1-
غرباء منتصف الطريق ـــ عوض سعود عوض
رواية ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق – 2006
دهم القلق قلبكِ، أفقت مذعورة، سافرت أحلامك، تجري النيران في دمك، لا تعرفين من أين جاءك هاجس الخوف، جسدك الملفوف بالظلال والعتمة فرض إيقاعاته وتناويحه، بدت أيامك كالزوابع التي تلف صدرك، كالعجاج الذي تعصف به الخماسين داخل جمجمتك، نحل جسمك وبت تشكين من صداع دائم، تتحول أيامك إلى كآبة، متفردة في آلامك، في تفسيراتك، غير قادرة على النسيان، حاولت أن تنسجمي مع مخاوفك، أن تبدي طبيعية، ظلت سماؤك ملبدة، ماذا تفعلين وأنت لا تثقين بالآخرين، الوحيدة التي يمكنك أن تضعي رأسك في حضنها وتسردي ما حل بك فرات.
ماذا بوسع فتاة رقيقة أن تفعل؟ سألتِ نفسك هذا السؤال وغيره، ومع ذلك، لابد من شخص تقذفين أمامه ما في صدرك، جففت دموعك، أدركت أن الحديث في أمور تخصك يحتاج إلى شجاعة، وأنت لا تملكين ذرة منها، مترددة، أطياف الماضي تلاحقك، همسات مفعمة بالطعنات تتسلل إلى فؤادك.
- هيا يا هلا جئت أسمعك!
تفاجئك بكل جديد و رائع، أثبتت عمق صداقتها وإنسانيتها. كل ما فيها يشع ألقاً. اقتربت وقبلتكِ. مشطت الأفق بنظرها، ابتسمت ووضعت يدها بيدك، كيف لهذه الفتاة المعجونة بالحلوى مثل هذه اللفتات والمواقف الرائعة؟! نخلة سامقة عصية، ستبادلها هذه اللفتة بمواقف جميلة، وستمنحها نهارات مليئة بالورد، أمكنة عدة ستدعوها إليها، حيث سترميان همومهما وسط الجمال، تعودان كطفلتين تحلمان.
تشرعين صدرك للنسيمات. أنت بحاجة لأن تنطلقي، الطبيعة التي تصورتها زنزانة، تهبك المرح وما لم تحلمي به، تبدو الحياة مرحة، العطاء يجري في أشجارها وورودها، تنفض عنك الغبار والدخان، تفردين جناحيك، يكفيك من الجنون ما حدث، لقد بت تؤمنين أن كل فرد يستحق في ظرف ما شيئاً من الجنون. النيران التي اشتعلت وقضمت كالوحوش لياليك، لم تغيّر لب أفكارك، فالحياة بقدر ما تأخذ تعطي، وبقدر ما تقدم من غدر وطعن تمنح الفرص، هذه المقولة لم تكن في يوم سوى ترف لا علاقة لـه بواقعك، تتبدل زاوية الرؤية، النظرة إلى الكون والإنسان، وكما تتعاقب الفصول وتضيع، ضاعت منكِ الدروب وأنت تبحثين عن ذاتك، غير مرة اضطررت أن تبحثي، وعندما تتوه الدروب وتحلمين بالأساطير والحب يأتيك الخريف ثانية. مقدر عليك أن ترتدي السواد، لم تشكين؟ ثمة من هو قادر أن يحول ضعفك إلى قوة، وقوتك إلى تصميم وعناد، ستثقين به ما دامت فرات تثق به، تحتاجين إلى أصدقاء، لا حل أمامك سوى مصارحتها وطلب المساعدة.
يهوي جسدك تحت ثقل الواقع، الوجه شاحب والعينان جامدتان سرق الليل أنوارهما، المطر بلل رموشك، تلاشت الألحان وباتت ليس أكثر من قرع على حجر أو وعاء معدني. نسفت الصورة التي رسمتها في مخيلته، ويوم توقع أنه أول إنسان تحادثينه وأنه أول حبيب، لم يتوقع أن ماضيك على هذا القدر من الغرابة. سألك:
- لماذا لم تصارحيني؟
كانت إجابتكِ طعنة أخرى، ندمت على صراحتك، والحديث عن خصوصياتك، تساءلت عن جدوى ذلك وأنتما تعيشان الحاضر! لكنك أقررت أن الفتاة زجاجة، ماضيها يلاحقها، ولا أحد يغفر، الذكرى تدخل أدق تلافيف دماغك، تصير جزءاً من مكوناتك، حقيبة تحملينها أنى ذهبت، تطاردك في النوم واليقظة.
مزيج من الذكريات المؤلمة تلف رأسك، جف قلبك بما ذرف من مطر، لقد غدا غير قادر على الفرح ولا الحزن، عيناك خاويتان تتغرغران بالدمع، تذرفين كبرياءك وحياتك والإنسانية والحب، فارقك المرح، فارقت النعومة بشرتك، لا شيء تتزينين لأجله، نظرات الشكوك والصمت تلاحقك، تركت الأقدار تسيرك، عافت معدتك الطعام، سنبلة تنحنين، عودها يتقصف لأقل نسمة، الغمام غطى وجهك، قلبك غاف لا يحسُّ بالحياة، تحزنين على ثقتك بالآخرين. أرسلت بصرك إلى البعيد، غشاوة غطت عينيك، تدورين في حلقة مفرغة لا تؤدي بك إلا إلى الانزواء والشعور بالظلم، تحدقين، الماضي يتقافز، عيناه ترجوانك كشف المستور، أو تكذبين كل ما سمع، تدركين أنك جازفت. الحزن يبرعم في جوفك، أيفيدك البكاء؟ من يمسح دموعك ويواسيك؟ تستجدين عزة النفس، لا تريدين أن تكوني متعة، لم تفكري بأن حياتك أكذوبة، يذهب النهار والشمعة تفقد ضوءها.
كم أحببتِ الأغاني التي تطلقها الحناجر! كم أحببت البنفسج والياسمين والورود! كم أحببت الطبيعة وشاركتها مرحها! كم حلمت أن تأخذي من الشمس حزمها الضوئية ومن الليل نجومه وأقماره! تراقبين الغروب، تدفنين النور في صدرك، تفرشين حناء الشمس مع آخر خيط من خيوطها على الدروب، تمردت على النوم، عفت الطعام، ضمر عودك، وجهك شاحب ويداك ترتجفان، وجفناك تلونا بخطين داكنين، بدأت تكثرين من شرب الشاي والقهوة، كل شيء خامد، العواطف، الأحاسيس، القلب، العينان، الفم.
جاء دورك لتسمَعي صديقتