من المرأة إلا لحظات النشوة، يغير ملابسه، يرتدي أفخر ثيابه وهو يحدق بالمرآة أنيقاً مبتسماً ومنتصراً.‏

    الجسد فاكهة، ولكل فاكهة طعم ولون ورائحة، عليك أن تتذوق الجميع لتقرر أي الأجساد أشهى، الثمرة الطيبة كالمرأة الحارة الناضجة، حضنها دافئ وصيدها ثمين، لا تفر ما دامت اليد سخية، هلا لم تكن من أي من تلك النساء، صنفها وحيد وثمرتها ذات مذاق رائع، تمسّكت بها وأجبرتها على ما لا تريده، لكن أين هي؟‏

    في لحظات الصفاء والهدوء تعود إلى ذاتك، هل يعقل أن تحب؟ هل هناك من تستحق الحب؟ أنت ذاتك تنكر أي نوع من أنواع الحب، لا تعرف ما الحالة التي تلبستك، ربما لأنها لم تطاوعك، قلبك يدق، تبتسم وتحاكي ذاتك، تتصورها أمامك، تعدها بأحلى الأيام، تناديها، تعالي، يردد الصدى صوتك، تجد نفسك وحيداً بلا هوية وبلا نقود، ربما هي ستنتقم لشرفها وللكثيرات، تراجع ماضيك، لا شيء تندم عليه، تعرف أن أعمالك تؤلم الآخرين، إلا أنها تظهر عظمتك، هل صحا ضميرك أم إنه الندم لفرار واحدة من قفصك؟‏

    عرف حامد الكثير عنك، عرف أن الوصول إليك يمر عبر نفق مظلم لابد من اجتيازه، النقود التي وفرها خلال سنوات، سيصرفها في أيام، كان حزيناً ليس من أجل ذلك، بل لأنه سيعاشر نوعيات تافهة، يتودد لها ويمتدحها، وربما تدفعه الحمية إلى التعاون معها، صار من رواد الملهى، بعض الراقصات أحببن مجالسته، الفضول دفعهن لاكتشاف أي رجل هو حامد، شراب الراقصة المشهورة استهواها شكله، راقبته من بعيد، تمنت أن يطلبها، مستعدة أن تدفع عنه الحساب إذا أشار إليها بإصبعه، منعها كبرياؤها التحرش به، انتظرت وقررت أن لحظة ما ستأتي، حان الوقت ليتحرش بك حامد، اقترب منك واستأذن بالجلوس إلى مائدتك، لم يتلق إجابة، قرر أن السكوت علامة رضى، رآك متعكر المزاج، بكل ود ولطف دعاك أن تسهر ليلتك على حسابه، سألك عن المناسبة، أجبته لكونك متضايقاً، سر من جوابك وقال:‏

    - مقبولة منك يا...‏

    - أنا حامد الراشد.‏

    - الداعي قاسم الصلصال.‏

    عرف من خلال الحديث أنك مدرس، نظر إلى وجهك وابتسم، سألك عن معلمة تدعى هلا أو هلالة، أفاض بالحديث عنها، كيف أحبها وكتب عقده عليها، الملعونة هربت وسرقت العقد، أشار بيده إلى راقصة تترنح دعاها شراب وأضاف:‏

    - ربما لتلك العاهرة يد بذلك!‏

    - يمكنك أن تدعوها إلى بيت الطاعة.‏

    - كيف ونسخة العقد الأصلية لا وجود لها ولا أحد يعرف بيت المأذون إلا أنا وشراب.‏

    - إنها أحجية!‏

    - بل الحقيقة التي سأحدثك بكل تفاصيلها.‏

    تبادلا أطراف الحديث، لم تفكر بطلب راقصة، وجود حامد أنساك همومك، دعوته إلى بيتك، أصررت على اصطحابه، لتقص عليه بقية الحكاية، في البيت سهرتما حتى الصباح، ارتاح إليك، قصصت شيئاً من ماضيك وحياتك وعملك الحالي، وعدك بسهرة مع الفنانة شراب.‏

    عشرات الأسئلة تحاصر هلا، كيف ستتقدم لامتحانات الجامعة؟ كيف ستخرج من البيت؟ طمأنها حامد إلى ضمان سلامتها وزيادة في الاحتياطات رافقها إلى الجامعة حتى آخر يوم من الامتحانات، عادت ثانية إلى كتبها، إلى المطالعة، إلى سجنها الإرادي، شيء واحد تفكر به هو نجاحها هذا العام إلى السنة الرابعة، قدرت أن الدراسة هي السبيل الوحيد لقتل الوقت والفراغ، عشر ساعات وربما أكثر تلتهم فيها الصفحات، تهيئ نفسها للأيام القادمة، لمستقبل مجهول.‏

    -16-‏

    تتنصَّتُ وتسمعُ كل حركة يقوم بها والدك: خاصة وقت اختلائه بزوجته الجديدة، تدخل مخدعهما خلسة على رؤوس أصابعك، وتنسحب في الوقت الذي تراه مناسباً.‏

    سناء زوجة أبيك فتية، لا تكف عن السهر والرقص ما دام الليل لم ينتصف بعد، سكنت بيروت فصارت بيروتية، تهتم بأناقتها وحديثها وعطرها وحبها للمجاملة والحديث، تعودت على النزهات وزيارة البحر والسباحة، فيها الكثير من اسمها، وعرة المسالك، لبيبة، لم يصلها أبو قاسم الصلصال إلا بعد أن سلم روحه ووضعها بين يديها، ورفع يديه إيذاناً بتنفيذ شروطها، دفع كل ما يملك مهراً، كتبت عليه مؤخراً بالعملة الصعبة، اشترطت أن تكون العصمة بيدها، أن يعيشا في بيروت، وشروطاً أخرى لم يناقشها، أخبرته أنها لن تغادر لبنان إلا للزيارة، بحر بيروت ملجؤها ومن جبالها تستنشق النسائم، بعد أن اتفقا على كل شيء، ذكرته بعد الزواج بأنها لن تسكن في قريته المنسية، والتي لم تعثر على أثر لها على خارطة سورية، هي التي أخلت بشروطها، لم تصمد بعد تعرضها لأكثر من حادثة، جاءته طالبة أن يرحلا إلى الضيعة، بعد أن كرهت مناظر الموت، بعد موت والدها وأحد إخوتها، الأصح أنها هربت، الرصاص لا يفرق بين الناس، ينطلق إلى حيث يسدد القناصة وأولاد الحرام والمتحاربون، ولولا الظروف الاستثنائية التي مرت ببيروت لما عرفت الصلصال، ولكانت الآن تتمشى على الكورنيش أو في شارع الحمراء.‏

    ما زال يذكر كيف عمل عتالاً في ميناء بيروت، يتوقف الميناء عن العمل لساعات أو لأيام أو أسابيع بسبب الحرب، يبحث عن عمل آخر، يمر يومياً من أمام بيتها في طريقه للعمل، بدأت تراقبه، اصطحبها غير مرة إلى المصايف الجبلية وإلى البحر، أحبَّها وعندما تلفظ بما يدل على إعجابه وحبه، لم يجد منها الصَّد كما توقع، بل ابتسمت، لم يخبرها أنه متزوج سابقاً، وهي لم تسله، اشترطت أن يعيشا في بيت أهلها، ظلا فيه إلى أن أصابته قذيفة فقررت الرحيل.‏

    لِمَ لم تسل عن أمك المريضة؟ أتعاقب نفسك أم تعاقبها؟ لم تشعر بالفجيعة عندما أخبروك بموتها، كنت قد دفنتها بين أضلاعك منذ زمن، لم تجد عناء في مواصلة الحياة عند والدك، أما أختك عائشة التي تكبرك بثلاث سنوات فقد تزوجت وفضلت الحياة بعيداً عن بيت أهلها، زكمت رائحة أمها أنفها، غدت تخجل لدى أي ذكر لها، تقدم ابن خالتها لخطوبتها فلم ترفضه، وجدت الحياة في بيتها الزوجية سبيلاً لخلاصها من واقعها.‏

    في تلك الليلة الجهنمية لم يغمض لك جفن، وصفت بدقة سهرتهما، أبوك يلهج باسمها ويصفها أنها رائعة، بدأت تخطط لتحظى بها، أتقتل والدك؟ قد لا ترضى بقاتل زوجها أن يأخذ مكانه، صحيح أنك أكثر فتوة وجاذبية، لكنك لا تملك مالاً، والذي لا نقود معه ترفسه المرأة!‏

    بعد مجيء سناء إلى مزرعة الصفصاف غيرت طريقة حياتها ولباسها وتعاملها لتتلاءم مع حياة الفلاحين البسطاء، خلعت ثيابها القصيرة ولبست ثوب القرية، بدت مثل باقي النساء، تأخذ الطعام لزوجها الذي يعمل في أرضه، من يراها يعتقد أنها قروية أباً عن جد، قررتَ يا صلصال الدخول إلى قلبها، استرضاءها، تساعدها في أعمال البيت، تنفذ طلباتها، صرت طوعها، تمازحك فيذهب عقلك بعيداً، تتأمل قوامها الرشيق، تمتدحها فتسرّ، تحدثك عن بيروت، عن لبنان وجمال طبيعتها وأهلها، توافقها وتزيد على مدحها مديحاً، تحدق بها فتضحك، توصي زوجها بك خيراً، تشهد على أنك مؤدب ونشيط لا تخالفها في شيء، لا تريد إلا رضاها، ظلت وراء أبي قاسم حتى أعلن أنه سيعطيك قسماً من أرضه ويبني لك بيتاً ويزوجك، ذكريات أمك تأتيك، الماضي يطاردك، تبكي بمرارة وتقول: "لماذا أمي ليست كباقي الأمهات؟"‏

    على مضض تطلب لها الرحمة، تأسف لماضيها وماضيك، غير قادر على التخلص من ذاكرتك المشوشة، لم تستطع أن تقتطعه وترميه كما ترمي أي ثوب بال، لقد عمل عمله، صحيح أنك تتصرف مع زوجة أبيك تصرفاً لائقاً، ظنت أنها استطاعت ترويضك، لكن وراء الأكمة ما وراءها، حول عينيك هالتان رماديتان كونهما الأرق، تمضي ليلك تراقب حركاتها وإيماءات جسدها، لم تعد مراقبتك خافية، أحست وأنت تحاول احتضانها، كادت تتعثر، ابتعدت ولم تتأكد إن كان ذلك عفوياً أم متعمداً، بدأت بالتوجس والخوف غير قادرة على البوح، خاصة هي التي دعتك إلى رفع كيس البرغل، وبالمصادفة احتكت بك و احتككت بجسدها، محاولاتها الحذرة أججت نيرانك، حاولت غير مرة أن تحتك بجسدها وتقبض عليه، أن تتحرش بها وفي نيتك أنها ستسكت، كل ما فيها يجعلك ثائراً، فاقداً اتزانك، شبقاً، تتمنى سفر والدك، في مرات تمنيت موته، تريد أن تكون عشيقها، تخدمها، نظراتك الجنسية الفاحشة تعريك، صارت ترتاب، ترتدي ثياباً محتشمة ولا تظهر شيئاً من جسدها.‏

    مرت أكثر من فرصة لتهجم عليها، ارتابت من تصرفاتك وأقوالك، تكتشف ما ترمي إليه، تبطل مخططاتك بصمت، لم تعاتبك ولم تحدث أحداً، عليها أن تتأكد من شكوكها، الشكوك لا تكفي ولو وصلت إلى درجة قريبة من اليقين، أتنسف أقوالها التي امتدحت فيها تصرفاتك، صار قلب أبيك أبيض اتجاهك، ستظل تلاحق شكوكها حتى تتأكد من صدق ظنونها، تجاهلتْ ما سمعته وتسمعه، اعتبرت ما تقوله مديحاً تستحقه، لكن عندما اقتربت والتصقت بجسدها وشددتها إليك، وأظهرت إشفاقك عليها كونها جميلة تدفن حياتها مع رجل يكبرها بالسن، أجابتك:‏

    - هذا الرجل أبوك!‏

    - أنا أقول الحق، حري بك الزواج من شاب لا من كهل.‏

    - إن تماديت أكثر سأخبره.‏

    أدركت الآن أن نواياك غير شريفة، وأنك تبني الفخاخ لاصطيادها، عليها أن تكون حكيمة، ستطلب إلى زوجها أن يبني لك بيتاً مستقلاً بأقصى سرعة، ستحدثه في الوقت الذي تراه مناسباً، لن يمر شهر إلا وقد انفصلت عنهما، هل ستمهلها؟ تبدو أكثر شبقاً وتعطشاً يوماً بعد يوم، قررت أن تحسم أمرك، الأعراب ينتظرون الموت ليحققوا ما يريدون، لن تنتظر، الأعمار بيد الله، قد يعيش والدك طويلاً، إذا اختارتك ستعودان إلى لبنان أو تذهبان إلى دمشق وتعيشان بأمان هناك.‏

    فخذاها تسطعان في مخيلتك، جسدها اللدن الذي تتخيل حركته داخل ثوبها القروي يغريك، تمر أمامك شامخة من المطبخ إلى الغرفة، تنظف وتشطف، تنقصك الشجاعة أو الوقاحة، تقربت منها حتى بت مستعداً أن تغسل قدميها لو دعتك إلى فعل ذلك، ابتسامتها فيها جاذبية ومكر وأنوثة وجنس، تذكرت الليلة الماضية وصهيل جسدها طوال العتمة، تنظر إليها كيف ذوت ودست جسدها في الفراش، وغطت في النوم وقت الضحى، أقسمت إنها لك وإن والدك لا يستحقها، شاهدت عريها الرائع خلسة، من الصعب التخلص من هاجس الجنس، تأججت النيران، تصورتها بين يديك، تمانع كالمهرة غير المروضة، رشيقة وأنت تحملها بين ذراعيك، نهداها متحفزان وجسدها كتلة لهب، كل شيء يدعوك للمجازفة، ماذا ستخسر إذا رفضت، ستترك البيت، لا شيء يؤسف عليه، وهي لن تخبر أحداً حفاظاً على شرفها، ماذا يقول الناس؟ لو لم تغريه لما فعلها!‏

    تلف في الغرفة، استيقظتْ على حركاتك، لمّت اللحاف واستعدت للدفاع عن ذاتها، استعدت لمعركة، تفادياً لذلك قررت أن تذهب إلى الجيران وتتركك تغلي، لم تمكنها من المغادرة، اطمأننت أن لا أحد قريب من البيت، اقتربت منها أكثر، ابتعدت وهددتك بالصياح، سألتك:‏

    - ما بك يا قاسم، خاف الله أنا مثل أمك!‏

    - أنا أحبك يا سناء.‏

    قربت يدك المرتجفة من وسطها، أعادت يدك إلى مكانها مرات، إلا أنك تجرأت وجذبتها، ضممتها وقبلتها، رميتها أرضاً، حاولت نزع ملابسها، لم تمكنك، هبشت بأظافرها وجهك ورقبتك، العرق يتصبب منها وهي تقاوم، ابتعدت واستطاعت أن تفلت من يدك، نظرت إلى البعيد وقالت: "اهرب جاء والدك."‏

    جمعت حاجياتك ونقودك القليلة وخرجت، تساءلت بينك وبين ذاتك عن جنونك، عما فعلته، القرية باتت محرمة عليك، وصلت إلى الشارع العام، انتظرت قدوم أول سيارة لتنقلك بعيداً عن أبيك وعن بيتك، وقد لا تستطيع العودة ثانية إلى قريتك طوال عمرك.‏

    -17-‏

    الغوطة أنثى تحاصرك، يسري حبها في صدرك، تعقد صداقات مع عالمها الطفولي، شعرت أنها المكان الآمن لروحك، مددت الجسور بينك وبينها، تزور خالك، تشتهي التوت والرمان والعنب، تمشي في الدروب الترابية الضيقة، تفرح للثمار الدانية، تغريك نباتاتها وزهورها، تشع في صدرك فرحاً وشموساً تتطاول، ورود روحك تبث أريجها، الروائح الذكية تلفك، يعبق عطرها في صدرك، كل شجرة معلقة بنجمة، وكل نجمة تضيء مدناً، وكما المدن عديدة، فالنجوم أكثر، تخطئ إن حاولت عد أشجار الغوطة لمعرفة نجوم الكون.‏

    استهوتك الغوطة وتغزلت بأشجارها المرحة! أشجار ذات حركات راعشة متوافقة مع شبابها، أما الأشجار الهرمة فتلفها سيماء الخجل، يبدو عليها الوقار، جذوعها الضخمة غير قادرة على الرقص بجسدها، عوضت عن ذلك بماضيها، شجرة الجوز التي تربط الأرض بالأفق، لم تعد قادرة على الليونة ولف خصرها، لو حافظت على ليونتها لأدت أروع رقصة، ومع ذلك ترفع صدرها للريح والمطر تاركة يديها تتقافز، فاسحة المجال لغضبها لتحطيم الأغصان اليابسة، نشرت دوحها فنالت ثقة ما حولها من أشجار وطير، فغدت أميرة توزع الريح والشمس إلى الأشجار الأقل ارتفاعاً منها، كمن يوزع البسمات والحلوى على الأطفال. قررت بعد مشاورات مع أمك وإخوتك، أن تلجؤوا إلى صدر خالكم الرحب، الذي كان على علاقة جيدة مع صاحب الأرض القريبة من بيته، ذهبتما إليه وطلبتما أن يسلمكما الأرض خالية من الأشجار والنباتات.‏

    الكلاب تنبح معلنة اكتشافها لمتغيرات ضمن منطقة حراستها، ثمة من ينام في بيت غير مكتمل البناء. تشعر أنك محاصر. تهم بالخروج والدوران حول البيت. تقترب الكلاب وتبتعد، تزيد من نباحها، تضطر إلى العودة إلى مكانك والتظاهر بالنوم، هذا أنت يا حامد تستغل العطلة الصيفية، مصمم على إنهاء البيت مع انتهائها، تحرس مواد البناء ليلاً، وتعمل في النهار لتوفر أجر عاملين، في أيام سكنك الأولى قرعوا بابك لترافقهم إلى صلاة الصبح، أخبرتهم أنك تصلي في البيت، مرت فترة ولم تدخل الجامع ولو على سبيل المجاملة، تأكدوا أنك لا تصلي، فلم يعودوا إلى قرع بابك، نظروا إليك بعين الريبة والملامة، عاتبوا أبا إبراهيم الذي باعك، الحارة ليست بحاجة إلى أناس لا يصلون ولا يعرفون الله.‏

    أهل الحارة يصلون صلاة الصبح والعشاء وكل الصلوات، صباحاً يتباطؤون في الخروج من بيوتهم، يرون أن الوقت ما زال مبكراً، العتمة تملأ الأفق والنهار لم يطلع بعد، يغطون بالنوم وعندما يستيقظون، يستغفرون ربهم ويتضرعون إليه ليمحو ذنوبهم، بعضهم يتجاهل النداءات المتكررة من مكبرات الصوت، يرون في دفء أجساد نسائهم، ما ينسيهم كل النداءات والذهاب إلى الجامع، أبو إبراهيم صاحب الصوت الجميل يغني في الحقل، الله وهبه حنجرة ناعمة وصوتاً دافئاً، عند الصلاة يهم إلى المسجد، يصعد إلى المئذنة، يؤدي بعمله فرضين أحدهما إكراماً لله والآخر إكراماً لدنياه، يؤذن بصوت حنون وعيناه لا تغفلان عن الحارة، امرأته لم تر دمشق إلا مرات، كل مرة تذهب فيها إلى العاصمة، تعود ورأسها يؤلمها، أما الزيارات الخاصة فإلى أهلها الذين يسكنون قريباً منها، أحذية العرس ما زالت على حالها، خاصة القبقاب المزين الذي جازف واشتراه بليرتين، تحتفظ به في صندوق عرسها المصدف، معظم الجهاز ما زال على حاله في الخزانة المصدفة، تخجل من الآخرين، لا تحادثهم، أما هو فعلى نقيضها، يُحدث نساء الحارة، يستمتع بكلامهن ولهجاتهن الناعمة، رأته مرة يمازحهن، لم تحتمل، هربت إلى البيت وظلت لا تحادثه أسبوعاً، لا تسمح لـه أن يقترب منها، تهدده بالصياح ومناداة أولادها، عرف أنه في ورطة، لا يخلصه إلا صوته الجميل، انتهز فرصة غياب الأولاد في مدارسهم، وغنى أغاني وديع الصافي وبعض المواويل، أطربها وتمايلت غنجاً وطرباً، رقَّ قلبها، نادته بحنان وأسمعته ما لم يحلم بسماعه، تساءل مندهشاً: «من أين لها بالتعابير الحلوة؟»‏

    أبو إبراهيم لطيف المعشر، يزورك ليسمع الجديد وليحدثك بما يسمعه من الآخرين، حدثك عن امرأة حامل جنينها يتكلم وهو في بطنها، ذهب الناس للتأكد مما سمعوه، سألته:‏

    - وأنت ألم تذهب؟‏

    - سأذهب وأحدثك بما أسمع، هل ستصدقني؟‏

    - أصدقك، لكنني أفسرها بطريقتي.‏

    - أنت تنفي قدرة الله على عمل المعجزات!‏

    - يا أبا إبراهيم عصر المعجزات انتهى، اذهب وتأكد من مصدر الصوت وأخبرني.‏

    - يا أستاذ حامد لن تصدق ولو كانت حقيقة! ماذا تقول في التيس الحلوب الذي كتبت عنه الصحافة؟‏

    - هذا أمر سخيف!‏

    - ما دمت غير مصدق، لن أحدثك عن البقرة التي ولدت حملاً.‏

    - أنت فلاح، هل تصادف ولو مرة أن ولدت بقرة حملاً أو العكس؟!‏

    استلمتُ الأرض من أبي إبراهيم في الموعد المحدد بلا أشجار ولا ماء، الساقية التي تمر من هناك طمرتها، بدأت تحفر الأساسات، تخطط مكان الغرف والمنافع، جعلت تجاه البيت إلى الجنوب، وأحضرت الإسمنت والحجارة والبلوك، تعمل من الصباح حتى المساء، صرت مسؤولاً عن عمال يصبون الأساسات ويبنون الجدران، لم يمض حزيران إلا واكتمل البناء على الهيكل، ولم يبق سوى صب السقف، في يوم الصب ودون إنذار مسبق جاؤوك مدججين بالمعاول والمهدات، سألوك عن رخصة البناء، ذكروك بمنع البناء في الأرض الزراعية، قبل أن ينتشر العمال ويفعلوا فعلتهم، مددت يدك، عرفت كم عليك أن تدفع وإلا فالبناء سيسوى بالأرض، المسؤول ابن حلال، أعطاهم أوامره بالعودة، أداروا ظهورهم، فتابع العمال الصب فرحين.‏

    الغوطة تصرخ في وجهك ووجوههم، تبكي حظها العاثر، تندب حاضرها، تغتصب مرتين! تعود لأمجادها، لذكرياتها، للوجوه الشامخة التي احتمت بأشجارها، للزنود التي قاتلت الفرنسيين، للأشجار التي شهدت الاستقلال، والأشجار التي شهدت الحكم الوطني، لكن أين هذه الأشجار الضخمة؟ الجواب معروف لقد قطعت، الغابة تتراجع، يوماً بعد يوم تنسى ماضيها، تنسى الطيور الرائعة التي تحولها إلى سمفونية، تسافر العصافير، يحل طائر البوم، ينعق في أعلى الأشجار اليابسة وأنت راض، تُدرس طلابك ضرورة المحافظة على الشجرة، تحتفل في آخر خميس من كانون الأول، تذهب وتلاميذك لتزرعوا شتلات، هذه الشتلات ستنتظر أجيالاً، تكبر خلالها وتنتظر أن يأتي واحد مثلك يدرس الأخلاق والمحافظة على الشجرة، بينما بالفأس الذي زرعت فيه سيقتطع عشرات الأشجار!‏

    أنت مسرور، صار لك بيت وسط الغابة، لم يعد يهمك حاضرها ومستقبلها، تنظر إلى أكوام الخشب والإسمنت التي تعلو يوماً بعد يوم، كنت تظن أن الآخرين لن يفعلوا مثل ما فعلت، ستكون الوحيد الذي يتنعم بمنظر الغوطة وخيراتها، الوحيد الذي سيبني بيتاً تلفه الأشجار من كل جانب، تغرد الطيور في جنباته وتنيره الأشعة، تصورت أن بيتك هو الجنة، (فيلا) بكل ما تعنيه هذه الكلمة.‏

    توافد آخرون مثلك، قطعوا الأشجار، عيناك تذرفان الدموع، كتل الإسمنت تحيط بك، لم يتركوا لك سوى ممر ضيق مترين أو ثلاثة، صار عليك أن تمد الأسيقة والماء إلى بيتك، وأن تحضر ساعة كهرباء، كل الطلبات بحاجة إلى موافقة البلدية، وهي لا توافق إلا بشروط حفظتها وتقيدت بها، اليوم تدعي أنك أحد الذين يناصرون الشجرة، أحد المدافعين عن الغوطة، كثيرون صدقوك، لكنك لم تصدق نفسك.‏

    جيرانك كالثوب المرقع، من كل محافظة رقعة، من أقصى شمال القطر إلى أقصى جنوبه، جاؤوا إلى دمشق، المدينة غالية السكن، تورطوا في المجيء وهم غير قادرين على التخلص من سحر الشام والعودة إلى محافظاتهم، أغرتهم وهم لم يستقروا بعد، فكيف إذا عرفوا دمشق على حقيقتها؟ جاؤوا إلى المناطق الزراعية، مثلك قطعوا الأشجار، أنت وهم جزء من حارة لا تمديدات نظامية ولا طرق معبدة، صار عليكم أن تطالبوا بتمديدات نظامية، ورصف للطرق وتزفيتها، أوفدتك الحارة مندوباً عنها، قابلت رئيس البلدية الذي حصل على مبلغ من المحافظة لتحسين الخدمات في مناطق السكن العشوائي، بدأ يفاوضك، يحاول إقناعك بتزفيت الطرق من الحصة التي صارت بين يديه، علمت أن لـه مصلحة، يريد إيصال الزفت إلى أرض يهمه أمرها، صاح بوجهك قائلاً:‏

    - لنبدأ بالتزفيت!‏

    - والتمديدات الصحية؟‏

    بفطنته ذكرك أن ما تفعله البلديات تزفت أولاً، وإذا احتاج الشارع إلى تمديدات يُحفر، لا شيء مقدس في العمل، وهكذا تظل الورشات في عمل دائم، وهي مساهمة متواضعة من البلديات في القضاء على البطالة، تواطأت معه ووافقت خوفك أن لا يطال الحارة شيء، بعد أيام مد العمال طبقة رقيقة من الزفت غيرت مدخل الحارة وطرقها، وهكذا بدت معروفة آمتها الطنابر والباعة الجوالين الذين وجدوا أنفسهم وسط حارة شعبية، حنوا إلى أيام زمان، وبدؤوا ينادون على الخضراوات والفواكه، وفي ظنهم أن الماضي قد عاد شاباً:‏

    لا تدور على الحلوة ليكا‏

    شلة حرير يا فوصولياء‏

    نهود الصبايا يا رمان‏

    ابن الزنا يا طرخون يزرعوك في دوما تطلع بحلبون‏

    الله الجبار يا خيار‏

    ماكول الستات يا فريز‏

    خدود الصبايا يا تفاح‏

    أصابيع البوبو الخيار‏

    الله الدايم الله الدايم‏


    يتبـــــع
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    للنشر
    الإدارة
    للنشر


    المشاركات : 3446
    . : ملتقى نور المصباح الثقافي

    غرباء منتصف الطريق ـــ عوض سعود عوض  رواية ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق – 2006 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: غرباء منتصف الطريق ـــ عوض سعود عوض رواية ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق – 2006   غرباء منتصف الطريق ـــ عوض سعود عوض  رواية ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق – 2006 Icon_minitime15.05.12 2:21

    -18-

    التقيا في الميكروباص الذي ينقلهما من ملعب العباسيين إلى باب المصلى، حيث يفترقان كل إلى عمله، يحمل بيده مغلفاً تناولته، وأفسحت لـه مجالاً فجلس، شدها المغلف، نظرت إليه وسألته عن محتوياته، أجاب:‏

    - إنه موضوع عن غسان كنفاني!‏

    برزت علائم الدهشة على وجهها، وكأنها تسمع هذا الاسم للمرة الأولى، أمر غريب إذا صدقت ظنونه، حدق بوجهها، زمت شفتها وقالت: ما بك؟‏

    سألها: ألم تسمعي بهذا الاسم؟‏

    - أي اسم؟‏

    - غسان كنفاني!‏

    - في الواقع لم أقرأه جيداً، حتى روايته التي درسناها، أكاد لا أتذكرها.‏

    غادرت الشموس داخله ومات الحلم، ابتسم ابتسامة صفراوية، صار من المألوف أن تلمس غربة الثقافة، بات أمراً عادياً أنّ الذين يحضرون الأنشطة الثقافية يعدون على الأصابع، وحاضري الأغنية الهابطة يعدون بالآلاف والملايين، وحاضري مباراة رياضية لمرة واحدة يتجاوزون من يحضرون الأمسيات الثقافية في محافظة هامة على مدار أعوام، أعاد قراءة الفاتحة للمرة العشرين.‏

    الغوطة عظماؤها جامعو أموال، الغوطة هزت ثقافتها وشخصيتها وجعلتها أمية، ليس في الثقافة، بل في كل شيء، هل يعقل أن تقبل شريك حياتها عن طريق الصورة أو الشيخ و الاستخارة، والأشياء التي تصف أي خلاف في الأسرة أو اختيار الشريك بالقسمة والنصيب؟ ألم تتواطأ مع ذاتها حين لم ترفض الشاب جميل الوجه صاحب السبحة، جذبها شكله، وظنت أنه من الداخل صورة تكمل الشكل الخارجي، لكن ما تبين لها أن الحياة مدرسة أخرى ليست ابتدائية ولا إعدادية، مدرسة من نوع مختلف، قضت شهوراً تصارع ذاتها، شهوراً قضتها في العذاب، وفي الشكوى والتوجع، النار تجري في عروقها، تضخ دموعاً من بخار، دموعاً تحرق الجفنين والوجنتين، تعانق جيدها، تستعر النيران في صدرها، تحس بتراقصها على ضوء المصباح، تدعها تنحدر لتغسل جسدها وترمم بقايا أحلامها، تندب حظها، تلوم نفسها، لماذا لم تقل لا؟ طبيعة الغوطة فرضت عليها الصمت، فرضت عليها أن تكون خرساء، تشعل الخراب في عروقها وفي روحها، النساء حولها لا يتحدثن إلا عن اللباس والأكل و«الخرجية»، وإذا تحدثن عن الثقافة فيقصدن الجنس، أيعذرها لأنها لا تعرف غسان كنفاني؟ فوضى الغوطة وتضادها مع الثقافة الحقيقية جعلها تنسى أنها درست سنة كاملة في الجامعة مقابل جامع الفردوس في ساحة التحرير.‏

    بدا عليها القلق، شجرة تعرت من أوراقها، روحها محاصرة بالرياح والصقيع، بالصحراء التي تجتاحها، تلملم أوراق الخريف المتناثرة، ناسية أن الشجرة التي لا تصمد لا تنفع لشيء، الرياح هزتها، وعندما لم تجد عودها صلباً كسرته، شعرت بالإهانة فعلقت بتعبير دارج: "حاج بقى!"‏

    عند هذا الحد وعند استخدامها تعبيرها الشامي يكون الكيل قد طفح، ولن تسمح بالمزيد من التعليق، العصبية التي تلفظت بها لا تعطيه أية فرصة للتمادي، ترى في تعليقاته وابتسامته تعرية لشخصيتها، سكت على مضض، كان بوده أن يحدثها عن استشهاد هذا الكاتب، ويدعوها لحضور ندوة بمناسبة الذكرى الحادية والخمسين لميلاده في شهر تموز القادم، نزلا من السيارة ودعته، ومشت أمامه مسرعة، نظر إلى تفاصيل جسدها وإلى قدها الممشوق، تأكد أنها تمتلك خلفية ثقافية وفنية! الأنوثة تطفح من وجهها وعينيها وقوامها المغناج، محاطة بندى الصباح الهش، الذي أخذ بالتبخر، إيذاناً بانهزام تلك الطبقة المغلفة لضوء الصباح.‏

    صمت بارد وثرثرة، يجري خياله في عالم رحب من الجمال والفن، لكن يبدو أن جدلية الحياة تفرض عدم اجتماع الجمال والأدب في أنثى، لن يشطح خياله أكثر ويردد اتهامات سمعها واستنكرها. مساء لم تأت على الموعد، في العادة تحضر قبل الموعد بدقائق، وإذا تأخرت لا تتأخر أكثر من خمس دقائق، انتظر ثلث ساعة، عاد تلفه الأحزان، أتكون اتخذت موقفاً يعيد التوازن لشخصيتها؟ بناؤها الشامخ المغطى بالمساحيق يرتدي ثوب الحضارة، كمدينة مقفلة لا أحد يعلم ما يجري داخل أسوارها، مدينة عصية لكنها تسلم مفاتيحها للأقوياء، عظيمة من الخارج، خاوية من الداخل، هل فرات قرطبة جديدة تخاصم أهلها ففتحوا طرقاً عريضة تفصل بين الأخوة الألداء؟ هذه الطرق تسلل الأعداء منها.‏

    يحاول أن يجيب عن أسئلة، يصعب الإجابة عليها بدقة، هل خدع بالمظهر؟ يدافع عن نفسه، يدافع عن فرات التي هي ضحية واقعها، صحيح أنه لم يحاول أن يسبر ثقافتها، ويناقشها في الثالوث المحرم السياسة والجنس والدين، أراد أن يقتحم داخلها، ويعرف أي النساء تكون، جاء نبشها من خلال مسألة غير مخططة، لقد جُرح كبرياؤها، شعرت بالهزيمة واتخذت موقفاً انفعالياً، ابتعدت قليلاً عن حامد وتجاهلته، إلا أن الحب يتقافز في صدرها فلة فواحة، لم تستطع على الجفاء أكثر من أسبوع، جاءت إليه وحطت على كفه كطائر ينشد الأمان، كنبتة عطشى، الابتسامة تغطي مساحة وجهها، عيناها تتغامزان طرباً، جسدها يتراقص، جاءت وجبينها ندي مشع كما السماء التي اغتسلت بالمطر في يوم ربيعي، كابر وحاول تجاهلها، لم يقدر، ابتسم وهو يسمع تغريد العصافير:‏

    عندما التقيا هدل الحمام وتعانق المدّ والجزر، عادت روحها وعادت أحلامه، وعاد الكون إلى اتساعه.‏

    ابتسمتْ. أدركتْ أن الحياة لا تتوقف، وأن الحب يتجدد حتى مع الجفاء، وأدرك أن التاريخ الذي يحجل على قدم واحدة لابد ويسير ذات يوم إلى الأمام. حدق إليها، إلى الأصباغ المحمولة على رمشيها، والحمرة على شفتيها، ود لو يخبرها أن تخفف قليلاً من الدهانات، يخاف على بشرتها الرهيفة الناعمة أن تخدش، قرأت أفكاره، ندمه على نقاشها بالأدب والثقافة، ترحيبه بطلتها البهية، ها هي مشرقة، ابتسامتها تنشر العطر والربيع في انتظار تفتح الورود و استطالة الزنابق، حدق إليها وقال مرحباً: "أهلاً بالوردة، بابتسامتك ليظل الربيع ملك الفصول!"‏

    لم يتحدثا عن القطيعة طوال أسبوع، جاءته أنيقة ومشعة كأية سيدة دمشقية، الأناقة عنوانهن، هكذا منذ بداية الخلق، فهن لم يأتين من الصحراء ولا من البحر ولا من الليل، بل من حزمة ضوء، هن في دمشق منذ كان الإله طفلاً، كبر وصعد على عرشه وبقين كما تركهن جميلات، إن لدمشق سيداتها اللواتي يزرعن الربيع ويحافظن على سعة الأفق، يعشقن السماء العالية، ولديهن هاجس إبقاؤها بعيدة، بعيدة جداً.‏

    لمحت بشيء من الفطنة إلى عدم مجيئها، وإلى انشغالها بالرسم طوال الأسبوع الماضي، لم يعلق، فضل أن يبقي الصندوق مقفلاً، ما فائدة ذلك وتربيتها تحتم عليها الاهتمام بالشكل، الذي يدفع الشباب إلى المغامرة؟ إنها الأنثى التي يصعب أن تغيّر طباعها، أمها علمتها أبجدية المرأة، إذ يعود نضجها إلى التعليقات، وإلى تسمية الأشياء بأسمائها الشعبية، والحرص الزائد أن تعرف مفعول كل حركة ولمسة وفعل وقول يؤدي إلى الجنس، يشطح خيالها في تصور الأمور، تتمنى أن تجرب، وقد كادت تقع في فخ أبي سبحة في الأيام الأولى لخطوبتها، لولا حكمة الله ودخول أمها في اللحظة المناسبة إلى غرفتها.‏

    ولأهمية الشكل في حياة فرات، قرر أن يكون لقاؤهما في مكان عال كشموخ جسدها، أوقف سيارة وطلب إلى السائق التوجه إلى الهامة، حيث التلال والهضاب، توجه السائق إلى شارع بيروت المسكون بالخضرة والجمال والتاريخ، ومنه إلى الربوة التي تضع القادمين إليها في جو الريف والمتنزهات، يستمر الطريق حانياً جسده، عن اليمين تلال بكر ومنخفضات، إلى اليسار مرتفعات شاهقة تتخللها بعض الوهاد، وما بين اليمين واليسار واد عريض يمر فيه الطريق ملتوياً ومحاذياً التلال تارة ومبتعداً عنها تارة أخرى، في محاولة جذب وعناق لا مثيل لهما، تتدرج الأرض بالارتفاع بعد الربوة، تعلو شيئاً فشيئاً حتى قدسيا، حيث الطبيعة تعبير عن الفوضى التي شكلتها خلال ملايين السنين، تلال تعقبها تلال حتى الصبورة، ما يزال السائق على بعد أمتار من الربوة، اقترب من دمر التي تستوطن الوهاد وتتسلق التلال، يستمر الطريق محاذياً بردى، الطبيعة أليفة ووادعة حتى بلدة الهامة، قبل الوصول إليها تنتشر المطاعم والمقاهي والمقاصف، بردى يرافقهما. ينحني ويتلوى باحثاً عن الأراضي التي يمكنه السير فيها دون عناء، فقد أدرك منذ ولادته أنه لن يصل إلى السماء، وأن مكانه ليس فوق التلال بل عند أقدامها العارية، رضي أن يشق طريقه في الانهدام تاركاً تلك الطبيعة الساحرة لنمو الأشجار والنباتات الشوكية، يتمايل الحور الذي تصل جذوره إلى الماء، بينما تمتد فروعه في الأفق تغازل النسيمات.‏

    اختارا مطعم فردوس الشام القريب من الهامة، مطعماً واسعاً تُسبح النسيماتُ جمالَ الطبيعة وروعتها، في مكان ناء وقريب من شجرة حور عملاقة كانت طاولتهما، مدت المقبلات ثم المشاوي، هل ثمة لقمة أطيب من يد حبيب تقدمها؟ يتبادلان هذا الطقس المغري بالغزل والأكل، يأكلان بشهية وكأنهما لم يتناولا الطعام منذ يومين، يبتعد النادل بعد أن يحضر آخر الصحون التي تحتوي رغيفاً مشروحاً دست به قطع اللحم التي يتصاعد منها البخار، أثناء تناول الطعام يجري حديث:‏

    - نحن الشاميات نحترم الرجل كونه أغلى ما في الوجود!‏

    - هل يمكنني أن أقول رأيي دون تحفظ أو «زعل»؟‏

    - قل، كلي آذان صاغية.‏

    - يا آنستي، يظل الزوج موضع اهتمام الشامية ورعايتها ما دام يدللها وينفذ طلباتها وجيوبه عامرة...‏

    ضحكت من كل قلبها، أدركت أن مزحه غليظ، قالت: ظالم!‏

    وبطرف قدمها داست على قدمه بقوة، بدا مزاجها صافياً، قادرة على المناكفة، ردت عليه:‏

    - أحسن من رأيكم أيها القوامون! نحن متفردات في جمالنا وأناقتنا، فننا وثقافتنا.‏

    - احذفي آخر كلمة فقط.‏

    - لن أحذفها، أتنسى ما نتمتع به من ثقافة موروثة، تصف لي أمي أدق مسائل الحياة الزوجية، هل نجدها عندكم؟‏

    - في ظل التلفزيون وأفلام هشك بشك صارت راعية الغنم تعرف كل شيء.‏

    ناولته قطعة لحم بشوكتها لتسكته، تناولها وهو يطالبها أن تقدم لـه ثانية وثالثة بأصابعها ليتلذذ بقضمهن، سألها إن كانت ترغب أن يحدثها بالسياسة، أربد وجهها، نظرت إليه بعدم ارتياح وذكرته بالقاعدة الذهنية «اللي يأخذ أمي يصير عمي» رجته أن لا يكون ثقيل الدم، وإلا ستصعد الجبل لترمي نفسها في حضن الوادي جثة هامدة.‏

    اقترب أكثر منها، شعر أن فخذيها لامستا ركبتيه، أنفاسها تصله حارة مفعمة بعطر الياسمين الذي يملأ المكان، انتشى، ابتسم، نظرت إليه ووجهها باقة ورد، رفعت رأسها، برز شموخ أنفها وحلمتي نهديها المتكورتين والمرتسمتين على قميصها أشبه بغزال يفرّ في البراري، يتباعدان ويتقاربان لا شيء يحد من حركتهما سوى الثوب الذي يرتفع إلى الأمام ويكاد يتمزق أو يحترق، تشعر بحرارة تلتهم جوفها، ترمي منديلها وتحرك بيدها الهواء، تتكئ على الطاولة يمد يده يلامس بطن كفها التي تبعدها عن قبضة يده.‏

    يتحدثان عن الصداقة مطولاً، تؤمن بالصداقة وترتاح إلى هذه الكلمة المقدسة، لأنها بحاجة إلى أصدقاء، إلى صديق يكون الأعز، تفكر بعقليتها الدينية، لا ترغب في نقاشات تجرها إلى الثقافة، لقد باتت تعترف بينها وبين نفسها أنها بحاجة إلى الإطلاع على الآداب والعلوم الإنسانية، حتى السياسة عليها أن تعرف معاني بعض المصطلحات، تشعر أنها خاوية، فارغة، تتحدد حياتها ومفاهيمها بالأكل واللباس والمكياج وكيفية اصطياد عريس، الإنصات إلى أمها لتطلعها على الجديد في المسائل الأنثوية، الحياة متعة، أشياء كثيرة عليها أن تقول كلمتها فيها، كم من زوجات طعن وسال لعاب أزواجهن على أخريات أقل جمالاً! عليها أن تجرده من نقوده، هي تعرف أن الفقير لا يحلم بخليلة، تتباهى بما لديها من تحف زينة وصحون وكاسات وفناجين، تفتح التلفاز من أول رفرفة للعلم حتى آخر رفرفة، وإذا تيسر لها فيلم فيديو تسهر عليه وتتخلص من الانقطاعات الإعلانية، تسهر بمنامتها أو بلباسها الذي يظهر عريها، ليصير أحد طقوس السهرات الزوجية، عليها أن لا تدع زوجها على الرصيف، عليه أن يشاركها في (مكياجها)، يناولها المساحيق وعلبة «الغندرة» ، تطلب رأيه وهي تميل بعنقها غنجاً، ثم تتعرى قطعة قطعة وهي تجلب نظره إلى ما بان من جسدها، تستمتع بما يقوله، لا تدع لحظة تفوتها، في الصباح تتباهى أمام الجارات عن سهرات لياليها دون خجل، ولا ينتهي الحديث إلا عندما تشعر أن موعد قدوم زوجها قد اقترب.‏

    تنتبه إلى ذاتها، ما مبرر شرودها؟ ها هي ذي تتعاطف مع ما يقوله حامد عن المرأة وثقافتها، تخفف من المساحيق، تسأل عن أهم الروايات، وأهم المجموعات القصصية، ولأي الشعراء ستقرأ، نزلت إلى المكتبة ومعها قائمة تضم ما يزيد على مئة كتاب، تريد أن تكون لها خلفية ثقافية، تملأ رأسها لا جسدها ووركيها.‏

    استطاع أن ينفذ إلى أعماقها، شجعها على امتلاك الرأي، أن تنقد، لا حياة بلا نقد، ما دامت المادة في حركة دائمة، وما دامت قوانين الحياة والمجتمع موضوعية، وما دامت كل ظاهرة تحمل متضادين، كاد رأسها أن ينفجر، قالت:‏

    - يكفي اليوم، لا أفهم كل ما تقوله، خطوة خطوة، فالثقافة ليست جرعة أو إبرة يأخذها أحدنا فيصير مثقفاً!‏

    -19-‏

    كان عليك أن تنهي مهمتك خلال أسبوع أوأسبوعين على أبعد تقدير تقضيهما بصحبة قاسم الصلصال وغيره بعيداً عن فرات وهلا، بعيداً عن عالمك، لتعرف كل شيء عنه، وتجيب على أسئلة كثيرة منها: ما نقاط قوته وما نقاط ضعفه؟ كيف يفكر وما عمله الأساسي؟ وأشياء أخرى تأتي في حينها.‏

    أدركت صعوبة مهمتك، انتابتك رعشة خوف ورهبة، تضع يدك فوق النار وداخل الفرن، فإن لم تحترق وتفتقدها، قد تتشوه، لكنك مع ذلك جاد في طريقك، عليك أن تبحث عنه بين أكداس أعقاب السجاير وزجاجات النبيذ وملاهي الأجساد العارية، تنتظر فرصة سكره ليحدثك عن حياته، وهذه قد تأتي بعد أسبوع أو أسبوعين أو شهر، عليك أن تخلق هذه اللحظة، ستدفع آلاف الليرات، لم تضع في حسابك الخسارة المادية، من الصعب عليك أن تتكيف مع أجوائه، عليك أن تمشي على الشوك والحجارة، تمشي طرقاً مزروعة بالمسامير والألغام، حزين لأنك ستسلك هذه الطريق، ستناديه كأعز صديق، سيثق بك، ألا تخاف أن يدفعك إلى الهاوية؟ عليك أن تكون حذراً، أن تضع قدمك على أرض صلبة، تتأكد من ذلك، ستسلك طريقاً غير سوية، ليلاً ستقابله في ملهى «الوردة البيضاء» تدفع الحساب وتطلب ما يشاء من كؤوس وعاهرات، يترنح بعد الشرب، يبدأ بالتصريح بما عنده وأنت مسرور، ترفض أن تشرب أي نوع من الكحول بحجة أن الطبيب منعك، أنت في قمة صحوك وهو في قمة ترنحه، لا شيء يروي حقدك، إن ما حكته هلا يفوق التصور، يغتصبها ويبقيها لليوم الثاني يتلذذ على جسدها المخدر، جسد بلا حركة أشبه ما يكون بالتمثال، ينز دماً وألماً، في صباح اليوم الثاني فتحتْ عينيها بحذر، رأته يحضر الشاي ويضعه أمامها، تظاهرت بالنوم أثناء قدومه، أحضر كرسياً، مدَّ يده وهزها لتفيق وتشرب الشاي وتتناول إفطارها، جلس يراقبها بتلذذ وهو متأكد أنها ستغط في النوم بعد دقائق، لكن المفاجأة أنه بدأ يتثاءب على غير عادته، بدا رأسه ثقيلاً، اتكأ على كرسي مجاور ولوى رقبته بعد أقل من ربع ساعة من تناولـه الشاي، أدركت أن مخدره القوي قد أخذ مفعوله، مما مكنها من نبش محتويات الغرفة، رفعت سماعة الهاتف لتتخلص من الرنين المفاجئ، نظرت إلى عريها، إلى ثيابها الممزقة، بحثت عن شيء تلبسه، وجدت عباءة امرأة وحجاباً، لبستهما على عجل، بحثت جيداً وأخذت ما أخذته من أوراق ونقود، وقبل أن تخرج عطلت هاتفه، وأغلقت الباب بالمفتاح، إنها الآن حرة، طالعتها محلات الألبسة، اتجهت إلى إحداها واشترت ثياباً ارتدتها، ورمت فستانها الممزق والعباءة والحجاب إلى حاوية القمامة، اشترت أدوية لجروحها، أوقفت سيارة أجرة، نظرت إلى السائق خافت أن تصعد، اعتذرت واستقلت الباص متجهة إلى الموعد الذي حددته مع فرات.‏

    دعاك الصلصال إلى شقته بعد أن طلب إلى إحدى الراقصات أن توافيه بعد انتهاء برنامجها، في غرفته كل شيء فوضوي، حاول على عجل أن يرتب السرير ويعيد بعض الملابس إلى الخزانة، ذهب إلى المطبخ وأحضر زجاجة مشروب، صب في كأسك وقال:‏

    - في صحتك، بعد قليل تأتي شراب!‏

    - ومن شراب؟‏

    - المرأة الفلتانة التي رقصت هذه الليلة، عندما ترقص أسكر وأنسى حالي.‏

    - هل تحبها؟‏

    - الحب كلام جرايد، المرأة تحتاج إلى رجل يغرقها بالمال، والبقية تعرفها، لكن واحدة ليست من جنس النساء، ملاك، جننتني، أخوك روضها حتى دخلت الغرفة، أحضرت المأذون وشاهدين والست شراب التي مثلت دورها، عقدت عقدي عليها، هي مدرّسة مثلك، الطريف أن الشيخ سألها عن اسمها ليدونه، أجابت: شراب، تداركت ذلك وطلبت شراباً للفرح، ثم نطقت باسم هلالة، أخبرته أن هويتها بين يديه، اسمها وكل التفاصيل، وقبل أن تنسحب خجلاً قالت: أقبل خطيبي على سنة الله ورسوله، لا تحرجني بالأسئلة، ألم تر أنني متحجبة! تظاهرتُ بالغضب وطالبتها بالانسحاب إلى الداخل، سارت الأمور كما خططت، في اليوم الثاني غادرت البيت وحرقت قلبي، أخذت عقد الزواج وهويتي ونقودي وحاجياتي الخاصة، ولم تبق سوى ملابسي، كيف فعلت ذلك لا أعلم؟ فتاة مخدرة تثاءبت ونامت وأنا أشرب الشاي، أنا في حلم لم أجد تفسيراً له، عصراً أفقت، العتمة تلف الغرفة، جسدي متوعك، تناولت سماعة الهاتف، اكتشفت أنه لا يعمل، الكهرباء مقطوعة، مفاتيح البيت والسيارة ليست معي، الباب مغلق، حاولت فتحه لم أستطع، كسرته وذهبت إلى معلمي الذي رثى لحالي، وبخني وزودني بكتاب عليه صورتي، وهددني بأوخم العواقب، ضاع العقد، وضاع كل شيء، لكن أين ستهرب؟ راجعت المأذون بعد أيام من هربها، بحث في دفتره، لم يجد العقد، ذكرته بالموقف والبيت، تذكر كل شيء وذهب معي إلى القاضي، الذي أخبرني بأنه لا يعترف على الكلام الشفوي، دعاني لإحضارها لكتابة العقد من جديد، أراك تضحك مني، لولا أنك صديقي وأحترمك، لتصرفت معك تصرفاً آخر!‏

    قلتَ في نفسك، احتمله يا ولد، ما زال الطريق في بدايته، البداية مشجعة، شراب بتأخرها وعدم حضورها تستفزه ليفرغ ما في داخله، يزداد حنقه وشتمه، يتوعدها ويصفها بالقحبة، تفضل غيره، هذه عادتها عندما تعجب بالزبون، طمأن ذاته إلى أنها ستأتي بعد ساعة على أبعد احتمال، بعد أن يكون قد شبع منها غيره، راقبتَ تصرفاته، أحببت أن يستمر الحديث بينكما، أن تنسيه الراقصة، أن تحاوره، سؤال يخطر ببالك تلقيه على مسامعه، تود معرفة لِمَ يتزوج وهو يعيش حياة الملوك، أجابك:‏

    - الزوجة يا صديقي مسألة أخرى، إنسانة تملكها، تتحكم بها، تخدمك ولا تريد أكثر من كلمة حلوة، أما الساقطات فإنهن لا يدعن في الجيب قرشاً، وإذا شعرن أنك لا تملك ما يقدم لهن متعة الشراب والأكل، يرفسنك، الزوجة لا تفعل ذلك، تعطيك الثقة في البيت وأمام الناس، آه يا هلا كنت سأفخر بك أمام معلمي وكبار رجال الأعمال، وربما أصير من أهمهم، فوت الفرصة، هل ثمة امرأة أجمل منك؟ لا أعتقد، جمالك سحرني، أهواك وأريد أن امتلكك.‏

    فهمتَ من نقاشاته أنه لا يمانع، أن يدفع زوجته إلى حضن معلمه، يراه جزءاً من واجبه اتجاهه، بل الأكثر من ذلك أنه يفخر بذلك، يفخر أكثر كلما وهب جسدها إلى رجال مهمين، لم تعلق، استغربت ما سمعته، لم تتصور أن هناك أناساً يحملون نساءهم إلى حضن غيرهم، أناساً يحملون دناءات العالم بمثل هذه المكاشفة، وكأنها أمر عادي، تذكرتَ ما قالته هلا كيف أغراها أن تكون سيدة الفنادق، يتخاطفها العرب والأجانب، يدفعون بالعملة الصعبة، يدفعون بسخاء، قرع على الباب، إنها شراب بلحمها ودمها، رفعت يدها اليمنى وقالت: هاي!‏

    - أين كنتِ؟‏

    نظرتْ إليه وابتسمت، لم تجب، بيدها أشارت نحوك، وسألته عنك، أجابها:‏

    - إنه على خلاف مع أهله.‏

    - هل ستفتح مضافة للمتشردين؟‏

    - بل مضافة للعاهرات!‏

    - خسئت!‏

    ضحكا وكأن كل واحد يكركر الآخر، بينهما أنت كالأطرش بالزفة، رمت نفسها على السرير متعمدة إظهار بعض عريها، وضع شريطاً راقصاً في المسجلة وأدارها، الموسيقا تغلغلت في دماغها، قدماها تتحركان وتضربان السرير، يتمايل خصرها، رمت محفظتها، وبدأت تهز جسدها وهي مستلقية على السرير، شدها من يدها، تتمايل، تهز بطنها وردفيها، شعرها الأهوج غير المنضبط ينسدل مرة إلى الأمام ومرة إلى الخلف، بيدها ترده عن عينيها، حركات وارتعاشات جنسية، تدعوك للرقص، يصير وجهك أرجواني اللون، تشدك من يدك، ترمي بثقلها عليك، تبتعد وهي تطاردك وتترنح.‏

    تناولا المقبلات وقرعا الكؤوس، وصل القرف والبذاءة والسكر إلى آخر مداه، بعد الرابعة اندست في الفراش، بينما استلقيت على الأرض تراقب المشهد بكل تفصيلاته، بعد ساعة غططت في النوم ولم تصح إلا على يدها، يد ناعمة وصوت يناديك، تجثو على ركبتيها، وجهها يقترب منك، تقبلك وتندس إلى جانبك، كل شيء عار، الأخلاق، الجسد، الشهوة، خلصت نفسك من بين يديها، تساءلت إن كانت البداية هكذا فكيف النهاية؟ هل تدفعها للحديث عن الصلصال؟ الذي تحلم أن تعرف كل شيء عنه، وعن أهله وأصدقائه، يبدو الأمر مبكراً، الأفضل أن تدفعه للحديث عن ذاته، وتسمع تفاصيل عن طفولته وشبابه، كيف يضيع ابن الضيعة في ازدحام المدينة؟ كيف يترك أرضه وأرض أبيه ليتسول في سوق النخاسة؟ يتحول إلى سمسار، يتجرد من قيمه وماضيه، يراهن أن يتزوج فتاة جميلة يبعثها إلى معلمه نهاراً، وفي المساء تزور أحد الفنادق بناء على اتفاق مسبق، تقضي ساعات، ولا تعود إلا وجيوبها منتفخة وقوامها منهك، يتلذذ بحديثها عن غرائب الزبائن، يقهقه مسروراً وهو يجردها من نقودها.‏

    شراب تعيدك إلى الواقع، تتأمل جسدها الفتي المشرئب اتجاهك، لا تنقصك إلا الشجاعة أو الوقاحة لتلج عالمها، الذي يعلو كلما حقق معادلة النشوة، مع من هذا لا يهم، ما فائدة الجسد إذا تبادلته الأيدي وداسته الأرجل، اقتربت منك، تفوح منها روائح عدة، اعتذرت وتجاهلت ما سمعته، اقتربت وبدأت تفك أزرار قميصك، بباطن كفها مسحت على رقبتك وصدرك، زحفت إليك متجاوزة مسافة الأمان التي تحاول المحافظة عليها، ليلة البارحة لم تكن أية مسافة أمان بينها وبين الصلصال، رأيت وسمعت وأحسست بأشياء لم تتصور أنها موجودة بمثل هذه الوقاحة، الطعام الذي يعرض عليك طهته عشرات الأيدي، فسد، نفسك تعافه، كادت تجن، أخبرتها أنك لن تشم وردة لمستها عشرات الأيدي والأنوف، لم تقتنع بأقوالك وتبريراتك حول صداقتك مع الصلصال، طالبتك بالصراحة، أخبرتها أنك على خلاف مع أهلك، وأنك لن تخون أصدقاءك، علمتَ أنها تكرهه، دائماً يحاول أن يدمر كبرياءها ويسلب نقودها، قالت:‏

    - أنت تدمرني وتكذب عليّ، هذا الكلام لا يقوله من يعرف الصلصال، فكيف إذا اتخذه صديقاً؟‏

    احتضنتك وبدأت تقبلك وتتأوه، لم تتخلص من ذراعيها إلا بعد أن رميتها على السرير وتركتها، نظرت إليك بعينيها الدامعتين وقالت:‏

    - أنت تقتلني مرتين عندما ترفضني، تذكرني بما أنا فيه وبإنسانيتي المفقودة.‏

    - بل أعيد إليك إنسانيتك، فكري!‏

    حدقت بك وكلها دهشة، لم تجد مبرراً لتصرفاتك، لبست ثيابها وقالت:‏

    - أنت أول رجل يرفضني ويطالبني أن أحترم ذاتي، أمثالي ليس لهن غير فنهن، لكنني سأفكر بكلامك، أشعر أن لك مكانة خاصة عندي، كلماتك كؤوس خمرة تحتاج إلى زمن لتدور في الرؤوس، أنا مسرورة منك وقد لا تغيب عن بالي طوال اليوم.‏

    لديها الكثير لتقولـه، حدثتك عن الصلصال وعن ذاتها، وعن أشياء لا تخطر ببالك، شعرت بالضيق بصعوبة التنفس، تدخن بشراهة، تتأوه، ستنفجر، تحتاج إلى وقت طويل لتفرغ كل ما في صدرها، وعدتها أن تستمع إلى كلامها، تتركها منفعلة تسب ماضيها وحاضرها، أنت الآن بحاجة إلى كمية من الأوكسجين، الغرفة مضغوطة، فتحت الباب وخرجت تستنشق الهواء، تركتها تدخن لفافة، تركتها مع جنونها وأوهامها، مع حكاياتها، مع الرجال الذين ينسدحون أمامها، تمسكت بك، حاولت إعادتك إلى الغرفة، لكنك بلباقتك خرجت واتجهت إلى أقرب حديقة متضايقاً، تكاد تنفجر، عقلك لا يحتمل كل ذلك، لم تصدق ما رأيته وسمعته، كيف استطعت أن تمسك نفسك، وأنت أمام امرأة عارية غضة ناضجة كلها إغراء وأنوثة! تظاهرت بالهدوء والثورة في داخلك، اقتلعت كل السجون، دمرت توازنك، بدت أمامك دمية وليست أنثى كلها شبق وإغراء، هل رفضك علامة قوة أو ضعف؟ ألم يكن من الصواب الاستفادة منها والتعامل معها كجسد؟ هل موقفك صحيح؟ قطعت الشوارع بسرعة لتصل إلى الحديقة، التي تنشد فيها الأمان، الزهور والورود ترحب وأكثر من مقعد فارغ ينتظرك، تناولت سندويشتين، وانطلقت للقاء صديقك، الذي لا تستغني عنه منذ عشرة أيام، قدماك تدفعانك إلى الملهى الذي ستجد فيه الصلصال، إنه في انتظارك، وقف لحظة رآك، مدّ يده، سلم ثم قبلك على وجنتيك، عاتبك بقوله:‏

    - ما الذي فعلته مع شراب؟‏

    - لا شيء!‏

    - تتهمك أنك غير لبق!‏

    لم تجب، جلست إلى جانب صديقك في انتظار بداية الحفلة، صدحت الموسيقا صعدت على الخشبة راقصة جديدة، وظهر مطرب لوح بيده وأخذ يصفق تعاطفاً مع الجمهور، غنى بصوته الخشن بعض أغاني فهد بلان ووديع الصافي وفريد الأطرش وطلال مداح، أظهر الجمهور تجاوباً كبيراً، جاءت شراب إلى طاولتكما ودعتكما إلى بيتها بعد انتهاء الحفلة، رفضت مشاركة أي زبون طاولته، تحدق بعينيك وكلها مرارة وحزن، تهدد قاسم وتتوعده إذا لم تأتيا، حاولتَ الإفلات من طوقها، أوصدت بوجهك الدروب والحجج، وعدتكما بعشاء وسهرة على نفقتها، منذ أيام وهي تفكر بذلك، وقد أعدت لكل شيء عدته، ما عليكما إلا إيقاف سيارة أجرة.‏

    واضح أن الدعوة وسيلة لاصطيادك، هززتها من الداخل، شيء ما فيك جذبها إليك، أنت الرجل الوحيد الذي تعرض عليه جسدها ويرفض، تريد أن تقرأ سر كبريائك، كيف تتصرف عكس الآخرين؟ هي تختار من تشاء وترفض من تشاء، لا تقبل الجلوس مع طالبها إذا لم يعجبها، يتدخل صاحب الملهى يحاول إقناعها، تقسم إنها لن تذهب لتدفن نفسها، قرارها بهذا الصدد نهائي، أحياناً يلف الزبون، لا يقتنع برفضها، تبادر إلى شتمه وتمزيق النقود التي يمدها، وكلما تمادى بالدفع تمادت بالرفض، ليست بحاجة إلى نقود تأتيها من شخص لا تريده ولا ترتاح إليه، ماضيها معروف، الرجال يطلبون صفحها، وهي كالصغار لا تحمل في فؤادها عداوة لأحد، اليوم انقلبت الأمور والمفاهيم، تسأل عنك، تستفسر من الصلصال فلا يجيبها، تثور في وجهه، وها هي أعدت وليمة لم تفعلها من قبل، هي التي تُدعى ويحتفى بها!‏

    جئتما إلى بيتها، رحبت بكما وقبلتكما، ارتدت فستان سهرة ناري اللون، تتفحصك وتمازحك، تعترف بهزيمتها أمامك، تقول:‏

    - من أجلك رفضت من طلبوني اليوم، أشعر أني بحاجة إلى الاعتكاف، أنت اخترقت كياني، رفضت عروضي، دمرت كبريائي، زدتني تعلقاً، وأنت تعرف أن إشارة من يدي تفعل الأعاجيب، شخصيات مرت من أمامي وانبطحت بين رجليّ، وأنت أيها الشقي تعاند وتكابر، وبدل أن أسدد لك ضربة أو طعنة، أدعوك لقضاء سهرة الليلة كاملة في شقتي وعلى شرفك أنت وهذا المهووس ببول الأنثى.‏

    - أشكرك سيدتي، أنا لا أستحق كل هذا الاهتمام، فأنا لست أكثر من مشرد، ربما حظي جمعني بإنسانة طيبة.‏

    قدمت طاولة عشاء، احتوت على السلطات والمقبلات واللحوم، أحضرت زجاجات مشروب لأنواع مختلفة، العرق، الشمبانيا، الوسكي، طلبت كأساً من البيرة، أجابتك:‏

    - كأساً من البيرة يا صغيري! البيرة للأطفال دون سن العاشرة، اعتقدت أنك تخطيت سن الطفولة!‏

    - رائعة يا شراب!‏

    صاح قاسم الصلصال، صفق لها وضمها بين ذراعيه، وطبع قبلة على جيدها، نظرت إليه نظرة ضيق واشمئزاز، ابتعدت عنه ولم تقل شيئاً، تدخل ليلقي بعض نكته ويظهر براعته، مسرور بمزاجها الطيب، لفتتها الكريمة التي جعلتك تنكمش، لف يده على كتفها في محاولة أخرى لعناقها، تخلصت منه وابتعدت، لحق بها واقترب منها، حضنها ولف يده اليمنى على خصرها وجذبها إليه، تملصت منه وابتعدت، وباحتقار طلبت إليه أن يخجل، شعر أنها تتمرد عليه، وأنها إنسانة أخرى، سألها عن مغزى تصرفها، أخبرته أن هذه الدعوة لصديقه وعليه أن يحترم تقاليده، ولو كنت لا تؤمن بما يقوم به ولك رأي مغاير وذلك بقولها: "أنا معجبة بما يفعله صديقك، اعذرني يا صلصال، ودعنا نمضي السهرة كما يفضلها، لا تبحث عني هذه الليلة، فأنا لست لأحد، أنا لذاتي، لذاكرتي، دعنا نسهر حتى الصباح."‏

    لم يرق كلامها له، نظراته تعاتبك وتطالبك أن تتخلى عن مثالياتك في زمن يصفع المثاليات، يطالبك أن تعطي الجلسة حقها، ولا تتصنع الأدب والعفاف وهما بعيدان عنك، تدخلت وقلت: "لكل واحد حياته الخاصة وتطلعاته ورؤيته، أنا أيها الصديق لم أعهد سهرات السمر هذه، لكنني أتقبلها لأنني أحبكم."‏

    تململت فبدت بقدها الفارع وخصرها النحيل نجدية القوام، سوداء العينين، شعرها الملون بالأطياف قصير يغطي جبهتها، ويصل إلى أذنيها، فتحت أعلى زرين بفستان السهرة، فبدا صدرها المعجون بالحنطة ملعباً، ونهداها المكوران المرمى، فجرت بضحكتها وترنحها الرغبات، تتمايل وترفع كأسها، أميرة السهرة، هيجت العواطف، حملت النسائم والرذاذ والمزن والبرق والأوكسجين بكفيها، اهتز خصرها فاهتز قرطاها وتماوج نهداها الزئبقيان، وجسدها الذي يشع نوراً وسط العتمة، انطلقت من فستانها نيران وأبخرة، انطلقت أبجدية الليالي واللهجات المحرمة، انطلق قوامها بنيرانه الحارقة، صبت الخمرة لتحيل كل شيء إلى رماد، ولتبدأ رياحها العاصفة فعلها، بدأ وسطها بالتلوي، وذراعاها بالحركات والارتعاشات، وخلفيتها بالاهتزاز والتمايل، بدت بتفاصيلها الأنثوية مثيرة، شعرت بكيانها يسمو بالجنس وهو يتقاطر كحبات العرق من جسدها، دفء أنثوي لم تعهده، تميل إليك، تلقي برأسها إلى صدرك وبمؤخرتها إلى حضنك، تتمايل وهي تقذف بتعبيراتها الفاضحة، تشدك وتطالبك أن ترقص، تقف أمامها كالأبله، تنظر إلى صدرها، إلى تفاصيل لم تعرف رهافتها، يداها تتحركان، زفراتها قصيدة الجسد، أخطر ما في ذلك أن تتخدر وتنسى نفسك، الصلصال نسي أنه ضيف، نسي آدابها، انتعش فهجم عليها، أبعدته وهي تضحك، ما زلت متمالكاً أعصابك على الرغم من العطر والأنوثة، صار لجسدها لون الرمان، جسد يصرخ، نسيتْ نفسها، نسيت الزمن ووجود الصلصال، ارتمت في حضنك وأخذت تنهش بك وتقبلك، تنظر إليها ترثي حالها وهي تصيح كالمجنونة تشتمك، تطالبك بضمها، أن تحملها بين يديك، أن تهرب بها بعيداً عن العاصمة، حملتها ووضعتها على السرير، أحضرتَ كأساً من الماء، أخذته وسكبته على صدرها ونهديها، رمت الكأس فانكسرت، قالت: كل مياه العالم لن ترويني، من أية طينة أنت، قتلتني!‏

    نشفت عرقها وغسلت وجهها استعداداً لجولة جديدة، بعد تنظيف الغرفة من الزجاج، قررت أن ترقص حتى آخر رمق، تتفنن في الدوران وحني الجذع والتمايل، تقرب شفتيها من فمك، فعل المشروب فعله، بدأت تغني، تحلق في الفضاء، تشعر أنها نجمة في الأعالي، تطل على البشر، خارج إطار مكانها، تحملها رشاقتها على تأدية حركات ورقصات مذهلة، عند الثالثة بعد منتصف الليل أحست بدوار وتعب، ألقت جسدها على السرير، وخلدت إلى الراحة، اقترب الصلصال فأعادت ما قالته في بداية السهرة، قرر أن يغادر ويأخذك معه، لكنها أصرّت على بقائك.‏

    صباحاً كانت ذات مزاج جيد، اقتربت منك، بدت مشرقة ومبتسمة وسعيدة بوجودك في بيتها، تتأملك لتطبع صورتك في مخيلتها، رسمك لا يفارقها منذ أيام، هناك رجال يمرون دون عدّ، بينما واحد هو الذي يثير المشاعر، وأنت أثرتها من الداخل، أحست أنها التقت بحياتها، في رأسها مئات الأسئلة، بودها أن تجد جواباً لبعضها عندك، سألتك:‏

    - ما علاقتك بقاسم؟‏

    - لم أفهم قصدك؟‏

    - بل فهمت، كلانا يفهم الآخر، قاسم لا يعنيني، فكرت أن أطرده من حياتي، ساعدني، فأنا أرى فيك ما هو مفقود عندي، أصدقني القول وأنا أكفيك شر السؤال! أساعدك، ثق بي ولن تندم!‏

    - سأتردد إلى هنا، أنت الآن تهمينني وتستحقين الصداقة، بيننا الكثير الذي علينا فعله.‏

    - من أنت أيها العصي؟‏

    لم تجب، نظرت إلى عينيها اللتين تسللت منهما دمعتان، مسحتهما وأنت تخاطبها بكلمات ودودة، تدعوها أن لا تلح في سؤالها، ستعرف كل شيء في الوقت المناسب، طمأنتها أنك لست صديق الصلصال، ولا يمكن أن تكون صديقه، إنما هناك فاتورة حساب عليه أن يدفعها، ابتسمت، تأكدت أنها أمام رجل قادر على حمايتها، لقد استدان الصلصال عشرات الألوف، قال لها قبل يومين، إن عليها أن تنسى موضوع الدين لأنه شطبه من ذاكرته، طلبت إليك أن تنتظرها، لن تدعك تخرج، ستحدثك عما تتوق لمعرفته، نظرتها في الرجال لا تخيب، تريد أن تستحم فقط، أن تخلص جسدها من قاذوراته، أحست بأهمية الوقت وأهميتك، نظرت في المرآة وجففت دموعها وهي في طريقها إلى الحمام، اتهمها بسرقة نقوده وهويته وأوراقه الهامة وتهريب هلا، وعدها بالموت إن تأكد من ذلك، في الخارج من يستطيع أن يلقنه درساً، أن يأخذ بثأرها، ستساعده حتى وإن كان من المخابرات، أغلقت باب الحمام، أفاقت من شرودها، فتحت الدوش، انزلقت الرغوة مشكلة حوضاً، خرجت مشعة نضرة، شعرها يقبل جيدها المرمري، بدا وجهها صافياً ونقياً كمياه عين الفيجة لحظة تدفقها من النبع، شعرت بوشائج تشد قلبها إليك، اقتربت منك وقالت: "لن يخطر ببالك من أيّ منبت الصلصال، وكيف جاء إلى هنا ومن معلمه وما أسرارهما؟ أنا كاتمة الأسرار، ستسمع مني ما هو مثير!"‏

    «منذ الصغر زرعت أمه في رأسه قرنين، مقابل قروش يتقاضاها لسكوته، صار الأمر عادياً، بيته (كرخانة)، رجال يدخلون وآخرون يخرجون، كان أكثر أولاد القرية شراء، حتى البائع يعطيه الحلوى، إذا نقل لـه رسالة شفوية إلى أمه التي عاجلها المرض وتوفيت، وجد في امرأة أبيه ضالته حاول إغواءها، لم تمكنه من نفسها، جاء إلى دمشق صغيراً، اشتغل في الملهى أجيراً لقاء أكله ونومه ودخانه، كبر وهو يرى الفسق، عرّفته على معلمه الحالي الذي يعمل في التهريب والسمسرة ويروج للحشيش والأنواع الأخرى البيضاء، ولهذا جلسة أخرى».‏

    نظر إليها مسروراً وقال: هاتي يا شهرزاد حكاية الحكايات، هيا ابدئي لقد حان الوقت لسماع حكايتك:‏

    «كان يا ما كان أب ظالم زوج ابنته التي أمامك لرجل بعمره، عشت معه بضع سنين، لم يستطع أن يثبت رجولته، ينام وأنا أسهر، أتقلب، وعندما أتحرش به يصيح في وجهي، ألملم ذاتي، بعد قليل أعاود الكرة، وجسدي يتوجع ويحترق، الدم يفور، ترتفع درجة حرارته، أحس به حاراً في أوردتي وشراييني، أتخلص من بعض الملابس، أتخلص من كل ملابسي، أزحف ثانية إليه، يبتعد أكثر، أداعبه، يفيق ويشتمني، يصفني بأنني امرأة عطشى لا ترتوي، اسكب على جسدي الماء البارد، تخف حرارته الخارجية، لكنه من الداخل حرائق مشتعلة، أمضي يومي شجاراً، جسدي يناديه، لا مجيب، لا حياة لعجوز، يدير ظهره، الخلافات تتفاقم مع إصراري على الاقتراب منه، وإصراره على الابتعاد، يصل به الأمر إلى الهرب والنوم على الأرض، يطالبني بالخجل حتى بت أخجل منه ومن نفسي، فلم يعد يرى من جسدي شيئاً، صار محرماً عليه، بت أحسه صقيعاً، وحتى أتخلص من شخيره نمت في غرفة أخرى، طالبني بالنوم إلى جانبه، كلامي الجارح جعله يكف عن هذا الطلب، أخبرته أن المرأة تنام إلى جانب زوجها إذا أشعرها بوجوده وحرارته، أنفاسه الحارقة تجعلها تذوب وتركع له، وليس شخيره ورائحة عرقه وروائح كريهة تبدأ من الفم وتنتهي بالدبر، هل لاحظت الفرق يا زوجي اللدود الذي سيندم على الساعة التي قرر فيها أن يأخذ صبية أصغر من بناته؟ مهرة عصية على الترويض، سنرى نتيجة وضعنا في خانة واحدة، لم تمض أيام حتى نفذت تهديدي، أخذت نقوده بعد أن توصلت إلى مخبئها، بت أصرف وألبس وأنزل إلى المدينة، اكتشف ضياع غلة عمره، شكاني إلى أهلي، طلبت إليهم أن يطلقوني منه أو يلزموا الحياد، لم يلزموا الحياد، أعادوا ما معي من نقود إليه، تردد في داخلي سؤال بات يلح عليّ: ما الذي يربطني به؟! تردد هذا السؤال في حلقي ولم أجد إجابة عليه.‏

    جسدي يكتوي بنيران الصيف، أستحم وماذا بعد؟ لا أجد إجابة، في رأسي مجموعة أفكار، أسجنها في صدري، لماذا تزوجتني يا كافر؟ لا يجيب، اضطررت إلى البحث عن نصفي الآخر، عن فتى يعيد توازني ويكمل أنوثتي، كان لابد أن أشرب ماء نقياً، من بئر لم تلوث مياهها، لا أطمح أكثر من ذلك، بعد أن تأكدت أن مياهه جفت، طالبته أن يضع فوطة على صدره، يجلي ويغسل ويكنس، ركضت اتجاه نبع متدفق غزير، يفور، كرعت منه ولم أرتو، ظمأ العمر لا ترويه دقائق يسمونها الحرام، بدأت أحسُّ بكياني بأنوثتي، وبدأت يدي تدغدغ ما تيبس من جسدي، بدأت أضع الأصباغ والمساحيق، فأبدو أجمل من الصورة وأرق من مياه النبع، لكن عمر اللذة المغتصبة قصير، كان لابد من الهمس والقال والقيل، تحرشوا بي مقابل صمتهم، سمعت و«طنشت» حتى جاء يوم ضُبط العصفوران في العش يتغازلان، الهرب أو الموت، هربت إلى العاصمة، لم يكن أمامي سوى جسدي لاقتات منه، آه يا إلهي، كم من القوافل مرت على المرعى الخصب؟ أطلب الغفران!‏

    اثنان بحثا عني، عصفوري الذي طرت من بين يديه، لم يتمكن من العثور عليّ، والكهل الذي يريد أن يردني إلى عصمته، عندما وجدني في الملهى بعد سنوات، قبض عليه قاسم واثنان، لم يكن أمامه من حل سوى طلاقي ودفع كل ما في جيوبه، ليظفر بحريته، تركوا لـه أجرة السيارة التي ستنقله شمالاً، وبعيداً عن هنا.‏

    أنا الآن حرة، لا أعرف ما الذي شدني إليك، أعدك أن أنظف ماء النبع من كل ما علق به، أن تعود مياهه رقراقة، مياه لا يشرب منها سواك، أريد وعداً منك أن تفكر بي، أحلم بزوج ككل نساء الأرض، أحلم أن أنجب طفلاً أو طفلين كأي امرأة، أريد أن أكون أماً ولو لطفل واحد، أكثير عليّ؟! ثم طلقني، في داخلي تشرق عشرات الشموس، أتوق للانعتاق، أن أمشي في الشارع دون حرج، أتوق أن أعيش كالأخريات، عندما تقرر تعال، سأستحم كل يوم لأتخلص من الماضي، هذا رقم هاتفي، إياك أن تذهب ولا تعد، ثمة بذرة جافة أنت من سكب عليها قطرة، لا تدعها تجف ثانية، يمكنك أن تزورني في أي وقت دون إحراج، لن أناشدك بالحب، فهو محرم علينا، أسألك نفسك، فكر عندما تضع رأسك على الوسادة، وإن شعرت بحاجتك إليّ اهتف أو أحضر تجدني بانتظارك».‏

    -20-‏

    تبدأ نمرتي، لم أعد أبالي إذا ظهر جزء من جسدي أو تعريت أمام الآخرين، سبع سنوات وأنا أمد جسدي الرشيق جسراً لمحبيّ، أهبه لمن شئت، أحيي السهرة في الملهى، ازداد رواده وبت معروفة في المدينة، في الساعات الأولى من الليل يغص برواده وتغلق الأبواب، أشعر بالألفة مع جمهوري، أزلت ما بين الذكر والأنثى من حدود، أحدثهم، أمازحهم، أتلقى كلماتهم الموجعة، أردّها إليهم وأنا في غاية المرح، يتبادل السهارى النكات والمزاح، يصفقون لدى ظهوري بحماسة، ويوماً بعد يوم صرت أختار مع من أظهر، ومن أصاحب وإلى أي طاولة أجلس، لا تهمني النقود بقدر ما تهمني الوجاهة والشخص، امتلكت ثروة ولم أغادر، أرقص وأغني، أحب أن أرى الآخرين يضحكون، أعرف أن الآتين لهم مشاكل مع نسائهم ومع مجتمعهم، من لا يستطيع التكيّف يحتاج إلى رعايتي، أخاطبهم بأسمائهم وألقابهم، وأساهم في حل مشكلاتهم ببعض الحنان، كنت ساحرة شافية لأوجاعهم، كلمة مني تعيد التوازن لزبائني، اعتقدت أن فني قادر على إصلاح الناس، اكتشفت أنهم لا يأتون ليتطهروا من ذنوبهم، بل ليغوصوا في الوحل أكثر فأكثر.‏

    أدركت فجأة وبعد كل هذه السنوات، أن رسالتي هذه لا قيمة لها، وأن ما يقال عن الفن الثامن لا وجود له، لم أخلق عاهرة، كنت أخجل من خيالي، فقدت طهارتي على يدي ما سمي زوجي، أتذكر ذلك وأنا في أوج نشوتي، أندم وأحزن على واقعي، أسيطر على انفعالاتي وأتناسى، أعيش حاضري ما بين صخب الكؤوس والأيدي الملوثة، سألت نفسي عن فائدة تذكر الماضي والطفولة؟ أيمكن لمن خاضت في المستنقع حتى أذنيها أن تهتدي؟ هل ثمة شقاء أكبر من الركض وراء الماضي؟‏

    قذفت دموعي بعد أن نزفت ماءً وطيناً، تخلصت من آلامي، ثمة غابات وحقول أمام ناظريّ، الحياة هي الأجمل! وأجمل ما فيها المتعة والرقص! اقتنعت بذلك، جسدي يتلوى وأحياناً يتعرى، فيبدو وجهي ضاحكاً وصدري دافئاً، اندمج مع الموسيقا وتصفيق الجمهور، أنسى نفسي، ألف وأدور دورات سريعة، أرفع ثيابي الهفهافة كطائرة ورقية مخلفة مروجاً من الخضرة والجمال، أتفنن في إظهار مفاتني، أستر من جديد ما اشتهته الأعين وأنا أقهقه، فترن ضحكتي الهستيرية وكلماتي النابية لتدفع المشاهدين إلى الجنون، أتلقى تصفيق الحاضرين لدى رؤيتهم بعض المواضع من جسدي البض، هذه اللحظات تدفع الموجودين إلى التخلي عن مراكز قوتهم، إلى الخشوع والركوع أمامي، يدسون النقود في يدي أو في صدري أو يعلقونها وساماً على خصري، ما بين شد وتصفيق وغناء أتمايل غير آبهة بما يظهر من محرمات جسدي، ففي حركات مقصودة، وعندما تأخذ الخمرة طريقها إلى الرأس ويبدأ الطرب والتخلي عن آخر ذرة من العقل، أبادر إلى تهوية جسدي الحار، أرفع بأطراف أناملي تنورتي إلى الأعلى، فترتفع كالخيمة، ثم تعود فاردة دائرتها، وفي مرات قليلة، قد لا تعد على الأصابع أقف وأتعرى من بعض ملابسي، يملأ الصراخ الملهى، يقفون مبهورين يتراكضون نحوي، أعود وأرتدي ما رميته في محاولة لستر وحشتي، أهيم وأسبح فاقدة رشدي كطائرة ورقية يتلاعب بها الريح، يتزاحم الجمهور أمام المنصة يهتفون باسمي، أهتز في حركة تستهوي السكارى الذين لا يخرجون إلا ودفعوا كل ما في جيوبهم، وهم يترنحون، حتى إن بعضهم يفقد في ليلة واحدة ما يحصله في سنوات، كل منهم بحاجة إلى عامل يقوده إلى بيته، يخرج العاملون إلى الشارع لإيقاف المزيد من سيارات الأجرة لإيصال الزبائن الذين فقدوا قدرتهم على الوصول إلى بيوتهم دون دليل، أتأخر في الخروج، ثمة من يحجزني ويرحب باستضافتي حتى الصباح، لأحيي في بيته حفلة خاصة، الأجر الذي أتقاضاه ليس ثابتاً، في الغالب أحصل حسب براعتي وفني، وفي مرات كثيرة يبدو الكرم على الجمهور، فتتكوم رزم الأوراق النقدية التي أتقاسمها مع صاحب الملهى الذي يمتدحني ويقبلني عرفاناً باجتهادي وفني الرائع الذي جلب لـه مزيداً من الدخل، يزيد في إكرامي ويتولى إيصالي أو أخذي إلى شقته، فتكون هذه ليلة غير عادية، أبذل كل جهدي ودماثتي ليكون مسروراً ومنشرحاً، أحقق مطالبه وأنا أناديه بأرق الكلمات وأعذبها، لكن عزوفه عني وميله إلى الصبايا اللواتي يتدربن حديثاً، أعاد إليّ شيئاً من الغيرة والعقل، بدأت أفكر في مستقبلي وأتأمل حياتي، تسرب الملل إلى روحي، بدأت أرفض بعض العروض، أختار الرجل الذي أرتاح معه، وعندما لا يستهويني أحد أرجع وحيدة إلى بيتي، أبحث مع المقربين مني عن فضائح للصبايا، أدفع لمن يضايقهن ويجعلهن يرفضن توقيع أي عقد، فيهربن ولا يعدن ثانية.‏

    هل أستطيع أن أمضي حياتي على هذه الشاكلة؟ سؤال هزني من الأعماق، لم أقدر على ترديده ثانية، صار جزءاً من تصرفاتي، استقر في فؤادي ولم يخرج، أتمرد على الروتين، صرت لا أطيق البقاء مع الزبائن، أحسُّ أنَّ شيئاً ما يدفعني للخروج، أستأجر سيارة إلى بيتي لأمضي جزءاً كبيراً من نهاري وبقية ليلي وحيدة، بعد أن تخلى كل من وعدني بالارتباط عن وعده، وآخرهم صاحب الملهى، صرت أراه خنزيراً، فاقد الأخلاق، لا يسمح لأحد بالتمرد على سلطته أو التدخل بشؤونه، ماذا يفعل وليس في المدينة فنانة بموهبتي؟ لياليه معي أقمار وعسل وحب، رأى أن من حقي أن يكون لي شقة مؤثثة، كاد أن يتورط معي بعقد عرفي، إلا أنه في اللحظات الأخيرة اخترع بعض المبررات وأجل ذلك، صرت أكره الذهاب إلى المرقص، أتأخر عن نمرتي، هل أنا مبتذلة ليرفضني وثروته وأمجاده بناها على أنقاض جسدي؟‏

    الحب، الإخلاص، الكرامة، الروح تعبيرات تفقد بريقها في الملهى، ألفاظ تحفر في النفس مجرى، صرت أرددها بيني وبين ذاتي، وجدتها رائعة الدلالة، دفعتني للابتعاد عن البيوت المشبوهة، اعتكفت في بيتي بعد انتهاء نمرتي، كبرت أحلامي واصطدمت مع واقعي، أيقنت أن كرامتي ذات علاقة بجسدي، وبما أن الجسد فانٍ، فإن كرامتي تنتهي إذا فقد جسدي بريقه، أما الأخلاق فهي اصطلاح زائد لا حاجة لها، وهكذا الحب والروح اللذان يذويان، يكبلهما الجسد والواقع المعيش، الأيام تبعثر أحلامي، تجبرني على فعل لا أريده، أتشبث بما بقي من قوتي، أعاند، أفكر بالثورة، يكفي ما ارتادني من رجال، قطفوا زهرة شبابي وخربوا ثماري، آلاف الأسئلة تدهمني، هل أستمر وأرتمي تحت أقدام من يدفع؟ أتذكر مواقف كلها قرف وتفاهة، البذرة التي سقيتها حباً وكبرياءً بدأت تعمل عملها، تدفعني إلى التمرد، إلى الإمساك بزمام جسدي، أرفض من لا أريده، أكره الذين فشلوا مع حبيباتهم ومع زوجاتهم، لماذا لا أجد إلا الفاشلين، حتى ولو كانوا أصحاب جولة وصولة؟ البذرة تعكر مزاجي، كل يوم تنمو وتضرب جذورها في صدري، أرى أوراقها وأزهارها.‏

    صرت في عداء مع الفن الثامن، لم أعد أجيد دوري، بدؤوا ينعتونني بألفاظ بذيئة، يدّعون أنني فقدت رشاقتي وخفة دمي، بدأت أبتعد عن أجواء الرقص، فكرت في تغيير مكان إقامتي، لم أحسم أمري، مترددة، أأبقى في العاصمة التي مزقت وهتكت جسدي وعرضي؟ أم أعود إلى قريتي وأتحمل إثم ما فعلت؟ أم أختار مكاناً ثالثاً؟ القرار ينضج على نار هادئة، منذ حللت ضيفاً على الملهى، صوبت اتجاهي نظراتك، تجاهلتني وأنا أرفع يدي لتأتي إلى جانبي، أكبرت فيك عفة نفسك، ذهبتُ إلى الصلصال لأرى أي رجل أنت، كنت أعلم أنك عنده، أردت قراءتك ومعرفتك عن قرب، لم أعهد رواداً مثلك، سيطرت عليّ، أشفق عليك، مدرس مثلك عليه أن لا يتردد على أماكن اللهو، أشك في نواياك، ومع ذلك أشكر رجولتك وشهامتك اللتين غيرا رأسي، في حياتي لم يصادفني واحد بصفاتك وعزة نفسك، عندما تمنعت ولم تغرك أنوثتي، سددت إلى صدري السهام، أدركت أنك الرجل الذي انتظره من سنين، أدركت أن وراءك قصة، وأنك لن تكون صديقاً للصلصال، وأنك قطرة الندى التي حملها الصباح إلى شفتيّ، دخلت قلبي وبت أحلم، نسيت أنني راقصة في ملهى ليلي، بدأت الطبول في صدري تدق، أضع رأسي على الوسادة، أسمع صوتك وأراك، أنت منقذي، لن أخاف من النور ولا من الناس، سأفتح صدري للنسيم، وأدع قلبي يدق كما شاء، تخلصت من الوحدة فأنت معي دائماً، وتخلصت من قدري مع الخائبين، تخضبت بالعطور، بدوت سامقة، واحة تزينت بالأحمر والأخضر وبكل ألوان الطيف، أغني لأيامي، لم لا وبيدي مجموعة خيوط، أهناك من تكره أن تتخلص من مستنقع تغوص فيه؟ لا شيء أخاف عليه، الله سيقف معي ولن يخذلني، لقد هيأك لي، أنا أحب خالقي الغفور الرحيم، هو يغفر ما أجبرني الزمان على فعله! الوحيد القادر على إلهامي الصبر وتخليصي من ورطتي، وعودة نفسي وروحي إلى جسدي، رفعت يديّ ونهديّ وأنا شبه عارية دعوت: "ياألله ساعدني فأنا أحبك واحتمي بك!"‏

    غابت عن الملهى، تجاهلوا غيابها، لكن عندما طال جاؤوا إلى بيتها.‏

    -21-‏

    مع الغروب الواسن دخلتَ شقتها، وجدتها بانتظارك، ترتدي ثوباً يشفّ عن قد ممشوق عامر بالأنوثة إلى حد الإغراء، على عادتها بدت مرحة، رحبت وقادتك إلى الصالون، ثم دخلتْ غرفتها ووضعت شيئاً من «المكياج» على وجهها، طالعتك بجسدها المعطر وروحها الشفافة، وأنفاسها التي تعبق طيباً، تتمايل في مشيتها خفة، تذبّل عينيها، وتلقي بابتسامتها النضرة على محياك. تنهض التضاريس، تلامس الرغبات، يشتعل الجسد ويهب شخصك شيئاً من الخجل، تحلم باخضرار البراعم، كل ما فيها يهدم ما في داخلك من كبرياء، سألتك: ماذا تشرب؟‏

    - كأساً من الكولا من يديك الجميلتين.‏

    - لا يا عزيزي لقد كبرت ولم تعد تناسبك الكولا!‏

    صبت كأساً من البيرة وآخر من العرق، وقالت:‏

    - في صحتك يا حامد، السهرة للصباح!‏

    - أنتِ في شقتك الفخمة!‏

    - عيب عليك! الشقة وصاحبتها رهن بنانك، كم دعوتك لتكون شريكي، أنت من ترفض، ومع ذلك سأكون كريمة وأقدم سريري لك!‏

    - سريرك!‏

    - نعم سريري الذي لم يعد إلا لرجل واحد.‏

    - من هو؟‏

    - مسكين ألا تعرفه؟‏

    - ومن أين لي بمعرفة أحب الناس إليك!‏

    - احزر؟‏

    - أنا ضعيف في الأحاجي!‏

    - وأنا ضعيفة دونك!‏

    صرتَ تأتي إلى بيتها دون موعد، لا تدعك تخرج، أحسست بخفة دمها ورقة روحها، لدرجة أغرتك بالمجيء مرة بعد مرة، تحدثك عن حياتها، عن ماضيها، بانتظار لحظة الخلاص المتأكدة من مجيئها.‏

    الإغراء باد في كل حركة، خفيفة الظل، عذبة ورقيقة ودمثة، ترتدي ثوب سهرة مفتوحاً من أعلى الصدر حتى النهدين، يتدلى شعرها الذي لونته بألوان عدة لتضفي جمالاً على استرساله، تكتشف ما في جسدها من مغريات، تحسُّ بآهاتها العذبة الخارجة من كل خلية.‏

    لستُ الأول ولن أكون الأخير، دائماً تكحل عينيها بجديد، لا تحتفظ بالصور القديمة، كل يوم تفتح (ألبوماً)، تتلف الماضي، أهي كذلك معي؟‏

    سحابات شفافة تتراكض في سماء الغرفة، تلقي بلفافتها، تتجمع أنوثتها في قوامها الممشوق وفي اكتناز ساقيها ووركيها، وفي الكناريين المغردين في صدرها، وفي ابتسامتها التي تفوح بالعبير، اقتربتْ من المسجلة وأدارتها على شريط راقص، وبدأت تتلوى في حضرتك، انتبهتْ إلى شريط الهاتف، سحبته، لا ترغب في سماع رنينه هذه الليلة، الرنين للكؤوس والأجساد، الموسيقا تغري بالمرح والرقص، النور الخفيف يهب جسدها هالة ونوراً، تسبح في جداول النشوة، تعرق، تجفف المياه المتدفقة، نسيتَ ذاتك وأنت في حضرة جنونها، حتى الأقمار تعرت من عتمتها، وحلت في غرفتها ترقص وتنشر ضوءها، تقترب، تسري النيران في جسدك، شذا عطرها يتوزع في أوردتك، ملأت ابتسامتها الغرفة، بدت مرحة ومغردة، أدارت المروحة، النسيم يحمل عطرها وينشره، أمامك امرأة رائعة القوام، مضمخة بالقرنفل، في رقصاتها خفة ومجون، وفي أغانيها رنة الأسى واشتعال لمواقد الحطب، تتغزل بك، تشدك إلى الرقص، أتقاوم الإغراء؟ أم تدفن وجهك في صدرها وتبكي؟ أم تدع الورود تتفتح؟ دوحة أتدخلها أم تهرب، كما فعلت حتى الآن؟‏

    شراب طرية خلقت للرقص، حتى عندما تناولك الكوب تترنح وينثني جسدها، يهتز نهداها في صدرها العامر، يندفعان ويتزاحمان للانطلاق، صهوتان من العز، بدأت تهز خصرها وهي بقميص النوم، وشيئاً فشيئاً بدأت تتعرى، وعندما أكملت، أحسست بآخر ذرات الفوسفور تغادر رأسك، أحسست بقوة حضورها، وأن هذه الليلة تشبه كل النهارات الرائعة، أخذت تتعمد التبختر، تنقل قدميها بحركة رشيقة، تترنح وتتمايل، افترستك بفنها، بغوايتها، بنظراتها، مددت يدك تلامس تخوم جسدها، انسابت من بين يديك، تسللت إلى الأنفاق والوهاد والقمم، شعرت بعمق أنوثتها وشعرت برجولتك.‏

    كل ما فيك يتغيّر، تلحن أنغام ليلتك على وقع خطواتها ورنين صوتها، رسمتها في عينيك ينبوعاً، تعبتْ وارتمت على السجادة، الندى يمنح شعرها شلالاً، يتبخر فيعطي هالة من نور هي مجموعة ألوان الطيف، أأنت على أبواب متاهة أم أن الحياة فتحت أبوابها؟ هي من ذللت الصعاب تستحق عبارات المديح والغزل، ناولتك تفاحة بعد أن قسمتها إلى نصفين، وقالت: تفضل يا حامد.‏

    جلست إلى جانبك وناولتك كأساً، نظرت إلى عينيك ورسمت على الأفق برجك، النجوم تتراقص في السماء مغتبطة، ونجمها لا يبارحك، تشق طريقها إلى أوردتك، نظرت إلى الأفق، السماء توغل في الارتفاع، تقترب أكثر من النافذة وتسدل الستارة، الخريف يكور أمتعته ويحمل غماماته ويهاجر، لا يترك ورقة على جسدها، تبرعم شجرتها وتزهر في حين بدأت الثمار بالتشكل.‏

    أنت أمام امرأة مكتملة الأنوثة، تفيض نضارة وسحراً، تغريك المرة تلو الأخرى بالخمر، بدت في عنفوان نشوتها قمراً يسبح في بحر اللذة، ترقص، تغني، تدخل باباً من أبواب الليل، يتحول الكون إلى أقمار من فضة وراقصات ومغنيات وربيع لم تألفه، تطعمك شيئاً من الحنطة، تتذوق طعم أرغفتها، استفاقت الرغائب، لا غرابة إن تمايلت السنبلة قبل الحصاد، شعرتما أن الغلس قد ولى، وأن الضياء يغمر المدينة، حالة الوجد أنستكما الزمن.‏

    أحسست فجأة أنك تبتعد عن مهمتك التي تطوعت لأجلها، بلعت ريقك وطردت الهواجس مع ارتواء الجسد من الخمر، استطاعت أن تذيب الجليد، أن تدفن ترددك، أن تطرد أحزانك، نسيتَ رأيك بالمرأة الراقصة التي تؤم الملاهي وبئرها الملوثة، من بداية السهرة وأنت طفلها المدلل، سارت معك خطوة خطوة، خلصتك من أنانيتك ومن عنادك، تدرك مدى نجاحها، هي تعرف أنك غير قادر على المواجهة، منذ اللقاء الأول في بيت الصلصال هربتَ وتركتها تعاني الوحدة، لم تقتنع بوجهة نظرك، وهي لم تقنعك بمسيرتها، اليوم حاولت مقاومة الإغراء، تراقبك كيف تدقق النظر في تفاصيل أنوثتها، منذ دخولك راهنت على قدرتها، تحدثتما طويلاً، قرأتَ الجانب الإنساني فيها، تتوغل إلى أحشائك كلما توغل الليل في الخارج، جئت إليها فرسمت في قلبها إشارة النصر، لقد أصبحت إنسانة أخرى، هل تسجل الانتصار لصالح الروح، أو لانتصاراتك على ذاتك؟ أردت أن تشرب مياهاً نظيفة معقمة، صحيح أنك انتشيت، لكنك لم تتخل عن أفكارك، بل إنك الآن أكثر تمسكاً بها، قرأتْ ذلك في عينيك، وفي حديثك ومداعباتك، في الرسائل التي تبثها روحك، شعرت أنها تتهجاك، تفك بعض الطلاسم.‏

    أحسستَ أنك تبحر وأن المرفأ الذي تسعى إليه قريب، المرايا مبثوثة في البيت أنى اتجهت، مرايا الحمام وزجاج الأبواب التي تنقل حركاتها الرشيقة، تحدق بالراقصة وهي تتزين وتتنقل بحركات راقصة، تغيّر ملابسها لتدفعك إلى الاشتعال، وصلتما إلى الشاطئ الرملي، بريق الأمواج يتوحد ببريق جسدها، مع الإبحار ارتفعت وتيرة الغناء والمدّ، آلهة الغناء ترصدكما وأفروديت ترافقكما، بعد أن مسحت عن عينيكما الغبش وآخر الدموع بانتظار الجديد.‏

    سطعت الأحلام في دائرة الضوء، ارتفعت الموسيقا مع وشوشاتكما، انتابتك مشاعر ظمأ للحياة، للدروب، للبساتين، للأصدقاء، لدمشق وقاسيونها، لفرات التي حتمت عليك خوض التجربة، لهلا التي ستتخلص من أحزانها، لتظل متماسكة في وجه العاصفة، هل ستغادرك حالة الوجد بعد انطلاقك إلى الشوارع؟ هل ستندم على ليلتك وتطويها كما طويت من ليال؟ أهي لعبة أم سير في دروب العشق؟ بدا كل شيء أمامك رائعاً، وأنتما تتناولان وجبة الإفطار وتتلذذان بطعم اللقاء، كل منكما يعتقد أن هذه الليلة لن تعاد، وأن لكل واحد طريقه، تتناول نصف التفاحة اللذيذة، تبدأ بقضمها وأنت في عز نشوتك، تاركاً لها النصف الآخر.‏

    فتحت الباب وأدرت وجهك غرباً حيث الشمس تميل للمبيت، ودعتها وجففتَ دموعها، سرت قاصداً الشوارع البعيدة عن وسط المدينة، علك تختلي وأنت على رصيف خال من البشر مع ذاتك.‏


    يتبـــــع
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    للنشر
    الإدارة
    للنشر


    المشاركات : 3446
    . : ملتقى نور المصباح الثقافي

    غرباء منتصف الطريق ـــ عوض سعود عوض  رواية ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق – 2006 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: غرباء منتصف الطريق ـــ عوض سعود عوض رواية ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق – 2006   غرباء منتصف الطريق ـــ عوض سعود عوض  رواية ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق – 2006 Icon_minitime15.05.12 2:23

    22-

    صورتان تأتيانك وتشدانك، كل واحدة تحدثك بما في الأخرى ونظرتها إلى الحياة، تملي عليك الآراء، تقبلها أو ترفضها، تعيش على هامش حكايتيهما، يوم دخلت لأول مرة حانة الرقص، حدقت بك شراب وابتسمت، تحاشيت النظر إلى عينيها، كانت نظراتها ثاقبة، عرتك، نظرتها تفضحك، تقول لك، إنك لست من رواد الملاهي، لم تنس على الرغم من مرور زمن على تلك النظرة الفاحصة، ذكرتك بها قبل أيام، أما قاسم فقد أحبك ووجد في صداقتك تعويضاً لم يحلم به، لا يذكر أنه صادق شخصاً صداقة خالصة، فكر باستمرار العلاقة، أن يهبك ما عنده عن المرأة لتكوّنا نظرة واحدة تجاهها، يحدثك عن خيانتها، ويؤكد أن أي امرأة هي خائنة، حتى لو كانت أقرب الناس إليك، وعندما رأى أنك غير مقتنع، عرض أن يعرفك على عشرين واحدة لتحكم عليهن، أجبته:‏

    - بالتأكيد إن العشرين نوعية واحدة يا صديقي!‏

    - بالنقود أجلب أحلى امرأة إلى غرفتي هذه ...‏

    - أراك حكيماً هذه الليلة على غير عادتك؟!‏

    - بل حزين والكلمات تخرج دون إرادتي.‏

    دلت كلماته على أنه عصبي لدرجة لا تطاق، عصبي أكثر مما توقعت، لأول مرة تراه يفكر في أمر، إنها شراب التي حيرته، أعطته درساً في الأخلاق، البئر الملوثة التي يشرب منها عابر السبيل، مجنونة بعد سنوات العشرة والعمل المشترك تردّ يده عنها، هذا كثير! واحدة مثلها إذا فكرت تصير خطراً، تعرف كل شيء عنه وعن معلمه، يجب أن تسلم بالأمر الواقع، نظرتَ إليه وعلقت محاولاً التخفيف من ضيقه:‏

    - لست طبيعياً هذا المساء!‏

    - صدقت أنا كئيب وصدري منقبض، لن أستطيع الاستمرار، سأنسحب، الليلة فكري مشغول ومشوش، غداً سهرتك على حسابي، سأحدثك بأمور تهمك، سأعري حياة شراب التي تتطاول على ماضيها، ستركع وتقبل حذائي وتطلب الغفران، إن تصرفاتها لا تنسجم مع عملها، إياك أن تنخدع، يتسلق جسدها الذي يدفع أكثر، ناسية ما قالته للأول قبل ساعات، يمامة تحاول الطيران دون إرادتي، خيطها بيدي، عليّ ترويضها، وإلا فلا حياة لها، نظرت إليه وقلت:‏

    - شراب غدرت بها الأيام، دعها أيها الصلصال تقرر مصيرها وتبني حياتها!‏

    - لا حياة لها إلا تحت قدميَّ.‏

    عند باب الحانة استأجر كل منهما سيارة، الصلصال باتجاه معلمه أما أنت فإلى بيت شراب، أخذتك بالأحضان مرحبة، كان حضورك متوقعاً، شعرت أنه حضور مليء بالفرح والبهجة، عيناك تراقبها، تتابع حركاتها، تحسُّ بشيء في داخلك يدفعك لاحتضانها، أن تمنحها شيئاً من رجولتك، أن تحسَّ بأنها باتت قوية بك، أن تحس بأنوثتها وشفافيتها، تتنسم فوح جسدها الذي تتلامح بروقه كالنجوم، الخمرة والليل نهشا عنادك وقسوتك، موقفك من الراقصات، تراخيت وأسندت رأسك إلى صدرها، لعبت أناملها بشعرك، باتت مهيئة بالبوح بعد أن وصفت لها حالة الصلصال وتهديداته، بحت لها ببعض ظنونك:‏

    «الصلصال يا شراب حاقد، مصمم على الانتقام، بدا جسده هابطاً، وتصريحاته مخيفة، عيناه محمرتان ويداه باردتان، لديه شعور أنه أهين، يتهددك، خذي حذرك».‏

    كلما لامست سراً شجعتها، لن يمضي وقت طويل حتى تفضي بما عندها، السرُّ الذي تقصدتْ إفشاءه ولاحظتْ ردة فعلك، عملية التهريب الذي سيقوم بها هذه الليلة، تشتعل شوقاً، يتراقص نهداها كلاعب قلب هجوم يستعد للاستفراد بالكرة، قالت: "اسمع يا حامد لا تبحث عن سواي، سترى نهايته هذه الليلة حتى لا يتطاول على سيدته! كل ما تريده عندي، ادفعني إلى الأمام ولا تدعني أغوص أكثر ولا تتخلَّ عني، هات يدك وانتشلني."‏

    أسمعتها ما تاقت لسماعه... بدأت تفكر، لم يعد جسدها هاجسها، قلبها يدق، يقرع طبولـه للمرة الأولى في حياتها، أيمكنها أن تحب؟ الحب هو الإخلاص، أقادرة عليه؟ أقادرة أن تدفن الماضي دفعة واحدة وتنطلق؟ عدة عوامل تتفاعل في داخلها وهي ترى نفسها كالضائعة، منذ أيام لم تجلس إلى جانب أحد، ولم تلبِّ رغبة أي زبون، تتملص من الطلبات، استدعاها المعلم وسألها عن حالتها، أخبرته أنها كرهت الدور الذي تلعبه، كرهت الذين يشترونها، وأنها لن تكون حرة ما دامت تعمل في الملهى وتعرض جسدها للجميع، تساءلت إن كان ما تفكر به ردة فعل أم صحوة ضمير وعواطف؟ تتوق عواطفها ونزعتها إلى التحرر، إلى الحياة، أن تخرج إلى الشارع، عليها أن تجرب، أمحرم عليها المشي في الشوارع أو الجلوس في الحديقة؟!‏

    لم تتصور أن يوماً سيأتي وتراجع ذاتها، حياتها بكل ما فيها، حنينها إلى بلدتها وطفولتها، وإلى إخوتها ووالديها، تقبل أيديهم إذا سامحوها، تذرف الدموع، الحزن يستوطنها، تخبرهم بأنها تابت، الله يقبل التوبة، هم لا يقبلونها! أمحرم على الإنسان أن يغسل ملابسه إذا اتسخت؟ أن يغسل قلبه إذا بدأ يضخ الدم الأسود، هل سيتدافعون إلى حضنها؟ أهل البلدة هل يسامحونها؟ إذا ظلوا مصرين على رأيهم بماذا تدافع؟ أيقبلون أن تبني لهم مستوصفاً؟ كل ذلك فكرت به، لكن الأهم أن تعزم أمورها، أخبرت صاحب الملهى باعتزالها الرقص، لم يعلق، صدمته كلماتها، جمد مكانه، يحدق إلى وجهها الخالي من المساحيق، وإلى ملابسها التي غطت مفاتن أنوثتها، يمازحها، تصده، تأكد من جدية قولها، فاقترح أن تأخذ إجازة لمدة أسبوع أو أسبوعين، ثم تقرر، أجابته إنها ليست بحاجة إلى أية إجازة، هي منذ اللحظة إنسانة أخرى، والملهى ليس بحاجة إلى واحدة لا تسمح لزبائنها بلمسها، خرجت من مكتبه، فتحت ذراعيها للهواء، للشوارع، سارت على الرصيف، لا أحد يناديها أو يضايقها، أحسَّت أن حياتها بدأت من جديد، اتجهت إلى الحديقة حيث تنتظرها، فتشت عنك حتى وجدتك، اتجهت إليك، حيتك وجلست إلى جانبك، العصافير لا تكف عن الطيران والزقزقة، وجهها يفيض أنساً، اللون الأزرق ينساب إلى قلبيكما متوحداً بما تحملانه من مودة، قبل أن تتحدث وتلفظ اسمها طلبت أن تناديها باسمها الحقيقي، تغرد الابتسامة على شفتيها وهي تعلن عن ذلك بقولها:‏

    - أنا بسمة بنت أبي عابد! لي أخوة وأهل، هل تشجعني على زيارتهم؟ هل تذهب معي؟ إن وجودك إلى جانبي يمنعهم من قتلي، لقد اشتقت إليهم، سبع سنوات ولم أر وجه أي منهم، سأبيع كل شيء، وبالمبلغ الذي اجمعه أبني بيتاً ومستوصفاً.‏

    - أراك سعيدة يا بسمة!‏

    - تذكرت كيف مرّ عليّ هذا اليوم دون منغصات، إنه جميل في كل شيء، ما يخيفني أن المعلم قد يمنعني من تحقيق حلمي، أنا متورطة معه في التهريب وفي غيره، أريدك أن تساعدني، هذه الليلة لديه أكبر عملية تهريب يقوم بها منذ عام، سيقودها الصلصال، سأكون معهم في العاشرة ليلاً، هذا مفتاح بيتي، ابق فيه وعندما اتصل، ما عليك إلا إبلاغ الشرطة بالمكان.‏

    تساءلتَ، هل تترك الفرصة وقد أتتك على طبق من الألماس؟ ستتحرك وستعد لكل شيء عدته، ستراقب ما يحدث وستأتيك الأخبار من الضابط المسؤول عن قسم الشرطة القريب من مكان وجودك، لن تنام هذه الليلة قبل أن تعرف كل التفاصيل، أما السيدة بسمة فقد أعدت عدتها، ورتبت أمورها لتعود إلى بلدتها، «فوجئ أهلها، صدمتهم رؤيتها، أمها ركضت واحتضنتها، والدها طردها من البيت، ذهبت إلى بيت المختار، لم يطمئن أخوتها لوجودها على مقربة منهم، الأقاويل نخرت طبلة أذنهم، أكبرهم ذهب إليها، قرع الباب، رحبت به، ببرودة أعصاب طعنها، فجاءه الشرف يتلوى زاحفاً فوق الدماء النازفة، قالت: لا تقتلني لقد تبت!‏

    تدفقت الدماء، نقلت إلى المشفى، وهناك صرحت للمحقق بأنها انتحرت».‏

    أفقت من النوم مرعوباً، أخبرك الضابط بكل ما حدث، حيرتك بسمة التي غادرت المدينة إلى جهة مجهولة، يقال إنها لم تعد لقريتها، بقيتَ مشوش الفكر، تحسب ألف حساب لمصيرها حتى تلقيت رسالة، لم تبح بما جاء فيها بل طويتها ووضعتها في مكان لا تصله اليد، ستحتفظ بما عرفته عنها، هي بعيدة، قررتَ أن لا ترد الآن على رسائلها، ثمة مخاوف أن تراقب أو تقع بيد آخرين.‏

    -23-‏

    سحبتِ نفساً من سيجارتك، وطرحت على ذاتك أسئلة، ماذا فعلت الأيام بك؟ الناس تآمروا، الهواء الذي تستنشقينه بات ملوثاً، ما العمل؟ تنتظرين أفول الشمس ليعم الظلام، ويصير ما في صدرك والخارج واحداً؛ ما دمت غير قادرة على المشي مرفوعة الرأس، وما دمت تخافين من الضبع.‏

    صور من ضباب، من كوابيس تميت أشواقك، صمت حار وثرثرة تجري في خيالك كصحراء تعانقت رمالها، وحكمت على عابرها بالعطش، وجهك يحيلك إلى زمن الهزيمة، تأملته لدقائق، توقعت أن يحكي عن ذوائه وهروبه واصفراره، أن يحدثك عن الخوف، تضعين بينك وبين الآخرين مسافة.‏

    بعض النساء يرغبن أن يلعبن لعبة القط والفأرة شريطة ضمان سلامتهن، وأن يبقين بعيدات عن المصيدة، أن يربكن الطرف الآخر ثم يهربن، يغفر الشهم للمرأة الكثير، مشكلتك أنك لم تتعاملي مع إنسان يقدر المرأة ودلالها، كبرياءها وعاطفتها النبيلة، بل مع وحش ينتظر الفرصة المناسبة ليضرب ضربته، ويرش مخدره في وجه من يرغب في اصطيادها، البداية جرّت إلى مواقف خاطئة، الذي يحزنك أن الجدران لا تغيّر ألوانها، ولا تبدو بأكثر من وجه، هي ذاتها اللون نفسه، إن ما يحزّ بنفسك أنه يتمتع بحريته، وقد يغتصب كل يوم فتاة، استنجدتِ بفرات وحامد، مع أنك كنت قادرة على خنقه أو طعنه، تعرفين مكان القلب، طعنة واحدة ويدخل النصل إلى نهايته، ليصل إلى فؤاده المتعفن، ما فائدة ذلك وأنت لم تفعلي؟ لم تكوني قادرة على حمل السكين لأكثر من دقيقة، تهتز بيدك وتسقط، حدثتِ نفسك أأنت قاتلة حتى تفعلي ذلك؟ لم تعرفي معنى كلمة الانتقام، ولم تدركي لِمَ يستخدمها الناس؟ اليوم هي أعز كلمة، تنتقمين من ذاتك وتحجزينها بين أربعة جدران بحجة القراءة وتقديم الفحص، حتى عندما تقتربين من الشرفة تتصورينه ماراً تحتها، يترصدك وينتظر خروجك، لقد لدغك؛ والذي تلدغه الحية يخاف جرة الحبل، أنت تخافين فحيحه، رؤيته، ترينه كالضبع بملابسه برائحته النتنة، تعودين إلى غرفتك، تغلقين النوافذ، تلملمين أحزانكِ، مليون مرة سألت نفسك وماذا بعد؟‏

    لم تتوقعي أنك ستشهدين انهيار منظومة الأخلاق، وأن الناس بدل أن يقدروا المثقفة يتآمرون، هؤلاء لا يرون أبعد من أنوف نسائهم، ماذا بعد الضياع؟ ضياع القيم؟ يقف الناس مسلوبي الإرادة، أنت كفتاة فهمت كل واحد وما يريده، تعاملينه حسب أفكاره، صنفت زملاءك إلى مجموعات، كنتِ دائماً محط الأنظار، بينما أسراب من الذباب تحوم علها تصطاد كلمة حلوة وابتسامة وموعداً.‏

    لقد غيرت نظام حياتك، تَدرسين خمس عشرة ساعة تقضينها جالسة خلف الطاولة، تلتهمين كتبك الجامعية وغير الجامعية، في البداية بدا موقفك مستساغاً، شجعوك على الدراسة، تريدين أن تنجحي وتتفوقي، حجزت نفسك في الغرفة وصارت لك طقوس معروفة، زيارة فرات تصلك بالعالم، تجددين بوجودها حياتك، تنقل لك نشرة أخبار عن دمشق، تستمتعين، تسألين، فإذا بأسئلتك واستفساراتك غريبة كأسئلة السجناء، لم تخرجي سوى مرات برفقتها ولأسباب لم تستطيعي تجاوزها.‏

    اليوم يبدو كل شيء غريباً، تبعثرين أوراقك، ماضيك ومستقبلك، تبعثرين حياتك، تعيدين ما تقرئينه مرات، لأول مرة تقرئين كل شيء قبل الفحص، تدققين في كل كلمة. أنت على يقين من النجاح، في كل زيارة تجلسين ساعتين أو أكثر مع فرات تسمعين منها كل شيء عن المدرسة، عن حامد، عن الناس الآخرين والغوطة والعاصمة، بعد تقديمك للامتحان قررت أن تستمري بطقوسك:‏

    - أليست هذه حماقة يا هلا؟‏

    - بل الحماقة أن أخرج وأجده أمامي في الشارع، عند المنعطف، في السوق، في أي مكان، ماذا أفعل وأنا الضعيفة أمام الوحوش؟ يستطيع فعل أي شيء دون رادع، لا شيء سوى الصراخ الذي لن يجدي، وقد يضعني في موقف صعب، أنا في غنى عنه.‏

    - يمكنك أن تخرجي برفقتي.‏

    - ماذا ستفعلين إن شدك وشدني إلى سيارته؟ نصير ضحايا، لا يا صديقتي الآلام تليق بي ولم يعد لي سواها!‏

    عيناك تفيضان فرحاً، المعلمات يتحدثن عن جمالهما، ينظرن في بؤبؤهما فلا يرين سوى السعادة والسهول الخضر، أما اليوم فأنت لا تستطيعين أن تحدقي بهن، شفتاك المضمختان بالعطر وبلون الشفق مشققتان، لا يلفظان إلا الآهات، كل شيء فيك ذاو، جسدك الذي عشق الدروب والمساءات، لم يعد قادراً على الصمود في مهب الريح، الزوابع تتصاعد وتتصارع في رأسك، تدخل إلى الشرايين والأوردة الدقيقة، تغلفها بالغبار، تنغلق مجاري تفكيرك، فلا يبدو أمامك سوى الموت البطيء.‏

    ومضات من الشوق واللهفة إلى صغيراتك التلميذات، اللواتي يأتين مزقزقات، وعيونهن تتفحص جمالك، يصافحنك، تأتيك التساؤلات عن الليالي التي هدرتها، عن الأشعة التي فقدتها، أهو جسدك الذي سقط أم روحك هوت من عليائها؟ أم أن المجتمع هو الذي سقط؟ بحثت عن بختك، عن برجك، لم تجدي شيئاً مما حصل، اقتنعت أن الأبراج كذبة أو لعبة لم تستوعب الزمن.‏

    نحل جسدك وفقد نضارته ومقومات وجوده، تصطدمين بالجدران التي لم تتغير ألوانها، لا تعلمين أن هذا هو قدرك، وأن ما حصل لا راد له، فقدت شيئاً هاماً في تكوينك كأنثى، تحولت من امرأة تثير الغرائز وتلهبها إلى أنثى تثير الشفقة، تحرك شعور الغربة، تساءلت كيف تملئين فراغك، وكأنك تعيشين حياة طبيعية؟ اهتديت إلى الكتابة والرسم والموسيقا، القلم موجود والعود معلق في غرفتك يستنهض همتك، حملته، تعزفين عليه مرة بعد مرة، تقتلين أحزانك، تتعلمين من أخطائك فربما تستطيع أناملك أن تفعل ما لم تفعله في مواقف أخرى!‏

    صرت رهينة طقسك، في بعض الليالي تصرخين، تهرع زوجة أخيك توقظك من نومك، تبسمل وتتعوذ من الشيطان وكأس الماء بيدها، تبدي استغرابها وتناولك إياه، ثم تربت على كتفيك، تطالبك أن تشربي، أن تحدثيها عن مناماتك وكوابيسك، تتخلصين من ذلك بادعائك النسيان، كل ما تذكرينه مناظر لضباع وحيوانات مفترسة لم تريها سابقاً، اقترحت عليك أن تخرجي من عزلتك، أن تعرضك على طبيب، أن تصحبك إلى الحديقة، إلى سوق الحميدية، إلى السينما أو المسرح، إلى قاسيون وتشرفي على دمشق، وقفت حائرة وعاجزة، لكن أمام إصرارك على الوحدة والخوف والأحلام، وعدم تناولك لما يكفي من الطعام، لم تعد تصر على أفكارها، تساءلتِ في لحظة ضعف إن كان من المفيد الاعتراف بآلامك؟ استغربت كيف تسلل هذا الهاجس وتداولته مع ذاتك، لن تسمحي لأي تعبير يمكن أن يفضح سوداوية وضعك، ما بالك تفكرين بالاعتراف؟ الأسباب التي تطرحينها معقولة ومرفوضة، تضعين آلامك في عنق غيرك وتقعدين، لم تضعي في حسبانك أن آلاماً جديدة ستنشأ، وأن آلامك تخصك ولا علاقة للآخرين بها، تتحملينها دون ضجر أو تأفف، أنت في الميدان وحيدة وعليك تحمل ذلك، أن تبقي في فوضى موجعة، أفضل من أن يدمرك ضوء النهار الذي احتكره الصلصال، عدت إلى هلوساتك وأصررت على البقاء في الغرفة، والتواصل مع أخيك وزوجته، رأسك ثقيل مليء بالدخان والهواء الحار الجاف، الذين حولك يتهامسون، أخوك لم يتجرأ على مفاتحتك، نصحته زوجته أن يدعك لصمتك، في هذه الأيام الصمت ليس تهمة وإلا فكل الناس سيساقون للتحقيق.‏

    وعدته أن تخرجها من صمتها ومن أحزانها بعد الامتحانات، لكن الفحوص انتهت ولم تنته عدتك وأحزانك، بل بدأت تتجاهلين نداءاتهما، توجت ذاتك أميرة للأحزان، وحولت أسرة أخيك إلى مراقب لآلامك، لم تعجبهم حالتك إذ شارف جسدك على الذوبان، وفقدت ربع وزنك، فكرت أن تريحي وتستريحي، لكن الانتحار هروب وأنت تفضلين الصمود والوقوف وتحدي الزمن.‏

    في الزمن الخارج عن إرادتك، الزمن الذي لم يلد من رحم الحياة، يصير الموت رحمة، وتصير آلامك واقعك الذي تتلذذين بتجدده، نقّلتِ عينيك ما بين المرآة والجدران، رأيتهما مغسولتين بفيض العبرات، تومضان فإذا الرعد يقصف في جمجمتك، فتتهاطل الأمطار الغزيرة، هربت إلى الكتابة، تكتبين وتمزقين أوراقك، بودك أن تكتبي قصتك، تصفي ما حدث، تنتقي شخصيات أخرى وترسميها في خيالك من لحم ودم وتسألي الآخرين عن رأيهم، استخففت بمثل هذا الرأي الذي يكشف خبايا نفسك، هل من المعقول وضع مشكلتك على بساط الأدب؟ ماذا يقول الأدباء؟ وماذا سيقول الناس؟ ماذا لو وصفك أحدهم بأنك متواطئة مع شخصياتك؟ هل ستسكتين وكأن الشخصيات لا تهمك، أم ستردين بقوة وتبدين متحيزة؟ أنت تعرفين أن التحيز والتواطؤ لا يجوزان، على الآخرين أن يعطوا رأيهم وقناعاتهم وعليك أن تصغي، ماذا لو وصفوا الفتاة بأنها لعوب، لا تملك ذرة أخلاق، أتعبتك هذه الهواجس، فقررت العدول عن الكتابة، ما دامت ستزيد همك ولا تقضي عليه، ثم إنك ستدخلين الأدب من باب مخلوع يأتي بالريح.‏

    ذات صباح فاجأك أخوك باش الوجه، طلب أن يأخذك إلى السوق، استعدت قصتك وكيف جاهدت للخلاص من أنياب الوحش، الذي قد تجدينه ثانية أمامك، ماذا بوسع أخيك أن يفعل؟ لم تردي لكنه لم يتركك، مد يده لإنهاضك، تشبثت بالأرض وبكيت فتركك لوحدتك، لفكرك الذي يجول داخل الغرفة، لهمومك التي لا يعرف عنها شيئاً، شيء ما فوق طاقته يجعله يتساءل، يطرق السؤال جدار مخيلته، لماذا؟‏

    هناك من يحبون العزلة والاعتكاف، أأنت واحدة منهن؟ لم تكوني كذلك، عهده بك قوية تناقشين الآخرين في السياسة والأدب والعلوم، اليوم غير قادرة على نقاش نفسك، لا تستقرين على رأي، كيف لك مثل هذه النعمة وأنت المطعونة؟ القلق يقتلك، الظلام يلف بصرك، الدروب أقفلت في وجهك، باتت ملكاً للصلصال ولمعلمه، طوى الدروب والأرصفة وحملها على كتفه، حتى لو شئت الخروج فلن تجدي طرقاً أمامك، أين ستسيرين؟ داخل المدينة يحتل أركانها وخارجها قد تجدينه، يمد يده ويدفعك إلى سيارته، يسألك عن هويته ونقوده وعن عقد الزواج، لن تستطيعي الإجابة، في الماضي كنت تملكين قوة وأظافر، أما اليوم فقد فقدت قوتك، إنك منهارة دفعة واحدة من يده وتكونين إلى جواره في المقعد الأول، رشة بسيطة من المخدر، فإذا بك فاقدة لقدرتك على الصياح أو الفعل، ويعود الاغتصاب.‏

    أشياء كثيرة تغري بمعرفة الحقيقة، بقولها كما حدثت، كم يلزمك لتتحرري وتحرري؟ ما مر معك لن يثنيك عن متابعة النضال، ما أحوجك لرؤية الشمس المشرقة والسماء الصافية الزرقاء، تمشين على الدروب الوعرة ولا تتعبين، تتذكرين المسير الطويل الذي حدثتك عنه فرات في بداية علاقتها مع حامد، هل ستأتي ذات صباح مغردة تزف إليك خبراً تنتظرينه؟ تعود الأحلام الجميلة، تعودين إلى الشوارع التي أحببتها تعود روحك إلى جسدك، تحبين كل لمسة من لمسات الطبيعة البكر، والنباتات البرية والغمام المسافر الذي يحملك عصفورة مغردة، تفرد جناحيها للريح والمطر.‏

    جاءتك فرات كما حلمت ذات صباح وردي، لكن بعد انتظار طويل، بعد أن تحوّل الخصب إلى رماد، وتحولت الأرض الخضراء إلى بور، لحظة واحدة وأشعلت الشمس شموع الفرح، شموع الحب، أحسست بفؤادك يخفق، كل ما فيك يغني، أسرعت إلى خزانتك وأخرجت أحلى ملابسك، مشطت شعرك، وأخبرت زوجة أخيك، إنك لن تعودي إلا ليلاً لم تصدق، الواقع جاءك بثلاثة أحداث مفرحة تلقيتها دفعة واحدة، نجاحك إلى السنة الرابعة بتفوق، وإنهاء استيداعك وعودتك للتدريس، واعتقال الصلصال.‏

    الشمس تشرق هذا الصباح كما لم تشرق من قبل! وأنت تحلمين حلماً جميلاً لم تحلميه منذ زمن!‏

    -24-‏

    ما بين الماضي والحاضر غيمة بخور تتصاعد، تحمل النور والنار، لتعيد رسم الأمل، تنهض الأحلام، تتململ حبة الحنطة، تضرب جذورها الدقيقة في التربة، ثم ترسل لساناً أخضر يغازل الأفق، تذكرت حكايات والدك وعمك عن القدرة السحرية لنبتة الحياة، للحنطة التي توحدت بجسدك وأعطته رشاقته، لخبر فرات الذي أعاد اخضرار ما تيبس، منح روحك عنفوانها، وجعلك تنظرين إلى السماء وأنت مبتسمة، البساتين التي طفت بها كانت في طريقها لليباس، والقلوب التي خبرتها ما عادت آلة لضخ الدم، فيض من الخصب أخرجك من وحدتك وصمتك، نفضت غبار الماضي، انتهى الحزن وسافرت الكوابيس، أحلامك تبرعم في رحم الزمن، توزعين ابتسامتك وتمدين يديك إلى الأعلى، تتمتمين بكلمات جميلة.‏

    الأيام تكفلت أن توقظ الحياة في الحجر، أن تعيد لك شيئاً من الفرح المفقود، ستفتحين ذراعيك للحياة، ستلمسين خيوط السعادة، ولن تحتاجي إلى نظارة بعد اليوم، الطبيعة ذاتها تهبك قدراً من المرح، الطبيعة بمكوناتها الشمس، السماء، البحر، الشجر تدعوك لتحدي الواقع وإرغامه على الرضوخ، لم تستطيعي التخلص من الماضي دفعة واحدة، سعادتك وحرية الآخرين، سؤال ترددينه ولم تمنحيه القدر الكافي من التفكير، الصلصال في قفص الاتهام، بين أربعة جدران، يتوقع أن تصل عقوبته إلى سجنه عشر سنوات، أمامك هذه السنوات تعيشينها وتأخذين حصتك من الحياة، عليك ألا تشغلي فكرك، أولى بك النسيان.‏

    الماضي الذي نهش صدرك، وجعلك تحسين بالغربة والضياع، تحاولين إخراجه من جوفك عاند ولم يخلِ مكانه، لا يخرج إلا مطروداً وبصعوبة وبعد عناء، ها أنت ذي تصارعين وتتخلصين من نيرانك، تعود ذاكرتك إلى صباها، إلى أيام الجامعة والتدريس، إلى الأيام الجميلة التي فرت منك، كم أنت رائعة مع ذاكرة كهذه! لن تصغي إلى الشباب، كلهم متاعب، ترى كم من السنين يلزمهم ليتخلصوا من أنانيتهم؟‏

    بعد جولة مع صورتك المقهورة، خلصت فكرك مما يعكره، مرح اللحظة يلفك، لتعيدي لذاتك إنسانيتها ولتعوضي أيام الخوف، لك دور ستؤدينه بأمانة وحب، حتى ذهابك إلى اللاذقية هو جزء من هذا الدور، إذ عندما يرى الإنسان جمال وطنه ورحابته يتمسك به ويدافع عنه هذا في الحياة العملية، أما في التدريس، فكيف تتحدثين عن جمال الساحل وخيراته ولم تري البحر أو تحسي بدفقة الحب للعناق الأبدي ما بين الماء والسماء والأرض؟ إن أي حديث للتلميذات مأخوذ عن معلومات جغرافية لا يفي، لا شيء مثل الإحساس بجمال المكان ودفئه وحنانه، لم تتمالكي نفسك، عيناك تدمعان وابتسامتك تحتضن وجهك.‏

    كل ما في جسدك يفور، أفراحك تتلاطم، تسبح في دمك وتجعل روحك مغردة، كيف تعبرين عن انشراحك؟ تندفعين إلى فرات تضمينها إلى صدرك وتقبلينها كما لم تفعلي من قبل، تنتحبين بين يديها، مخيلتك مشوشة ومثقوبة، بلغة فيها بعض اللوم تعاتبك:‏

    - من غير اللائق أن نبدأ فرحنا بالدموع!‏

    - اتركيني أخرج المياه الملوثة من فؤادي، البكاء يجلي صدري، ستجدينني بعد لحظات أمرح وأغني.‏

    فرحت زوجة أخيك للتغيير المفاجئ الذي لم تتوقعه، وقفت صامتة مذهولة، اقتربت من فرات وشكرتها، وبكل لطف وجهت إليك سيلاً من النصائح:‏

    - الحياة جميلة يا هلا، التفتي إلى نفسك، الدراسة ليست كل شيء في حياة الإنسان.‏

    قالت ذلك وهي تصب القهوة وتقدمها، اقتنصت فرات إنهاء شرب القهوة وجو المرح واقترحت عليك الخروج إلى الطبيعة، إلى المدينة، إلى أي مكان، فرحت وأجبتها:‏

    - هيا، أحلم بوقت كاف نمضيه معاً، أريد أن أشبع منك وأحدثك من الآن حتى صباح اليوم التالي.‏

    - ما رأيك برحلة قريبة تشبع فضولك؟‏

    - الرحلة التي تشبع فضولي وترويني إلى البحر.‏

    - ولِمَ البحر؟‏

    - إنه ذاك المخلوق المتمرد القادر على منحي تمثالاً لا يفنى من الماء، قطراته باقية، تعيدها دورة الحياة إلى تشكيلتها الأولى.‏

    - ما هذه الفلسفة يا هلا؟‏

    - إنها من بعض ما تعلمته في الأشهر الماضية!‏

    - أنت رائعة يا صديقتي!‏

    مع ساعات الفجر الأولى قررتا السفر لتصلا حوالي العاشرة. بقايا الظلام تخيم على الطريق. لا شيء سوى بعض البلدات التي تتراءى أضواؤها. الركاب يغطون في النوم، ما بين الصحو والنعاس يتراجع الغبش، وتبزغ من الشرق ألسنة نيران قبيل الوصول إلى مدينة حمص، راقبتا البرتقالة كيف ترتفع لتستقر على بعد أمتار من الأفق، تتثاءب الألوان وتنهض من سباتها وخلال زمن قصير تفرض مساحاتها، أراض خضراء وتلال عريقة تضم قلاعاً وبلدات مجهولة، تطل بابتسامتها، قلعتان أشارت اللافتات إليهما، قلعة الحصن في تلكلخ وقلعة المرقب قبل الوصول إلى اللاذقية، تبدوان وكأنهما معلقتان في الأفق، خط دفاعي يصعب اقتحامه.‏

    حوالي التاسعة والنصف وصلتا، انطلقتا إلى الساحل الصخري الجنوبي حيث ينتشر الصيادون على الصخور الملساء، التي نقش عليها المدّ خطوطه ورسم أبجديته، تلهث الأمواج، تتعب، يخرج الزبد من بطنها. تبدو بعض تجويفاتها فوضوية وأحياناً هندسية، وكأن يد فنان نحتتها، حزمة ألوان تعانق الأمواج، يتحول اليمّ إلى طيف يحتوي عشرة ألوان بل عشرين وربما أكثر.‏

    الفجر القرمزي غسل العتمة وبدّد قطرات الضباب وأعطى الأشكال ألوانها وحجومها، انحدرت الزرقة لتغطي الأرض والبحر بلونها اللازوردي، الصباح أهدى شموعه وزقزقة عصافيره، شعرتا بالألفة وبنهار جميل وبهي مع ارتفاع الأشعة التي التهمت وحوش الأرض، في داخلهما حب كالأمواج، أحسَّ البحر بفتوتهما وطيبهما، ركض إليهما وركضتا إليه، تمرران أصابعهما في طيات أمواجه، بينما ديك قريب يعلن عن نهار كله إلفة وعشق، استنفر دجاجاته ومشى في المقدمة يستطلع جديد ذاك اليوم.‏

    اقتربتا من صيادين يلقيان بصنارتيهما في الماء، اصطادا أسماك «سرغوس» الصغيرة، كانا فرحين، دعوهما لتناول وجبة من الأسماك المشوية، لكنهما ابتعدتا وسارتا عبر الدروب الضيقة، وعندما تعبتا اتجهتا إلى أحد المقاهي، شربتا عصير ليمون، ثم استأجرتا تكسي لينقلهما إلى الرمال الذهبية، حيث البحر أقل عربدة، تنساب أمواجه على الرمال، ركضتا، لعبتا، ثم وقفتا تتابعان حركة المدّ المستمرة. فتاتان رائعتان واقفتان على الشاطئ، تعرتا قبيل الظهر، انسكب النور على جسديهما البلّوريين، فقد البحر ليونته وأصيب بلوثة، المدّ بطلته البهية وخربشاته يغزو اليابسة.‏

    البحر يوزع موسيقاه على إيقاع أمواجه وألوانه المتداخلة، يكره ارتداء لباس من لون واحد، إذ لا يكفي ذلك للتعبير عن أعماقه وأبعاده وانعكاس زرقة السماء وعربدة القمر، يدفع مده الذي يتناثر سحابه ويتشاجر مع أقدامهما، استنشق ضوعهما، توحدتا مع جنونه، انبطحتا على الأرض، يمامتان أو بطتان أجمل من جنيات البحر، جسداهما يبرقان، لن يهدأ الموج ما دامتا على الشاطئ، ترى أي منهما ملكة الساحل لذاك اليوم المصادف لأواخر آب عام ثمانية وثمانين، دفعت هلا رفيقتها ورشقتها بالماء وهي تقول:‏

    - هيّا يا عزيزتي إلى الماء نتحداه ونفقده وقاره وشموخه.‏

    - بدأت بالفلسفة، لا تدعي خيالك يذهب بعيداً، أيتها الجنية التي لن يختار البحر سواها، أنسيت أنك نحيلة لدرجة أنك قادرة على سباقه والرقص على أمواجه، البحر أيتها الشقية يحب من خبرت الحياة، ليتعلم منها درساً في العشق.‏

    - البحر يا فرات يهوى الفن، يموت فيه، صدقيني لن يختار غيرك لتكوني عروسه.‏

    سبحتا قريباً من الشاطئ، البحر المجنون يطاردهما، تبتعدان إلى الهضاب، تتبعهما الموجة، تكتشف ما حفظه الأجداد، تفتح فاها وتلفظ أول حرف من الأبجدية، ترتد مسرورة لتسافر عبر السفن إلى بلاد وجزر بعيدة، تعلم أهلها ما عرفته.‏

    عادتا إلى البحر، المياه المهددة بالاحتراق تستجدي الغمام، عاد الموج لعربدته، استجمع قوته ورشقهما، دعاهما للتوغل، لم تتجرأا، طيور النورس تواصل طيرانها، ترى التماع الأمواج وشفاه الزبد الثلجية، وحزم الضوء التي تسافر إلى الكورنيش كل مساء، راقبتا زرقته التي اختلطت بالسحب الرمادية، نسيتا متاعب العاصمة، هما كالأطفال في أواخر العطلة الصيفية، تحاولان القبض على كل دقيقة، أن لا تفلت من أيديهما دون لعب ومرح، تبنيان بيوتاً من الرمل، أطفالاً، مدناً، تشرف الشمس على الغوص في مياهه، تذبل أشعتها وتصفر قبل أن يلتهما البحر، شعرتا بالبرودة، ريح مشبعة بالرطوبة تضرب صفحة الماء، السحب تهرول لتحيل الساحل إلى ساحة قتال، تنسحب الأطياف غرباً، لابد من قافلة متجهة إلى دمشق شبيهة بتلك السحب، شمتا رائحة بخور، تفاءلتا وشبكتا أيديهما وركضتا.‏

    من الغرب سحب بيضاء تدثرت برداء رمادي، دهمتهما الظلمة، تتحرك السيارة وتتجاوز مدناً وبلدات عريقة، تبدو كالنجوم السابحة في الفضاء، شيئاً فشيئاً يشتد لمعانها، في الوقت الذي تبرز فيه نجوم جديدة، لتتحول الأرض والسماء إلى مجموعة قوافل غجرية، تحمل مصابيحها غير قادرة على تجاوز محورها، أسرعتا إلى مركز الانطلاق، شعرتا بحب عارم للعاصمة، لوحتا للبحر الذي اغرورقت عيناه بالدموع، وبلغة أوغاريتية وعدهما أن يتأدب أكثر في المرة القادمة.‏

    -25-‏

    قارب العام الدراسي على نهايته. شهر رمضان ما زال في بدايته. لن ترى فرات إلا بموعد مسبق، الآن أدركت أن أيام الدراسة جميلة ورائعة، كل يوم تنتظرها عند موقف العباسيين، تأتي مغردة، تشبك يدها بيدك، تصعدان الميكروباص الذاهب إلى باب مصلى، في الشهر الأخير سمحت لك أن توصلها، تلوح بيدها وهي تدخل باب مدرستها، شعرتما بأهمية اللقاء الصباحي، الأيام تفلت من أيديكما كالماء الذي لا أحد يستطيع القبض عليه.‏

    أحسست بلوعة فراقها قبل وقوعه، بحثت عنها في ذاكرتك، بدأت تستعيد حديثها، تتخيل قوامها، رنين ضحكتها وشذا عطرها، الملائكة المزروعة في رشاقتها، تتمنى أن تعيش مع طيفها، غير قادر على إبعادها عن مساحة تفكيرك، طيفها تسلل إلى الشرايين والأوردة، صار من مكونات الروح، تعشش في خيالك طائراً مغرداً، كيف ستصبر على بعدها؟ شذا ياسمينها يشدك، يوزع الصخب في أوردتك، عيناها تغردان وتتوهجان، تبحران في القادم من الأيام، أفق وجهها شمس تنير وتدفئ، شفتاها الرطبتان تهمسان بأذنيك، تصيغان أحلى الكلام، المرح الذي يضفيه وجودها، كل هذه الصور وغيرها خيول تتقافز في رأسك المتعب، جففت نقاط العرق عن جبينك، تتعزى بالصبر كما أوصتك، ترسل بصرك إلى البعيد، تهدم الأسوار وتصل إليها، لن تطلب أكثر من ابتسامة وموعد قريب.‏

    لم تحزم أمرها ما زالت على مفترق طرق، لم تقرر بعد إن كانت ستسافر إلى أخيها وتتم دراستها هناك، أم تقبل خطوبتك وتظل وكيلة تدرس الأطفال، تعطي أمها جزءاً من راتبها، تؤجل كل شيء، الخياران صعبان، قررت ألا ترهق تفكيرها، تركت مصيرها للزمن، في آخر يوم دراسي انتظرتك على الموقف كما كانت تفعل، تزينت، كلها أنوار وشموس وأقمار وعطور، انتشر عبقها وعانق الأنوف، أطياف متاهات تغلف نظرتها، عيناها يلفهما القلق، أرجوان شفتيها يفقد احمراره ونضارته، ورود خديها المدماة تلبي فزع الروح، تتشح بغلالة من الحزن كيوم التقيتها أول مرة، غشاوة من الدموع تحجرت داخل عينيها، العبرات الفضية تحكي قصص الماضي والمستقبل، تتراقص بسمة خجولة على شفتيها للحظة ثم تختفي، وقفتما وجهاً لوجه، الغمام يسافر بعد أن يدع مطره يتهاطل، يضيع في بؤبؤ عينيها وفي زرقة السماء، ودون أن تنطقا قرأ كل واحد أعماق الآخر، أمواج العواطف تظهر تعبيراتها وتتفاعل في داخلكما، أمواج من نظرات غائمة تعزف نشيدها المر، تقترب منك أكثر وتضع يدها في يدك، قالت:‏

    - سنلتقي يا حامد ولن يردني عن رؤيتك سوى...‏

    - أعطيك عمري!‏

    كان لجوابك مفعول سحري، اتكأتْ على الحائط وحدقت بك:‏

    - دعني أرسم وجهك في عينيّ، قبل أن أرسمه على الكرتون!‏

    في عينيها سحب بحجم العالم، وجهها البهي تسلقه الضباب كقنديل خفت ضوءه، شعرها الملتف بمنديل يشع بريقاً، تركت ذوائب منه تتدلى إلى عينيها كسحابة ندى، نظرتَ إليها، أشعلت فتيل الوجد، حملت النسائم أغنية «يا خوفي من عتم الليل...»، ابتسمتَ وحدقت إلى عينيها، وبحت بما في صدرك:‏

    - أنتِ وردة عمري، أخسر حياتي إذا لم أرك كل يوم.‏

    - لا تقل ذلك، قلبي لا يحتمل عذوبة كلماتك، لا تتصور كم تفعل فعلها، ألا تكفي نظراتك؟ يا إلهي أشعر بضعف! لغة البوح تجعلني أتكوم على الأرض بلا حراك، إبعد نظراتك ودعني أسرح بفكري!‏

    - لا أفهمك!‏

    - لن تفهمني يا حامد!‏

    - تحدثي بصراحة، أما زلت تخافين أمك؟ عيناك تفضحانك!‏

    - افهمني يا حامد أنا مهزومة من الداخل، أعترف أنك أعدت التوازن لحياتي، لكن الحياة بقدر ما تعطي تأخذ، قل ما شئت، أنا لست متشائمة، إنما لا أريد أن يوصلني حبك إلى حافة الجنون!‏

    أوقفت تكسي وطلبت إلى سائقه التوجه صوب مدرستها، نزلتما قريباً من الباب الخارجي، لوحت بيدها وقالت: نلتقي!‏

    وقفت تراقب مشيتها، تراقب اجتيازها للأمتار الباقية، ابتعدتَ قليلاً لتراها وهي لا تراك، قبل اجتيازها الباب الخارجي، التفتت فلم تجدك، دارت نصف دورة رأتكَ، تظاهرت بتسوية هندامها وظلت تراقبك حتى اختفيت عن عينيها.‏

    في صباح اليوم التالي نهضت باكراً كعادتك، بدا عليك القلق، إنه أول أيام العطلة الصيفية، تذكرتَ أمس والأيام السابقة والشهور الماضية، تذكرت الفصول الأربعة، نظرت إلى وجهك، المرآة بدت غير أليفة، أظهرت الشحوب، الوقت يمر ببطء، عليك أن تتعود البعد عنها وتصبر، تحسُّ بالألم في صدرك، أحسست بوطأة الوقت، بعد الإفطار شعرت بحاجة إلى رؤيتها، أتذهب إلى بيتها، أم تقف قريباً منه؟ يكفيك أن ترى وجهها وترجع، قادتك قدماك إلى حارتها، ازدادت دقات قلبك، تحسب ألف حساب لرؤيتها، جسدك يرتعش، هل هذا موقف رجل مثلك؟ الحب أعادك إلى طفولتك وطيشك، نسيتَ من أنت وأين تعيش! وأن ما بينك وبينها علاقة لا تسمح لك بقرع بابها ولا انتظارها في الشارع أمام البناية التي تسكنها، أشعلتَ لفافة ووقفت على الرصيف المقابل لشقتها، مضت دقائق شعرتَ أنها ساعات، خانتك قدماك وعدت من حيث أتيت وأنت أشد حزناً.‏

    بعد يومين ذهبت إلى الموعد قبل نصف ساعة، شعرت بألفة المكان ومحبته، وددت لو تحتضن حتى محتوياته، على الطاولة التي ألفتماها جلستَ تنتظر، عيناك تراقبان القادمين، هل تأتي قبل الوقت أم تتأخر قليلاً؟ أي الفساتين ستلبس، ربما الأحمر لتشعل بفؤادك حريقاً، لا تطفئه رغوة الإطفاء ولا مياه المحيطات، كلما دخلت واحدة تظنها هي، تشرئب نظراتك وعندما تتأكد أنها ليست هي تحزن، وتراقب من جديد وقلبك يقفز داخل القفص الصدري ككرة القدم، عاجز عن إيقاف هديره، أخيراً جاءت قبل دقائق من الموعد، ابتسمتَ ودققت النظر بقوامها، إنها الأجمل والأبهى، كل شيء فيها تغيّر، وقفت لاستقبالها، طفل لا يجد كلمات الترحيب لروعة قدومها، جاءت وكل شيء فيها عذب وشفاف، يتماوج قوامها، خصرها، شعرها الذي ردته على كتفيها، وهي تقترب متمايلة دلالاً، بدا جسدها الطفولي رشيقاً، عقدت منديلها على جيدها لتغطي جزءاً من عنقها المرمري، حيتك وجلست، تسللت يدك وضغطت على كفها، قالت:‏

    - أكثر من زميلة رأتك توصلني للمدرسة في آخر يوم دراسي!‏

    - ما الغرابة؟‏

    - سألنني فأحرجت كثيراً!‏

    الألحان ترتعش في كفك، عيناها تشعان، نظراتهما المرحة تجذبك، لونت مسحة من الخجل والألق خديها، فبدت شبيهة بثمرة ناضجة، حولت عينيك إلى مرآة، تحدق فيهما، تقرأ أسرارك، طيفك قابع في رأسها طوال الأيام الماضية، إن غبت تستحضرك، لم تشبع من رسمك في عينيها، من محاولات رسمك على الورق، ما زالت أناملها الرشيقة غير قادرة أن تطبع صورتك، كل مرة تكتشف أن شيئاً ما ينقص الصورة، تدقق النظر إلى تقاطيع وجهك، هي متأكدة أنها ستنجح أخيراً في رسمك على الورق.‏

    حدثتك عن همومها، عن أمها ورؤيتها للحياة والزواج، وهي كفتاة لا تكتمل موافقتها إلا بعد موافقة أمها، حزنت للتعبيرات التي تطلق على الحب، إذ صار وجهاً آخر للعلاقات الاقتصادية والجنسية، حدثتها عن همومك وتطبيقك للعقوبة التي فرضتها بحقك، لن تراها إلا مرة كل أسبوع، وفي أحسن الحالات مرتين، أمر لا يطاق ولا يصدق، مرت الأيام الأولى من العطلة الصيفية ثقيلة، تعد ساعاتها، لو كانت بقية الأيام على هذه الشاكلة فلن تنتهي العطلة إلا وفقدت وزنك، سعيدة بشكواك، ألا يدل هذا على مكانتها عندك؟ تعرف هذه المكانة، لولاها لما حدثتك بأسرار هلا وطلبت مساعدتك، ماذا تفعل وأنت تعلم أن الذي يحب لا يرفض طلباً؟ عنتر أحضر النوق العصافير من غير بلاده مهراً لعبلة، من السهل على فرات التأكد من حبك، لها أساليب فيها مكر جميل، تتدلل وتتطلب وعليك التنفيذ، ألا يعني هذا تتويجاً لنزعة تراودها وتفكر باستعادتها؟ تشعل الحرائق في دمك، تشعل براكين الشوق، تذري الرماد، تشعر أنك تائه دونها، تعيش فوضى الذكريات، العطلة هيأت طبيعتك إلى الهيجان، وأنت بحاجة إلى هدوء، إلى لحظات صفاء تستعيدها، الصغار بشغبهم حولوا الشوارع إلى ملاعب، يعكرون عليك مثل هذه اللحظات، كل يوم يمر يحيل واحتك إلى صحراء، كان لابد لغابات قلبك أن ترتوي من طلتها، من أنفاسها، من عطرها لتظل خضراء، كل ما في روحك ساكن، جسدك يتوجع، والقلب يعج بالصراخ.‏

    لم تطلب إليها أن تقول شيئاً، تحافظ على ما هو جميل بينكما، تدفعها أن لا تستسلم، أن لا تدع الأيام تمر هكذا، أن تأخذ حصتها من الحياة، الزمن يعطي وفي لحظات معينة يأخذ ما أعطاه، الدموع نقطة ضعفها وقوتها تهل لتجد ذاتك أسير الفضة على جسدها البلّوري.‏

    -26-‏

    عاد الوقت الهرم غير المحتمل إلى طفولته وصباه، وشطب ما ضاع من أيام، دروب الأمس غير دروب اليوم، تقفين أمام المرآة نصف ساعة ترتدين لباسك، وتصففين شعرك، تشعرين بقوة عزيمتك، وترسمين بأناملك الفتية اللمسات الفنية على وجهك وجسدك، تبدين أنيقة، تحملين حقيبتك وتخطين خطواتك المتزنة التي توحي بالثقة، لتعوضي ما فات من أيام السجن، بعد أن تأكدت أن غريمك الصلصال معتقل، تنهين فترة القحط التي سافرت عبر الزمن، تخرجين يلفك عطرك، صبية لا تتعب ولا تحسب حساباً للوقت.‏

    مع بداية خطوات النهار تحتضنين الأشعة وترسلين مع ابتسامتك عبقها إلى كل مكان تصل إليه، تتجولين في الشوارع والأحياء البعيدة عن وسط المدينة، حيث الشوارع العريضة والأبنية الفخمة المسورة بالياسمين البلدي الأبيض، يبدو زهره على حديد الأسوار أشبه بتعاقب الليل والنهار، في بعض البيوت أشجار الأكيدنيا التي تستعد للإزهار بعد أيام لترتدي حلتها الجميلة، تبدين فتاة عصية على الوصف ذات مزاج متقلب، مرة رأسك يؤلمك، وفي مرات أخرى يثرثر ويشعرك بالخوف، هذا اليوم استثناء من حياتك، تكشفين طعم الحياة، نسمات حارة توشوش وينبئ اشتدادها عن حالة غير مستقرة للطقس، تدخلين ازدحام الشوارع، تلاحقك الجمل والكلمات تعبيراً عن إعجاب أو قلة حياء، المراهقون وبعض المتصابين يلحقونك، يعلقون، تتجاهلين ما تسمعين، يتمادى أحدهم ويحسّ كوعه بصدرك فيكاد يمعس نهدك، تشتمينه وتبادرين إلى صفعه، يجتمع الناس ويحيطون بكما، يتدخلون لصالحك دون أن يعرفوا الموضوع أو الإشكال الذي حصل، ينظرون إلى عينيك وفي نيتهم اقتطاف ابتسامة أو موعد، إلا أنك تتابعين سيرك دون أن تلتفتي، نسيت ما حصل، شعرت أنك جزء من الطبيعة، توحدتِ بما حولك من جمال، تحفظين الألوان في عينيك، الحياة جميلة وعليك أن تنسي لتظل ابتسامتك مشرقة، أنت كأية فتاة أملود تحاصرك الأعين أنى ذهبت، في السيارة يضطر جسدك اللدن ورشاقتك إلى الابتعاد عن الازدحام والوقوف إلى جانب فتاة، لكن هذا لا يعفيك من المضايقات، أحياناً يضطرك التدافع إلى النزول قبل المكان الذي تريدينه، يتواطأ بعض الشباب يضعونك وسطهم، مع ميلان الباص يقترب أحدهم ويلتحم بجسدك في وضع شاذ، إذ قد تجدين نفسك في حضنه، الأنفاس تضايقك، تحسين بالقرف والتقزز، يتصبب العرق وأنت تجاهدين للوصول إلى الباب والنزول.‏

    عرفت فرات حالتك الجديدة وإصرارك على التمتع بمناظر المدينة والطبيعة، وصهوات المجد التي تحاولين صعودها، قالت في ذاتها: «إنك تعوضين ما فاتك، ويحق لك يا هلا أن تفعلي ما تشائين».‏

    لليوم الثاني تغذين السير في المدينة، تقطعين الأحياء القديمة مشياً، تتمتعين بمنظر البيوت المتصافحة ذات الألفة، من برج الروس سرت باتجاه باب توما ومن هناك إلى النوفرة والقباقبية والصاغة القديمة، وفي اليوم الثالث تجولت في سوق الحميدية، واسترحت في الجامع الأموي ثم إلى الست رقية فالعمارة وفي اليوم الرابع والخامس... بعد أسبوع اشتقت إلى الأحياء الحديثة والشوارع العريضة والحدائق المبتسمة، استخدمت سيارات النقل الداخلي في تنقلك من حي لآخر، تريدين أن تتفقدي أحياء دمشق وتسلمي عليها.‏

    في أيلول افتتحت المدارس أبوابها، وبدأ عام دراسي جديد، الأيام تعود أجمل مما كانت، في اليوم الأول شعرت أنك بين أخواتك، المدرسات يقبلنك ويسألنك، وأنت سعيدة باهتمامهن ومحبتهن، تقبلت تهنئتهن بنجاحك في الجامعة وعودتك إلى التدريس، تفيض أرواحهن بالمرح، تعلمت درساً من تجربتك، دفعت ضريبة جمالك، اللواتي مثلك إذا وقعن لن يجدن من يعينهن على النهوض، ما بك تستحضرين مأساتك؟ تحسين بتعب وإرهاق، تحيلينها إلى الإهمال، يقذفها الدماغ إلى مكان قصي، لتستقر في جانب خفي لا يستنهض حزنك، إن مجرد تذكرك يجعلك عرضة لآلام عميقة ووخزات في القلب، الأولى أن تقومي بواجبك اتجاه أهلك، تقررين زيارة قبر والدك، ستصارحينه وتطلبين مشورته، وبما أنه يثق بك وبأخيك حسن قد يحيلك إليه، لا غنى لك عن أخيك، لن تشغليه بموضوعاتك، هل يغفر لك تحت أية حجة أو مبرر؟‏

    الذكريات تضعك في الماضي، تشعرين بالقهر، يملأ البكاء ملامحك، ضفاف الحزن تجرفك، تجرعت الكأس، أتدمرين نفسك وتقتلين روحك؟ ما الذي سيحدث لا شيء سيتوقف، سيسير المركب دونك وسيخيم الليل ولا خاسر إلاك، تدفعين دموعك إلى خدك، ما فائدتها وأنت تنطلقين ثانية؟ تشمين عبق الحياة، تولدين من جديد، كما يولد الإنسان بعد إخفاقه أو نجاحه، تصارعين خيوط العتمة، تفيضين أنساً وجسدك الخفيف يحملك إلى السحاب، حيث تحلقين في أجواء عطرة، عيناك المرحتان تشتعلان بالحب، أنت في حلم تستعذبين استمراره، في شوق للحياة، روحك تحلق ولن تنزل إلى الأرض إلا لحظة تتوحد بجسدك، لابد لها من أن تكتشف المجرات الأخرى، لتسكن جنة إحداها.‏

    ذهبتِ إلى صالون الحلاقة، قصصت شعرك، عانقت نهاياته المنكبين مشطته وتركت بعض ذؤاباته على جبينك، غرة منسقة تغطي ناصيتك، يخيم الشعر على جبهتك أشبه ببيت شعر تواقعه الريح، تعرت السماء من شموسها وأوقدتها في الليل المتهاطل على كتفيك، جسدك يرقص حبوراً، خلدت الريح للوسن، سكرت من جمالك، لمعت البروق وعبق المكان بالمسك والخمرة، نبتة زاهية تهفو إليها الطيور تعشش بين أفنانها وأوراقها، عيناك الواسعتان ترسمان دروب الحياة، تبدلان صورة المدينة، كم رائعة هذه المدينة التي خفت من أناسها وشوارعها! الأشجار لا تموت إذا حنت جذعها للريح، إذا بدلت أوراقها، كلمات فرات تبدل حياتك، تجعلك فراشة تهيم فرحاً، تستعيدين طفولتك المصادرة، ومجيئك أول مرة إلى العاصمة، يوم بدا لك كل شيء غريباً، الشوارع، الحارات، الحدائق، طيور الحب التي ترفرف في سمائها، سألت عن أسماء الشوارع والأحياء والأسواق، لم تجدي لبلدتك أو محافظتك أي ذكر، لم تتخلصي من خوفك إلا بعد أن سكنتها، وجدتها أليفة، بل أجمل مدينة في العالم، نظرت إلى ذاك التل واحتضانه البيوت القديمة والسيارات والعمارات الشاهقة، سمعت عنه وعن أجداده أساطير وقصصاً ليس لها آخر عن ولادته من رحم إلهة كنعانية، في الليل ومع النسيمات المعطرة بالياسمين، يتحدث عن أخبار المدينة العاصمة التي لا تظلم أحداً، حتى الفاتحين وجدوا فيها الأمان.‏

    شدكِ الجبل بعنفوانه، بتاريخه العريق، قررت خوض مجاهله والصعود إلى بعض أحيائه، اتجهت إلى حي الشيخ محي الدين، قصدت بيت الناعورة، صعدت بصعوبة الدرج اللولبي الضيق، بدا عليكِ وعلى الناعورة التعب، ثمة ما يشير إلى أنها أدت دورها بشكل رائع، رفعت المياه أجيالاً متعاقبة، وحافظت على هيكلها، هي من جملة نواعير عفا عليها الزمن، من هناك استأجرت سيارة نقلتك إلى نقطة توصلك إلى جبل الأربعين، مشيت حتى وصلت إلى كهف ما زال صورة عن عصر حجري، عن قلب حجري، علامة أبدية وشهادة على رفض القتل والجريمة.‏

    شعرت أنك شجاعة أكثر مما ينبغي، كيف تزورين أماكن مهجورة وحدك؟ لماذا لم تدعي حامداً وفرات؟ بعد تفكير رأيت أن دعوتهما إلى مثل هذه الأماكن عقوبة، لابد من نزهة تليق بهما، سبق وحدثت رفيقتك في طريق عودتكما من البحر عن ذلك، حاولت فرات ثنيك، أخبرتك أن ما فعله حامد واجب، لا شيء أجمل من كلمة شكر صادقة، أصررت على طلبك، ستكونين سعيدة إذا لبيا دعوتك، وضعت صديقتك في موقف يصعب عليها رفضه، خاصة وأنت خارجة من معركة مع الذات ومع المجتمع والقيم، اتفقتما على اليوم والساعة، لتفاجئاه بقراركما الذي لن يرفضه، لا يملك مثل هذا الحق، لن يقول إلا موافق، وسيجدها مناسبة يجتمع فيها مع من أحب أطول فترة ممكنة، أين يمضون يومهم في دمشق أو في الغوطة أو في مكان آخر؟ استبعدتا الغوطة، لأهلها عاداتهم، من الصعب أن يسمحوا بالغزل والحب في أرضهم حتى لزوجين، فكيف لفتاتين برفقة شاب؟ توجهتا بالسؤال إلى حامد الذي اقترح بلدتين معلولا أو صيدنايا، فرات تفضل معلولا وأنتِ تؤيدينها في تفضيلها.‏

    التقوا صباح اليوم التالي في مركز انطلاق سيارات القلمون في الزبلطاني، ركبوا في الحافلة التي اختارت طريق دمشق حمص، عند خان العروس انحرفت يساراً في مفرق صاعد يستمر ارتفاعه حتى ألف وستمئة متر، مروا على أراض جرداء مقفرة متماوجة، تلال على الجانبين وسهول معظمها غير مزروعة، مراع بكر، وصلوا إلى هضبة تقف كالجدار، اخترقتها السيارة لتنفتح أمامهم شيئاً فشيئاً معالم الحياة، وما هي إلا دقيقة أو أكثر فإذا بهم في حضن بلدة قديمة، بلدة كأنها أنزلت بطائرة مروحية، انتشرت عند مدخلها وقربها بعض شجيرات العنب وكروم التين الهرمة التي تتقصف أغصانها، طرق ترابية على جانبي الشارع العام توصل إلى أراض مزروعة حديثاً ومنطقة مفتوحة تحدها المرتفعات، تتخللها ممرات ضيقة ومتعرجة بعضها مسقوفة، على جانبيها بيوت مبنية جدرانها من الحجارة، أما أسقفها المائلة فمن جذوع الأشجار المكسوة بطبقة من الطين المجبول بالقش، هذه «معلولا» التي وصلوها بعد ساعة من انطلاقهم، تبدو الطبيعة متناقضة، منفتحة ومغلقة في الوقت ذاته، إحساس بالوحشة والألفة، وكما ترافقهم الوحشة فإن أماكن جديدة تتوالد ترحب بهم، كهوف ومغاور وطبيعة متمردة حاولوا استنطاقها، وصلوا إلى الشق الذي على يمينهم، الأرض مشبعة بروح الله وقدسيته، تفتح صدرها وتباعد ما بين يديها، يمرون في الانهدام، يشمون رائحة بخور معتق، بخور من آلاف السنين، حيث امرأة كبحت أنوثتها وصنعت أسطورة، فكانت بطلة هذا الفج، الذي جعله الله سالكاً لنجاتها، مع الزمن تمدد ليصل إلى الهضبة، حيث الصخور التي تتلقى النسيم العليل وندى الصباح وعذوبته على مدار السنة، طبيعة منكسرة ترتفع تارة وتنبسط أخرى محتفظة بصخورها في أعلاها، هذه الصخور التي عايشت الناس منذ آلاف السنين، بدت أليفة لا خوف من تدحرجها، حتى ولا من زلزال، إلى يسارهم البلدة القديمة التي تتسلق الجبل بأزقتها وأبنيتها، وكأن كل بناء يهيء للذي يليه، ساروا داخل الشق الموصل إلى دير القديسة تقلا، ومن هناك امتطوا المناطق الزراعية والهضاب.‏

    الطبيعة غافية، أيقظتها رائحة الأنوثة والأحاديث الطرية، صحا كل شيء، فإذا الرياح تغرد، العصافير طائرة تزقزق، تهرب لتعود ثانية في حركة رياضية، الطبيعة مليئة بالتطريز كثوب أم حامد، توجهوا عبر المناطق الزراعية والأراضي الوعرة، حيث أوصلهم المسير إلى دير مارسركيس ذي البوابة المستطيلة المصفحة بما لا يقل عن مئة مسمار ذي طبعة مربعة.‏

    طافوا في شوارع معلولا وأزقتها، ما بين ترحيب الأهالي وابتساماتهم ومرح الطبيعة، شعروا أنهم في حضرة التاريخ، في حضرة أجدادهم، خاصة وهم يرون الأزياء القديمة. يتحدث الأهالي بلغة غير مفهومة لهم، إلا أنها غير غريبة على أسماعهم، سألوا عنها، فعرفوا أنهم يتحدثون السريانية بطلاقة، بعد الظهر توجهوا إلى مطعم صغير يقع في واجهة البلدة، فيه عدد من الطاولات وعاملان، أحدهما يلبي طلبات أربعة سياح، على الجدران ثلاث لوحات، الأولى للسيدة العذراء، ولوحة تمثل صلب السيد المسيح والثالثة منظر عام للبلدة، بجانبها ترخيص صحي، خلف الزجاج سحب متفرقة تغزو السماء، وشمس خففت كثيراً من وهج حرارتها، شدتهم التغيّرات الجوية، تحدثوا عن الخريف وتقلباته، جاءهم النادل بقائمة المأكولات، طلبوا وجبة غداء، بدوا فرحين يتبادلون المزاح وهم في فرح عارم، تناول حامد قطعة لحم وقدمها إلى فرات، نظرت إليه تستهجن ما يقوم به، احمرّ وجهها وقالت: أنا أتناول بيدي!‏

    - خذي أيتها الجميلة!‏

    ابتسمت هلا وطلبت إلى صديقتها أن تعامل حامداً بالمثل، وتقدم لـه الطعام بيدها، بخجل تناولت قطعة لحم وقدمتها، تناولها وحاول قضم أصابعها بحركة متعمدة وهو يحدق بعينيها، نظرت إليه وقالت: آخ يا متوحش!‏

    تأمل فرات سماع المزيد من تعليقاته، إلا أنه صمت، عيناه تفيضان بالتساؤل تائهتان فيهما قلق ورغبة في إبداع الحياة من جديد. غادروا المطعم وحامد وسطهما، أسرعت إلى الفج مهرولة أمام فرات وحامد: "إلى أين؟"‏

    ابتعدت عنهما، تجاهلت السؤال وصار من الصعب اللحاق بك، علقت فرات: "آه يا ملعونة!"‏

    على بعد أمتار من بداية الشق جلس يحدق إلى وجه فرات، من بعيد صوت فيروز «بكتب اسمك...» حفر اسمه واسمها بخط أنيق وإلى جانبهما رسمت قلبين متعانقين، وضع يده فوق كفها بعد أن أكملت الرسم، كل شيء فيها متفتح وناهض ورشيق، بدا الخريف ربيعاً، نظر إلى بؤبؤ عينيها، الربيع في عينيها وابتسامتها، كل الفصول في فوضى وارتباك.‏

    نظرت إليه وبدأت تحدثه عن الأيام التي تنتظرهما. تقف دموعها في مقلتيها. شيء ما يفتت أعصابه، يشعل النيران في دمه. عيناها سحابة تغسل القلب وتنقيه. احتضنت النسيمات بعض القطرات المنحدرة على خديها. الشمس تقبل الجداول برفق، فتبدو ألوان الطيف متراقصة: "هل للغيوم مخاض آخر بعيداً عن عينيك؟ أرثي سماء تستجر مطرها، تعاني المحل على الرغم من اتساع البحار."‏

    سارا صامتين، في أعماقهما يشتعل الحلم. خيالها النشيط يجعلها تهيم في عالمه. يولد صوراً رائعة ونشوة تسكن جسدها. تحس بالدفء، بالمرح يتغلغل في كيانها، وتنساب تاركة إياه في حالة ارتباك. الأرض غنية معطاءة، خصبة كالحلم، كالخيال، كجسدها الرشيق الذي يفيض أنوثة. السماء تغازل اليابسة بالنتف الرمادية التي تفقد شكلها وذاتها لحظة وصول الشمس إلى منتصف القبة، لتنشر نورها وتبدد ما تبقى من غمام. لِمَ لا تهرب فرات ما دامت أمها ترفض خطيبها؟ هيهات أن تتوحد والأميرة تقلا على الرغم من أنهما من نبع الجمال ذاته. عقليتهما وتفكيرهما مختلفان! طلب إليها أن تتوقف، فهما ليسا في سباق الضاحية، لن تنال أية جائزة، حتى ولو ابتعدت عنه ميلين، ستظل مشدودة إليه، ثمة خيط يربط قلبيهما:‏

    - قفي أيتها اليمامة، دعينا نرتب حياتنا كما يحلو لنا، لقد ذهبت الأيام الموجعة، وفردت الشمس نورها على الدنيا، لا تحاولي إغماض عينيك. الكواكب ترقص والشمس تغني، لونت أشعتها ابتسامتك بندى الربيع وقوسها الرائع، تنظرين إلي وتبتسمين، ألسنا قادرين على جعل الحياة جميلة دائماً؟‏

    - لا تعدني إلى الواقع، دعني أسبح في المجرة، دعني طفلة تلهو، أعيش الحلم والخيال!‏

    - لا تهربي يا عصارة الورد، ضعي يدك في كفي، لنخلق ابتسامتنا التي لا تستطيع كل نكبات العالم أن تمحوها، ألا تحسين برقص الطبيعة، بمذاق الفرح وتشكله في ذاتنا؟‏

    حركت كلماته داخلها. الماضي في عينيها غيمة عاقر وغير قادرة على فرد أجنحتها، وتحويل القطرات المنسكبة إلى مطر وخصب. تحفر في الذات مجراها، تتوضع في داخلها الألوان القاتمة، تظهر على تقاطيع وجهها الباكي، تقاطيع تسبح في عالم الحزن والقهر، فتبدو عصية على المرح. الحياة تطعن الطيبين. يهزل الحق. الصراخ والعويل لا يهدم الجدران السميكة. تهرب النجود والسهول، شيء ما يفتت صدرها الفتي ويلتهم فؤادها، تحزن حين تتذكر أبا سبحة صاحب الوجه الجميل الذي ترك بصمته على حياتها. منذ خطوبتها غيرت الكثير من عاداتها، تخلت عن سفورها، اقتنعت بالمنديل تدليلاً على حسن نيتها، غطت ثلاثة أرباع شعرها، تركت الخصلات الأمامية تغازل جبينها ونهاياته تتكئ على كتفيها، وهي كأية فتاة شرقية إذا اعتادت على شيء يصير جزءاً مكملاً لشخصيتها، لا تستطيع التخلي عنه بسهولة، فكيف إذا كانت تميل إلى ترويض ذاتها على الأسوأ وقبول الواقع بعجزه؟ الأزمات لا تزيدها إلا رضوخاً و إذلالاً. قوانين المجتمع وأعراف الناس تفرض عليها أن تعيش مقهورة، وترضى بالقسمة والنصيب، وألا تقول أف!‏

    تتلاعب النسائم بقميصها، تعانق محياها. تفتح ذراعيها وتطير عبر دروب العشق، تتدفق الكلمات إلى فمها وقبل أن تنطق يناديها. يطلب إليها الوقوف. يتأمل وجهها وصدرها وباقي تقاطيع جسدها. يجفف عرقها. الدم يتدفق إلى وجهها، يتورد كفتاة صفق لها زملاؤها. تحني رأسها. أناس يمرون من هناك، تمشي. قوام بديع متناسق كما لو أنها ذاهبة لتأدية حركات بهلوانية. يتراجع قليلاً ليأخذ لها صورة. عيناه تدققان في مباهج جسدها، صدرها وساقيها وردفيها. تحتضن الكلام الجميل. غزل يجعل هامتها تكتشف المزن، تكتشف أنها أجمل مما تتصور، تكتشف لحنها الرائع، تتوحد مع الجمال، النسمة تصير ألطف وأنعم على صدرها. ذبَّلت عينيها. أنثى معجونة بالحياء، خداها تفاح عرنة التي تتسلق جبل الشيخ. في روحها إصرار على أنها أميرة الجرود. غادرت الغيوم وبدت النجوم لامعة في عينيها، قال:‏

    - أحسست أن النسيمات التي انطلقت، قد حملت معها أروع رسم تتباهى به، وسيرى القادمون بعد عام وفي مثل هذا اليوم تمثالك، تمثالاً من هواء!‏

    - أنت اليوم شاعر! ذهب خيالك بعيداً، لماذا لا تقول إن النسيمات قد حفظت كلامنا وستعيده وسيسمعه القادمون إلى هنا بعد عام!‏

    - رائعة، سبقتني إلى هذا التصور، عندما تهب نسيمات عليلة حنونة، ستسمعين غزلاً تعيده ذرات النسيم، وترين صورتك لثوان حيث وقفنا!‏

    شعرتما أن الرياح احتفظت بهذه اللقطة التي لن تتركها أو تتخلى عنها:‏

    - مجنون يا حامد!‏

    - من يقترب منك ولا يصاب بلوثة ليس إنساناً!‏

    اقترب منها، احتوى خصرها بيده، جذبها إليه وقرب شفتيه من فمها، ابتعدت عنه محذرة أن يراهما أحد.‏

    النسمات تجعلهما أكثر انتعاشاً وحيوية. ابتعدا أكثر عن عيون الناس. أمواج البهجة لم تتركهما، سارت معهما طوال الوقت. فرات ذات مزاج غير مستقر، تقسو عليه، تهرب من أسئلته، من نظراته، صارحها بحبه ونظرته للمستقبل، ردت بنظرة متشائمة، مهرة غير قابلة للترويض، قعدا على الصخور كقديسين، تململت في جلستها، ابنة مدينة تخاف الأماكن المقفرة، فرت من بين يديه، لحق بها، غطى عطرها ووجودها المكان، فصار للمكان والزمان طعم آخر، تنتعل خفاً من المطاط يساعدها على الرشاقة. تركض أمامه. تبددت ظنونه ولم يقطف ولو قبلة. حافظت على فاصل بينهما، سعيدة بحركاتها، بالنزهة. تصغي لحامد حين يطالبها أن تفتح قلبها أن تقول كل ما عندها، أن تكون جريئة تفرض رأيها، تجابهه والدمعة على رمشها. تشكو التربية التي تجعلها عجينة في يد أمها، لا تستطيع أن تقول شيئاً، حاصرها بأسئلته، بعجزها عن الفعل، بالذريعة التي تحتج بها، قالت: "دعني أحلم، ابعدني عن الواقع، أنا حائرة، أأسافر أم أبقى؟ لن أخفي عليك أنني تلقيت رسالة قصيرة من أخي."‏

    «العزيزة فرات:‏

    كلما مرّ الزمن أشتاق إليك، أنت وشقيقتي ووالدتي، أنتن كل ما تبقى لي من هذه الدنيا، تأثرت كثيراً للتجربة التي مررت بها، ألم يكن من الممكن تجاوزها؟ سامح الله ماما، الآن أستطيع أن أدعوك لزيارتي والإقامة معي، يمكنك أن تتابعي دراستك هنا في أية جامعة، والعيش دون تعقيد، هنا كل شيء متوفر، لا أزمة على المواد التموينية، ولا أزمة في التعامل، لن تعاني من الأزمات التي حدثتني عنها... أنا بانتظار رسالة منك لأبدأ بالتحضير لإجراءات سفرك كالتأشيرة وغيرها».‏

    بقية الرسالة لا تهمك، هل عرفت الآن ما أنا فيه، أنا بين نارين، بين خيارين، أيهما أختار؟‏

    - ألم تحسبي حسابي؟‏

    - أنت ألمي وفرحي، أنت من يدفعني للتردد، وإلا لكنت أبلغته بقرار السفر!‏

    جاءت هلا وانضمت إليهما عند الصعود إلى السيارة والعودة إلى دمشق.‏


    يتبـــــع
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    للنشر
    الإدارة
    للنشر


    المشاركات : 3446
    . : ملتقى نور المصباح الثقافي

    غرباء منتصف الطريق ـــ عوض سعود عوض  رواية ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق – 2006 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: غرباء منتصف الطريق ـــ عوض سعود عوض رواية ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق – 2006   غرباء منتصف الطريق ـــ عوض سعود عوض  رواية ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق – 2006 Icon_minitime15.05.12 2:24

    -27-

    قررت أن تعلقي صورة والدك مقابل سريرك، هذه الصورة التي رسمتها بريشتك عزيزة عليك، ستشاورينه في كل أمر، سيهبك قوة تواجهين بها الحياة، من الطبيعي أن تستمري بزيارة قبره وتحدثيه كلما ضاقت الأيام في وجهك، وتظلي إلى جانبه ساعات تطلبين رأيه السديد.‏

    حرمت نفسك من الخربشات الرائعة التي تصنع لوحة، هل تعودين إلى الرسم وتشعلين البراكين التي خمدت؟ أمك تقف في طريقك، هل تتجاوزين آراءها وترسمين المكان الذي تحلمين فيه وزمانه؟ الغيوم المسافرة والأفق الذي يعطي أفكارك رحابة؟ تدهمك رائحة المجاري وعفن الأراضي التي ترتوي بها، تغلقين النوافذ، تسدين أنفك وتمضين:‏

    - الأنف يا فرات يشم عبق الغوطة وورودها، لا تدعي الروائح الواخزة تميت كل جميل فيك!‏

    - أنت تشعرني بالحياة يا حامد، لولاك لدفنت جسدي وروحي.‏

    - أنت شجرة تورق وتثمر من جديد.‏

    - بل أنا شجرة جردها الخريف من عناصر الاستمرار.‏

    من يوم أعتم النهار، أخرجت كل الأحلام من صدرك، ارتحل عنفوان احتضنه جسدك، سافر ذاك البريق المشع من عينيك، وتبخرت أنوثتك حتى غدوت فتاة تتسول شخصيتها. تكره النظر في المرآة حتى لا تذكرها بجمالها الضائع. صرت كالمياه الراكدة. شعرت بثقل الماضي. تخلصت في البداية من ذاكرته، من هلوساتك، من طبقة العفونة، من تجاعيد الزمن والمعطف المهترئ، تتمزق الوجوه التي ترتدينها، ترتدين ثياباً جديدة ووجهاً جديداً، شعرت بأحاسيس وقلق، أيكون الحب الذي تحرك داخلك؟ تحملين روحك على راحتيك، تحاكين الطبيعة، تغازلين الزرقة وتتماوجين مع الخضرة، تهيمين كالفراشة التي لا تقدر على التفريق بين السماء والماء، تتبدل التعابير في عينيك، تكشف تعبيرات وجهك عن داخل قلق وأيام مجهولة، وهذا لم يمنعك أن ترسمي لوحة جميلة مناقضة للمستنقعات، لوحة لمدينة، لشوارع عريضة، لواحة. خيوط فضية فتحت كوى. عواطف تداعب شرايينك. تبحثين عن أبجديتك. ذاكرتك تسبح. فؤادك يمنعك من النوم. يقظة تبحرين في عوالم سريالية. تتركين الرياح والأوهام تستنزفك من الداخل. صحوت على صوت عواء. استنهضت ذاتك وبقايا عنفوانك، ونظرة الآخرين إليك. تحملين شهادة الدراسة الثانوية. أنت معدة للفراش والمطبخ حسب تفصيل الثقافة المطلوبة من أية أنثى ستتزوج. هل هذه هي الثقافة التي حلمت وتحلمين بها طوال عمرك؟ اعتقدت في بداية حياتك أن معادلة الثقافة والجسد لا يجتمعان ولا يتفقان. الاختيار صعب، إذ يظل نداء الجسد هو الصوت الذي لا يعلو عليه أي صوت آخر. الآن تدركين أن بينك وبين الكتاب مسافة من الصعب تجاوزها، عليك أن تنهلي من ينابيع الثقافة في ظل أحد الخيارين اللذين طرحتيهما كبديل لهزيمتك، السفر إلى الخارج للدراسة أو الخطوبة من حامد الذي هاجم حياتك وأخذ نصيبه من الانتباه والاهتمام. وانتصاراً لخيار والدك الذي كانت أمنيته أن يراك كبيرة، تزينين دمشق بعلمك وفنك، تكبر بك وترفع رأسها، تفضلين إتمام دراستك.‏

    عالم الأنثى يحيرك، أنت في الغوطة أنثى عليها واجبات أما الحقوق ففي عالم الغيب. تاه خيالك في هذا العالم، في الأم التي تضطهد ابنتها. حفظت تقسيمها لبنات جنسها، فالنساء حسب رأيها ثلاث، واحدة تعشق لتتزوج، تقيس خطواتها وتصرفاتها وكل كلمة تتفوه بها، كلما لانت تتذكر أنها ستكون زوجة، فتكبح جماحها وتعود إلى طبيعتها، أما إذا فقدت الأمل، فإنها تدوس على قلبها وتقطع علاقاتها غير آسفة على شخص لا يقدر عظمتها، تبحث عن غيره مسلحة بتجربة لتكون أكثر دهاء فارضة سلوكها على سير العلاقة، أما الثانية فتعشق لترضي غرورها. تمشي مع عشيقها وتلاطفه طالما هو في نظرها الأفضل، مزاجية الأهواء، معطاءة وقليلة الشكوى لا تعرف الحزن، جسدها فاكهة وأغنية، الحياة معها قصيرة، هي في بحث دائم عن الأفضل. وثالثة للذتها، جسدها شارع إشارته خضراء في أي وقت وتحت أي ظرف، تفجر ينابيع المتعة، فضاؤها خصب وثغرها مبتسم.‏

    طمح والدك ألا تكوني من أي منهن، أن تكوني خارج التصنيف، متمردة وفنانة كبيرة، تقولي بلوحاتك ما لا يستطيع قوله أعتى الرجال. تقفين أمام صورتك تسألين، من أي النساء أنت، عليك أن تقرري بمحض إرادتك من تكونين. تفرضين ذاتك، تتوقين ألا تكوني من الثلاث، وأن تكون في المستقبل تصنيفات أخرى للمرأة.‏

    تتحصنين بماضيك، تستنجدين بأسرتك العريقة، تحلمين بإعادة بناء المجد الذي تلاشى بوفاة والدك، وقد يطغى هذا الحلم على ما عداه، إذ كلما حققت معادلة ذاتك، تتوقين إلى ذاك العالم الذي تتفوقين فيه على العائلات المثيلة لك، تسألين عن تدني مكانة أسرتك الاجتماعية، تحارين في أسباب ذلك، أهو الرحيل إلى الغوطة أم المال أم العلم؟ جادة في إعادة ما سلب، لن تتهاوني ولن تستسلمي للزمن. يمامة تعشق الفضاء والنور يصعب صيدك، تفرين لدى رؤيتك للصّياد، وأحياناً يدفعك خيالك للتحليق، يعيدك الواقع إلى مرارته، تبحثين عن الزوج حتى كدت أن تغطسي في مستنقعه، من يومها قررت أن لا تظلي صحراء، زرعت النخل وأغلقت الدروب المؤدية إلى قلبك، تنتظرين الثمار وأنت تعلمين أن النخل لا يعطي في أعوام قليلة. لم تسمحي لأحد بتسلق نخلاتك، شباب اليوم يخدشون كبرياء المرأة حتى لو مرت من أمامهم، فكيف إذا أقامت علاقة مع أحدهم؟ لكنك التقيت بمن لا يخدش ثمارك وكبرياءك، يحترمك و يعاملك كقديسة، لم تتوقعي أن رجلاً مثل هذا موجود حتى في الأحلام.‏

    حامد نسف مقولاتك، أعاد لك إنسانيتك واعتبارك. كنت ضد إقامة أية علاقة، لكن الأمور اختلفت عندما اصطدمت بالواقع، شعرت أن الغشاوة التي تلفك تزول، وأن ما يحدث معك، يخرج على نطاق الذات وسيطرتها. عدت إلى بيتك، أحسست أن يومك مختلف، كل شيء بدأ يتغير، ماذا تريدين منه وماذا يريد؟ تطلعت إليه وابتسمت فبان الشعاع والألق اللذان عادا إلى عينيك.‏

    في الصف لم تستطيعي أن تعطي تلميذاتك أي درس في ذاك اليوم، كتبت التاريخ على السبورة، وطلبت إلى العريفة أن تسمع الدروس. في الحصتين الثالثة والرابعة كتبنه، وفي الحصة الأخيرة رسمن الورود. تضعين يدك على خدك وتسرحين، تسألين نفسك، كيف قبلت الورد؟ أأنت مهيأة لعلاقة غرام أو خطوبة؟ لقد حدث ذلك دون إرادة وتفكير، امتدت يدك وتناولت الوردات، ثم بدأ سيل من الأسئلة، ما نهاية مثل هكذا علاقة؟ أتحدثين أمك وأختك أم تتركين كل شيء دون تخطيط؟ أيعقل أن تنسجي علاقة دون تفكير، وأنت ابنة مدينة تحسب لكل شيء حسابه؟ سألت بطريقتك عنه وعن أهله، عرفت الكثير، المؤلم أنه ليس شامياً، وأن الاقتران به لن يشكل رفعة لعائلتك، تناسيت ذلك وبدأت تتهيَّئين للأيام القادمة، لتنامي الإعجاب الذي قد يجر إلى الخطوبة والزواج. فكرك يكاد ينفجر، لن تحملي عناء الإجابة، ستتركين ذلك للزمن. هل تورطتِ حين ذهبت معه مشاوير؟ لو لم تقتنعي أنه الشخص المناسب لكنت رفضت وروده، لكنه مع ذلك لم يأتك على ظهر حصان أبلق، جاءت عائلته مهرولة من الجليل، وهذا لا يناسب أمك وأنت لن تتزوجي دون موافقتها، وإذا لم تقل مبروك بالرفاء والبنين، ستظلين تراوحين في مكانك، شعرت أن معرفتك به هي بداية سلسلة من الآلام والأحزان، لا تعرفين متى ولا كيف تنتهي.‏

    -28-‏

    الغمام يتبرج، يبحث عن سماء لا بروق فيها ولا رعود، يهرب دون وعي، يضل الاتجاه ويتبدد في المجهول، يحسُّ بالضياع ويستعذب الفوضى والبكاء، إلا أنه بهذا التصرف لا يزرع الفرح، بل يبقي الحزن في الصدور، فبدل أن تبدو الغيوم وهاجة مضيئة فضية معطاءة، تبدو أشبه بقافلة من الغجر. يحزن القمر للعجاج الذي ملأ رئتيه، يغطي وجهه بكفيه، يحاول أن يبتعد عن الدخان، يحاول أن يفلت من الجاذبية.‏

    في هذا الجو الملبد حلمت فرات وهلا بحياة هانئة، مع من يستطيع انتزاع الأشواك من قلبيهما، ويعيدهما للمرح الذي هجرتاه. حلمتا بالحب، بصدر واسع يتسع لماضيهما، يغفر الهفوات، وكما يسكن الفرح في الصدور ولا يخرج، فقد أسكنت فرات حامداً في فؤادها، كالمزن التي احتضنت غناءها، آملة أن تتخلص من السواد. ظهوره مثّل بداية مرحلة جديدة في حياتها، ضخ فيها دماء جديدة، أفكاراً جديدة، خلصتها من عثرات الدروب، رش العطر في طريقها، عادت إليها حياتها وثقتها وتفاؤلها. فاجأتها هلا بنزيف فؤادها، وهروبها، وخوفها من الناس، من مجهول لا تعرفه، كلّ ما تريده أن يكف الجاني عن البحث عن ضحيته، تقبلت ما حل بها واعتبرته درساً.‏

    قررت أن تتجاوز آلامها، تعيد الثقة لروحها، لا طريق إلا هذا النهج، ما حصل أكبر من أن تتصوره أو تتقبله، لماذا لم يحصل إلا معها؟ لم تسلك يوماً الدروب الوعرة، حلمت بالتخرج لتتقدم لمسابقة انتقاء المدرسين، تُدرس مادة اختصاصها ويتحسن وضعها المادي، إن بقاءها مدرسة للصف الثالث حجر دماغها، لم تعد قادرة على تطوير أساليب التدريس، بحاجة إلى دورة إنعاشية، ومع ذلك كانت الحياة رائعة، الشمس تشرق كل يوم، ومع شروقها يبدأ العمل، تجاهد لتصل إلى عملها دون متاعب، وجوه زميلاتها كالورود والفراشات، كلهن في سن العشرينات أو بداية الثلاثينات باستثناء المديرة التي تجاوزت الأربعين. تدخل إلى الصف تشعر بالأمومة، بالصغيرات وهن يبتسمن ويقدمن الياسمين، تبدأ يومها بابتسامة، أيامها عادية. الآن تدرك كم كانت رائعة تلك الصباحات والأمسيات! وكم للمرح والمزاح روح شفافة! تضحك فإذا قهقهاتها تتسلل إلى الباحة، إلى آذان التلميذات اللواتي يسألنها بكل وداعة وطفولة عن سر ضحكتها، تبتسم ولا تجيب، تسأل نفسها إن كانت قادرة على ابتسامة واحدة من قلبها؟ تشتهي أن تلبس ما يجعلها محط أنظار الآخرين، وعندما ينحسر فستانها عن فخذين رائعتين كحدائق بابل المعلقة، تدعه على حريته، ولا تخجل من العيون التي تلتهم الجمال. تحب المديح كالصغار. تهرب إلى ذاكرة الطفولة المعذبة يوم كانت تلميذة في المرحلة الابتدائية، تسألها الآنسة عن عدم اشتراكها في الرحلات المدرسية، تستدرجها للحديث، يجرها ذلك للسؤال عن والديها، وعن سكنها الحالي، يتجمد الدمع في عيني المدرّسة وفي عيون التلميذات، تتأكد مما قالته تلميذتها عن فاجعتها بمقتل أمها وإخوتها في الجولان. تتعاطف معها، تشجعها، وتتبرع لها بمئة ليرة في كل شهر، صارت شغلها الشاغل، في الرحلات تأخذها وتتكفل بمصروفها، تأكل مع الآنسات، تلتهم اللحم المشوي اللذيذ وهي خجولة، متفردة في حزنها وفي أفراحها.‏

    الآن تأكدت أنها تهرب إلى الفرح الذي غادرها، حملته كما تحمل دفترها، عافت جسدها الذي حلمت بنضوجه، ودت لو يشيخ، أن تعود إلى صحرائها، إلى الرمال والعجاج، أن تلبس ثياب التصوف. علقت حزنها على وجهها، على باب قلبها، تشتهي الأقمار والشموس، تركض إلى الحلم الذي يعاندها ويبتعد، تهرول خلفه ولو كان بعيد المنال، تشتهي أن تأتيها الأيام طائعة، تعتذر عن كل آلامها، أخوها حسن الوحيد الباقي من أسرتها بعد وفاة والدها، يثق بها ولا يسألها عن شيء تفعله، تطلب إذنه في بعض الأمور، خلصها من الإحراج بقولـه: "هلا أنت فتاة متعلمة ومثقفة، صبرت معي على مرّ الحياة واليتم، أنت ما تبقى لي، كيف لا أحبك وأهبك ما تستحقين؟ كيف لا أثق بك؟!"‏

    سنوات مرت وتزوج حسن، خيّرها أن تسكن معه في مدينة دمشق، أو مع عمه في «كوكب» الملاصقة لبلدة عرطوز، تلك التلة التي اختارها لارتفاعها لتستقبل النسمات الآتية من الجولان.‏

    قررتْ أن تحمل آلامها بعيداً عن أخيها وأقاربها، وأن تتسلح بعزيمة فولاذية لتتجاوز الحاضر، مقاومتها تدفعها للتحدي، أن تبتعد عن هواجسها وضعفها، تعيد شحن ذاتها، مستعدة أن تهدم الكون وتلهب قلبها وقلوب الآخرين، أدركت أنها على شفا هاوية، وعلى قرارها يتحدد مستقبلها، أهي قادرة على التحدي أم تظل رهينة قفصها الصدري؟ ذهنها يعج بالتساؤلات، غير قادرة على تركيز أفكارها، ما يحزنها أنها مثقفة وغلطتها بمليون، تذكرت حيويتها، حياتها، صداقاتها، ما كانت تقوله لرفاقها. التغييرات التي حدثت جعلتها خرساء، لا تتحدث لا في السياسة ولا في الاقتصاد، ولا تبدي وجهة نظرها التي تستمدها من النظرية المادية، ترى أن ما حدث هو انعكاس للواقع والحياة الهامشية والوضع المعيش، الآن تدرك أنها تعيش وضعاً مأساوياً، يريدون أن يجردوها من آخر قوة تملكها.‏

    هلا عينان ذابلتان، دموع شفافة، وجه شمعي وحزن بحجم الدم الذي يجري في عروقها. البراعم شربت من بقايا دموعها، ومن بقايا الدم الذي تضخه في أوردتها وشرايينها. أورق الدمع حنظلاً، عليها أن تصمت إن كانت تود لحياتها الاستمرار. التنهيدات تلال من القهر، دموع حمراء تفيض على الكبد، أوجاع في الدماغ، وفم لا يأكل ولا يتكلم، هل هناك ألم أكثر من ذلك؟‏

    القمر الشاحب يغطي وجهه، يهرب بعيداً غير قادر على سماع تفاصيل مأساتها. الينابيع التي تدفعها الجبال لا تعرف لِمَ زيادة كمية المياه المتدفقة؟ الفرح في العيون تمحوه الفيضانات. تفقد عيناها تدرج الألوان في لحظة جنون الذاكرة، لا ترى إلا لوناً واحداً. الجنون عنوان عريض يتلبس حياتها، لا سبيل إلا الوحدة ما دام نبع الحياة لا يجدد مياهه. أمامها كومة أحداث وتجارب، عليها أن تلتفت إلى الواقع ما دامت الحياة مستمرة على الرغم مما حصل، لن تستسلم، على ماذا تخاف؟ لا شيء تخسره بعد خسارتها، ستظل تحاول أن تخرج من النفق الذي حشرت تفكيرها فيه، أبعدت الهواجس، أمامها أعمال ستنجزها، قد تفعل ما لم تفعله منذ زمن، مقتنعة أن الشمس ستنفض عنها الأتربة، وستهديها الأمطار أحلى الأطياف، وتزين جيدها الأنوار. لم تنتبه إلى شاب يباريها كطفل يلحق بأمه، كان هذا مصطفى طالب الحقوق الذي لم يتخرج، ما يزال في السنة الأخيرة، ينتمي إلى أسرة الحفا العريقة بتدينها وخدماتها المجانية. جدهم منذ زمن الأمويين يمشي حافياً، طوال يومه ينظف سجاد الجامع الأموي ومفروشاته، هذا الجامع الكائن في نهاية سوق الحميدية، لم يره أحد من معارفه ينتعل حذاء طوال سنوات حياته التي قضاها أميناً للنظافة، لا يعود إلى بيته إلا ليلاً ويغادره قبيل صلاة الصبح، عائلته تفخر بعملها وبنسبها الذي يتصل بقبيلة قريش، والذي أهلّها لمثل هذا الشرف، لديها شجرة نسب تثبت ذلك، الجد الخادم للجامع لا يتقاضى عن ذلك أي أجر، بل ينفق من أمواله على الجامع، لديه بساتين في منطقة المزرعة ومعصرة زيتون، من إيرادهما يصرف وما يفيض عن حاجته يهبه لبعض العائلات المستورة.‏

    الحفا شاب فيه شيء من خجل أجداده، راقب هلا دون أن تشعر، لم تلتفت أو تكلم أحداً، ماذا تريد من الشباب؟ لا شيء وراءهم سوى الشر، مصطفى أعجب بجمال جسدها وروحها وكبريائها، يصر على التحرش، وهي تصر على تجاهله، وهذا ما جعله يفور ويغلي، مستعد أن يخرب العالم مقابل أن يسمع كلمة. اعتنى بأناقته وهندامه، لم تنتبه ولا تعلم إن كان يطاردها أم رؤيته من قبيل المصادفة. الحياة علمتها أن لا تأمن لأحد، طوال المدة الماضية التزمت في ذهابها من بيتها إلى المدرسة وبالعكس توقيتاً لا تحيد عنه، قال بينه وبين ذاته إنها الفتاة المطلوبة، كبرياء يصل إلى السماء وأنوثة ورقة قلّ نظيرهما.‏

    ذات صباح تحرش بها. وقع دفتر تحضيرها، تناوله وناداها باسمها طالباً إليها أن تتوقف. التفتت بانزعاج وقالت:‏

    - نعم!‏

    - دفترك يا آنسة هلا!‏

    - من دلك على اسمي؟‏

    - دفترك!‏

    ارتعشت وهو يلفظ اسمها، نظرت إلى يدها اليسرى لا شيء سوى محفظتها. بدا عليها الارتباك. امتدت يدها لتأخذ دفترها. شعر بارتياح. ابتسمت وأجابته برقة: "شكراً!"‏

    ناولها الدفتر وأخبرها بأن طريقهما واحد. توقفت وحدقت به، وطالبته متابعة سيره، أخبرته أنها لا ترافق أحداً، وهي تعرف طريقها. ابتسم ومشى خلفها، التفتت إليه، خجل وغيّر طريقه واختفى، أثارت حركاته فضولها. ذات صباح توقفت ووبخته، لم تقتنع أن المعجب يحق لـه ما لا يحق لغيره، اعتذر وطالبها أن لا يذهب فكرها بعيداً. نكس رأسه حين أخبرته أن لها بيتاً، أحرجته هذه الكلمات، لكنه عندما فكر بمضمونها، عادت لـه الابتسامة، بدأ يفسر كلامها، ما عليه إلا السير إلى جوارها في المرات القادمة، وتعريفها بنفسه وأسرته وهذا ما فعله.‏

    بعد هذه الحادثة صارت تسلم عليه، تسمح لـه بمرافقتها لمسافة قصيرة، بعد شهر سمحت لـه أن يوصلها إلى المدرسة، تجرأ ودعاها إلى بيت شقيقته في الزبداني، وإلى بيت خاله في الشيخ محي الدين، وإلى تناول الطعام في مكان عام حيث كانت أمه تنتظرهما، وفي المرة الرابعة زارت بيته وبقيت مع أمه التي قدمت لها الشاي ثم القهوة. سرت أمه بهلا ووصفتها بأنها فتاة مهذبة وجميلة، عيناها سبحان الخالق، وجسدها معجون بالحنطة، أخبرته أنها ستسأل عنها بطريقتها الخاصة.‏

    هلا لم تستطع التخلص من ماضيها، من أوهامها، أفكارها السوداء تحفر عميقاً في صدرها، تصير جزءاً منها، سألت نفسها إن كانت الذكريات قد بدأت تتلاشى. مرّ كل شيء حتى الخطوبة على مايرام. إنها خطيبته وعليها أن تعيش حياتها.‏

    غيوم تشيخ تدفعها الحرارة والتغييرات الجوية إلى التلاشي في عالم اللاوعي. الذكرى تلملم شتاتها. لحن أزلي يرشقها في دائرة اللاوعي، تاركاً آثاراً غير مرئية. الأحزان والأفراح جيوش تتقاتل في مجرى وتلافيف الدماغ، لتثبت أيها الفعال، ليصير لإحداها الحضور، أما ما يغيب فيتراجع تحت ظروف قاهرة، قد يأتي زمن ويحفزها ثانية لتتبوأ الصدارة دون افتعال، كل شيء قابل للتغيير، فهذه تتحكم فيها عروق دقيقة في المخ لا سيطرة عليها.‏

    أفكار تتهاوى وأوراق تسقط، تعيش حاضرها، لا تطاردها أفكار أخرى، عليها أن تردم كل ما هو غير إنساني، تحاول أن تعيد التوازن إلى شخصيتها، أن تعيش كبقية النساء، تحلم وتحب، تفكر بالحياة مع خطيبها، بالبيت الذي سيضمهما، تحس بغصة في حلقها وبنبضات متسارعة لقلبها، تبعد الآلام، لكنها لا تملك حق النسيان، حياتها تطاردها، جرحها ينز، تبدو عصبية، أميرة تُصدر الأوامر لتطاع، كما وصفها خطيبها، تجهز نفسها للانتقال إلى بيته، والتعامل مع عائلته التي تفخر بماضيها، الذي يمثل جزءاً من وجودها. التقاليد متوارثة لا فصل ما بين الماضي والحاضر، فكيف ستكيف حياتها؟ قررت قطع أي غزل بينها وبين السياسة، الواقع يفرض عليها بناء شخصية جديدة في ظل قوانين وأعراف جديدة، ما عليها إلا الإيجاب بنعم، واحترام الشجرة التي أثمرت خطيبها، احترام الماضي الذي هو الحاضر بثوب جديد، وعدها بحياة هانئة، تنسى حتى ثقافتها وفلسفتها وتفقد كل ما بنته، إنها أمام تجربة ومع ذلك تبدو لا مبالية وواثقة من نجاحها، لا تعترف بالفشل، حتى وإن حل فلن يكون الأسوأ، لو اكتشف أمرها وطلقها، ستعلن أنها مطلقة، لن تنتهي الحياة بل تبدأ من جديد، ابتسمت وهي تدقق بحاضرها، هي والذاكرة في سباق، فأيهما يثبت في اللحظة الأخيرة، غير مهتمة بالنتيجة، عروس تعيش دقات قلبها وهي تضع يدها بيده، بدأت ترتاح لمن سيغير بعد لحظات خاتم الخطوبة من البنصر الأيمن إلى الأيسر، شردت وأطبقت عينيها على حلم السعادة.‏

    كان للفرح عيون في كل مكان من الحفلة، فرات وحامد أحضرا طاقة ورد باسميهما، جلسا بعيدين عن المدعوين، انضم إليهما العروسان. بعد سماع المولد النبوي وزعت صرر الملبس وغادر المدعوون، السؤال الذي يتردد، كيف ستتصرف هلا في ليلتها الأولى؟ هلا ذكية وتستطيع فعل الكثير، لم يجرؤا على سؤالها، لا يريدان أن يذكراها بالماضي، ظلت في عراك ودعابة حتى ساعات الصباح الأولى، انتهى كل شيء كما أرادت.‏

    الماضي لوحة أمامها ينكشف أولاً بأول، زوجها لـه ماض، أخبروها أنه أحب ابنة خاله قبل معرفتها، عرفت أشياء كثيرة من أمه، لم تهتز لذلك قالت: الماضي ملكه!‏

    لم يتصور أقارب زوجها أنها أريحية لهذه الدرجة، ولن تبالي بما تسمع، وهذا ما زادهم عجباً، منهم من احترم رأيها واعتبرها موضوعية ودافع عنه، ومنهم من احتقره واعتبرها لا تحبه، تباينت الآراء بين أن تكون عظيمة أو تافهة، وجهان لا يمكن أن يتحدا أو يغيب أحدهما في الآخر، تداخلا في الاحتفال الذي أضفى أناقة على العروسين. بدت عظيمة في نظر زوجها وعائلته، فوق الشبهات وصغائر الأمور. ساد الصمت الذي يكشف عن خبايا النفس، ظهرت الدهشة، كيف لامرأة تسمع قصصاً عن زوجها ولا تفعل شيئاً؟ تقف سلبية، أين حرارة الغيرة؟ ظلت شامخة كالنخيل، أعجب مصطفى بكل ما قالته، وبعدم مبادرتها إلى محاسبته، ولكونها قدمت تنازلات لم يحلم بمثلها، تركت التدريس، ودّعت آخر يوم دراسي، قالت لزميلاتها إنها لن تعود إلى التدريس في السنة القادمة، ودّعت العمل بما يحمله من معان إيجابية، ودّعت ذاتها وطموحها، غادرت الحياة والعطاء، لتقبع بين أربعة جدران، تنتظر زوجها، وإذا تأخر تقلق وتحسب ألف حساب.‏

    لم يكن سهلاً عليها أن تودع التدريس، تودع الطريق والسيارات، الأفراح والأتراح، والحرية الشخصية. في البداية رأت أنه الحل الأمثل، لكن مع مرور الأيام أدركت كم كانت غبية ومتسرعة! ماذا يفيد الندم؟ عيناها تتوشحان بالحزن. قدمت تنازلاً لترضي زوجها. الآن عليها أن تنسى، وأن لا تطالب بالعودة إلى العمل، إلى سابق عهدها، بل تستعد لتقديم تنازل آخر. تتذكر تفاصيل حياتها، تمسح دموعها، من أجله تخلت عن دورها في الحياة، تقاوم وتصبر لتحيا، عوضها في الأيام الأولى للزواج عن الأيام الحزينة، بدت عليها السعادة، تميل إلى تمثل حياة الأسرة، تعاودها أحياناً روح التحدي، تلعن وضعها والساعة التي اقترنت فيها بمصطفى. الماضي يدغدغ عنفوانها، يستفيق بعد سبات، تحسُّ بأناملها تعد الأيام، تنفض غبار المطبخ، تستعد للمواجهة، ترتدي ملابس الخروج، أحلى فساتينها على جسدها الناعم، عليها مهام جديدة منذ اللحظة.‏

    -29-‏

    كان فرحها أن غيمتكَ أمطرت في صحرائها، وأن الخصب نبت، احتجت ديمة على فوضى الفصول، السحب تخلصت من أدرانها، تماماً كما فعلت فرات، التي رمت ماضيها وخلعته كما ترمي أي ثوب من ثيابها البالية، صداقتها مع حامد كانت كافية لعودة الروح والمرح إلى جسدها الذي أعاد فتوته، جسد ناهض حاول الطيران مع فرخي اليمام، جلته بالنور وجلت جفونها بالمطر، استبدلت صقيع الحياة وموتها بدفئها، تسرح أحلامها، تُقبل المزن المنذرات بالمطر، ينشر النسيم ضوعها، يقايض الخريف بالبراعم. مع حفيف أوراق الشجر، ومع زقزقة العصافير وسفر الغمامات، مع الورود، تبحث عن نصفها الآخر، تجده بعد رحلة عذاب. يستمر حزنها الذي بدا من نوع آخر، حزن يصر على امتلاك من خلصها منه، وملأ به صدره، الذي احتضن السحاب والغمامات الرمادية.‏

    هذا أنت يا حامد كالنسيم العليل، الذي يفقد ضوعه كلما حاول أن ينقي الهواء، خلصتَ فرات من عذابها، لتقع في عذاب جديد، يصعب عليك أن ترى امرأة عابسة، لطيف في حديثك وفي تصرفاتك، تتمسك بالمبادئ والمثل، في وقت هجرها الآخرون، واعتبروا المتمسك بها أهبل، نعم فأنت كذلك، أحلامك جميلة والواقع مرّ، تدفع فرات للحياة وتفتح أمامها آفاقاً رحبة، تدفعها لتسلق سلالم المجد، لتسمو بروحها وتصير حياتها أروع وأجمل، مدرك أنك وضعتها على الطريق، لتحقق تميّزها وتفرّدها بفنها وجمالها وثقتها بمن تحب، لتدخل المرح إلى حياتها، سعادتك في أن تراها عظيمة، تحتوي أخطاءها بابتسامة، كانت كلما صعدت درجة تنزل درجة، حتى بات البون شاسعاً، صعدت أعلى قمة في بلودان، استنشقت الهواء النقي، التأمت جروحها. دأبت على المطالعة بعد أن اكتشفت أهمية الثقافة للأنثى. برهنتَ أنك قادر على جعلها سعيدة، أن تملأ الابتسامة محياها، بات الحب كل شيء لفراتك، المرآة التي تظهر صورتها، أنت عين اللواتي ظلمتهن الأيام، ستقابل عيناك مليون مخرز! أحببتها لأن كل ما فيها يُحب، أحببتها من أجل عينيها وسحر ابتسامتها وسمو طلتها، وما في جسدها من ليونة ودلال، وما فيها من تفرد وجاذبية يصعب عليك تحديدهما، وما في روحها من تغريد، يختزن قوامها ما في جسد الأنثى من شموخ وحضور. في المساءات الرمادية تتسلل إلى أحلامها، تعيد التوازن إلى شخصيتها، تفتح ذراعيكَ وتهبها الأمان، تفتح عينيها، تحاول القبض على الحلم في اللاوعي، تدهمها أحلام أخرى موحشة، وفي مرات قليلة ترى والدها تحدثه بآلامها، ينصحها أن تفكر وتشاور أصدقاءها، أن تكون قوية. كلما مرت بمشكلة تزور قبره وهي تحمل طاقة من الورد، تقرأ الفاتحة، ثم تحكي متاعبها. تصمت لتسمع ما يلهمها بموقف تتخذه. لو بقي حياً لكفاها المتاعب، وأمن لها مستقبلاً جيداً، أين مستقبلها وطموحها؟ كل ما تتمناه أن توافق أمها على خطوبتها. قارنت بين والديها، ماذا يقول والدها في حامد؟ لا أمانع إن كنت مقتنعة، أنت من ستتزوج، أنت تتحملين المسؤولية، على بركة الله، لماذا لا تقول أمها كلاماً شبيهاً بذلك؟ تسألها إن كان حامد يملك شقة منفصلة عن أهله، وعن عمله ورصيده المالي، أين كانت أسئلتها يوم جاء رامي الشيخ خطيباً عن طريق الاستخارة والشيخ والنذر، ألم تكن موافقتها مستغربة؟‏

    هل كانت أمها تحلم بالزواج من شيخ، فجاءها النقيض؟ لكنه مع الأسف لم يستطع أن يغيّر شيئاً من تفكيرها. لا تحترم علمه. تسخّر الأعراف والقوانين والعادات والتقاليد لتبرهن على صحة أفكارها. الصراع مع زوجها مستمر لاعتقادها أنه سنة الكون وتتويج للصراع الفطري بين الذكر والأنثى، عليها أن تتفنن في أخذ طلباتها وخرجيتها، تمنعه من السهر خارج المنزل، يتحايل عليها ويقتنص بعض الساعات ليزور رفاقه ويطور تفكيره وفنه.‏

    أمها تريدها نسخة كربون، تحمل أفكارها وتلغي أي تطور أو اجتهاد. تلاحقها تجربة أبي سبحة. تحاصرها المرارة والخيبة. هزيمة الحب تجرح كبرياءها وروحها. استجمعت قوتها وقالت كلمتها عن الحياة والحب، وكيف أن الارتباط يأتي تتويجاً للحب. تدرك الآن أن على أمها أن ترضى بطريقة حياتها وتفكيرها، وأن تدعها تختار، فالزواج ليس مجرد دعوة للنساء ليأخذن حريتهن في صالة الفرح، يمارسن إيماءات الجسد، ولغة رشيقة وإن كان فيها تعابير مبتذلة، ولا هو دعوة للرجال لسماع المولد النبوي الشريف، أو ممارسة طقوس الريف والدبكة، أو ذكر وأنثى في مكان مغلق، بل هو رغبة روحين وجسدين لن يفترقا طوال عمرهما.‏

    فتحت قاموس الغوطة، قرأت ما ورد في باب المرأة، تبللت وريقات المعجم بالدموع، بالمطر. النسوة تلحن قصائد الوجع، يغتصبن النشوة. تذكرت أقوال أمها، وإصرارها على تزويجها على هواها، وفي ظنها أنها تضمن سعادتها، ناسية أن روحها تعشق الغناء والجمال، وأن قدميها تتقافزان وتعدوان مع شخص غير الذي أرادته فارساً لها، وأن المغني السكران يلهبها بصوته وفنه، يمدها بقوة تدفعها للتحدي.‏

    كانت مسألة الارتباط بين شاب قروي مهاجر لم تلوثه المدينة، وابنة مدينة لها حساباتها، تحتاج إلى تفكير وترو، لهذا ولأسباب أخرى لم تقل كلمتها الأخيرة، تتمهل وتؤجل البت في خطوبتها، ثمة فروق في طبيعة الحياة والتفكير، عشرات الفروق على الرغم من الحب الذي يجمع. لم تتوقع أن ذلك قد يقف حائلاً. لكنك عندما تراقب كلماتها وأعمالها وإصرارها على التفوق، وانتشال عائلتها من الفقر، تصافح الأحزان وجهك وتلطخه بالألوان الداكنة، تبدو متجهماً قاسي التعابير، تتناول لفافة وتشعلها، تضغط عليها بأسنانك، تذكرت بأن القلب الكبير يدق بالحب في أشد الساعات كآبة. تتصنع الفرح وتظهر على شفتيك ابتسامة صفراوية، بينما عيناك ذابلتان. عبست وتغضن وجهك. نظرت تستقرئ ما يدور بخلدك، أنت من هون عليها، ترى أتنقلب الصورة؟‏

    تساءلتْ عن سر كآبتك. تُذكركَ بما فعلته لتتخطى واقعها. استبدلت صقيع أيامها بالدفء. حدقتْ بوجهك وعندما لم تجد أية إشارة أو تعبيرات ترشدها إلى سبب آلامك، قالت:‏

    - أنت منقذي يا حامد، أنت سبب بقائي قوية، كان عمري مجرد فضلة، اليوم أنا متمسكة بالحياة، بربيعها، أمامي أكثر من خيار.‏

    - آه يا فرات خياراتك تغلق الطرق، ما أروعك وأنت تتمردين! تبدين فتاة عصرية، لماذا لم تحسمي قرارك بعد؟ الانتظار والمجهول يعذبانني.‏

    لم تستغرب ما يحل بك. هذه نهاية من يطمح لرؤية الشمس وتبديد الظلمة. من يخفف عن الآخرين. عليه مقابل ذلك أن يأخذ قسطاً من آلامهم. السماء واحة قناديل. تطلع الشمس مكتملة الحسن، تهرب السحب وتتلاشى وينتشر الضوء، يتحول الأفق شيئاً فشيئاً إلى ورود وزنابق. عينا فرات المرحتان وجسدها المتمرد وصفحة السماء الصافية توحي بحالة جديدة من الأمان. أطلق الحب ساقيه للريح وجعل الحياة رائعة. بقعة ضوء في قلبكَ تتسع. حبيبتك إلى جانبك. شعرها يلفحك بنسمات من العطر، روحها تتسلل إلى روحك وتعانقها، تستمع إليك، تهبك مزيداً من القوة كما وهبتها ذات يوم، مرحها أضفى على وجهك وتعبيراتك إشراقة مفرحة. أمكَ تدلي برأيها تنصحك، تتنبأ الفشل لأنها من غير ثوبك ولأن لابنة المدينة شروطها، بيت ونقود ورجل تحت قياس يدها، وأنت كقروي لا يناسبك أن تضيع شخصيتك مع فتاة لا تصلح إلا لصف الكلام والفراش. نصحك عمك أن لا تتزوج ممن كانت مخطوبة، لابد أن خطيبها شمها ولمسها وضمها، وهو لا يرضى لك إلا العذراء في كل شيء. لم تصغِ لملاحظاتهما. حاولتَ إقناعهما بأن الفتاة مناسبة، الفتاة ذاتها التي دافعت عنها لم تحزم أمرها، ما زالت مترددة.‏

    لم تستوعب كيف تنقاد فتاة كفرات لآراء أمها ولا تخرج عن طوعها؟ غريبة هكذا تربية والمفاهيم التي استندت إليها، وقدرة أمها على لجم حريتها وحياتها ووضع مستقبلها على كفها في عالم الغيب. تلغي الزمن والتطور، وتصادر أفكارها وتمنحها أفكاراً جاهزة. فرات حاولت التمرد، وقامت بإقناع عمها وخالها، إلا أنها فضلت التريّث، لا تريد أن تواجه أمها، تقف مكتوفة اليدين كطالب كسول يستعد للعقوبة، لا تنطق بحرف وإن تجرأت ونطقت فلإرضائها. تتركك تتوجع، أليس الحب نوعاً من أنواع العذاب؟ هي واثقة من حبك، ترى أن بقاءك عزباً مؤشر على تصميمك خوض المعركة حتى نهايتها. هي فرحة ومتأكدة من حبك، تمازحك وتحاول دفعك إلى حافة الجنون وهي تقهقه. تخبرك أنها لن تتزوج إلا برضاء أمها، وهي المحبة لك لن تتزوج سواك، معادلة يصعب فهمها!‏

    الزمن يمضي وقد تصالح معك أو ربما تواطأ. فرات ما زالت مشعة وغضة، وكل يوم يذهب يجعلها أكثر تعلقاً بالحياة وأكثر تفكيراً. الآن تأكدت أنها أحبت بعواطفها بعيداً عن عقلها. لم تكن في يوم قادرة على تخطي تجربتها السابقة دون مساعدتك ووقوفك إلى جانبها، لم تبخل عليها بشيء حتى استطعت أن تنتشلها من المستنقع. أمها تتدخل في حياتها، تحاول أن تغيّر نظرتها وتعيد حساباتها من جديد، تبدو غريبة وهي تمسك جذوع الأشجار وتبكي. تقطر الأوراق دموعها، تهيم في ليل الغوطة وتقذف أحزانها. العتمة تسورها وتسدّ عليها الطرق. تفيض ألماً، تعج بالصراخ. يمتلئ صدرها وفمها صراخاً، تقول:‏

    - تظن يا حامد أن الفتاة التي تفجع بخطوبتها، تستطيع أن تحيا كالأخريات!‏

    - الأشجار تبرعم من جديد مهما كان الشتاء قاسياً.‏

    بدأتْ تعيد التوازن إلى شخصيتها، تحسُّ أن عليها أن تنتقم، لكن ممن؟ شيء من الرطوبة تتسلل إلى فؤادها. أدخنة تتصاعد من رأسها، ترتسم خيالات وصوراً سريالية أمام ناظريها، الصور تهتز ضائعة وغير واضحة. بدت بساتينها ذابلة، اختلط عطرها بأدخنة المعامل. كتل الغبار تسدُّ الرؤية، تحيل لون الأشياء إلى داكن. سرى الخدر إلى جسدها، أحست بالضيق. حاولت أن تعيد المرح إلى روحها، والورود إلى خديها. حدقتَ بها لتعبر من خلالها إلى الحرية، فاض بردى على صدرها مالحاً ودبقاً. نظرتْ إليك. لم يعجبها لومك، قالت: "أنت قاسٍ ومتوحش!"‏

    أحست أن مزاجها غير رائق. من الصعب بقاؤكما على طاولة واحدة مدة أطول. غادرت لكن الحب ظهر في عينيها لحظة الوداع.‏

    -30-‏

    طلبتَ إلى السائق أن يسرع خوفاً من حلول كارثة. أخذ السائق كلامك على محمل الجد. لا أحد يعرف بما فكّر. تغيّر لون وجهه وضغط على دواسة البنزين. أطلق العنان لبوق السيارة وأخذ يتجاوز ما أمامه. هدأتَ من روعه وأخبرته أن الأمر لا يحتاج إلى مخاطرة بروحه وسيارته.‏

    خفف من سرعته. ملأت الضحكة وجهه وارتسمت على شفتيه، لم يتصور أن هناك من يحاسب على دقيقة أو دقيقتين. استمع لما قلته عن مديرك السيد أيوب الذي لا يعترف لا بالأعذار ولا بالمسائل الإنسانية. يلغي المرض والحالات الطارئة. المهم أن يحضر المعلم في الوقت المناسب يدخل الصف ويغلق الباب. تأخرك لهذا اليوم إن حصل سيؤدي إلى مشكلة وأنت في غنى عنها. يراهن على ذلك وينتظر اللحظة المناسبة. يقول في سره: «وقعت وما حدا سمى عليك».‏

    الدهشة تتراقص على وجه السائق. لم يصدق. هو يتأخر وتضطره أزمات السير إلى البقاء في نقطة واحدة ربع ساعة أو أكثر. بدا مسروراً بهذه الأخبار. قرر أن ينتظر ويرى ما سيحدث. أطفأ المحرك عند الوصول إلى المدرسة واقترابه من بابها. الطلاب يقفون باستعداد. المدير يروح ويجيء كالدجاجة التي ستضع البيضة. يعد خطوات القادمين. يرفع بصره إلى الأفق وإلى ساعته. ينط، تتقافز العصافير على شفتيه. وهو يرى المشاهد الأولى. حرك جسده، ووضع إصبعه في فمه وأطلق صفيراً متواصلاً، وهو يقول: «علقت الله يستر».‏

    أغلق الآذن الباب الخارجي. تسلق السائق السور ماداً رأسه. إنها المشادة كما سمعها. أطلق ضحكته المجنونة قبل أن يتوجه إلى السيارة، وفي نيته أن يحدث كل من يركب معه عن هذا الصباح.‏

    شعر أيوب أن المعلم غاضب. أومأ لـه أن يتبعه إلى الإدارة. بينما أمر المدرسين التوجه إلى صفوفهم. في الفرصة سد بجسده باب غرفة المعلمين. نظر إليهم وهم منهمكون بشرب الشاي وإلقاء النكات. تفحص وجوههم. استغرب كيف يمضون ربع ساعة بلا عمل. صاح:‏

    - المناوب إلى الباحة.‏

    - على كل مدرس أن ينهي العلامات، ويملأ الاستمارات الخاصة بالطلاب الضعاف، إضافة إلى التشخيص والانحراف المعياري والتغذية الراجعة.‏

    - هناك أربعة مدرسين بينهم حامد لم يعطوا توزيعهم الشهري.‏

    تتضاعف مهمة المناوب، صباحاً الطلاب يتحلقون حول المُجد ليملي عليهم الحلول والأجوبة، منهم من يتأخر في الصف لهذا السبب أو لسرقة محتويات الحقائب، إذا غض النظر يقع في مشاكل. الطلاب يركضون، يلعبون ويتشاتمون. عليه أن يحكم بينهم، يلف الباحة، يتفقد دورات المياه، يضع عرفاء، يتأكد من أن أحداً لا يدخن ولا يحاول الانفراد بزميله لأمر ما في نفسه. هو وسط هدير من الضوضاء بلا هدف وبلا سبب، يهرول، حاضر في كل مكان، يستغني عن كوب الشاي الذي يبل ريقه، إذ قد يصدمه أحد الطلبة وتندلق الكأس.‏

    في إحدى الصباحات وقف المدير بكرشه المنتفخة وصوته الجهوري، يطلب معاقبة المتأخرين، وقف كقائد منتصر هزم أعداءه وأسر الباقين، تابع سيره إلى غرفة المدرسين، سمع ضحكات، امتعض وأعطى أمره بالخروج لتحية العلم. انتظرت إجلالاً للنشيد، من بعيد صاح ينادي: "ما هذا التأخير يا أستاذ حامد، هيا معي؟"‏

    الهموم الكبيرة والصغيرة وانشغالك بالتدريس، جعلك تنسى جلافته، تتذكر موعدك مع فرات، الوحيدة القادرة على تخفيف هموم التدريس، وبلوى الأستاذ أيوب، الذي لا يسمح لك بوقت كاف، لتنفرد فيه مع ذاتك، مع طلابك، في غفلة منك يدخل الصف، يُضيّع الحصة، يطلب دفاتر التلاميذ، يشاهد بعضها، يُسمعك الملاحظات، يُسمّع الدرس، حبة «اللازكس» تجبره على ترك صفك والهرولة ليفرغ سموم المثانة، يظل عشر دقائق وربما ربع ساعة وهو يستنجي، حتى لا تتسلل نقاط بول إلى ملابسه. يبدأ بالوضوء وهو غير غافل عنك، لا يسمح لك أن تذهب إلى دورة المياه أثناء الحصة، يذكرك بالفرصة التي وجدت لقضاء الحاجة. ترد عليه بالمثل طالباً إياه أن يفعلها في الفرصة. تضحك وهو يستشيط غضباً، يعتبرها إهانة.‏

    يأتي الموجه التربوي. ينظر إليك المدير بارتباك ويضحك، وكأنه يقول لك وقعت وكثرت السكاكين. يتركك ويسعى إليه ليرحب، ويعطيه تقريراً وافياً، وبعد أن يقول ما عنده، يستمع إلى النصائح التربوية، والتي على رأسها إعداد تقارير سيئة عنك، يطالبه بعدم المزاح، أن يكون جدياً، أن يحاصرك أكثر مما يفعل الآن ويدفعك إلى الغلط، لتتصرف معه بعصبية أو تترك التعليم وتهيم في الشوارع لا تجد لقمة العيش. الأستاذ أيوب يستمع إلى نصائح الموجه: "إياك أن تترك صفه. ننتظر تقريرك العاجل. عليك أن توقع به. أن تضايقه ليتصرف بحماقة، ثم تبلغنا فوراً."‏

    ينقل المدير التعليمات الجديدة والأمور المطلوب إنجازها. بعد هذه التعليمات وغيرها يحاول المزاح على طريقته الخاصة وإضفاء جو من المرح على كلمات المفتش. وقبل أن ينهي كلامه يذكرك بأن استمرارك في التعليم يعود إليه، فهو لم يرفع تقريراً ضدك على الرغم من كل مضايقاته. يخاف الله، وغير مستعد أن يخون ضميره علَّ الله يمن عليه ويخلص ولده من السجن.‏

    لست الوحيد الحريص على علاقة طيبة معه. المعلمون يطلبون وده ورضاه، يتدخلون لصالحك، يحاولون إقناعه بأن الصلاة ليست معيار التقييم، وإنك وإن لم تصلِّ إلا أنك لم تعدم الضمير. عليه أن لا يحاسبك على هذا الجانب «فكل شاة تناط برجليها».‏

    صرخات التلاميذ تشق عنان السماء، يتابعون حركة كرة القدم، صرخاتهم تتجاوب مع انتقالها من قدم إلى أخرى. الأستاذ أيوب يراقب المشهد بأعصاب مشدودة غير قادر على ضبط النظام وتوجيه اللوم إلى مدرس الرياضة المدعوم، الذي شغل الجميع بحذائه الضيق. يقف حافياً ويطلب إلى أحد التلاميذ انتعاله والركض في الباحة، يعتقد أن ذلك سيؤدي إلى توسيعه. الطلاب يتصايحون والمعلمون يضحكون ويعلقون بنكات. المدير لشدة حنقه يصب غضبه عليك، بينما يسأل أستاذ الرياضة بكل أدب وتواضع:‏

    - من اشترى لك الحذاء يا أستاذ؟‏

    ينظر إليه بعين الغضب ويجيب: أنا.‏

    - أين كانت قدمك؟‏

    - هل هذا استهزاء؟‏

    - لا والله.‏

    - البائع نصحني بهذا الحذاء ووعدني بأنه سيتوسع نمرة لمجرد المشي. لبسته أسبوعاً كشط جلد كعبي، احمرت أصابع قدميّ، إلا أنه ظل ضيقاً.‏

    منذ يومين وهو يعطي الحذاء لأكبر تلميذ يطالبه بالركض. تكرّ الضحكات والمدير يلطم على رأسه ولا يقول شيئاً، بل المطلوب منه وضع علامة جيدة جداً له.‏

    القصة بينك وبين المدير مستمرة طوال العام. يخبرك أنك لا تعمل كما يجب. تشفق عليه. لن يقتنع بأنك مظلوم. عليك أن تسدّ المنافذ، أن تدرّس وتحضر إلى الدوام قبل الموعد المحدد.‏

    -31-‏

    تعود الذاكرة إلى السنة الثانية لقيام الوحدة بين مصر وسورية. في هذه السنة أنجبت السيدة ليلى زوجة الحفا ولدها البكر. رغبت أن تسميه عبد الناصر تيمناً بالرئيس جمال عبد الناصر. إلا أن زوجها المتدين قرر تسميته مصطفى تيمناً بالنبي المصطفى. احتفل بهذه المناسبة السعيدة، دعا أقاربه وجيرانه وأصدقاءه، تلقى العديد من الهدايا، كالثريا المعلقة في الصالون، والسجادة المفروشة في غرفة ابنهما وباقات ورود وهدايا يصعب عدها بعد السنين الطويلة. الهدية التي ما زال يحتفظ بها مصطفى ويعتز بها هي هدية عمه الأكبر بمناسبة ميلاده المصحف المذهب الذي حجزه لنفسه من الصغر.‏

    عم مصطفى إمام جامع وفقيه، مفتي عائلته وعائلات أخرى تلجأ إليه لحل النزاعات، مشهود بصدقه وعدله، يدرس المشكلة التي تعرض عليه، يستشير أهل الرأي قبل أن يعطي حكمه الأخير، يتأنى في إصدار الأحكام في القضايا الصعبة التي تحتاج إلى شهود، يضطر في بعض المرات إلى دفع المال من جيبه الخاص للتوفيق بين متخاصمين أو الإصلاح ما بين زوجين، يصرف على بعض العائلات المستورة من أموال بعض الجمعيات الخيرية. مصطفى محب لعمه، مولع به، يداعبه ويلاعبه، يمسكه من لحيته، يشد بعض الشعرات البيض، بينما يد عمه تحاول أن ترده، فأيدي الصغار لا يجوز أن تعبث بذقون الفقهاء. تعلم وتتلمذ على يده، قراءة القرآن والكتابة والحساب. كل ما يأتي يُحضّر أسئلة عن مبطلات الوضوء وكيفية الصلاة، ومتى يحق للمسلم أن يفطر والصدقة ومقدار الزكاة والحج. هذه الأسئلة وعشرات غيرها تثلج صدر عمه، ابن أخيه عجينة يكونها، يأتي أحياناً ليشرح لـه بعض أمور دينه ودنياه، قبل أن ينتقل للحديث في أمور السياسة والحياة مع أخيه.‏

    أبو مصطفى الحفا أكبر إخوته، بيته مضافة لأقاربه وإخوته الذين يعتز بهم، ما زالوا يستشيرونه في كل صغيرة وكبيرة. حتى الفقيه لا يتصرف دون العودة إليه، على الرغم من اختلاف الرأي في أمور كثيرة، هذا لا يمنع من طرح مواضيع للنقاش، مما يؤدي إلى وجود خلافات في وجهات النظر واجتهادات، وحتى لا تتسع شقة الخلاف تستبعد الأمور المختلف عليها، بينما يتم تعزيز ما هو متفق عليه.‏

    مصطفى الابن البكر المدلل، تتقاذفه أيدي الأعمام والعمات والزوار، يغدقون عليه الليرات حتى كادوا يفسدونه. أمه الحريصة على تربيته وأمواله تقنعه بعدم صرف ما معه. تأخذ نقوده وتخبئها منذ كان عمره ثلاث سنوات. القرش الذي يُخبأ يبقى، أما الذي يصرف فيذهب، هذه قاعدة أمه للحياة والمستقبل. تبقي بيده عشرة قروش أو ربع ليرة، تضع القرش فوق القرش. جمعت لـه عشرة آلاف ليرة، أعطته المبلغ كاملاً، قائلة: "هذه النقود خبأتها من مصروفك خلال ما يزيد على عشرين عاماً. هذا ما كنت تأخذه منا ومن الأعمام والعمات وغيرهم."‏

    كادت تضيف كلمة الأخوال، لكنها لم تفعل. ما يأخذه من أعمامه أكثر بعشرات المرات إذا قورن مع عطايا أخواله القليلة أو المعدومة. ربما لأنهم ليسوا بغنى أسرة الحفاة العريقة بنسبها وبساتينها وتجارتها وأموالها التي لا تحصى. أخواله فقراء لم يرثوا عن والدهم سوى البيت الذي باعوه واقتسموا ثمنه وكل واحد تصرف بحصته. أحدهم اشترى شقة وآخر دكاناً أما أخواها الصغيران فوضعا مبلغهما عند جامع الأموال راني. هي وأختها الصغرى أخذتا حسب الشريعة. تعطي إخوتها بعض المساعدات والهدايا في الأعياد والمناسبات.‏

    أرضعت صغيرها حب عبد الناصر، هذا الاسم الذي صار جزءاً منه، تردده على مسامعه، حبه ملأ فؤاده كحب والديه والله، وظل حاضراً في ذاته حتى في فترة الانفصال وأوائل حكم البعث. لم ينهزم الرمز على الرغم من وقوف أعمامه مع الانفصال. يسمع في اليوم الواحد مجموعة آراء. وبات يدرك موقف أهله الذين يدعمون الصف القوي حفاظاً على تجارتهم المزدهرة. قال عمه الفقيه: "نحن أتينا بعبد الناصر. ماذا كنا نريد أكثر من أن يخلصنا من أحزاب كادت أن تقبض على السلطة؟ كان صفقة تجارية رتبناها."‏

    مصطفى غير مرتاح لما يسمع. آراء متناقضة ومغالية، تتبادل الاتهام. والده خائف من حماسته. أخبره بصريح العبارة أن السياسة ترفع ساقيها لمن يباركون صونها لقدسية الوطن وشرفه. التجربة مغامرة، يخرج السجين إذا كان طويل العمر بعد سنوات ذليلاً ومتهماً وممنوعاً من السفر وسجانه هو الوطني. ما يؤلمه أن الناس العاديين باتوا متفرجين. حتى الطبقة الوسطى التي يصنع أبناؤها التاريخ استهدفوا، شمروا عن سواعدهم ليمضوا نهارهم بالعمل، ليطعموا الأفواه الجائعة. قال أبو مصطفى موجهاً كلامه لزوجته وأولاده: "أحببنا عبد الناصر، لكنه خدعنا بكلماته الحلوة!"‏

    حزن مصطفى. بردى يفيض على وجنتيه. كيف سيكون رد والده إذا أخبره أنه سيدخل بوابة السياسة؟ يحصل على ميزات تساهم في بناء شخصيته وتؤهله دخول الفرع الذي يريده في الجامعة. والده كتاجر سيشجعه على دخول معترك الحياة من أي باب، ليرتقي إلى ما يريد. تلعثم وهو يبدأ حديثه. مسح عرقه وهو يشرح وجهة نظره إلى أبيه. هزه والده من كتفه وقال: "أين تكافؤ الفرص؟ هل أنت مقتنع بما تقول؟ الأهداف الجليلة تحتاج إلى عظماء، أنت لست منهم. غايتك تافهة، إياك أن تصغّر نفسك ثانية."‏

    انسحب منكس الرأس وكأنه بال في بنطاله. قرر أن يثبت لوالده، أنه لا يرضى بالفتات. تذكر آراء صديقه الشيوعي، ما أشبهها بموقف والده! تمنى أن يعرف الصح من الخطأ، وأن يتجاهل آراء مدرس التربية القومية ومدرس الديانة، أما آراء والده المتمسك بالديمقراطية الغربية، الانتخابات، التنافس الحر وتبادل السلطة، الحرية، فإنه لا يستطيع أن يحكم عليها.‏

    كل يوم يسمع آراء جديدة تناقض ما سمعه سابقاً، آراء أعمامه، أخواله، أصدقائه، الناس، الإذاعة والصحف، قرر عدم الانتماء لأي حزب. بات يكره الشيوعية والأحزاب الدينية. اهتزت شخصيته. واجهته سلطة أمه التي لا يستطيع تحديها، بل يكبر حبها حتى طغى على ما عداه، فإذا أراد أن يصف شيئاً جميلاً، يصفه كما وصفته، يقلدها في الحديث، حتى في تأدية الصلاة وفي تلاوة السور والآيات ذاتها التي تتلوها. تعود على طاعتها وتقبيل يديها. الشيء الذي يزعجه نظام المطبخ وأوقات تناول الطعام، إذ لا يستطيع الأكل حتى لو جاع وتأخرت الوجبة، عليه أن يصبر ليحضر الجميع ويتحلقوا حول المائدة. أحياناً يتمرد، يتناول سراً بعض الأطعمة قبل موعد الوجبة، تشاهده أمه فتوبخه وتتهمه بالجشع والإخلال بمواعيد الوجبات. شديد الحذر. لخوفه يذهب إلى الحمام والطعام بين ثيابه. أحياناً تكتشف أن يداً امتدت إلى أحد الصحون. يقسم أن لا علم له. تتركه وتحقق مع والده الوحيد القادر على ذلك دون أخذ إذنها هو والصغيرة المدللة، التي تفاجئ إخوتها بالطعام، ترفض إعطاءهم. وإذا صادف واشتكت، فإن القيامة تقوم على رأس من اشتكت عليه.‏

    تعلم الإنكار حتى لو كان الأمر بسيطاً، منذ عقابه لتناوله قطعة حلوى، وجده أقصر الطرق للنجاة. شيء آخر يزعجه هو احتفاظ أمه ببعض الأطعمة التي يسيل لها لعابه، تخص بها والده، لا تخجل من هذا التمييز بل تفاخر به، الأب عماد الأسرة، يستحق عناية خاصة، تشعر بالاعتزاز والزهو وكأنها طاووس نفش ريشه.‏

    أشد ما تمناه حين رؤيته للمبرومة، أن يتناول قطعة منها، تظل رائحتها تطارد أنفه، وطعمها لعابه، وشكلها عينيه، يحاول تجاهل أوامر أمه والسطو على قطعة، بحيث لا يظهر أي خلل في الكمية. تساءل عن مغزى الأكل في السهرة، ولماذا يتناولانه بعيداً عنهم؟ ظلت الأسئلة تتردد في ذاكرته المتعبة.‏

    تغلق أم مصطفى الباب بالمفتاح وتبقيه في ثقب الباب، مجلوة أنيقة لا شعر يغطي جسدها الحريري، حتى الزغب تنتفه. ترتدي «التفريعة» التي تصل إلى السّرة، يشرئب جسدها، تغرد الابتسامة على محياها، وترسل عيناها نظرات وحشية، تفتح علبة «المسكرة» تتزين وتترنح وتغنج. فقط عليها أن تستثير أبا مصطفى، لتصيبه حمى الجنس. يضمها ولا تفلت من بين يديه. تقترب منه، يمد يده ويناولها مئتي ليرة. تبتسم وتدسهما تحت الوسادة. تدير المسجلة على شريط راقص. تستحثه لتناول بعض اللقيمات الشهية من يدها وهي تهز بجسدها: "كل يا بن عمي صحتين وعافية."‏

    في هذه اللحظة تبدأ بطقوس التعري، وارتداء ملابس داخلية اكثر إثارة من الأولى. تطلب إليه أن يساهم بغندرتها وهي تميل إليه. تحدثه عن جاراتها وهمومهن وما حصل في الحارة أثناء غيابه، ثم تحدثه عن البيت وأولاده بداية بمصطفى ونهاية بالمدللة الصغيرة، ثم تسمع منه عن عمله ومتاعبه.‏

    أم مصطفى ذات ملامح ملائكية. تغزوها النيران. تبتسم وتردد شفتاها ألحان الحب، تصير غزالة رشيقة، تتمايل غضة كعود حور أخضر، كفتاة لم تتجاوز العشرين، ممتلئة بالعاطفة والحنان، مشحونة بالحب، لسانها رقيق، الجنس يجعلها أكثر عذوبة، بسيطة مرحة، سحر نظرتها ربيع ونجوم، اتفقا على ليلة الحب، تنتظرها منذ بداية الأسبوع، لا تأتي نهايته إلا وتكون قد ذابت وجداً، توصي زوجها ما يجب إحضاره لليلة المباركة، تشعل الحمام منذ الصباح، يستحم أولادها وتدعه ساخناً، متأكدة أن القيامة لن تحدث تلك الليلة، فمعظم الشاميات يفضلن السهر ليلة العطلة، آلاف وربما ملايين الأرجل تدفع السماء عالياً ولا تسمح بانطباقها على الأرض، سألها:‏

    - وما أدراكِ أن القيامة لن تحدث بعد نومنا؟‏

    - يا حسرتي على أيام الشباب يوم كنا نسهر حتى الفجر، نم يا رجل ولا ترني عينيك اللتين تغمضان كعيني حمامة برية. أما أنا فسأستحم وأسهر مع مسلسل «سفينة الحب» لقد أعادوا عرضه من جديد.‏

    أم مصطفى ما زالت جميلة ولطيفة، مكتنزة الجسد، تخفي التجاعيد بالتدليك والمساحيق، والشيب بالصبغة، ترتدي من الثياب ما يجعلها شهية. الكناران المغردان في صدرها تحولا إلى يمامتين هرمتين فقدتا القدرة على التمرد. تذكرت ذاك الجسد الرشيق القادر على الطيران، يعانق السحب الماجنة، يجيد لهجات العشق وفنون الطرب، ومحاكاة النجوم وسلبها بريقها. كانت عود رمان، حافظت على رشاقتها ثلاث سنوات. بعد الإنجاب لم تعد تعتني بجسدها الذي بدأ يترهل، خاصة بعد تناولها حبوب منع الحمل. مطيعة تودع زوجها وتخرج معه يومياً حتى الباب الخارجي، وعندما يبتعد قليلاً تقول على مسامعه: «الله معك» لم تفقد آداب اللياقة والاستقبال لزوجها وأقاربه وأصدقائه. تمزح وتمرح مع أولادها، ربتهم على الطاعة. أما إذا انزعجت فإن صوتها يلعلع، ترد بحركة من كتفيها أو رأسها، يبدو وجهها ثقيلاً مكللاً بالغمام، البيت يكاد ينفجر بمن فيه. مرة واحدة ذهبت إلى بيت أهلها بعد أشهر من زواجها، بسبب خلاف بسيط. في اليوم الثاني سارع زوجها لمراضاتها، اشترى سواراً ذهبياً وأهداها إياه عربون حب.‏

    أحب مصطفى يوم الاثنين ليسترق السمع حيث تجمع أمه الجارات والصديقات في غرفتها أو في الصالون. يغلقن الباب، فلا يصل إلى أسماعه سوى بعض الوشوشات والنكات، التي لم يكن يعرف مغزاها الجنسي. يحرص على البقاء في البيت، مع أنه لا يعي معنى الحركات والأغاني التي يراها ويسمعها، إلا أن شيئاً في داخله يدفعه للبقاء، يراقب وهو سعيد جلساتهن ورقصهن وغناءهن، يسمع وصلات غناء جميلة ورائعة، وهمسات وضحكات تنتشر في أرجاء البيت، يذكر موسيقاها التي لم تغادر أذنه، إنه لا يعرف ماذا تعني أغنية «يا قضامة مغبرة يا قضامة ناعمة» ولِمَ كل الدلال والتحبب للمرأة؟ ما زال يحفظ بعض الأبيات:‏

    جابلي منديل بورقة وقالي قومي يا لبقة‏

    قتلوا جسمي ما بلقى لبسني وأنا نايمة‏

    تكر الضحكات ويرتفع صوت الموسيقا والغناء. من الثقب الذي نسيت أمه أن تضع المفتاح فيه على غير عادتها، ينظر. نساء شبه عاريات يتمايلن غنجاً ودلالاً. أمه أميرة بجسدها العاجي المشع كالبرق، تتمايل وتتقصف وهي تدور وترقص، وقبل أن تجلس تختار من تحل مكانها. لأول مرة يرى أمه على هذا القدر من الجمال والرشاقة، حتى إنه صار يلقي نفسه في حضنها، ويطالبها أن تمسّد شعره، فيشعر براحة تامة.‏

    لم يتفوه بما رآه. إنه بقدر ما يحبها يخاف قسوتها إن علمت بتلصصه. ينظر إليها وكأنه يكتشف جمالها، تنم تعابيرها عن رضاها ومحبتها. يمتدحها ويصفها بأنها أجمل امرأة في الكون! تضمه وتقول: "تسلم يا روح ماما!"‏

    تكبر في عينه أكثر. ترفض الذهاب مع أبيه إلى السهرة، يعاتبها:‏

    - ولكنهم كبار رجال الدولة، أنسيت أنني بحاجة إليهم؟‏

    - لا تحل مشاكلك على حسابي. هل ترضى أن ارتمي في حضن أحدهم؟ ابحث عن غيري.‏

    - غناني الله عنك، سأتصرف!‏

    يصفق لأمه بروحه وبيديه، ويقول في سره: أنت امرأة رائعة! لن أتزوج إلا واحدة تشبهك في كل شيء، وإلا فإنني سأظل عازباً!‏

    - من الصعب أن تجد أمثالي. أحافظ على شرفي وأموال زوجي وأرضى بالقليل.‏

    - لن أتزوج يا ماما!‏

    - بل ستتزوج يا روحي.‏

    كلامه يرضيها. تبتسم وتدعو لـه بالزوجة الصالحة. تغدق عليه الأموال كلما شعرت أنه يحبها أكثر. لم يستغرب موقفها يوم طالبته أن يراقب أباه في أوقات معينة. منذ الصغر وهو مطيع لوالديه، لا يقول إلا نعم، يقبل أياديهما كل صباح. في المدرسة هو عريف الصف، ومن الأوائل في معظم سنوات دراسته. يتراجع قليلاً ولا يحصل على مجموع يؤهله دخول الطب أو الهندسة، كما يحلم والده، يدخل كلية الحقوق، يتفوق في التشريعات الدينية. يرسب في السنة الثانية، يوبخه والده، أمه تدافع عنه مبررة ذلك بصعوبة الأسئلة. الأساتذة الجامعيون يرتاحون كثيراً لرسوب طلابهم. أبو مصطفى رد على مبررات زوجته: "لا علاقة يا امرأة بين رسوب ابنك والمبررات التي ذكرتها، أنت بإصراركِ على ذلك كمن يحاول الربط ما بين دوران الأرض والآلام التي في رأسه. يا زوجتي لا تدلليه، ساعديني ليتخطى ابننا مرحلة المراهقة، ابنك لم يرسب إلا لأسباب تتعلق به."‏

    بعد تجاوزه لخيبته في الجامعة، بدأ يفكر بالزوجة التي تنتظره، تحتضنه وتقبله وتخبئ ما لذ من طعام وحلويات للسهرة، تقفل الباب بالمفتاح، امرأة لا تعرف غيره، وهو لن يختار غيرها، إنها هلا التي اعتقد أنها لا تعرف سواه، عرض ذلك على أمه التي قالت:‏

    - فتاة اليوم تعرف كل شيء، وأي فتاة لا تعرف سواك ناقصة المعرفة، أما التي خالطت ولها تجربة فقد تكون قنوعة وابنة حلال. هذا الرأي لا أستطيع أن أجاهر به. أبوك لو سمعني لتعوذ من الشيطان واعتبر ما أقوله من الكبائر.‏

    - هلا يا أمي فتاة خام، لم تكتشف الدنيا ولن تكتشفها إلا من خلالي. لا تعرف غيري، نازحة ويتيمة، ستكون ملك قبضتي.‏

    - هل صارحتها بحبك؟‏

    - لم نصل بعد إلى ذلك!‏

    - تصارحا أولاً ثم تعال إلي، لا أريد أن ألعب المندل!‏


    يتبـــــع
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    للنشر
    الإدارة
    للنشر


    المشاركات : 3446
    . : ملتقى نور المصباح الثقافي

    غرباء منتصف الطريق ـــ عوض سعود عوض  رواية ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق – 2006 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: غرباء منتصف الطريق ـــ عوض سعود عوض رواية ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق – 2006   غرباء منتصف الطريق ـــ عوض سعود عوض  رواية ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق – 2006 Icon_minitime15.05.12 2:25

    -32-

    كنت عصية على التصنيف، وإن كنت أقرب إلى النوع الثاني. تؤمنين بحرية المرأة، ولا مانع عندك أن يكون حولك أكثر من صديق. عملك في إحدى الخلايا التنظيمية جعلك متحررة، جعلك محط بعض الأعين، خاصة عندما تأكدوا أنك تملكين فكراً جدلياً، تطالبين بحرية المرأة وإنصافها ومعاملتها كالرجل، وفصل القوانين الخاصة بها عن الدين، تدافعين عن التشريع المدني وتثبتين أن الدين ليس ضد ذلك، لكن كلامك أكبر من عصرك، جاء كخنجر موجه إلى صدرك، أقرب الناس إليك ومن معك في حزب واحد، أنكروا حريتك، ينظرون إلى المرأة كدمية، دورها في الملاهي والإعلان والمطبخ. جرأتك دفعتك إلى انتقادهم، وإلى الحديث عن العشق والحرية والديمقراطية وتحرير الجولان، في عينيك أنسٌ وشموخ، وفي صداقاتك انتصار على الذات، متحررة وأصدقاؤك من الجنسين، سمحت لنفسك أن تخرجي مع عدد منهم كمجموعة أو كل واحد على انفراد، تناقشين وتتحدثين عن الصداقة والحب وتخططين لمستقبل أفضل، تنتقلين من واحد إلى آخر وأنت مغردة، هم يعرفون أنك تصادقين غالبيتهم، كل واحد يظن أنه الأثير، يريدك لذاته، تخصينه بكلام ونقاش وموعد، يهيم ويظل طعم اللقاء والكلمات الرائعة تتردد مع كل لقاء.‏

    هذه حياتك تمارسينها دون تعقيدات، فيها الكثير من اللهو والمرح، لم تتصوري أن يوماً سيأتي وتكوني على الرصيف وحيدة وبلا رفاق وإرادة، وبلا خلية تجتمعين فيها، تبثين شكواك لرفاقك، تزعزع إيمانك بما كنت تنادين به، ارتددت، أنت فتاة، ما المطلوب منك ما دمت غير قوية؟ لم تقبلي الرضوخ، مع أنك تعرفين أن القوة تتحدث، تصمتين حتى تملكي القوة، حاولت نسيان الآلام، أعددت نفسك لحياة جديدة، بعيدة عن كل ما ناديت به، رضخت للواقع وسلمت أسلحتك، ارتضيت حياة الحريم، شعرت أن شيئاً ما في ذاتك ناقص، لم تزل نظراتك سوداوية، ومع ذلك جاهدت للوصول إلى النشوة والقبض عليها، تؤمنين بأن قمة كل شيء نهايته، وأن ذروة الوصول إليها هي لحظة زئبقية، تحسين بالفتور والغم والارتخاء.‏

    اهتزت شخصيتك وتراجعت أفكارك أو أكرهت على ذلك، غدوت بين يوم وليلة تتقيدين بتقاليد أسرة الحفا، تعيشين كما يريد زوجك وعائلته، دفنت نفسك في آلامك، في المطبخ، تمنيت أن تجدي في حياتك فترة مرح هاربة من زمن الحزن والحسرات، سافرت ذاكرتك إلى أيام المراهقة وبداية حياتك الجامعية، تنهدت وترحمت على تلك الأيام، صدرت عنك ابتسامة ساخرة، لكن انفراج الفم وظهور الأسنان أعطى انطباعاً ملائكياً، بيّن كم يبدو الإنسان لطيفاً ورائعاً عندما يخرج من حزنه!‏

    عادت أحلامك قوية وعنيفة، وعادت ذكرياتك طازجة، مع أنك قررت دفع ماضيك خارج حياتك، لكن مثل هذا القرار لا تملكين القدرة على تنفيذه، حياتك ذكريات، الآلام ملازمة لك كظلك دون إرادتك، مهما حاولت التخلص من حملك والعودة إلى الحياة بلا ذاكرة، تجدين نفسك ناظرة إلى الخلف، شيء واحد يخلصك من تلك الحالة الجنون أو الموت وأنت تعيشينهما معاً. من غير اللائق أن تبدئي يومك بالحديث عن الأحزان، يكفيك ما ستبثه فرات عن همومها، تحدثك عن رفض أمها لأي خطيب، الشخص الذي توافق عليه ابن أختها، إذا بقيت أمها مصرة على تزويجها من ابن خالتها ستسافر، ستهرب إلى أخيها. تسلل بردى إلى وجنتيها حاراً، مسحت قطراته المتهاطلة، حاولت أن تبدو طبيعية، شكواها في هذا الصباح كافية، لتستدر دموعك وتذكرك بما أنت فيه، وزواجك من مصطفى الحفا، ها أنت ذي تبادلينها ذرات الندى بقطرات من المطر، مسحت وجهك وصدرك، تمالكت نفسك، فالمطر في غير أوانه وبال، فكيف وأنت ما زلت عروساً؟ قلت:‏

    - طمحت لليوم الذي أتزوج فيه، إلا أنني اكتشفت كم كانت الحياة رائعة بلا قيود، لا أخرج إلا مع زوجي أو مع أمه، عليَّ أن أعتني بنفسي لأجله، لأكون فاكهة مقطوفة جميلة ونظيفة تنتظر أسنانه وفمه، عليّ أن أستقبله لحظة وصوله وأظل معه أدور حوله، أطلب إليه أن يكون وديعاً حنوناً، أن يشملني برعايته، تصوري هذه حياتي، أعيش على هامش المطبخ، أعمل خادمة في النهار وعاهرة على سريره ليلاً، وأنا التي دعت لحرية المرأة، أبعد هذا عبودية؟‏

    - وزوجك؟‏

    - الآن أدركت يا صديقتي بأن الذي عليه أن يتحرر هو زوجي، ألزمني احترام تقاليد عائلته وأعرافها، ممنوعة من استقبال أصدقائه أو أقاربه. آه يا فرات؛ المرأة عليها أن تدفن أحاسيسها ولا تصرح بعواطفها، لا تصرح بحبها، يمسكها من اليد التي تؤلمها، قلب المرأة إذا دق تعجز آلات الحرب والدمار عن إيقافه، لكن لا عليك غداً يصير لي أولاد، أفرض ما أريد، استقبل ببيتي وأرمي منديلي الذي يغطي شعري، وأخرج إلى الحياة ثانية، لأقول لكل امرأة عليك بالاقتصاص من الرجال.‏

    الآن بت تدركين أنك رضخت منذ اللحظة الأولى لأعراف العائلة. في جهاز العروس ومراسم الفرح، وفي الحمام أخضعتك لفحص القابلة، عند العتبة طالبتك أن تخطي بقدمك اليمنى، أعدت اليسرى إلى الخلف ومثل جندي لا يفرق اليمين من اليسار، فكرت ثم خطوت إلى داخل الحمام، في البراني اجتمعن حولك. جلسن على مصاطب الاستراحة وبدأن بحل شعرك والغناء، ثم خطون عبر الدهليز إلى القسم الأوسط، حيث تتدرج درجة الحرارة من البراني إلى الوسطاني الذي هو أشبه بردهة.‏

    كنت تحدقين في الحمام الذي تفنن الدمشقيون في بنائه وتزيينه، رصعوا جدرانه بالقيشاني وأرضه بالحجارة والرخام. ما شدّ انتباهك بلّور النوافذ المعشق والزاهي الألوان، والتجويفات والرسوم والخطوط الرائعة التي تمثل بعض الآيات والسور القرآنية كالفاتحة وسورة ياسين. اجتمعن حولك، بدأت تخلعين ملابسك قطعة قطعة حتى تعريت فانهالت الزغاريد:‏

    حصنتك بياسين‏

    يا زهرة البساتين‏

    يا مصحف زغير‏

    يا عروس السلاطين‏

    ها هن أولاء يقبلنك ويتحسسن جسدك ومكوراته. يقتربن أكثر في محاولة لشم رائحة فمك وإبطيك. يقرصنك حتى تورد بدنك وفي بعض المواضع يميل إلى الزرقة.‏

    في الوسط نافورة وأرض مرصوفة بحجارة وردية وسوداء، تتوسطها تشكيلات رخامية محاطة بأميال سوداء. أما على الجدران فصور وسجاد ومرايا. بعد أن تناولن بعض المشروبات، انتقلن إلى الجواني حيث ينتشر الدفء والبخار. عند مصطبة الحرارة بدأن اللعب بالماء، فاختلط الصياح بالمزاح والغناء. كل واحدة تريد أن تفرّكك، تبسمل وتصلي على النبي للجمال الفتان. أما فرات فكانت إلى جانبك عارية تفرّكك وتقرصك وتقبلك وترد على المزاح الفاحش. عند الانتهاء من الحمام تعالت الزغاريد والأغاني:‏

    يا صحن توت‏

    مجلل بياقوت‏

    كبرو الصغار‏

    وفتحو بيوت‏

    أما مصطفى الحفا فقد تأكد أنه محظوظ، وأنك يا هلا مثالية في كل شيء، في حبك وفي آرائك وفي طموحاتك، وفي انزوائك ورضوخك لإرادته، أحبك وحاول أن يسعدك، يعوضك بالمشاوير والليالي الحمراء، هكذا يفهمك، جسد بلا روح، بلا أحاسيس، كلما زادت هداياه زدت رضوخاً، يهديك في كل مناسبة سواراً ذهبياً أو فستاناً، لا يبخل بنقوده القليلة، وفي أيام العطل والجمع والأعياد يضع نفسه في خدمتك، يلبي ما تطلبين، لا يدعك حتى عند أعز صديقاتك، يغار عليك، يحب أن يكون بعيداً عن ازدحام المدينة، في أرض الله الواسعة التي تتسع لملايين كلمات الغزل.‏

    جاريت أفكاره، لا تريدين أن تبدئي حياتك بشرخ في علاقتكما الزوجية، يصر على مرافقتك، ما جذور هذا الإصرار، غيرة أم عدم ثقة؟ قلبت حاضرك وجدت نفسك حرة داخل سجنك! قلبت الحزن وهدهدته، لعنت اليوم الذي قبلت أن تتزوجيه، ظهر ما في داخلك على وجهك، اجتاحتك سحائب خماسينية، استسلمت لقضاء الله وقدره. لم تزوري أخاك إلا مرة، لم تزوري أحداً من أقاربك. أما صديقاتك وخاصة فرات، فقد زرتها بعد إلحاح دام أشهراً. قررت الآن أنك من الحريم، عليك أن تستفيدي من وقتك وتبدئي بالمطالعة. بدأت ببرنامج ثقافي، تسهرين حتى الواحدة أو حتى الصباح مع مدام بوفاري، تحسدينها على زوجها وحبه المتفاني لها، وحبها لعشيقها، تمنيت أن يكون لك عشيق وتذهبين إليه تحت أية حجة وتطعنين كل الحفاة، لكن فات الأوان.‏

    حاولت إقناع زوجك بضرورة عودتك إلى العمل في ظل ارتفاع الأسعار، دخل واحد لا يكفي أسرة، الليرة انخفض معدلها الشرائي. دفعته للسفر إلى الإمارات العربية، لكن زوجك شاور أمه فنصحته أن يظل إلى جانبك. سعيت بسكن منفرد عن أهله فلم تفلحي، حاولت أن تحملي منه لكن الله لم يكتب لك ذلك!‏

    ــ 33 ــ‏

    انتهى القارئ من تلاوة المولد النبوي الشريف، وتم توزيع الحلوى وصرر الملبس على المدعوين، بينما النسوة يرقصن ويغنين بنشوة بعض الأغاني الشعبية، وأنتِ فرحة تدخلين غرفة ملابسك، تغيّرين فستانك بآخر أجمل، تلقتك أمه بالمهاهاة والزغاريد، بينما بقية المدعوات يصفقن ويغنين:‏

    لبست فستان عنابي‏

    قلعت فستان عنابي‏

    يا لله تشوف العزابي ‏

    نايم بالفرشة لوحده‏

    أسدلت الستائر ودارت المروحة السقفية بسرعة. الصبايا ينشفن عرقهن، يتداورن الرقص وهز البطن والخصر والردفين وحركات الإغراء والغنج، كل واحدة تلف في المكان تحني جذعها وتهز، بعد أن تربط منديلاً على وسطها شادة إياه على ردفيها. الأجساد المياحة اللدنة بهية كأفنان مورقة ومزهرة. كل ذلك يترافق مع تعابير وأوصاف تحكي بالسر والعلن للأجساد والراقصات فيها الكثير من المديح:‏

    - جسمها ريان مثل عود النعنع.‏

    - يا أرض احرسي ما عليك، طلة عود رمان واستدارة جسم مليان.‏

    - نيال من لف يده على خصرها وباس ثغرها.‏

    - الصدر إسفنج، واللعب لنص الليل والنومة للضحى.‏

    - في هذه الليلة ستعدين النجوم، وفي الليالي التالية سيعدها وحده.‏

    يتعالى ضرب الدربكة وتتعالى موجة من الأغاني مترافقة مع ضحكات وتلميح وتصريح. الفتيات يتحرشن بك، يصفنك بأحلى التعابير، يتنهدن على الليلة التي لا تنسى، وأنت تزهين بثوبك الأبيض وبجانبك فرات التي لم تسلم من الأوصاف الجميلة. تشعين نوراً وبريقاً وتعبقين عطراً، سعيدة إلا أنك تحاولين أن تهربي لماضيك، الصبايا العاشقات لفنون الطرب يقرصنك من فخذك ومن ذراعك وخدك لتصحي وتبقي في الحفلة، لتظلي مع المغنيات الراقصات. رقصت وكدت تقعين على وجهك، تذرعت بالدوخة، تلقيت عشرات التعليقات.‏

    تسمعين، تبتسمين، عليك أن تصمتي، كما فعلت عندما جلست إلى جانبه، وكذلك عندما بقيتما وحدكما. يشحب ويصفر وجهك مع اقتراب المساء، تحسبين ألف حساب لساعة الوصال.‏

    حماتك اختارت لك ملابس داخلية في غاية الشفافية، تحيل جسدك إلى هالة من نور، وعتمة الليل إلى لهيب ودفء. الشعاع يتراقص على جسدك المأخوذ برقته وزهوه. الملابس لا تغطي سوى مقدار كف، تحيله إلى بقع أرجوانية. كاد مصطفى أن ينطرح أرضاً مغشياً عليه، يجهل فنون الجنس، تخافين عليه من الاندهاش، أن يرتبط ويقف مذهولاً في ليلته الأولى، وربما في ليال أخرى، أوصتك أمه ما عليك فعله إن تبله وانصعق مفتوناً، حفظت وصاياها، ووجدتها مصيدة تجعله في موقف الضعيف أمام هالتك.‏

    ستقوضين أحلام أمه، تلك الأحلام التي تجعلك مستلبة الإرادة، ستبهرينه وعندما يقترب تفاجئينه وتخذلينه وتربكينه، تجعلينه تائهاً في جمالك غير قادر على التصرف، لن تأخذي بيده، بل ستمسكي بزمام المبادرة. لقد استفدت من الإرشادات، ستحيلين كل ما قالته إلى عكس ما أرادته، لن يجدي استجداءه، تفكين عقدته في اللحظة التي ترينها مناسبة، حمدت الله أنك قادرة على إركاعه، ستحولينه إلى طفل يطلب الحلوى ولا مجيب، أنت الوحيدة القادرة على منحه إياها، ولن تمنحيه قبل أن يرفع يديه ورجليه ويقول بصريح العبارة، إنه قد سلمك دفة السفينة، أنت القادرة على إنقاذه أو إغراقه في يمك، في محيطك، وإذا غرق ستقودينه إلى حيث تريدين.‏

    اعتقدت أنكِ امتلكت الحياة. لجسدك لهو الأطفال ولروحك فضاء درب التبانة. السهرات ستكون بداية دفن الماضي. لزوجك روح شبابية، تحسين بدماثته، تكسرين رتابة الحياة وتنشرين حبك وفرحك، هذه بداية حياة جديدة، تضحياتك لم تذهب سدى، على غير عادته يظهر عشقه وحبه، تبدين أكثر جاذبية وأنتِ تثيرين شهيته، تثيرينه ليتغزل بجسدك وأنوثتك، بشعرك الذي صففته وتركت خصلاً منه تتمرد وتتطاير حسب النسيمات، تتلوين بين يديه غنجاً ودلالاً، حركاتك تبرق في عينيك المتوهجتين، تهدر في شرايينك، يكاد يفجر ما تبقى من أنوثتك الصارخة، اختصرت فرحك بابتسامة، وخبأت في جفنيك السعادة، الرياح في الخارج لا تعنيكما، قوة تكسّر بعض الأغصان اليابسة، وتدفع الأوراق المتناثرة في الشوارع إلى الهرولة، لم تفكرا بأن الريح ستحمل معها أوراق التوت، لتلتهم النيران جسديكما، الحريق يشتعل، النيران تلتهمكما، تقذفين الماضي قطعة بالية، تتوحدين في لحظات العشق، الآن أنتما وحدكما في فاتحة حياتكما الزوجية. لم تكوني سعيدة كما يجب، خائفة تستمعين إلى غزلـه وتهزين رأسك، يتحرش بك، طلبت إليه أن يخلصك من الطرحة وثوب الزفاف لتستحمي وتتخلصي من العرق، بعد نصف ساعة عدت مشعة وأنت ترتدين منامتك، سألته عن شعوره، اقترب ليلثم شفتيك ويضمك، أبعدت وجهك متذرعة أن الوقت لم يحن بعد.‏

    تأججت النيران في جسده. أمامه صبية رائعة، تمانعه بقولها: «لم يحن الوقت» وهما عروسان. مدّ يده وأخذت طريقها إلى جسدك الغض، لم يترك موضعاً إلا دلكه وفركه، وأنتِ في عالم آخر، سايرته، اقترب، التصق بك، قبلك، بادلته بقبلة خجلى وسريعة، تأججت الرغبة، أردت سماع المزيد من كلمات الغزل، رفضت التعري من ملابسك الداخلية، الخجل يسيطر عليك، رجوته أن يبقيك بملابسك وإلا فإنك ستعاندين. حاول السيطرة بقوته ففشل. أذعن إلى رغبتك. اقتربت تارة وابتعدت مرات، حركاتك جعلته يذوب ويذوي، لم تمكنيه، سهرتما حتى ساعة متأخرة، وقبل أن يفقد الأمل بمضاجعتك أسلمته نفسك.‏

    صارحك في السهرة بأشياء كثيرة عن أهله وعن ذاته، وأنت تستحثينه على الحديث، وهو على بعد سنتمترات منك. تبتعدين راغبة بسماع تفاصيل حياته، وروتين أسرته في الأيام العادية وفي أيام العطل والأعياد، سألته إن كان أحب غيرك؟ ولماذا أحبك أنت بالذات؟ متلهفة لكشف أسراره، تكافئينه بقبلة فيحكي ماضيه أو الجزء الذي يريده أن يرى الضوء. عرفت أنه يحب الكثير من عادات أمه، خاصة ما يخص الأطعمة والفواكه التي تخبئها في غرفة النوم مساء، طمأنته أنك ستفعلين مثل حماتك ليكون سعيداً، نظر إليك بمرح وطالبك أن تحدثيه.‏

    نظرتِ إليه وكأنك فوجئت بطلبه. اختلقت مواقف غريبة. أخبرته أنك خُطبتِ غير مرة، ترفضين خطابك لأنك تجهلينهم، ولأنهم يبدون لا أخلاقيين في أول تعامل. أحرجت عندما طالبك أن تتابعي حديثك وتقدمي بعض التفاصيل والمعلومات عن الأشخاص الذين حاولوا الاقتران بك. تخلصت من ذلك بادعائك أن الفتاة الجميلة المتعلمة والمؤدبة يتقدم لخطوبتها كثيرون دون أخذ رأيها. هو يعرف أنك لا تعرفين سواه، صرح ذات مرة أن إنسانةً مثلك لا يمكنها أن تبني علاقة مع أكثر من واحد تحبه وتخلص إليه. الذين تقدموا لخطوبتك، أحدهم عن طريق فرات، وآخر عن طريق أخيك أما الثالث فطبيب أسنان لا تعلمين من دلّه وقد رفضتهم جميعاً، لم ترغبي بالزواج إلا بعد أن قابلت مصطفى، هو غير الشبان الطائشين الذين يحاولون اللهو. يبدو أن مأساة صديقتك التي خدعها متدن أثرت عليك. صديقاتك وزوجة أخيك يحاولن سبر أغوارك، وعندما تكتشفين مشروع خطوبة تهربين. سألك إن كنت سعيدة أجبته إنكما في أول ليلة، تعانقتما ودسستما جسديكما تحت الغطاء.‏

    في الصباح كان عليك أن تستوعبي الواقع الجديد، تتعاملي معه، تحبي زوجك، تهبيه ذاتك، تتعلمي من والدته السيدة ليلى وتتعودي البقاء في البيت إلى جانبها، تعودت الحزن في الماضي، منذ اليوم عليك أن تتعودي المجاملة وتروضي ذاتك على روتين البيت، وتنسي أنك متحررة وداعية لتحرر المرأة، عليك أن تلائمي حياتك مع الروتين ولو كنت تكرهينه. تظلين في المنزل وأنت ضد بقاء المرأة دون عمل وفعالية. ترضخين. ها أنت تشربين من الكأس التي كرهتها، وتقعين فيما حذرت منه، ولا مبادر يأخذ بيدك.‏

    مع الفجر تنهضين، تحضرين قهوة الصباح ثم طعام الإفطار، تشاورين زوجك وحماتك فيما يجب طبخه لوجبة الغداء. يخرج زوجك ويقصد البقالية، يحضر ما يلزم لذاك اليوم. إذا احتجت لشيء تذهب حماتك لإحضاره. أحسست أن هناك اتفاقاً غير معلن لبقائك في البيت، ربما هو التخلف أو كونك عروساً. لا يسمحون لك بشراء شيء بحجة أنك ما زلت مدللة، يحضرون ما تريدين، وإذا حاولت كسر هذا الطوق، تسمعين كلاماً لا يريحك، من المعيب خروجك، عليك أن تعملي في المطبخ، تصفين الصحون وكاسات الشاي وترتبين أدوات المطبخ بعد تنظيفها وتعيدينها مكانها. بعد ساعتين أو ثلاث من العمل المتواصل تنهين ما عليك من أعمال. تذهبين إلى غرفتك تستلقين على سريرك أو تجلسين مع أم مصطفى، تحدثك عن الجيران وزوجاتهم، وعن الأزواج وأنت مصغية، ارتاحت إليك، أسمعتها أحلى الكلام عن حبك لزوجك ولها، تواسيك في تعبك في المطبخ بقولها بلغتها الدارجة: "يوه، اضرب أنا على هل السمعة، وكسر الهاء ما بخليك تتعبي، حرام أصابيع البوبو تتحسس، ما بنحرم منك يا حق، تؤبشيني على الجمال والحلاوة، والله ما في حدا محظوظ مثلك يا مصطفى، نيالك على الصدر، على الحرير، هاي من رضاي عليك، روح الله يرضى عليك ويوقف لك أولاد الحلال."‏

    شعرت بالخجل فقد جاءك المديح من حماتك، بدت عليك السعادة، اقتربت منها وقلت:‏

    - ارتحت إليك، أنت طيبة وبنت حلال. أمنيتي إرضاء زوجي وطفل يملأ حياتنا مرحاً. إذا لم تأتني الدورة خلال يومين، فالله أعلم أنني حامل!‏

    - من فمك لباب السماء!‏

    قالت ذلك وهي تبادلها القبل.‏

    كان لابد أن تكيفي حياتك مع وضعك الجديد، وتعقدي صداقة مع البيت وخاصة المطبخ، وتعوّدي نفسك على الانتظار، أصعب الأوقات زمن مجيء زوجك أو قبل ذلك بقليل، أما إذا تأخر إلى العصر، فإنك تحسبين ألف حساب، تحاولين إبعاد الأفكار التي لا تليق بك، لكنها تدهمك، تحولت إلى امرأة لا تفكر إلا بزوجها، كيف تسمحين أن يتسرب الشك إلى داخلك؟ مثل ذلك قاتل للحياة الزوجية، ماذا تفعلين وطبيعة حياتك تحتم عليك الانتظار لحظة بلحظة؟ حياة المطبخ تبرمج دماغك، تفرض عليك سلوكاً محدداً، ترغمك على الانصياع لتفكير الحريم. أدركت أن حياتك في الكتاب والوظيفة والاختلاط بالناس، ما فائدة هذا الإدراك المتأخر ولم يبق من العام الدراسي إلا القليل. ذهبت إلى أخيك وأحضرت مجموعة كتب عن الشعر والرواية، ستراجعين العديد من الكتب الجامعية التي تبحث في العصر الجاهلي والإسلامي. أناملك تداعب صفحات الكتب وروحك تنتشي، عقلك يتفتح كزنبقة، تشعرين بمتعة القراءة، تحلمين، تعانقين النجوم، الشمس تهرع كتلة بين يديك، فاكهة لن تشبعي منها، تتمردين على واقعك، صممت أن تعودي إلى التدريس في مطلع العام القادم، لابد من التمهيد لإقناع زوجك وحماتك، وإلا فإنك ستضطرين إلى وضعهم أمام الأمر الواقع.‏

    خياران أمامك، تجاوزت الخيار الأول. خيوط الفجر تغزو صباحك، من الآن وحتى أيلول موعد افتتاح المدارس، لابد من حياة جديدة غير القراءة، أن تخرجي إلى الشارع إلى الناس، تنسي جدران المطبخ. هل أنت قادرة مع كل ثورتك على فعل ما تشائين؟ الخروج من البيت والذهاب إلى المدينة، إلى الصديقات دون تقديم الأسباب الداعية وساعة العودة، ورجاء مشفوع بالموافقة التي في حال حدوثها تعتبرينها انتصاراً وفرحاً. هذا الأمر في حياتك السابقة عادي، غير العادي بقاؤك بين أربعة جدران وسقف، صحيح هي جدران نظيفة ومدهونة، لكنها باتت باهتة وذات منظر واحد، حتى أثاث البيت عرفت كل شيء عنه، كل ما في الغرفة، كل ما حولك يقطر عذاباً وألماً. الذاكرة والأيام صارت أمواجاً بلا جزر. أحزانك عميقة كالبحر. بريق عينيك يتلاشى، جاذبية وجهك ترحل. جسدك بدأ يميل إلى الاكتناز والسمنة، فقدت رشاقتك المعهودة، خلال عام زاد وزنك سبعة كيلو غرام. زوجك سعيد إذ يراك صورة عن أمه، دائم التغزل بقوامك الممتلئ. يطلب إليك أن تصطحبي إلى غرفة النوم بعض الأطعمة والحلويات للسهرة. هل تملكين حق الرفض والامتناع عن السهر حتى الصباح، حتى لو كنت تعبة؟ تتحولين إلى ملبية لرغباته الزوجية التي لا تقاوم، والذي يصرّ عليها كل ليلة.‏

    الوجع يبدأ في رأسك ثم ينتقل إلى باقي أنحاء جسمك الذي أخذ يهرم، يشيخ الدماغ، يتحول تفكيرك باتجاه الأمور البيتية، ما اللباس المناسب لاستقبال زوجك؟ ما الفستان المناسب للسهرة، وأي الألوان يحب؟ وما مقدار الأصباغ التي تزين وجهك وجسدك وأي عطر يفضل في السهرة؟ عند المساء تتحولين إلى أنثى شهية بما لبسته من ثياب مغرية وما وضعته من أصباغ وأشرطة راقصة، لقد صغر حلمك و تفكيرك لينحصر بأمنيات صغيرة جداً؛ لا تتعدى حلم الخروج واستنشاق الهواء من الشوارع والحدائق العامة. ماذا يحصل لو تجولتِ في دمشق وعدت ظهراً قبل وصوله، هل تسمح حماتك بمثل هذه المخاطرة التي تعد انتهاكاً للقيم؟ ماذا سترد لو خضعتِ وقبلت يديها وطلبت الخروج لتري العالم، الناس؟ أم مصطفى لا تستسلم لدموع المرأة وضعفها، هي تعرف بأنها ضلع قاصر ولا تعطى على هواها.‏

    ذات مساء ناقشت مع زوجك هذا الموضوع، فتحته على مصراعيه، وكلما حاول إغلاقه تفتحينه من جديد لتعرفي رأيه. تهرّبَ طوال السهرة من الإجابة، ولم يكن صريحاً، إلا أنه أدرك ما أردت أن تصلي إليه. في اليوم الثاني أحضر «فيديو» ومجموعة أفلام، اعتقد أن هذا الجهاز العجيب القادر على بث الأفلام ليلاً ونهاراً قادر أن ينسيك ما طالبت به، قادر على قتل الحرية في داخلك، قادر على إسكاتك. لم يفعل هذا الجهاز فعله الرهيب فيك، بقيت حزينة، بل ازداد حزنك، أدركت حدود الحرية عنده. فتاة مثلك دخلت معترك الحياة ومرت بتجارب، لها آراء في الحياة والناس، تخوضين نقاشات وتقنعين الآخر بوجهة نظرك، وأحياناً إذا كان متعصباً تهادنينه، تناقشين نقاطه نقطة نقطة، وإذا لم يقتنع تتركين ذلك لجولات أخرى دون أن تستسلمي لأفكاره. استلمت بعض المهام التنظيمية، عدة خلايا نسوية وغيرهن ممن عرفنك يعتبرنك قدوة، أين القدوة؟ أين المرأة الشجاعة والتنظيم؟ كل هذه الخربشات التي تلف دماغك، لا تخلصك من واقعك، أنت الآن ظل امرأة، أرنبة تخافين من كل ما حولك، هذا واقعك، واقع الإذن للخروج ولو خطوة واحدة خارج البيت، زوجك عند اللزوم يأخذ إجازة من عمله ويلبي رغباتك، تخرجان، تكتشفين أنكما غريبان وأنتما وحيدان، لكل منكما وجهة نظر مختلفة، حتى في المسائل البسيطة. كيف لم تحسبي حساب ذلك؟ تعترفين أن زواجك غير ناجح، وأنك أخطأت الاختيار. غطيت وجهك بكفيك وأجهشت بالبكاء، عضضت شفتك السفلى ندماً، ماذا ينفع الندم بعد احتلال الجولان؟ وماذا ينفع تململك في بيت متدين؟ وماذا ينفعك قتال الجدران؟‏

    قُرع الجرس. ركضتِ إلى المرآة، سويت هندامك ومسحت دموعك، رسمت ابتسامة على شفتيك، انتظرتِ حماتك لتفتح الباب، إنه زوجك كما توقعت، جلست بمواجهته وهو يغير ملابسه، لم تساعديه، استرق النظر وتغزل بك:‏

    - ما بك يا زوجتي الحسناء، لم الغيوم تغطي وجهك؟ ابتسمي لترحل السحب وليصير للحياة طعم المبرومة.‏

    - الله، أنت شاعر يا زوجي، من غير اللائق تجاهل مشاعري، أنا إنسانة لم أتعود البقاء في البيت، أمضيت حياتي في التدريس، فجأة أفقد حريتي، هل تثق بي؟ إن كنت تثق دعني أعود إلى التدريس، وأعدك بالطاعة. دعني أمارس حياتي ولا تسجنّي، وإلا فإنك لن تحلم بضحكتي وخفة روحي، ستجدني دائماً جسداً محنطاً لا حياة فيه ولا روح.‏

    - ما المطلوب الآن؟‏

    - لي طلبان. الأول أن تدعني أزور أخي وصديقاتي متى أشاء ولن أثقل عليك ذلك. أما الطلب الثاني سنتحدث به قبل بداية العام الدراسي. الحياة يا زوجي مع انعدام الثقة مذلة وغير قابلة للاستمرار.‏

    - وماذا بعد؟‏

    - أية امرأة تحلم ببيت مستقل، عليك أن تضع في حسابك منذ الآن شراء شقة.‏

    هز رأسه لطلباتك، ابتسم على مضض وقال:‏

    - معك حق يا حبيبتي في بعض طلباتك، منذ اليوم سنخرج و سنستمتع بحياتنا، الحياة تافهة إذا كنا غير متفاهمين، هيا ابتسمي فاليوم وغداً وبعد غد سنخرج للسهر في أحد المطاعم، ومع بداية الشهر القادم سنذهب أسبوعاً إلى اللاذقية، نستأجر شاليه، وهناك ستكون حياتنا طافحة بالحب.‏

    منذ الصباح وبعد الإفطار خرجتما. أخبرك بأنكما ستمضيان اليوم في الزبداني. وضعتِ يدك بيده والبسمة لا تفارق وجهك، دعوته إلى الإسراع إلى كراجات البرامكة، أخذتما الميكرو باص المتجه إلى الزبداني، من الكراج إلى ساحة الأمويين مروراً بالجمارك، ومن هناك إلى الربوة حيث غابات الحور وأسراب العصافير حتى دمر. الطريق يتلوى موازياً لبردى. النهر الذي شق طريقه منذ آلاف السنين والأشجار الوارفة التي تخيم على مجراه ولا تسمح برؤيته. بينما النباتات المائية تزهو بخضرتها على جانبيه. ظل الطريق صاعداً يزداد حسنه كلما اقترب من بساتين التفاح. كنتما فرحين كطفلين سعيدين بيوم العطلة.‏

    الزبداني جسد مكتنز ذو بشرة خضراء، موشاة بألوان أجمل وأحلى من قوس قزح، هضبة ترتفع ما يزيد على ألف ومئة متر، نسيمات تعيد الحيوية وتطلق ضحكات الريح المرحة، تتصل جنوباً وغرباً بجبال لبنان التي تشكل سداً في وجه تنقل الناس والبضائع. من بطن هذه التلال والجبال انطلقت الينابيع تزغرد، العديد منها يتجه إلى دمشق كنبع بردى. مسالك وعرة هي طرق سالكة بالنسبة للمهربين، منها يتحركون ويجلبون الدخان الأجنبي والأدوات الكهربائية وبدلات الجنز، تقابلها دروب ضيقة موصلة إلى بساتين التفاح. النسائم تهب وكأن الصيف غادر منذ زمن. في ذاك اليوم الجميل شعرتما بعاطفة حميمة تلفكما. عدتما مساءً لتناول العشاء عند نبع الفضة القريب من طريق دمر الهامة.‏

    في اليوم الثاني خرجتما تتمشيان في المدينة، رأيت الصلصال مصادفة وهو يضع أمامه بعض الملابس المهربة. سرت رعدة في جسدك، كدت تسقطين، اصفر وجهك، كيف ستمرين أمامه؟ تمالكت نفسك وتظاهرت بالدوخة، ارتبكت وطلبت إلى زوجك أن يعيدك إلى البيت، أوقف سيارة وطلب إلى السائق أن يوصلكما.‏

    انتظرت مجيء فرات التي رأت أنه أمر عادي. هي تعلم أنه أخلي سبيله وأن معلمه استغنى عن خدماته. عاد كالقنفذ إلى حجمه وضآلته، إنه الآن شخص عادي لا يخيف أحداً. أخفت عنك ذلك لتستمر حياتك بلا خوف، سألتها: "ما العمل؟"‏

    طمأنتك أن حامداً يترصده، لن يدعه يؤذيك. زوجك غير مرتاح لتصرفاتك للكوابيس التي تزورك ليلاً، لآلامك، لمرضك. ربط بين خوفك وظهور المهرب الذي يترصدكما ويمشي خلفكما. أكثر من مرة قررت العودة وإلغاء مشوارك لدى رؤيتك له، سألك:‏

    - لماذا يتبعنا هذا الرجل؟‏

    - اسأله!‏

    - هل تعرفينه؟ هل من علاقة سابقة؟‏

    كان جوابك بالنفي. اقترب زوجك ليسأله. تدخلت وشددته وأخبرته أنه رجل شرير! بدأ يستعيد المواقف ويعيد حساباته ويفكر من جديد. تساءل عن سرِّ معرفتك بشره، وكيف حكمت عليه؟ توصل إلى أن شيئاً ما يربطك بهذا الرجل وعليه معرفته، سيصل إلى ما يريد بطريقة تجنبه الاصطدام. لكن ما حصل مساء الثلاثاء الأخيرة من آب كشف جانباً خفياً. فبعد تناولكما لوجبة الطعام في المقصف، ذهبتِ إلى دورة المياه. لحق بك الصلصال وشدك من يدك، قلت بصوت منخفض: "أنا متزوجة استر عليّ الله يستر على حريمك، ماذا تريد أكثر مما فعلته؟ تحبني غير معقول مثلك لا يعرف الحب!"‏

    شدك ثانية وحاول أن يجرك إلى الخارج. صحت. أقبل زوجك وحاول إبعاده. لم يكترث بل تناول كرسياً وشج رأس زوجك وهرب. ركض الموجودون لإسعافه. وأنت تبكين وتولولين حين رأيته مغمى عليه وملقى على الأرض ينزف. النادل ساعدك في نقله إلى المشفى. في مشفى المواساة أعطيت إفادة ادعيت فيها بأنك لا تعرفين الرجل الذي ضرب زوجك، فقيدت الحادثة ضد مجهول. علمت حماتك بالحادث، جاءت مسرعة، تسأل وتستفسر عن صحة ابنها وعن الجاني. تخلصت من أسئلتها المحرجة بالبكاء والإنكار، كنت تعلمين أن الماضي يخيم عليك، يعود بشكل أبشع، يقضي على كل ما بنيته. تحولت أحلامك إلى رعب ونهارك إلى ليل، وطرقاتك إلى حجارة وأشواك، والناس إلى وحوش، سألت نفسك ما العمل؟ لم تعثري على جواب مقنع، أجوبتك متناقضة، تقررين المواجهة ولكنك تؤثرين السلامة، حتى جاء يوم افتتاح المدارس، وكان قرارك العودة إلى التدريس والمجابهة. إذا رأيته في طريقك تضربينه وتصيحين وليحدث ما يحدث. لن تظلي ذليلة، ماذا ستخسرين؟ ستقولين إنه يلاحقك وأنت امرأة متزوجة ومستورة. ارتحت لأفكارك التي كان لفرات الفضل في ترسيخها.‏

    بماذا سيتصرف زوجك؟ أنت مستعدة للخروج، استغرب قرارك وردة فعلك، استفزك بقوله إنك غير طبيعية وتشردين وأفعالك متناقضة. تجاهلت ذلك وأسرعت إلى علبة التجميل، لونت وجنتيك بالعناب، وبالكرز دهنت شفتيك، أحسست بالرشاقة، أعدت لروحك الدعابة، قفزت فتحفزت اليمامتان للانطلاق وهدلتا، غردت تفحصت بشرتك ولونك الحنطي، شعرت أنك تستعيدين حياتك وحيويتك وشبابك ودفئك. أخبرته أنك خارجة وإذا تأخرت عليه أن ينتظر. نظر إليك وقال في نفسه: «لقد شارفت حياتنا على الانتهاء، لا شيء يؤسف عليه».‏

    ــ 34 ــ‏

    أنتَ أمام المحقق وجهاً لوجه، يسألك، تتهرب من الإجابة، من الصعب الثبات على موقفك هذا، كان من الممكن أن تنكر ما نسب إليك وتضلل العدالة، لو تدخل معلمك في الوقت المناسب. بقيت ساعات تحت الضرب، اعتقدت أن التعذيب ينتهي بعدها. لكنه يتجدد بأساليب أكثر دهاء. تتأكد من أن نجاتك من الموت ستكون باعترافك، تساوم المحقق. يحاورك، يطلب ملفك وسوابقك، يفاوضك ويضعك في موقف صعب، يوهمك أنه قادر على تخفيف عقوبتك، وتحويل الادعاء والمحاكمة من مجرم متورط إلى شاهد على جماعتك. تسللت الكلمات الناعمة إلى صدرك. تحسّ بسيطرته عليك، خاصة وهو يمازحك ويشعرك بقرب الإفراج عنك. يجرك إلى حيث يريد. تكشف حقائق عن شبكات تهريب وجرائم عدة. تعترف على معلمك وتهيئ نفسك لتقف خصماً، فهو لم يحرك ساكناً. أخيراً تنطقها «عليّ وعلى أصحابي يا رب» تدلهم على مخازن التهريب، وتصرح بأسماء المهربين الذين لم يتورطوا في هذه العملية، على أمل أن يفرج عنك بكفالة مالية لتتحول إلى شاهد عند استدعائك.‏

    الحقيقة أنك باعترافاتك الخطيرة وغير المتوقعة، صرت ثقة. يتوقف المحققون عن أسلوب العنف ويعاملونك بلطف. تطالبهم بتنفيذ وعدهم وأنت تدلي بمعلومات لم يحلموا بها. يعيدون تصنيفك. يحترمون تعاونك ويسجل إلى جانب اسمك عبارة يستحق المساعدة، إلا أن سمعتك السيئة وماضيك الملوث، يجعل من المستحيل الإفراج عنك فوراً. تكتب الصحف وتنشر ما مسموح بنشره، تجري إحدى الصحافيات مقابلة معك وينتهي موضوعك عند هذا الحد.‏

    في الأسبوع الثاني لتوقيفك يُستدعى معلمك للتحقيق وتصادر بعض مخازنه. ينكر التهم المنسوبة إليه، يصرّ أن لا علم لـه بتهريب الحشيش والمخدرات وغيرهما من لبنان. يلجأ إلى معارفه وإلى نفوذه الواسع، يعتذر القاضي منه. يتهمك بالجنايات والجرائم التي أسندتها إلى معلمك، يذكرك بملفك بقوله:‏

    - يا صلصال ملفك يعج بالجنايات المسجلة على «فيشك»، ماضيك احتوى أوساخ المدينة ومزابل القرية، مثل السطو على محل جواهر بسوق الصاغة وحادثة إطلاق النار على دورية شرطة، واغتصاب فتيات غررت بهن، وحوادث ضرب واعتداء على مواطنين آمنين وغيرها.‏

    - مظلوم يا سيدي، هذه جرائم معلمي!‏

    ينظر إلى تهمتك بمنظار المتعاون مع القضاء والشرطة الجمركية. تشمل بالعفو الجزئي الذي يخفف مدة سجنك، يراودك الأمل في الخروج، ترسل التهديدات لمعلمك. ثمة أمور خفية وأسرار لم تصرح بها بعد للقضاء ولزوجته. إذا لم يبادر إلى التدخل ويدفع الكفالة المالية التي حددها القاضي لإخلاء سبيلك بعد سنة من التوقيف، ستقول كل ما عندك. أخطر الأسرار ما زالت في صدرك لم تبح بها. كلمة واحدة لزوجته عن طقوس التعري وعن غيره تجعل حياته جحيماً.‏

    تضيق الدنيا. تهرب من بين أصابعك. يضيع كل شيء. بيتك وثروتك ومكانتك الاجتماعية. تصير على الحديدة. ومن تقلب لـه الحياة ظهرها يجازف. ينصحون معلمك أن يسكتك، أن يتدخل ويخرجك. يسألهم إن كنت قادراً على تهديده وأنت طليق. يجيبونه إنك ستحسب ألف حساب، أما في السجن فالمجازفة لن تعني لك أكثر من البقاء حيث أنت. لا شيء سيتغير، وعندما يتساوى الربح والخسارة، قد تفضل الثانية، إذا كان فيها إثبات لذاتك وانتقام، من يتوقع أن سجنه سيطول لا يهمه أن يسرب خبراً ويوقع الآخرين.‏

    يقتنع معلمك ويتدخل. تخرج من السجن. تأتيه طائعاً تقبل الأيادي. تحاول العودة إلى وضعك المميز وكأن شيئاً لم يكن. لم يوافق على مقابلتك أو مجرد الحديث معك. أمر بطردك. ومع ذلك تتردد إلى مكتبه لبضعة أيام. في بداية الأسبوع الثاني يخبرك أحدهم أن رزقك وعملك عند غيره، عليك أن تبحث عنهما، تُهدد بالموت. لم تقتنع يتجمعون حولك، يضربونك، ترفع صوتك، يدخلونك إليه، وهناك يُسمعك كلمات قاسية: "لا أريد أن أرى وجهك لا هنا ولا في الطريق، إذا رأيت سيارتي ابتعد عنها وإلا فإنني سأدوسك، لا تنسى أن كل ما تقوله أو تفعله ستحاسب عليه، هيا."‏

    وكالولد المؤدب تحني جذعك وتقول: "نعم كما أمرت!"‏

    تتأكد من وضعك الجديد. تحاول أن تمدَّ يدك لتسرق، يقبضون عليك ويلوون يدك حتى تكاد تنكسر. تحاول السطو والنشل، تُكتشف أيضاً وتلاحق وتصاب بطلق ناري في ساقك. تتأكد أن السبيل الوحيد لتعيش بأمان أن تتخلى عن أفكارك ومشاريعك التخريبية. فما كان منك إلا التعامل ببعض المهربات المنتشرة على الأرصفة، أو في منطقة بعيدة عن أنظار الشرطة. المنطقتان اللتان فضلتهما البرامكة وبرج الروس. أما النوم ففي أحد الفنادق الرخيصة في باب الجابية، أو في إحدى الغرف المستأجرة مع عدد من العمال.‏

    ذات مساء خريفي من شهر آب، بينما حنجرتك تردد أسماء المهربات التي تعرفها. تهف من أمامك امرأة مألوفة، تمشي مع رجل تضع يدها بيده وهي مسرورة. تدقق النظر فإذا هي هلا! تنتابك أمواج من السعادة والانفعالات التي يصعب تفسيرها. تلملم بضاعتك. أتهجم عليها وتبعد ذاك الرجل أم تنتظر؟ تتذكر أن وضعك لا يسمح لك بأي تصرف. بهدوء تقرر السير خلفها ومراقبتها ومعرفة مكان سكنها، تعيدك إلى أيام العز، يوم كنت تلتقط الصبايا من الشوارع وتحملهن إلى غرفتك، وفي كل الحالات تحقق رجولتك وشموخك. الوحيدة التي لم ترتو منها المجنونة التي أمامك. تمزق قلبك وتنثره للريح، وحين تقرر أنها تناسبك كزوجة وتقبض على جسدها، تفلت من بين أصابعك كالزئبق. تستعيد أحلام ليلتك، وكيف تكتب عقدك عليها وتهرب، لتكتشف أن كل ما تخطط لـه وتحلم به يتبخر في ثوان. الوحيدة التي تعلم ذلك شراب، الملعونة لم تكن مرتاحة لتصرفك، ولا لتمثيلها دور هلا. تحلم بك عشيقاً وربما زوجاً. تطعنها. لا أحد غيرها يخطط بهذا النجاح لهربها في غفلة منك، لكن كيف؟ تصارحها بسرقة عقد الزواج وبأمور أخرى لم تجد لها تفسيراً. تشم رائحة اتهامِها، تنكر ولم تستطع أن تنتزع اعترافاً بذلك. استغربتْ تلميحاتك وهي مصدر ثقتك. تخاف من نظراتك وبعض الجمل التي اعتبرتها تهديداً ودفناً لعلاقة سابقة. من يومها لم يهدأ فكرها، بدأت تراجع حياتها وواقعها المعيش وذلها، ما الذي فعلته لتكون مطية لمن يدفع؟ هل هي إنسانة؟ ماضيها يرن في أذنها. تحن للعودة إلى أهلها وصديقاتها. تبصق على حياتها التافهة. هل هي قادرة على التخلص من واقعها؟ أين تهرب والواقع أكبر منها؟‏

    تخمد المعركة حتى اعتقالك. لم تتوقع أنها السبب في القبض عليك. تعلم بعد انتهاء التحقيق عن هربها لحظة وصول قوات الشرطة والجمارك. الوحيدة التي نجت. ترى أن هذا منتهى الشجاعة. لم تزج باسمها في شهادتك. تظل الجمرات تحت الرماد إلى أن أفرج عنك بكفالة. تجد نفسك تائهاً، تذهب إلى بيتها، تعلم من الجيران عن رحيلها. تسأل في الملاهي، فتجاب إنها تركت منذ دخولك السجن. تستفسر من معارفها. لم يحالفك الحظ وتجدها لا أحد يدلك. ما سر تركها المدينة؟ هل مصادفة أن يتطابق مع تاريخ دخولك السجن؟‏

    تحمل صورتها وتسأل، لا أحد يعرف عنها شيئاً، أتكون عشيقة معلمك يتلذذ على جسدها العاجي بعد فرارها، يكافئها على شجاعتها وهربها؟ يفرد لها مساحة أكبر في فؤاده، يمارس معها ما يمارسه مع الصبايا الجميلات اللواتي يأمرهن بالتعري في شقته المكيفة، يفرض عليهن نوعاً من العادات. يتسابقن فينتقي أجملهن، أما الباقيات فيكتفي بمداعبتهن.‏

    تيئس من البحث. تسأل عن حامد. تبحث وتفتش فلم تجد لـه أي أثر. تكتشف أن المعلومات التي تحفظها عنه وعن عنوانه غير صحيحة. ماذا تفعل ولا أحد تلتجئ إليه. تعود شراب إلى واجهة تفكيرك، أنت تعلم أن هذا اسمها الفني، اسمها الحقيقي لم تعطه لأحد. تعرف محافظتها من لهجتها التي كانت واضحة في الأيام الأولى لوصولها إلى دمشق. ذات مرة صرحت سهواً عن اسم بلدتها وهي مخمورة، تقرر السفر إلى هناك لتعرف الحقيقة. تشد الرحال. تصل إلى محافظتها ومن هناك تسافر إلى بلدتها، تلف في الشوارع والأزقة علك تراها دون سؤال. تصفها لأحد الشبان الذي يقودك إلى بيت أهلها. تقرع الباب الخارجي، يجتمع إخوتها وبعض الجيران. يستغربون وقاحتك. يستدرجونك فتحكي علاقتك بها. غلى الدم في العروق، قال أخوها الأكبر: "هل وصلت وقاحتك أن تسأل عنها هنا؟ أنت بلا أخلاق."‏

    تؤجج هذه الكلمات نيران الغضب لاستعادة الشرف المسفوح في المدينة. يضربونك. تحاول الهرب. لم تستطع الإفلات من أيديهم. يحيطون بك إحاطة السوار بالمعصم. الدماء تنز. تنقلك الشرطة إلى المشفى، وهناك تحمد الله على سلامتك. تنام في الإسعاف ليلتك تعالج جراحك، وتُلف يدك المكسورة بالجبس. تقرر أن لا تدعي على أحد إذا ضمنت سلامتك. يخلى سبيل إخوتها. تعود مهزوماً محطماً تحتاج إلى شهرين لتشفى يدك وتجبر. ماذا تعمل؟ لا شيء سوى التهريب بأنواعه.‏

    تفشل في استرضاء رجال الشرطة والتكيف مع التهريب. لم تتوصل إلى معرفة أي معلومات عن شراب أو عن صديقك حامد. تقرر العودة إلى القرية، تعيش هناك وتتعرف على إخوتك من زوجة أبيك سناء إذا أنجبت. لكنك تدرك أن ما فعلته لا يسمح لك بحق العودة، يستحيل ذلك، أما شقيقتك فهي تكرهك منذ الصغر، تغلق عليها الباب طوال وجود الزبائن مع أمك.‏

    تقفر الدروب في وجهك. تفكر بالهجرة، أول ما خطر ببالك أن تعمل في بيروت، حيث تجد الكثيرين ممن يشاركونك الإجرام والسطو والخروج على القانون. الشيء الذي لم تحسب حسابه ولم يخطر ببالك لحظة، توقيفك على الحدود ومنعك من المغادرة وجلبك موجوداً وإحالتك إلى القضاء ثانية بحجة أن لديك محكمة، تقبّل يدي القاضي وترجوه أن ينظر في قضية إخلاء سبيلك، يخبرك أنك ممنوع من السفر إلى الخارج طوال فترة المحاكمة، وممنوع من تغيير مكان إقامتك، وفي حال اضطرارك إلى ذلك عليك أن تأخذ موافقة المحكمة، التي ستحتفظ بعنوانك الجديد، يخلى سبيلك بعد أن يسجل على إضبارتك محاولة فرار من وجه العدالة. تُسدُّ الطرق بوجهك، ما العمل؟ لن تستسلم للواقع، لا تعترف بفصل جفاف، كل الفصول مطر وخير وربيع. ترتدي أفخر ثيابك وتخرج، تحس بقامتك تعانق الأفق. وأن كل ما في الكون مسخر لخدمتك. روحك الشيطانية رفضت السقوط والاعتراف بالواقع الجديد. تخطط للمجد بعيداً عن معلمك السابق، تمضي يومك في زيارات للمسؤولين ولمكاتب تجارية. تتلقى عروضاً مجزية. خبرتك تؤهلك أن تظل متوهجاً. ستقذف بالنيران كل من يقف في طريقك. فتحت زياراتك دروباً من الرخاء تحلم أن تحققها، كل العروض مجزية، السؤال الذي يخطر ببالك، أيها تختار؟ ومع من تعمل؟‏

    تستعيد بعض نشاطاتك مع عدد من العاهرات. ترفع رأسك تجرب وتحلم. تُشاهد مرة في سيارة «رانج» ومرة في «مرسيدس». أنت في عز نشوتك. الشيء الذي لم تحسب حسابه وغيَّر تفكيرك ولا تعرف كيف حصل؟ كيف صدمتك سيارة وألقت بك مضرجاً بالدماء؟ أيعقل أن لا أحد من المارة استطاع أن يحفظ رقمها أو يدل عليها؟ أحاط بك عدد من الموجودين. يحدثونك فلا تجيب. يرثون لحالك، ظنوك أنك فقدت الحياة، لكن عمر الشقي بقي. نقلتك سيارة إلى المجتهد، فحصك طبيب الإسعاف، وأمر بإدخالك إلى العناية المشددة. اجتمع حولك عدد من الأطباء والممرضين، خاطوا جروحك واعتنوا بك حتى أفقت بعد يومين. في البداية أحسست أنك في مكان غريب، تحسست جسدك فأدركت أنك في المشفى. الممرض أبلغك بما حصل. الشرطي الذي إلى جانبك يطالبك بالإجابة عن أسئلة التحقيق، لتقص عليه ما حدث، أنت لا تتذكر شيئاً من ذلك، وعندما تذكرت بعد أيام كان التحقيق قد حفظ ضد مجهول.‏

    خرجت من المشفى وأنت تتكئ على عكازتين، تمشي خطوة خطوة، تقف ثم تتابع بحيث تحتاج إلى وقت وجهد لتصل إلى مسافة قصيرة. الآن تشعر أن رجولتك ذهبت، وأن عزك انتهى، لا أحد يقبل تشغيلك، تأكدت من ذلك بعد مراجعتك عدداً من المسؤولين كانوا يراهنون عليك. يستحيل عملك كما كنت تحلم، فقد تحولت إلى عاهة، عليك أن تعترف بواقعك، أن لا ترفع رأسك، بل عليك أن تحنيه، ولا تحاول الاتصال بأحد، كلهم بحاجة إلى رجل قوي، وأنت لم تعد كذلك، ما عليك إلا الرضوخ إلى الواقع أو الموت حسرة. جاء من نقل لك مثل هذه الرسالة، ولم تستطع حتى مجرد الرد عليه. سألت نفسك ماذا تفعل؟ تمنيت لو ظلت أمك على قيد الحياة الوحيدة التي ستتمسك بك، تعيش حياة رغد تحت جناحيها، تنسيك آلامك، قادرة أن تطعمك العسل، وأنت قادر أن تلعب الدور الذي لعبته في صغرك بشكل أقوى وأكثر دهاء. أمامك شقيقتك التي ستسافر إليها، هي مشروعك المستقبلي، ستبحث معها مشاريع عمل مشتركة، استقبلتك بالقبل، سعيدة لرؤيتك، تمنت أن تكون رجلاً شهماً، تقارن اليوم بالأمس، تتذكر بعض أفعالك، تسامحك وتكرمك، ثم تسألك عن مجيئك، تخبرها بأن الحياة ضاقت في وجهك؛ ولا أحد سواها يخلصك من فقرك وحياة الذل، تستفسر فتجيبها إنك ستؤمن لها عملاً في العاصمة، يدر عليكما ربحاً وفيراً، لا تفهم قصدك، تشرح ما تريده بقولك: "إن أية فتاة بجمالك قادرة أن تقتات من موائد الملوك!"‏

    بغضب تصيح في وجهك، تطالبك أن تغادر قبل أن تنادي زوجها وأولادها. ترى أنك غريب في بلدك، لن تبقى في قرية سكانها يديرون وجوههم عنك، لم يهتم بك أحد، الصغار الذين لا يعرفونك ظنوا أنك من خارج بلدتهم، تنظر إلى البيوت، إلى الطبيعة وتبصق، تصرّ على انتمائك إلى المدينة، ما دامت القرية لفظتك. تعود و أنت حزين إلى دمشق، وقد تبخرت مشاريعك. تلوم الذين تجاهلوك، تلوم شقيقتك التي طردتك. تثبت أنها من غير ثوبك، تراها متخلفة، متحجرة، تتمنى شقيقة أخرى غيرها نسخة عن أمك. تتخلص من هلوساتك وأنت تحتضن الرصيف، المهربات أمامك، تنادي، تستحث المارين على الشراء.‏

    ***‏

    تمنيتِ الموت غير مرة ولم يأتِ، مع أنك تعيشينه لحظة بلحظة، آمنت أنه ليس النعوة أو الحفرة، بل موت الروح حين لا تصمد الأوراق الصفر على الشجرة، تسقط عندما تفقد مبرر استمرارها. تحولت إلى رقم زائد لا معنى له، وحيدة في حزنك، حتى الاختلاط بالآخرين ترف، أحلامك تتراقص بين قدميك، أحزانك تغطيك من شعرك إلى ظفرك، أعضاؤك وجسدك لا تحس بالحياة، أما روحك فقد ذوت، كنبتة ناعمة لفحتها الرياح الباردة. غادرتك ابتسامتك، أنوثتك، أنت الآن فتاة مقهورة مغتصبة بلا شباب وصلتِ سن الكهولة، توزعين دموعك على سلم مأساتك، الذي صار سلمك الموسيقي، دمعة إثر دمعة، تجيدين التناويح. الفرح مطرز بالشوك والعتمة وبالغدر. ثمة غيوم لا تمنح المطر، وريح لا تعزف إلا لحن الوداع. تنظرين إلى هذه الغيوم والريح وتغازلينها.‏

    آمنت بالحب الذي يرتدي أشكالاً عدة، من أول نظرة، من عاشر نظرة، من أول قبلة، من آخر ضمة، يأتي فجأة أو بالاعتياد. تمسكت بالمبادئ واكتشفت المتاهات. الزمن الذي رفع قدميه وتوقف عن السير، جعل الحياة صعبة. هناك العشرات بل المئات يغتصبن ويتحولن إلى داعرات وذوات سمعة سيئة، يصير الجسد سيجارة يدمن التدخين، وإذا فرغ التبغ يشعر بالجنون. تعيشين فوضى الحرية، فوضى الرحيل والاستلاب، ومع ذلك تعلمين أطفالك حب الوطن، في ظل هكذا مجتمع كيف يكون اختيارك؟‏

    الاختيار بعد طعنة ضرب من الجنون، ملتِ إلى أشخاص واكتشفت نظرتهم تجاهك، قطعت الخيط الواهي، قطعت علاقتك مع كثيرين جاروك في أقوالك؛ لكنهم في النهاية صارحوك بأفعالهم. خلصت إلى أن لا أحد يستحقك، ربما لو ظل والدك على قيد الحياة هو وعكازته، لما فكرت بالحياة مع غيره، والدك الذي حدثك عن الجولان طويلاً، قال لك: "يا بنتي من يفقد بيته وأرضه يفقد كل شيء."‏

    عكازته ما زالت في بيت حسن ورسمه في قلبك. أنتِ أنثى وعليك أن تبحثي بين الركام عن رجل. الزواج مصير الأنثى! سمعتِ عواء، فإذا به ينطلق من جسدك، دفنه الصلصال ودفن أية رغبة في الحياة، يلزمك زوج تعبرين به الحياة. تكملين نصفك الآخر، ستجربين وستكونين الخاسرة الرابحة، ثمة صبي أو شاب يتغزل بك، عرفت أنه مصطفى من دمشق، تنهض الدموع ويبدأ النزف من جديد. هل أنت على استعداد للتنازل؟‏

    قررتِ التنازل، ومع ذلك تعيشين قلقة، يؤرقك الاختيار. أجلت الخطوبة وطلبت فسحة زمنية، أردت أن تعبري من خلالها إلى داخل الشامي، الذي فرش السجاد تحت أقدامك. أمه حولت الأرض البور إلى مروج وغوطة، ماهرة في إقناعك، وهو ماهر ورفيقاتك ماهرات! جميعهم ينصحونك بالزواج ويذكرونك بالأمثال الشعبية التي تحض على ذلك. محظوظة جاءك الشريك وأنت تمشين على الرصيف، لا يلزمك سوى تقديم التنازلات المستعدة لها. نسيت ذاتك ومبادئك والأهداف الكبيرة التي ناديت بها. في النهار توافقين، وفي الليل ترفضين. نصحتك فرات أن تجربي. ها أنت ذي تجربين، ستذكرين أنه عيّرك بالنزوح. هزك هذا اللقب من الداخل على الرغم من اعتذاره. الآن صرت امرأة المستحيل، خرقت قوانينه وأعرافه، علقت صورة والدك في غرفة نومك، لم تنسي أنه حطمها، حطم كل جميل في حياتك. تبحثين عن مخرج، تستعيدين فيه جزءاً من كيانك.‏

    هبت العاصفة وتحول داخلك إلى غيوم من دخان، غيوم ثقيلة، لحظات زئبقية تجعلك كئيبة وحزينة، زوجك يحبك عارية أو شبه عارية، يذكرك بتفاصيل احتفالات أمه، أصررت على معرفة الكثير عنه، يوماً بعد يوم اكتشفت تفاصيل جديدة مذهلة في حياته، اكتشفت أن هناك طرقاً عدة وعليك أن تختاري إحداها.‏

    تحاولين أن تكوني قوية، لكنك بحاجة إلى مساعدة، بحاجة إلى حماية، بحاجة إلى طبيب يشخص حالتك النفسية، عرضك زوجك على طبيب نسائي لاعتقاده أن مثل هذه التغييرات تصيب المرأة الحامل. أفاد الطبيب أنك غير حامل، ولن تحملي نتيجة تمزقات في الرحم، شرح أسبابها، جاء الفحص وصراحة الطبيب صدمة وقعت على مسامع زوجك، هو بين مصدق ومكذب، طلب إعادة الفحص، أحسَّ الطبيب أنكما في ورطة، لم يحاول أن يصلح موقفه، لم يحاول أن يفعل شيئاً، بل أكد كلامه.‏

    ــ 35 ــ‏

    ها هي ذي الغوطة أحلى مما كانت في عيدها عيد الجوزة. في هذا اليوم الذي يصادف الثامن والعشرين من شهر آب، بحثت الغوطة في أشجارها عن تطريزات رائعة، واستعادت تغريد الطيور والقصائد التي فلتت من أفواه الشعراء تمجد الجمال. الفلاحون يتسلقون أشجار الجوز العالية، يمشطون الأغصان بعصيهم الطويلة. يتراكض الصغار كعصافير الدوري يبحثون عن بقايا حبات هربت مختفية، يعودون ومعهم عشرات الحبات التي تفرّ إلى السواقي أو تحت نبتة أو جانب حجر.‏

    في هذا اليوم القائظ بحث حامد وفرات عن بيت للاستئجار، لتسكن فيه هلا. اختارا بلدة تقع ما بين بيتيهما، ليكون المنزل مكاناً للقائهما. بسهولة وجدا بيتاً مؤلفاً من غرفتين واسعتين وسقف عال، مبنيتان من الطين، سماكة جدرانهما ثلاثة أرباع المتر، في كل حائط تركت أمكنة للمّ الفراش وبعضها خزائن لوضع الصحون، والكاسات غير المستخدمة في المطبخ. لكل غرفة نافذتان خشبيتان واسعتان عليهما قضبان حديدية، لا تسمح بمرور أي شخص، يطلان على أرض ديار تعادل مساحة الغرفتين. فيه بئر ماء وساعة كهرباء وشجرة جوز عالية وشجرة توت فتية ودالية معرشة على أخشاب منسقة. اتفقوا على الأجرة ودفعا مقدماً أجرة ثلاثة أشهر.‏

    بعد أربع ساعات من العمل المتواصل استطاعا تنظيف البيت. نقلا الأثاث والفراش وبدأا بترتيبه. لم يشعرا بالوقت. اقترب منها أكثر، حدثته عن همومها بالسفر،قال:‏

    - هل أنت مقتنعة بسفرك؟‏

    - ليتني لا أسافر!‏

    - وما الذي يدفعك إلى أمر لا ترغبينه؟‏

    - الحياة أقوى منا، لا تعطي بقدر ما تأخذ!‏

    - لقد أعطتك الحياة الكثير، وأعطاك الخالق من الجمال ما لا يوصف، يكفي أنه تمهل في خلقك!‏

    - هل تصدق ما يقوله الأهل بأن الله كان فوق دمشق لحظة ولدت؟‏

    - ولم لا أصدق، فهو موجود في كل خلية فيك!‏

    تصهل الفصول في صدرها خمرة ونشوة وموسيقا وأغنية، عصافير ملونة تنطلق من شفتيها، أغان مرحة تخبئها في حنجرتها. يبدو النهار مميزاً ليس كبقية النهارات الأخرى. ظلا حتى اكتحلت عيناهما بالعتمة. مع تموجات جسديهما تهف رائحة هي مزيج من الأنوثة والحياة. اليوم اكتشفا ذاتهما المتوهجة النابضة بالمحبة. يحلم وهو معها ويحمله خياله إلى جزر وعوالم كلها نور وحب وخضرة، أيعقل أن تسافر؟ ربما تمزح، لم يحس أن ما تفعله محاولة لتتزود بما يعينها على السفر ومواجهة الغربة، تتزود بذكريات تعطيها القدرة على الأمل وتحدي المستقبل.k‏

    تبدو ألوان المغيب على جسدها الناعس الممزوج بالأرجوان مهرجاناً للألوان، بدت في بداية العتمة أكثر فتنة وجنوناً من الجنون، أشبه بتموجات السراب في الصحراء، تطرح كلمات وجملاً بحاجة إلى التأمل، خرجا إلى الزقاق. بلمسة من يدها أعادت شعرها المنفوش إلى الخلف، مسدت عليه ثانية وأخرجت بكلة وضعتها على الجانب الأيمن الذي يهرب إلى الأمام،تناولت رسالته:‏

    «فرات يا شمس يومي وقمر ليلي، وظلي، النجوم التي أعدها، المجرات التي أسافر إليها، العسل الذي اشتهيه، الحضن الذي أحلم بضمه، الوجه الذي لا يفارقني، الشعر الذي يغطيني، الكلمات التي ترن في أذني، الحب الذي يأخذني إلى الخلود، الغد الذي سنكتبه، النبع الذي تتدفق مياهه محبة، الثلج الذي يلون مستقبلي بلونه الرائع. لا شيء يذوي وأنت معي. الحياة رائعة وأنا أرى صورتي في بؤبؤ عينيك، أيتها الآتية من مدينة الأسرار، يا من جمعت البروق والزوابع في صدرك. لو شئت جمع مليون قبلة لما اشتهيتها إلا لعقيق شفتيك وخمرة نهديك. قد أكون وجدت في وجهك ملامح عاشقة، طفلة. اذهبي أنى شئت، ستظل أنفاسك أريجي وعيناك نافذتي، وسأظل حالماً أرفض أن أصحو حتى لا تغادرني الأحلام الرائعة».‏


    يتبـــــع
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    للنشر
    الإدارة
    للنشر


    المشاركات : 3446
    . : ملتقى نور المصباح الثقافي

    غرباء منتصف الطريق ـــ عوض سعود عوض  رواية ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق – 2006 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: غرباء منتصف الطريق ـــ عوض سعود عوض رواية ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق – 2006   غرباء منتصف الطريق ـــ عوض سعود عوض  رواية ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق – 2006 Icon_minitime15.05.12 2:27

    ــ 36 ــ

    قرر حامد وفرات أن يحملا همومكِ، يظلا إلى جانبك، يستنزفا حزنك، يخلصاك من المستنقع الذي تعيشينه، لتخرجي ثانية إلى الحياة كما قررت. لم تفقدي أملك في الدروب الموصلة إلى النور. تتخلصين من العفونة والأدران وتخرجين معافاة، تمسحين تجاعيد الزمن المر، تجاعيد السنوات الطوال، تلفظين هزائمك، ما زلت صبية في بداية حياتك. البيت المستأجر جاهز للسكن، انتقلت إليه غير بعيد عن منزل صديقتك فرات. غيرت السنون طباعك ونظرتك للناس، وحيدة إلامن آلامك وماضيك وحاضرك. كل شيء يحاصرك. إنك الآن وجهاً لوجه مع الغوطة، فهل تقسو عليك أو تفتح صدرها تحتضن امرأة فجعتها الحياة في أغلى ما تملك أنوثتها، زوجها، حبها للأطفال والمستقبل؟‏

    تهب النسمات الحارة على وجنتيك. قدماك لا يساعدانك على المسير، ومع ذلك قررت أن تصلي مشياً برفقة فرات وحامد، تنظرين يمنة ويسرة تطالعك الأشجار السامقة بحكايات غريبة، ستظلين وحيدة في البيت معزولة عن العالم، عيناك تمد السحب وزفراتك تهيج الريح. أتحتضن الغوطة امرأة هاربة من المدينة والناس؟ كان بودك أن تتعرفي الغوطة وتسكنيها وأنت في عزِّ قوتك، في غير هذه المناسبة. لم تعرفيها إلا من خلال ما قرأته في الكتب وما سمعته من الناس. كم مرة قصدتها للنزهة وعشت ساعات كلها مرح وسعادة، تحدثين من يصادفك عن فرحك وإعجابك، تعبرين عن ذلك بقولك: يا ألله ما أجمل الغوطة، إنها فاتنة حقاً!‏

    لم تفكري أنك ستقفين والغوطة أمام المحكمة. أي شيء يمكن أن تفكري به إلا خصامك مع الجمال. يوم أخبراك أنهما وجدا لك بيتاً من بابه، فرحت وكدت تطيرين لسرورك، وصلتِ البيت وفتحت الباب الخارجي، دخلت الغرف والمطبخ، ذكرتك الغرف الواسعة ببيتك في الجولان، الذي لا يحق لك العودة إليه ولا زيارته.‏

    لقد قررت أن تزوري أقاربك وعلى ذراعيك طفل يتخاطفه أعمامك وأخوالك، يقبلونه. أما زيارتهم وأنت مطلقة وحولك إشاعات، فهذا لا يشرفك ولا يشرف أخاك. منذ اليوم الأول لدخولك إلى المدينة، قررت أن لا تفسدي حياتهم بما تتعرضين إليه من آلام، يكفيهم الفقر والنزوح الذي يعيشانه. بت وحيدة. لم تنمي إلا دقائق في الليالي الأولى لسكناك. تنتظرين تباشير الفجر، وأنت تراقبين هروب العتمة وتزايد النور وانحراف الظل وابتلاع قسم منه، ثم كيف يتمرد ليأخذ مكانه بعيداً في جوار البيوت والأشجار والأماكن الخربة؟ رؤوس الأشجار تحركها النسمة، منتصبة كالديك الذي يضع منقاره في الماء ثم ينظر إلى السماء.‏

    ترددت إلى بيتك امرأة. لم تجد الاستقبال اللائق، حدثتك عن الشائعات التي تدور حولك، وعن دخول رجل وامرأة إلى بيتك، وبعد شرح مستفيض نصحتك بالزواج من أحد رجال الحارة، لم تصدق شيئاً من قسمك، ومن موقفك من الرجال، لم تصدق أنك لا تفكرين بالجنس، وأنه لم يحتل من تفكيرك شيئاً، الأمر الذي وقفتِ أمامه حائرة وضعيفة عدم قدرتك على الدفاع عن الصداقة، وإن صداقتك لفرات وحامد بريئة. هددتك باختيار أحد الحلين، إما الزواج أو الرحيل. وقبل أن تغادر وعدت أنها سترسل أحد الرجال ليتفاهم معك.‏

    عصراً قرع بابك رجلٌ تبدو عليه الفوضى والارتباك، تخلص منهما بطلب المستحيل، أرادك زوجة تظللين عليه بعطرك وأنوثتك وشفافيتك، تمادى أكثر عندما تأكد لـه رفضك، اقترب ولمسك، لم تستطيعي السكوت، صرخت وطردته، هددك بالطرد من الحارة إذا لم تذعني لوقاحته، كل من في الحارة يحكون قصص دعارة أبطالها ثلاثة. ذات صباح دخلت نسوة إلى بيتك، رمين فراشك وأثاثك في الزقاق، عند مرور حامد وفرات تلقيا مزيداً من التهديدات والتعليقات والبصقات.‏

    أحضر حامد سيارة نقل، وضع فيها الفراش والأثاث وتوجه إلى بيته، فرات تناديك: «هيا يا هلا إلى بيتي» ذهبتِ معها، قليلة الحيلة، الصداع يصرخ في رأسك والألم ينهش قلبك وصدرك، رافعة راية ممزقة ومهزومة. دموع مقهورة تهلّ من عينيك، جففت دموعك، بينما ظلت دمعة واقفة فوق أختها ملتصقة بها، فبدت أشبه بلؤلؤة.‏

    أعلنت الغوطة الحرب عليكِ، لا حياة لك فيها، لا صلح بينكما. أيعقل أن الغوطة التي أحببتها وتكنين لها كل حب تطردكِ ولا تضمك إلى قلبها؟ الآن تتذكرين كلمات حامد كيف أنها جميلة ورائعة من الخارج، تظل في الخيال رمزاً للجمال والحياة شريطة أن يظل بعيداً عنها.‏

    أنتِ مهووسة بالطبيعة، تحبين الأشجار والطيور وتفتحين ذراعيك للنسمة، للشمس. أما اليوم فقد كرهت الحب، الحياة، الأحلام. لم تعدي تحلمين بخطيب يأتي على ظهر فرس شقراء. الحياة علمتك أن تعيشي مع أحزانك، تصرخين في الليل، يتحول كل ما في حياتك إلى ندب وعويل، تتحول ساعات نومك إلى كوابيس، لا تستطيعين التخلص منها حتى في ساعات اليقظة. أخطر ما فيك فكرك، كونك شاهدة عصرك. هل تمنحين عقلك فترة استراحة، فلا يفكر خلالها؟ تمنيت لو كنت قادرة على ذلك، لو لديك القدرة لإعادة عجلة الأيام، أن تعيدي الأفراح وتلبسي فساتينك الزاهية، أن تنسي. الآن تدركين أن النسيان نعمة كبرى على الإنسان التمسك به، هل تنسين الغوطة وتبتعدين عنها؟ مجبرة على ذلك. وجدتِ قبواً فيه غرفتان صغيرتان عند طرف المدينة الشمالي، ومع أن الشروط الصحية غير متوفرة فيه، إلا أنك رأيته مناسباً لدفن جسدك. القبو والقبر كلاهما بانتظارك، ويبدو أن مرورك به قبل وفاتك يعطيك التعود على الموت، تموتين وأنتِ تتنفسين، تموتين وأنت تحاكين صورة أبيك الذي سبقك إلى القبو. تطالبينه أن يشرح لك مزايا الموت، مزايا القبو الذي أحببته من كل قلبك. لا تريدين لأحد أن يذكرك. إنك الآن في مرحلة انتقال، لن تحلمي بالشمس، بالنهارات المضيئة في ظل العتمة والحزن. دهمتك مجموعة أمراض وصار من الصعب شفاؤك. بداية أصبت بالرشح والزكام، تسعلين غير قادرة على إخراج البلغم، على قذف الأوساخ التي في حلقك وحنجرتك، مع الزمن بدأت تشعرين بآلام تمزق معدتك وأوجاع تفتت رأسك، تتناولين الحبوب المهدئة التي سلمتك للفراش، ويوماً بعد يوم تصالحت مع الأمراض وصارت جزءاً من حياتك.‏

    القلق ينهش صدرك والوسن يفارقك. تظل عيناك مفتوحتين. في ساعات الصباح الأولى تنامين حتى الظهيرة، لتبدئي بعدها المعاناة، تذوبين وتذوين كالشمعة مع اقتراب نهاية فصل الخريف. تحسين بالرطوبة، القشعريرة تسري في جسدكِ، تلزمك مدفأة وبطانية أو أكثر. حالتك تزداد سوءاً، يشفق عليك حامد يدعوك لزيارة أخيك وإمضاء فصل الشتاء عنده، تحركين السبابة علامة الرفض. يقترب منك ليسمع صوتك الواهن:‏

    - لست بحاجة إلى أخي أو إلى أي مخلوق إذا لم تتخل عني، عندما تقرر أن تتخلى اقتلني، حياتي دونك بلا معنى، اقتلني قبل أن تقرر تركي! فأنا امرأة لا فائدة مني، لا أحد سيحاسبك، إن شئت سنتفق على طريقة الموت، فأنا حريصة أن لا يطالبك أحد بدمي.‏

    - أنت تهذين يا هلا، ما زلت شابة، أين شجاعتكِ؟ لماذا تطلبين الموت بدل أن تبدئي حياة جديدة؟ الموت يا عزيزتي بعيد عنك بعد السماء عن الأرض.‏

    - الموت رحمة لإنسانة مثلي، أتمناه في كل لحظة. لا شيء بلا نهاية، لا شيء يستمر إلى الأبد، هذه نهايتي، إنني احتضر.‏

    كلماتُكِ تؤلمه. يتشاور مع فرات فيما يجب عمله. إنك تحتضرين بحق وتحملين كفنك. صرت ذكرى لماض مؤلم، ماض ملوث فُرض عليك، ولا يد لك في صنعه. الذكريات تقتلك، تملكين حضورك في كل الأوقات، ها أنت تتألمين، تسعلين، دائمة الشكوى والأرق، يمزقك عذاب داخلي، جسدك لا يحس بالحياة والحرارة بل بالبرد والألم، كل شيء إلى زوال. تساءل حول قدرتك على تجاوز آلامك. أقررت بضعفك مع أنك ارتحت من اثنين، من مغتصبك ومن زوجك. يفترض أن تكوني قوية، بعد أن باتا ضعيفين. طلقك مصطفى وكان الأجدى بك أن تطلقيه، لو كانت العصمة بيدك، احمدي ربك على حريتك، فيوم واحد في شوارع دمشق أفضل من عمر بين أربعة جدران في بيت كله عفونة.‏

    عشت وحيدة، لم تنسي الجرح الذي نزّ صديداً. غريبةٌ أنت، فهل هناك غربة أكبر من غربتك في بيتك ومدينتك؟ أكدتِ على ذلك غير مرة بقولك:‏

    - ما أتعس أن يولد الإنسان بلا حقوق في اللحظة التي يرى فيها النور. أخبرتني أمي أن والدي كشر عندما عرف أن المولود أنثى. أسماني هلالة لأحمل النور والحب، لن أنسى ذلك، مع أنه ربما بنظره غير ذلك، أنا فخورة أن يختزل اسمي هذه المعاني الرائعة، خاصة عندما يكون القمر في أشد حالاته عشقاً للضوء.‏

    سالت دموع فرات وهي تسمعها، حامد رجاك أن يبلغ أخاك رفضت وقلت:‏

    - لا يا حامد لا أريد أن يراني بأضعف موقف مرّ عليّ في حياتي، سيسألك عن مرضي، عن زواجي وطلاقي، لا أريد أن أفجعه بأخته التي أحبها ومنحها كل ثقة.‏

    تصرخين، تهذين، تعصبين رأسك وأحياناً تضربينه بالحائط علّ الوجع الخارجي يخفف من الألم العصبي الباطني. لكن ما أردته لم يتحقق، بل ازدادت حالتكِ سوءاً، ترتجفين من البرد والرطوبة، تتغير ملامح وجهك وقسماته، تبدين أكثر قساوة، تضعين رأسك بين يديك وتبكين.‏

    ترفضين الذهاب إلى الطبيب. ما زلت تذكرين موقف الطبيب النسائي، الذي بدأ يشرح أشياء لا تريدين سماعها. لم تؤكدي أو تنفي أنك أجهضت سابقاً، اعتبرت أن حياتك الزوجية انتهت. التزمت الصمت، تركت زوجك مع الطبيب، وعدت وحيدة إلى بيت فرات بانتظار أن تجد لك سكناً مستقلاً.‏

    ــ 37 ــ‏

    بدت السماء صحراء تتقاذفها كتل متصارعة، تحاول التخلص من نزيفها، تجد ذاتها أسيرة المزن، تضج المجرات بالتصفيق. اقتحمت الريح المحملة بالرطوبة الفضاء، بوادر أكيدة لتغيير الطقس، دفعات قوية من الريح جمعت الغمام فوق دمشق. بدا أن المطر سيهطل بين لحظة وأخرى. سحابات فضفاضة تلمع أنوارها في السماء، بروق تخطف الأبصار ورعود تدوي كمدافع العيد. غادر حامد وفرات بيت هلا على أمل عودتهما عصراً، لحظات من الترقب تلاها انهمار مطر غزير. ازدادت البروق والرعود. عادت الأحلام إلى ذاكرتها. ما أشبه اليوم بالأمس. قرأت من دفتر صغير فيه بضع وريقات عن مذكرات والدها عن ليلة ميلادها الشبيهة بهذا الجو:‏

    "في ليلة عاصفة ماطرة، لكثرة برقها ورعدها ظنت زوجتي أن القيامة حدثت، ومما زاد الأمر سوءاً الصواعق المدمرة التي أحرقت إحداها شجرة الخروب المعمرة القابعة على مقربة من بيتنا. في تلك الليلة ظن سكان الجولان أن السماء ستنطبق على الأرض، فارتفاع أرضها وانخفاض السحب ينبئ بذلك. خمنت أن ذلك نتيجة غزل بين النجوم، خفت من سقوط نجم أو شهاب، فعدت ولم أكمل مشواري إلى بيت القابلة، توقعت حتى في حال وصولي أنها لن تحضر، لن تغامر وتجيء بمثل هذا الجو. تهتز جدران البيت متواترة مع التماعات البروق المتتالية. تصيح زوجتي طالبة القابلة. وأنا كلما توكلت ووضعت قدميّ على عتبة البيت أحس أن شيئا ًمن السماء سيسقط عليّ!‏

    الكواكب تتصارع وليس لديّ القوة لإيقاف صراعها. الأرض تميد، ما هذه الليلة؟ وما هذا المطر المنسكب؟ أهو دموع سكان كواكب ومجرات أخرى؟ أهو فرح أم شؤم؟ ظللت أخرج من بيتي لا أبتعد كثيراً، ثم أعود إليه، هكذا أمضيت ليلتي أحوم حول زوجتي التي ستلد بين لحظة وأخرى. قبيل الفجر نادتني لأساعدها في الولادة. كزت على أسنانها وشدت على يدي، أطلقت صرخة تلتها صرخة المولودة. حمدت الله أن الليلة مضت على خير ولم تجرفنا السيول والعواصف، أو تطبق علينا السماء. كفت السماء عن المطر في تلك اللحظة، وتوقفت الرياح عن الهبوب، أشرقت الشمس وبدا كل شيء مبتهجاً. ودّت لو تزغرد، جاراتها زغردن، سألنني عن الاسم الذي أختاره فأجبت: "هلالة."‏

    صباحاً ذهبت إلى المختار وأنا أحمل بيدي الحلوى وليرة سورية، أخذت وثيقة ولادة باسم هلالة بنت زكي جودة، من يومها توقعت أن الدنيا ستبتسم لنا!"‏

    تتذكر والدها، تتألم، تتناسى واقعها، لابد من استمرار الحياة. ذات صباح أحست بصوت ناعم يناديها ويختصر الحرفين الأخيرين، كان هذا صوت فرات التي استعذبت أن تناديها «هلا». وقفت مبهورة، ابتسمت لصديقتها التي تفاجئها بكل جديد ورائع. من يومها لا أحد يعرفها إلا بهذا الاسم، فرحت للذكريات المستعادة. ما أحزنها زواجها غير متكافئ، وردة تقترن بشوكة، لم يتركها إلا جثة، نهضت من قبرها تنشر فرحها وكلماتها في الغرفة والشارع. نسيت حديث الموت الذي جاءها وهي غافية، تسلل على هيئة كهل يرتدي ثياباً بيضاء، اقترب منها ليستل روحها، تمسكت بيده وعضتها. الموت شيء فظيع يتلبسها، لا يقبل المهادنة، لا يفهم أية لغة ولا يسمع الأنين والشكوى، ولا ينطلق إلى حيث يجب أن يذهب. تهذي وتنادي حامداً؛ تطالبه بدفنها وقراءة الفاتحة، ثم تتابع حلمها، تفتح عينها وتخاطب عزرائيل: "أعرف أنه لا يرضيك أن تموت فتاة بعمر الورد ويبقى مغتصبها يتنفس الهواء ويمارس الدعارة، يستنشق هواء دمشق الأثير على قلبي."‏

    تستغفر ربها، تفيق من نومها، لا ترى من المدينة إلا رموزها وأبشع ما فيها علها تشفي غلها. الكلاب تنبح والمجاري تصب في بردى وزفير السيارات يغطي السماء. يرى الناس عري المدينة، لا تغريهم الحياة فيها، قاسيون بلغ الشيخوخة، هرم بسرعة مع أنه ترك العمل السياسي. أين قوته التي استمدها من انتسابه إلى أجداده؟‏

    الأمطار تواصل هطلها، والقلب يحاول التلاؤم مع هذا الفيض من الماضي والحاضر. فمها يدندن بأغان رقيقة، ينطلق المرح من حنجرتها. الأمطار تغسل الشوارع، تجرف الأوساخ. أحست أن شيئاً ما في داخلها يحاكي ابتسامة السماء. زحفت على يديها، تحاملت على نفسها، قامت تراقب الهطول، الأمطار تثرثر وفي صدرها عصفور يغرد، فتحت الباب، شيء رائع أن يستمر المطر، يخلص الناس من عفونتهم. السماء تفتح فاها، الأمطار حبال متصلة ما بين الأرض والفضاء. يستمر المطر في الخارج، يرتفع مستواه في الشوارع، تزداد القطرات حجماً وكأنها هاربة من غربال فتحاته واسعة، هذا الحبل المتأرجح يصعب أن يكون مستقيماً بالمقاييس العلمية، لابد من تقوسه. الرياح تتلاعب بالقطرات، ودت لو تعيدها إلى عنصريها. يزداد الهبوب ويضغط أكثر فينحني الخط أو يتعرج، وقلما يستقيم، يعاكس القطرات ويداعبها، فترقص حانية هامتها في محاولة لتغيير مسارها، وتغيير بعض البديهيات. الهبوب يصاب بالدوار والإغماء يتوقف ليعود الخط الواصل بين القطرات مستقيماً أو أقل انحناء من قبل.‏

    انشرحت أساريرها لافتراضاتها. حلقت في الجو كالطيور المهاجرة التي تكتشف تبدلات الطقس. ازدادت كمية الأمطار المنهمرة. مشت المياه في الشوارع، مع ازديادها ارتفعت وغطت الرصيف ومنه إلى قبو البناية، سمعت أصوات بقبقة البلاليع تلاها توقف المصافي التي تؤدي إلى التمديدات الخارجية، ثم ارتفاع الماء في الغرفتين والمطبخ. رفعت حصيرة البلاستيك والبساط اليدوي المعمول من بقايا الألبسة، وكل ما كان على الأرض وقعدت على السرير. هل هذه نهايتها أن تدفن بين القطرات؟ تخلصت من هواجسها. تراقب الماء الذي يرتفع ولا يفصل بينه وبين حديد السرير سوى سنتمترات، فكرت أن ترفع أرجل السرير، قد لا تستطيع وحدها أن تفعل ذلك. فجأة أحست بقوة تغزو جسدها، وشيء ما في داخلها يدفعها أن تتحرك. جاءت بعلب فارغة ووضعتها تحت الأرجل، لكن ما إن قعدت عليه، حتى عاد إلى وضعه السابق، انثقبت العلب. المياه تكاد تلامس الفرشة أو هي لامستها. هل تنضح الماء؟ عدلت عن ذلك فالكمية المتسربة أكثر بكثير مما ستمتحه، هل تصرخ أو تتمدد على السرير وتدع المياه تغمرها وتكون نهايتها؟ لن تستسلم حتى لو ثقبت الحائط الملاصق للمنور. شعرت أن روحها غالية، وأن الحياة جميلة، لن تختار الموت بإرادتها؛ بل ستجاهد من أجل الحياة. نسيت ماضيها وآلامها وضعفها، لابد من فعل معجزة، تناولت مدقة الثوم بيدها وابتسمت، إنها أقوى من الموت، بدأت تدق الجدار دقات قوية لكنها غير مؤثرة. في هذا الوقت سمعت صوت اختناق في المصافي، كأن شخصاً ما فقد تنفسه. نظرت حولها، وقعت المدقة من يدها، تجمدت مكانها ولم تعد قادرة على الحركة. ارتفع صوت كالصراخ عالياً. صرخت ووضعت يديها على عينيها، شعرت بشيء يتحرك. فتحت عينيها، فإذا المياه التي ارتفعت إلى الأعلى يهبط مستواها وتركض باتجاه البالوعة، بينما تتصاعد الفقاقيع، وما هي إلا دقيقة أو أكثر حتى تدفقت المياه. زغردت في عبها، حمدت الله وشكرته، شطفت الغرفتين ونظفتهما، أشعلت الحمام لتستحم. الحبال في الخارج تتراقص، القطرات تشكل دوائرها في البرك، نشفت يديها ودستهما في صدرها، شعرت بالدفء والحيوية.‏

    كم كانت متعلقة بالحياة. ما أشبهها بيوم كانت صبية في الثانوي. وردة عاكست الريح، أثبتت أنها قادرة على العطاء. الأعاصير لم ترحمها، من يصدق أن فتاة كانت تتمنى الموت، رفضته في آخر لحظة. ها هي تضع رأسها على الوسادة تبكي، تريد أن تتخلص من دموعها وأحزانها، لا وقت إلا للفرح، بللت جزءاً من اللحاف بدموعها الغزيرة، إذ تتحول الدمعة إلى ساقية، تنشر اللحاف وتجففه. الشمس تهرب بعيداً عن القبو، الرطوبة تعشش في أطرافه وتؤدي إلى آلام في المفاصل وأوجاع في الرأس، الآلام تخترق الجمجمة وتتركز في أعلى الجبهة وجهة الصدغين، وأحياناً ينتقل الألم على شكل ومضات إلى مؤخرة الرأس. جاهدت لتتخلص من هذه الحالة، الأدوية غير مفيدة، البكاء والأدعية لم يفلحا، الأوجاع تزداد وفي لحظة تنزف نقاطاً حمراء من أنفها، فتشعر بالارتياح وتنام.‏

    أين فرات وحامد لتزف لهما فرحة انتصارها على ضعفها وخنوعها، هل تقعد وتنتظرهما؟ لن تدع الفرحة إلى الغد، في الصباح عليها أن تخرج وتبدأ يومها. الليلة سيسهران عندها. ستذهب وتحضر ما يلزمها من السوق الآن، ما دامت قد انتصرت وطحنت همومها وذرتها مع الرياح والغمام. حتى بيتها اغتسل واستحم بمياه المطر. عاد قلبها ينبض، وعادت إليها المدينة رائعة.‏

    ذهبت إلى سوق الهال، تفاجأت بالأسعار، كل شيء ارتفع سعره، اشترت ما أرادت من خضار وفواكه ولحمة، اتجهت إلى العمارة وأخذت كيلو موالح وبعض المرطبات. حامد وفرات في عالم آخر، يتساءلان عما يفعلانه في حالة وفاتها، متأكدان أنها لن تعيش طويلاً، وربما نهايتها على يد الأمطار والريح، قبل هطول المطر بربع ساعة غادرا بيتها. تمنت لو كانا موجودين ليفرحا لفرحها. ترى أين يكونان؟ هل تذهب إلى بيت فرات لتفاجئها وتحدثها عن المطر الذي روى أغصانها وأوراقها وجذعها. تبتسم مثل كل الفتيات اللواتي بسنها، عليها أن تنسى، أن لا تفكر بشيء قبل أن تحضر ما تحتاجه ثم تعود إلى البيت. إنها جادة في أن تبدأ حياة جديدة، تعود إلى التدريس وإلى رفاقها وتستلم المهام الصعبة. ستدعوهما إلى بيتها لتناول الطعام، ليكونا الشاهدين على بداية مرحلة جديدة، ستزور بيت أخيها، ولن تقبل أي زوج يتقدم لها. لفت في مكانها، وضعت بعض المساحيق على وجهها، فتحت المذياع، تفتح ذراعيها وترقص، المطر في الخارج والدفء في صدرها وأضلاعها، قوة غريبة تدفعها إلى الحياة ثانية بشكل جديد.‏

    رمت العصا التي تتعكز عليها، الآن ستمرح بعد أن تغيّر كل شيء داخلها. تخلصت من الدخان الأسود الذي غطى الرئتين. ستجرب الخروج ومدى قوتها وقدرتها. تسمع وقع قطرات المطر، تضرب بعض حباته يدها الممدودة ضربات خفيفة. تصعد الدرج، واجهتها الرياح التي تلملم قوتها وتعصف، تبعثر القطرات في حركة راعفة راقصة. الطيور هاربة من برد هذا اليوم وأمطاره. راقبت حركتها تأكدت أنها ذاهبة للقاء الشمس في مكان آخر وفي زمن آخر. رفعت يديها إلى السماء وهتفت: "ما أكرمك أيتها السماء! كنت بحاجة إلى مائك منذ سنة، وها أنت غسلت كل شيء."‏

    لكل شيء في هذه الحياة وقع وإيقاع، الزمن المر، الموت، الحياة. تنظر إلى الأعلى، تغازل الأمطار والغيوم التي تتسابق في الجو وترطب وجه السماء، كل ما فيها فرح. لقد قرر الزمن أن يمضي، عليها أن تصعد في إحدى المقطورات، وتنتقل من واحدة إلى أخرى حتى تصل إلى القيادة. عليها أن تقود قطار الزمن. المذياع ينقل صوت أم كلثوم «القلب يعشق كل جميل». ترفع صوتها مع الأغنية وهي تتساءل: «ماذا بقي من العمر؟»‏

    كانت قد نسيت الزمن والأوقات والأيام، الشيء الذي تحسُّ به تقلب الطقس، دون أن تعرف سبب ذلك ولماذا حصل؟ كل أوقاتها ظلام، العتمة تستر المكان وتغلف عينيها غير قادرة على النهوض إلا بمساعدة عصا. تذهب إلى دورة المياه وتعود. الليل كعادته مليء بالمعاصي، لكنها باتت تدرك بحسها العفوي الطبيعي، بأن الذين يعصون في النهار هم الأقوى. خطيئة الليل ربما موعد غرام لقلوب تنبض بالحياة وتطمح للتجديد. استنهضت ذاتها وشدت من عزيمتها، لن تعود إلى الصمت ثانية، ولن ترهب الموت ولا أي أحد، منذ هذه اللحظة ستجلس فوق قاسيون تراقب الريح والمطر، تحصن نفسها وتنتظر مرور الأشرار لتقول لكل منهم إنه مخطئ. ستظل تحمل الشمعة أنى ذهبت، يتراقص ظلها على الضوء وهي سعيدة، في صدرها من يخبرها أن من يحمل النور يصعب عليه أن يحمل الظلمة والظلم.‏

    نظرت إلى ساعتها إنها الساعة الثانية، الوقت قبيل العصر، السحب ما زالت تتلاقح، تتبرج دون أن تتخلى عن قطرة، الغمائم مغردة ومشرقة، حركاتها بهلوانية تدفع دموعها إلى الأرض، وتخلص السماء من الغبار. الريح تداعب الأشجار، تصفر وهي مصرة أن تخرج، إنها تعرف المدينة شبراً شبراً، ستعود إلى مدينتها التي يغسلها الحب والمطر.‏

    عاد حامد وفرات وهما مصممان ألا يتركاها وحيدة، يتداورا النوم عندها، يخدماها وإذا احتاجت إلى إسعاف أو نقل للمشفى تنقل. طوال الطريق يحسبان ألف حساب، هل ما زالت على قيد الحياة؟ أين يضعانها إذا توفيت وفي أية مقبرة يدفنانها، اقتربا من البيت، شاهداها وهي تقف على الرصيف تحت الأمطار، تساءل حامد: أيعقل أن تكون هلا؟‏

    أجابت فرات: تركناها تحتضر! ربما امرأة تشبهها!‏

    - يصعب أن نجد امرأة تشبهها! إنها هلا، إنها تركض اتجاهنا وتنادينا!‏

    ركضت كالظبية، أخذتهما بالأحضان وهي ترحب:‏

    - هيا تفضلا لقد وفرتما عليّ مشواراً إليكما، ستسهران الليلة معي حتى الفجر.‏

    سارا خلفها غير مصدقين ما يحدث، أهي معجزة أم ماذا؟ فرات تهلل فرحة، تردد كلمات وآيات دالة على قدرة الله، دخلا إلى بيتها، إنه نظيف ومرتب والمطبخ مليء بالخضار والفواكه.‏

    - كنا ندعو الله أن ينجيك من الموت.‏

    قالت فرات وهي تحدق إلى صديقتها. نظرت هلا إلى صديقيها وأخبرتهما:‏

    - خسىء الموت! هذا المطر جاء ليعيدني إلى الحياة من جديد، منذ الغد سنذهب سوياً إلى المدرسة، لقد اشتقت للتلميذات، اشتقت للشوارع، للهواء، لكل شيء.‏

    - كنا نبحث في أمر بقاء أحدنا هنا ليرعاك!‏

    أجابت حامد:‏

    - وأنا أيضاً بحثت في هذا، دفنت الحزن، أنا اليوم أقوى من أي وقت مضى، وسترى يا صديقي الذي لن أنساك طوال عمري، لن أنسى مساعدتك الرائعة.‏

    نظرت إلى فرات وتابعت: "كفانا مجاملات، هيا معي لتحضير المائدة."‏

    شدتها من يدها وهي تشير إلى المطبخ. بينما طلبت إلى حامد أن يحضر موقد الفحم لشيّ اللحم. اختلط ضحكهم ومرحهم بدوي إطلاق الرصاص في الخارج، ركضتا إلى حامد وتكومتا بجانبه، سألتاه: ما هذا؟‏

    قال وهو يمازحهما: ثمة في الخارج من يحتفل معنا! سأخرج وأرى ما حدث!‏

    وضع كل منهم يده على قلبه. حاولتا منعه من الخروج. لم يقتنع بكلامهما، بل فتح الباب بحذر وصعد الدرج. غير بعيد عن باب القبو رجل ممدد على الأرض والدماء تنزف. اقترب منه ودقق النظر إلى وجهه، إنه الصلصال! شهق من هول المفاجأة، ما الذي جاء بالصلصال إلى هنا؟ أجاء يلاحق هلا أم هي المصادفة؟ سأل الموجودين عن الحادث، أحدهم قال:‏

    - رأيت اثنين أطلقا النار عليه من سيارة مسرعة.‏

    - ألم تأخذ رقم السيارة؟‏

    - حصل ذلك خلال ثوان.‏

    وصلت سيارات شرطة النجدة وسيارة إسعاف وسيارات أخرى إلى مكان الحادث. اجتمع الناس حول المصاب. أبعدتهم الشرطة التي ضربت طوقاً. الضابط المسؤول أمر سائق سيارة الإسعاف بنقله إلى المشفى، فتحت السيارة بوقها ومضت تقطع الشوارع باتجاه الجنوب.‏

    عاد حامد مضطرباً. تجاهل أسئلة فرات وهلا. قرر الاحتفاظ بما عرفه في صدره وإبعادهما عن هذا الحدث، قال: كل ما عرفته أن اثنين أطلقا النار وهربا في السيارة التي معهما.‏

    تابعوا الغناء والرقص. لم يعد مسروراً بمتابعة السهرة. وجهه يصفرّ ويسودّ. قبل منتصف الليل غادر تاركاً الفرح خلفه. ترى من وراء إطلاق النار؟ عشرات لهم المصلحة بقتله، منهم معلمه السابق ومهربون أخذ بضاعتهم ولم يسدد لهم ثمنها، تجار أخذ منهم عربوناً لبضاعة مهربة ولم تصلهم. تخلص حامد من ظنونه وهلوساته واتجه إلى المشافي يسأل عن مصير الصلصال، الذي أدخل العناية المشددة في مشفى المجتهد. ظل يزوره حتى قيل لـه إنه بدأ يتعافى. سأل الشرطي المكلف بحراسته عن وضعه، أجاب: "إنه في بداية وعيه، يهلوس ويقول كلاماً غير مفهوم حفظت منه الجملة التالية «هلا قتلتني!»"‏

    لف أحياء المدينة القريبة والبعيدة لاستئجار شقة. عاد مسرعاً بسيارته لنقل سكنها إلى الشقة المستأجرة. هلا سعيدة في سكنها الجديد، شقة مضاءة مساحتها ستون متراً مربعاً في الطابق الثاني، إطلالتها على جهتي الشرق والجنوب، تغازلها الشمس طوال النهار، كل شيء فيها يغرد. مشتاقة للحياة، للعمل، تركض، تقطع الشوارع قفزاً وعدواً، تفتح ذراعيها للصباح، تقف أمام المرآة تلون شفتيها وتغطي وجهها بالكريمات والمساحيق، ثم تزهرّ وجنتيها بالكرز، فتبدو جذابة ورائعة، توزع ابتساماتها، تشعر أن جسدها خفيف، وأنها بنحافتها صارت أكثر مرونة ورشاقة. يوماً بعد يوم يعود الصفاء لروحها. تتحفز للحياة، تتأمل شعرها الذي طال أكثر مما يجب، ستذهب إلى صالون الحلاقة خلال اليومين القادمين. تفحصت بشرتها، كل ما فيها جذل. تستعيد قوتها وشبابها، تحقق ما تريد تحقيقه. تعتقد أنها الآن أكثر حيوية. الأحزان تهرب، تغادر جسدها، صحراؤها نخيل وواحات، أشجارها ذات ظلال وثمر وأنهارها عسل، كل شيء يدعو للمرح. البادية تخضر والأمل يعاودها، كل شيء أخضر حتى عقمها لم يعد محيراً، داعبها حامد بقوله: "أنت لست بعاقر يا هلا، المرحلة فرضت ذلك، لقد أثبت ماضيك غير ذلك، غداً بطريقة ما، بعملية ما تتخلصين منه."‏

    هل ستأتيها الأتراح بعد الآن؟ ستظهر بأناقتها التامة وثيابها العصرية وعطرها الهادئ. الأطياف تتراقص على شفتيها وهي تجمع أحزانها في بقجة وتذروها للرياح، لقد حققت ما أرادت، السكن والصداقة والعمل. فتحت ذراعيها لنسمات الربوة، للشوارع، ومضت إلى مدرستها تستعيد حياتها وكيانها.‏

    ــ 38 ــ‏

    فرات استلمت جواز سفرها وعليه تأشيرة مغادرة. لقد باتت مستعدة للسفر، عليها أن تبرق لأخيها ليؤمن لها تذكرة الطائرة. لديها حلم قديم، لهفة لتحقيقه، أن تصير فنانة تشكيلية. تعد الأيام الباقية لوجودها. لديها أمر لا تعرف كيف تؤديه قبل سفرها، هل تذهب لوداع صديقيها؟ أم أن وداعهما سيذكرها بأشياء تفضل أن لا تتذكرها قبل سفرها. ثمة شيء تخافه، تجهله. ماذا تقول لحامد وكيف تودعه؟ بماذا ستجيبه إذا سألها عن الخطوبة والوعود الذهبية؟ هل تستطيع حبس دموعها؟ إنها في غنى عما سيسببه ذلك من آلام. ستكتفي برسالة إلى صديقتها تشرح فيها ما تعجز عن قوله مباشرة، وهي آخر ما ستقوم به قبل توجهها للمطار.‏

    الصديقة هلا:‏

    الوداع يضعني في أصعب المواقف أمام صديقة هي جزء من روحي. أكره لحظة الفراق، وما تسببه من فيض في دموعنا. أنا على أعتاب حياة جديدة، لا أحب أن أبدأها بالدموع. من مكاني أطبع آلاف القبل على شفتيك وخديك وكل مكان في جسدك الطاهر. إلى أجمل هلا في العالم أزف خبر سفري وأنا على وشك مغادرة القطر. لقد لبى أخي سمير ما طلبته. قبل ظهر هذا اليوم ستقلع الطائرة. عندما تستلمين رسالتي أكون قد وصلت إلى ألمانيا. قد تعتبين، معك حق، لكن قلبك الكبير سيغفر. بصراحة لا أريد لأحد أن يثنيني عن السفر. لا أحب السحب تغطي مساحة وجهك، تدفعك إلى ذرف عصارة قلبك، يكفينا ما ذرفنا. التمس العذر لتصرفي، فأنا أحبك أكثر من أي شخص آخر حتى لو كان أقرب الناس إليّ. لا أشك أنك امرأة قوية، قادرة على إثبات ذاتك وتحقيق نجاحات على الصعيدين الوظيفي والشخصي، ولو كنا مثلك لكان المجتمع بلا عقد ولا مشاكل.‏

    بالتأكيد أيتها الغالية عذرتني. فأنت تملكين قلباً رهيفاً كقلوب الأطفال بنقاوته وحبه. لم يكن أمامي خيار، عانيت كثيراً حتى اتخذت قرار السفر، حتى أمي لم أخبرها، خوفي أن تمانع أو تعطل السفر في اللحظات الأخيرة. بالدموع أخط رسالتي لأودع صديقة هي متنفسي أوكسجيني ومائي، لحافظة أسراري وشريكتي في الحزن، لفتاة لم تمنحها الحياة لحظة هناء. ومع أننا تعرضنا للقهر، إلا أن ما حل بك لايحتمل. أيام كئيبة سدت الأفق. ولولا الفتى الشهم لكنا جثثاً، أتعلمين كم هو رائع هذا الحامد! كان معنا وسياجاً يحمينا، لا أنكر أن لـه الفضل في نهوضنا. ما زلت أذكر آخر سهرة حيث بوغتنا بصوتك الجميل ورشاقتك. وكما أغنياتك هي الطريق إلى القلب، فإن صمودك هو السبيل للخلاص. ها هي الدمعة تسقط إثر الدمعة على أعلى الصفحة، فأجففها بمنديلي. أنا الآن ساهرة وحيدة في غرفتي والساعة تشير إلى الرابعة صباحاً. قد لا أنام إذ سأنطلق في الثامنة إلى مركز البريد، فتكون رسالتي هذه آخر بصماتي إليك.‏

    في هذه اللحظة تتزاحم في مخيلتي بعض الأحداث، الماضي والآلام تصطف. أحاول جاهدة إبعادها والغوص في الحاضر. لن أنكر أن حامداً كان شهماً ورائعاً. حاولت أن أحقق رغبته، أن نعلن خطوبتنا، لكنني اكتشف أن حبنا كالحمل العنقودي، وأن ما يحدث أكبر منا. ليعذرني على الرغم من أنني أحببته في يوم ما من كل جوارحي. أما أنت يا مهجة القلب، التفتي إلى ذاتك ولا تضيعي وقتك في المراهقات السياسية. تدافعين عن شرائح لا تقدر المرأة، بل تدينها. لقد تناقشنا في هذا الموضوع وكنا على طرفي نقيض. أحترم رأيك لكنني أنصحك أن لا تحاولي حرق المراحل التاريخية، حتى لا تكوني وقودها.‏

    أنا لم أخبرك أن ابن خالتي تقدم لخطوبتي، أمي وأعمامي وأخوالي موافقون، أخاف أن يجبروني على الزواج منه وأنا لا أحبه، ولا أطيق رؤيته، وهذا ما شجعني على السفر، كما أن أخي أخبرني بأنه سيتحدث مع ابن خالتي بعد وصولي وينصحه أن يخطب فتاة تحبه. لن تكون هذه إلا مقدمة لرسائل قادمة، بعد أن استقر ويصير لي عنوان سأراسلك.‏

    مع المحبة‏

    فرات‏

    قرأت الرسالة مرات وتساءلت إن كان ما يحدث هو الصحيح، وهل السفر هو الحل؟ كيف ستواجه حامداً؟ لقد وضعتها في موقف لا تحسد عليه. تعلم مدى حبه وتعلقه بها. لماذا عليه أن يدفع ثمن حبها وبعدها؟ ثمن إخلاصه؟ لماذا تضعه وحيداً في مواجهة الحياة؟ مواجهة الحقيقة العارية. لماذا تكسر أغصانه وتحطم كل جميل؟ ما فائدة العتاب وفرات بعيدة آلاف الكيلومترات! في بلد لا يمت لماضينا بصلة ولا بحاضرنا.‏

    سيأتي حامد بعد قليل، سيأتي وفي نيته أن يجدها، أن يجد الماء العذب الرقراق، أن يجد خصب العالم بين يديه. كيف ستتصرف وماذا تقول إليه؟ وكيف سيكون رد فعله؟ كان الله في عونه أمضى حياته ينتظر كلمة الموافقة. وعندما لانت وكان من الممكن التصريح بها، هربت وطارت أشبه بالحلم، بالحكايات. ها هو ذا قادم، طرقة الباب طرقته. خبأت الرسالة تحت الوسادة، حاولت أن تظهر طبيعية. فتحت الباب، نهر من الدموع تسلل من عينيها. اقترب منها، نشف دموعها، نظر إليها وابتسم:‏

    - ما هذه الدموع، ألم ننته منها بعد؟‏

    - لا شيء يا حامد.‏

    - هل فرات مريضة؟‏

    - لا ولكن...‏

    - هيا تحدثي إنني أتحرق.‏

    - لقد سافرت إلى ألمانيا ولم تخبرني!‏

    - هل هذه أحجية؟‏

    - بل الحقيقة، خذ أيها الصديق الرسالة اقرأها وستعرف الحقيقة.‏

    تناول الرسالة بيد مرتجفة، فتحها. بدأت الزوابع والسحب تهب في رأسه، لم يتمالك نفسه، جلس على الكرسي، كل شيء فيه ذابل، شعر بألم في معدته، شعر بالعطش. استلقى على السرير، وضع يديه على عينيه، تركته وذهبت إلى المطبخ تحضر الشاي. تركته يذرف دموعه، من المعيب أن ترى الساقية وهي تفيض، أن تراه ينشف الدموع المتهاطلة، أن تتفحص وجهه الباكي. جاءت ومعها إبريق الشاي. صبت لـه كأساً، وطلبت إليه أن يشرب، أن يبلّ ريقه الذي جف، أن يواجه الواقع:‏

    - هذه هي الحياة، عندما تظن أن المشاكل والصعوبات انتهت تفاجأ بأمور لا تتوقعها، اغفر لها تصرفها يا حامد، عليك أن تجد لها العذر!‏

    - سامحها الله، هل أستطيع أن أقول غير ذلك؟ هل أستطيع أن أنعتها بغير التعابير الجميلة.‏

    ها أنت زرعت يا حامد، أمضيت حياتك على أمل كاذب، وبدل أن تورق شجرتك وتبرعم وتعطي الثمار، ضمت أوراقها وثمارها وهربت. توقفت الدموع، بينما الهطل في الداخل مستمر. تتمزق أحشاؤك ويعاودك الألم والحزن. حاولت النهوض، أن تتمالك نفسك فلم تقدر. دعتك أن تبقى عندها، أن لا تذهب. ظننت أنها لم تفقد صدقها وعواطفها، وأنك أغلى ما في الدنيا، وأن قلبها الأخضر يجعل الحياة ربيعاً. الألحان الجميلة تتلاشى، الرياح تقرع طبولها في رأسك الذي يتمزق ألماً. كل شيء هدم في لحظة. الشمس تبدو صفراء، بهت نورها. الورود تنام وتذوي فلا تبدو سوى الأشواك. كم مرة أدميت أصابعك وأنت تقطف الورود وتهديها. في كل مرة تبتسم وتشكرك وتعتني بورودك وتحتفظ بهن في مكان خاص من خزانتها.‏

    أشجار الغوطة تحني جذوعها، أغصانها تدفن أوراقها، الجذور فقدت قدرتها على امتصاص الغذاء. الهواء الثقيل فقد جزءاً من نقائه. قرر أن يغادر، أن يهب الشوارع بعض حزنه. يرمي الورود ويقطف الياسمين المعرش على البيوت. وقفت كالمارد في وجهه وأخبرته بأنها لن تدعه يغادر الآن، وإذا كان لابد من الذهاب، فبعد أن يهدأ ويستعيد جزءاً من قوته وتوازنه، إنها غير واثقة من وصوله سالماً. تحت إصراره خرجت معه، أوقفت تكسي وطلبت إليه أن يوصله إلى بيته في الغوطة.‏

    -39-‏

    مضت أيام ولم يظهر حامد. قررت هلا أن تزوره وليكن ما يكون. لا تستطيع أن تظل بعيدة لا تعلم شيئاً عن حالته، قرعت باب بيته. امرأة في نهاية العقد الرابع ترحب بها، بالتأكيد هي أمه. إنها المرة الأولى التي تجيء إلى بيته. عرفت على نفسها: هلا جودة صديقة حامد.‏

    هللت ورحبت بها أم صالح والدة حامد، ضمتها إلى صدرها وهي فرحة، قبلتها وأدخلتها إلى غرفة تحتوي على ستة كراسي خيزران و«صوفايتين»، تحدثتا على انفراد، سألتها عن معرفتها بابنها ومدى عمق العلاقة، أخبرتها أن حامداً حزين ومريض، معتكف في فراشه، أمضى حياته يركض خلف الشامية وفي الآخر تتركه. هؤلاء لسنا من ثوبهم. لم يفهم ابني معنى ذلك وأصرّ على أن الحب يعمل المعجزات، يتخطى الحواجز. لكن مقولاته الذهبية ذرتها الرياح. نظرت إليها، حدقت بوجهها وابتسمت ثم قالت:‏

    - حدثيني يا هلا، ارتحت إليك، لهجتك قريبة منا، هل أنت من حوران؟‏

    - أنا من الجولان.‏

    - أهلاً وسهلاً نحن مصاب واحد.‏

    جاء حامد مبتسماً، يرحب بضيفته ويعتبر مجيئها بادرة جيدة. علقت أمه:‏

    - لماذا لم تعرفنا على هلا، ما شاء الله جمال وأدب. أقسم إنكِ أجمل وأرشق من فرات التي تركته وسافرت، وها هو حزين وكأن الأمهات لم تنجب بعد ولادتها!‏

    - حامد معذور يا خالة، فرات إنسانة رائعة!‏

    - الرائعة لا تتسلى بقلوب الآخرين!‏

    - لا أظن أنه يوافقك الرأي، فرات أسيرة البيئة والعادات، لقد أحبت حامداً، انتصار الحب ليس حتمياً.‏

    خرجا سوية. أم صالح تدعو الله أن تكون من نصيبه. عندما يعود ستحدثه عن ذلك وتشجعه على خطوبتها. مشيا في الشوارع على غير هدى، كلاهما لا يعرف أين ذاهبان. نظرا حولهما فإذا جبل قاسيون مازال شامخاً، والغوطة رائعة. الأرصفة العريضة تضمهما. الحدائق تنشر ضوع ورودها. كل شيء مبتهج. المحلات تزينت والشوارع أيضاً. وجوه الناس تبدو مشرقة على غير عادتها. شعر أن دمشق أليفة، وأنها تتسع لكل المحبين، تضمهما بجناحيها. فيه شيء تبدل، لم يعرف لِمَ لهلا هذا التأثير؟ أحسّ بالأمان. شعر أنه بحاجة إلى جلسة صفاء مع ذاته. لكن هلا لن تمنحه مثل هذه الفرصة، لن تمكنه أن يجتر أحزانه، أن يظل أسير الماضي، بل ستبحر معه إلى النجوم، ستأخذ بيده. ها هي تخاطبه بقولها:‏

    - لن أدعك وحيداً، سنلتقي يا حامد. هل نسيت أن أمامنا أشياء كثيرة سنناقشها. لن نرجئ أية خطوة إلى عالم الغيب، بل سنواجه الواقع معاً.‏

    ــ 40 ــ‏

    قررتِ زيارة حامد باستمرار. ما دامتْ أمه قد ارتاحت إليك، ترحبُ بقدومك، تضعكِ في عينيها، تُسمعك كلاماً جميلاً يثني على جمالك ولطفك. في كل مرة تعيد أقوالها وأوصافها الرائعة. تمازحك، تجلس إلى جانبك. مسحة من المرح تبدو على محياها. تقترب منك حتى تلتصق بك. تهمس في أذنك. تجسُّ نبضك. تحلم أن تسمع منك كلمة واحدة، لتزغرد. معذورة تريد أن تفرح بابنها وتزوجه فتاة من طينتها.‏

    تبدين في أحسن حالاتك. سعيدة في سكنك. الشمس تنام في كفك، وجدائلك يداعبها النسيم. الحب يسوّر الشوارع والأزقة. تمرحين وتدندنين بكلمات جميلة. تغنين رغم الآلام، تغنين للأيام القادمة. تحيين كشجرة قاومت الريح والعواصف، واستعادت خضرتها واستعدت للعطاء. تهيمين فالطقس يغري بالخروج. النجوم جذلى بمصابيحها، والفيض قادم فمرحى للحياة بعد اليباس. حياة كلها توق للمجهول، للنور يبدد عتمة الصدور. تحاولين المحافظة على اندفاعك للحياة وشجاعتك وعنفوانك. تصغين لأصوات في الخارج. يغزو التنين الشمس، يصعد عبر دروب سرية، يلتهم حصته من النور قبل أن يغيب في عالم البحار والظلمة. يترصد الفرصة المناسبة للظفر بالشمس والعودة بها إلى أعماق المحيطات، لتنير العالم السفلي. الإنسان في كل مرة يُفشل مشاريع التنين، الذي ينزعج من الصياح والطبول، يعتكف بعيداً عن الأضواء. ينتظر انشغال البشر بأمور بعيدة عن النور والحياة، ليكرر محاولاته مع أنه متأكد من عدم انتصاره.‏

    بكِ رغبة للمقاومة. أدخلت في تركيبة جسدك عناصر زئبقية. أم صالح معجبة بقوة شخصيتك وشجاعتك، تدعوك أن تري الجمال على حقيقته، أن تعيدي قراءة حياتك. تدعو ابنها أن يقترن مع فتاة خبرها، أن لا يدع الورود تذبل. لقد ارتاحت إليكِ. تسأله عنك. تراك رائعة في قوامك، حديثك الشائق الذي يدلل على مستوى جيد من الثقافة، روحك الشفافة المرحة. فتسأل ابنها:‏

    - أما آن لك أن تنفض ماضيك، وترى الآخرين كما يجب عليك أن تراهم؟‏

    - لم أفهم قصدك؟‏

    - بل تفهم وتعرف ما ترمي إليه كل كلمة من كلماتي! لماذا لا تتقدم لخطوبة هلا؟‏

    - دعك من ذلك!‏

    - أما زلت متعلقاً بالشامية؟‏

    - وهل أنا قادر على غير ذلك؟‏

    - لقد سافرت ونسيتك.‏

    - فرات لا تستطيع الحياة بعيدة عن دمشق! أما هلا فهي صديقة، إنسانة رائعة! هي ذاتها لا تفكر بي كزوج.‏

    - إذاً اترك الأمر لي!‏

    خيبتِ آمال أم حامد حين أخبرتها أنكما صديقان، وأنك ترفضين الجلوس مكان فرات، قلب حامد لم يشغر بعد، حتى لو شغر، فإن هذا لا يغيّر من الأمر شيئاً، ما بينكما صداقة وعلاقة وطنية. ما أزعجك في الأيام الأخيرة شاب ينتظرك، يمشي خلفك كظلك. تستغلين الزحام، تضيعين منه وتتابعين مشوارك. حدثت حامد فسألك:‏

    - هل أسمعك شيئاً؟‏

    - أبداً إنه يترك بيني وبينه مسافة. عندما أقف يقف. أحاول دفعه للحديث وسؤاله عن سبب سيره خلفي، يصمت ويبتعد قليلاً، لكن عينيه تراقبني.‏

    - هذه تصرفات رجال المكتب الثاني، دعي الأمر، يومان أو ثلاثة وأكتشف السر الذي يخفيه.‏

    كان لابد من العودة للتخفي، ومراقبة الشاب التي لن تكون سهلة، لكنها ليست أصعب من مراقبة الصلصال. بعد أسبوع رأى أن على هلا أن ترحل من بيتها بسرعة. في صباح اليوم التالي ومع ارتفاع الأذان كانت وعفشها في إحدى غرف بيت أم صالح.‏

    تهب رياح الماضي، روائحه وبخوره وعطوره، مراراته، الطرق التي حملت حكاياتها، وحكايات أخرى، العيد مناسبة للفرح، لزيارة الأقارب. تتزينين. ينتشر عطرك يختلط بالنسيمات المنعشة التي تشعرك بالحنين، بالحب للأرض. يقف الماضي على قدم خشبية يناديك. تتذكرين والدك وعكازتيه:‏

    - آه يا والدي لقد نسيتك، سامحني!‏

    تشعرين أنك خسرت الكثير. لكنك كسبت نفسك. الأحلام تداعبك. تبنين جداراً من المحبة مع الآخرين. اشتقتِ إلى أخيك وزوجته وأبنائه. طرت إليهم تضمينهم إلى صدرك. استفاق الحزن والفرح معاً. صباح العيد ذهبت مع حسن إلى قبر والدكما، تلبستك حالة وجد، كأن والدك توفى البارحة، ما أزعجك أكثر خراب القبر وكسر الشاهدة. سويتما التراب. زرعتما الريحان وقررتما إحضار شاهدة جديدة تسجلان عليها:‏

    الفاتحة هذا قبر زكي الجودة. قاوم الاحتلال وفقد زوجته وأطفاله. توفي في تجمع النازحين في عرطوز.‏

    ــ 41 ــ‏

    في زمن لم تعرفي قيمة لحظاته تبعتك القوافل الخلبية. تمرح التناويح يفلت الماضي من يديك. تبدئين فصول حكاية جديدة. بقيتِ عشرة أيام صامتةً، تسألين، تراقبين، تخرجين إلى الشوارع. شقيقك سمير اعتبر سكوتك علامة رضا على كلامه وتصرفاته. فتح قلبه وبدأ يحدثك عن حياته، حتى وصلت إلى درجة الانفجار. قذفت سمومك في وجهه وندمت على اليوم الذي جئت إليه. رأيت منه العجب. هو وسط مجتمع نشيط، هو وزوجته «ألبينا» يميلان إلى الكسل ويتصرفان بعيداً عن الأخلاق، لم تتوقعي أنك ستخاصمينه يوماً. يفخر أنه حصل على الجنسية، بدّل اسمه وكنيته. واجهته:‏

    - ما الذي يجمعني بك؟‏

    - لا يا فرات أنت شقيقتي حملنا بطن واحد، وتجري في عروقنا الدماء ذاتها!‏

    كنتِ مطمئنة على أخيك وأنت في دمشق، أما اليوم فكل ما فيه يخيفك: «أين أنت يا والدي ترى ابنك المدلل الذي حلمت به رجلاً يحمل أعلى الشهادات ويرفع رأسك عالياً، يغوص في جسد ألبينا».‏

    يشتعل جسدكِ ألماً. تمر الأيام ثقيلة وكئيبة. الصراع لازمك منذ وصولك إلى بيته. شيء غير معقول أن يحدثك وكأنه نسي أصله! تختلفين معه في الصداقة، في الحب، وفي اختيار شريك الحياة، والنظرة إلى الأهل والمستقبل. لم تتصوري أن الوطن بات من منسياته، تقزم ليصير المكان الذي يمنحه الجنسية، فقد الغيرة، لا يخاف على زوجته أنى ذهبت ومهما فعلت، ما دام قد تخلى عما تؤمنين به. بدا عليك الانفعال رددت عليه:‏

    - المرأة كما تصفها مستهترة وتصنف كعاهرة.‏

    عودتك الحياة على مرّها منذ وفاة والدك، إلا أن الأكثر مرارة حياتك في الغربة. ماتت الأحلام وسافر الربيع. لا شيء يغري. الليل يطول والساهرون ذوو دم ثقيل، تثقب نظراتهم جسدك. تتركين السهرة، تحط الجبال على صدرك. تقذف عيناك البراكين، وتلومين نفسك.‏

    ألبينا أنسته الدراسة. فهي ليست امرأة عادية، إنها من المرمر ممشوقة ومكتنزة، عيناها تحاكيان الزرقة اللازوردية، تقطر أنوثة. حديقتها بلا عبير رائعة من الخارج، لكن ما إن تدخلها أو تكتشفها حتى ترى آثار الأيدي التي تعبث بمحتوياتها.‏

    أسئلة خبأتها في جفنيكِ حتى لا تبدي متخلفة أو من العصور الوسطى، مع أنك متحررة لدرجة أنهم نعتوك في الغوطة بألقاب لا تليق بابنة الشارع. خرجت إلى أمستردام الخضراء المشبعة بالرطوبة، المفتوحة شمالاً، بينما تأخذ شكلاً منحنياً أو نصف دائرة من الجهات الأخرى، شوارعها عريضة ونظيفة وحدائقها العامة واسعة ومنتشرة في الأحياء. الشيء الذي أحببته ركوب الدراجة كوسيلة نقل عامة منتشرة بعشرات الآلاف على الأرصفة.‏

    الريح تنفث سمومها في رأسك. تصابين بالزكام. ترتجفين على الرغم من الدفء المنتشر في البيت. تحاولين تفسير نظرات رفاقه، فتجدينها أشبه بنظرات كلب نابح، مستعد للقنص. تجولت في الشوارع العريضة والحدائق العامة وفي النوادي. بعض الأماكن اشترطت على زوارها أن يعودوا إلى بدائيتهم. الكآبة داخلهم لا يمحوها التعري، ولا العويل المنبعث من الصدور.‏

    ازداد الشق وانهار الجدار. قدماك تقودانك إلى المجهول. لا تعرفين طعم الفرح. الابتسامة فارقت محياك، قلبك ينط، ينكمش. لا تحتملين الآراء الغريبة من شخص عادي، فكيف إذا كان شقيقك الذي افتخرت به أمام حامد. يطرح عليك المستحيل. أن تبحثي عن شاب قادر أن يصرف عليك. أجبته:‏

    - أنا أرفض التسول!‏

    - الحياة تفرض الجنس الآخر.‏

    - لم أعتقد أن كرامتي ستهدر في بيتك وبمعرفتك!‏

    سألك. قررت الصمت، أن تحاوريه بنظراتك. لم تجيبي على أسئلة أخرى أكثر وقاحة. دخلت الغرفة ومسحت دموعك. ماذا تفعلين لتخففي من الضياع الذي تعيشينه؟ تناولت ورقة وقلماً وبدأت تخطين عليها شيئاً من روحك:‏

    الصديق حامد:‏

    بداية أعذرني على ما سببته لك من آلام، أنا ذاتي لم أنج منها، لحظة نزولي من الطائرة، تلقاني أخي ودعاني إلى بيته، سافرنا بالقطار من بون إلى أمستردام، فاجأني بنقل سكنه إلى هولندا، بعد أن قرر العيش في بلد زوجته والتمتع بجنسيتها.‏

    كل ما في أخي صدمني. كنت أعتقد أنني قوية، وأن سفري ما هو إلا التعبير عن ذلك، لكنني اكتشفت أن هذا هو الظاهر. أما الحقيقة فإنني ما زلت ضعيفة، ما زلت بحاجة إليك وأنا في وسط أمستردام! ما رأيك يا حامد أنني فقدت عزيمتي؟ وأن تصرفات أخي وضعتني على حافة الانهيار. أما زلت قادراً على منحي الثقة والقوة؟ كل ما بنيته في خيالي تبخر. هنا حياة أخرى وأناس آخرون حياة كلها مادة تقتل الروح.‏

    أشعر أنني افتقدتُ إنساناً غالياً. لقد ظلمتك. لو كانت هولندا تصلح للقائنا، لدعوتكَ وعملت المستحيل، لكن الأحلام شيء والواقع شيء مختلف. طرح عليّ شقيقي اللجوء الإنساني وترك الشام إلى الأبد. جننت، هذا أمر لا أقدر عليه. تصوّر أن الحنين راودني وأنا في مطار دمشق، قبل إقلاع الطائرة تنازعتني أفكار متناقضة. وددت التخلي عن السفر. روح المغامرة والمجهول دفعاني إلى صعود الطائرة. اليوم أندم. كل شيء مختلف، حتى أخي تغيّر. تخيل أنه يشجعني على نسيان الماضي، نسيان دمشق أمي وزادي!‏

    في الواقع المدينة هادئة، والليل أكثر هدوءاً، حتى تكاد تخلو شوارعها من المارة، إلا أن هذا لا يدفعني إلى النوم. أنتظر النعاس فلا يأتيني إلا بعد الإعياء. أغفو ليطالعني الحلم أو الكابوس. أفيق وأنا أكثر توعكاً وتوجعاً. كل شيء ينطفئ ويتحول إلى رماد. أنفخ على الجمر في محاولة يائسة لبث الروح، فأفشل. آه لو كنت إلى جانبي! أتذكرك دائماً. رسمتك على ورقة ووضعتها في حقيبتي.‏

    أخي وزوجته لم ينجبا، وليس في نيتهما بناء أسرة. من دمشق تصلني تهديدات أمي عبر الهاتف، سترسل ابن أختها خلفي إذا لم أعد. ما زالت تصرّ على زواجنا. أنا في كل الحالات ضائعة، لم أحقق وجودي هنا، ولن أحققه حتى في بلدي! ضاعت أحلامي، ما رأيك؟‏

    راسلني على العنوان المدون على غلاف الرسالة. طمئني عن هلا أرشدني إلى ما يجب عليّ عمله، ولا تتأخر في الرد، وسأعمل برأيك.‏

    مع خالص المحبة والشوق‏

    فرات الوردان‏

    ***‏

    الماضي يحاصرك، عيونه تثرثر، مراياه تطالعك، وفصوله تعيد تشكيل ذاتها. تركضان على رصيف الربوة. أوراق الخريف تتكسر تحت أقدامكما، بينما تتصارع السحب في الأعالي. تمثالكما الثلجي يتشكل. ترشقك فرات بالكرات البيض، تنفخ على يديها، تحتمي بصدرك وهي تبحث عن الدفء. تتصببان عرقاً وأنتما تسيران في شق معلولا. لوحة تعيد النسمات خلقها. دروب الشام تجلو غربتها وتطلق أسرابها. الشوارع بيض وإشارات المرور خضر. النساء يحملن اللبن والعسل والحب. على صدورهن ملايين النجوم. الياسمين أغنية في أجسادهن، يمرح مع رقصاتهن. يغرق القمر في أضواء المدينة. يشق الصهيل الأسماع. تشتعل النيران في الرماد. روائح البخور والحمضيات. ترتدي دمشق حلتها وتكتب بالشموع موالها.‏

    تحاملت على يديك ونهضت. تعيد قراءة الرسالة. تنظر نظرة طويلة إلى من حولك وتنطلق.‏

    كتبت الرواية خلال المدة التالية. من بداية كانون الأول 1998‏

    وأنهيتها على فترات صباح يوم الخميس 21/ شباط/ 2002‏
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
     
    غرباء منتصف الطريق ـــ عوض سعود عوض رواية ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق – 2006
    الرجوع الى أعلى الصفحة 
    صفحة 1 من اصل 1
     مواضيع مماثلة
    -

    صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
    للنشر....ملتقى المصباح الثقافي :: فضاءات ..أدبية وثقافية :: مختارات وقراءات أدبية :: عالم الكتب والإصدارات-
    انتقل الى: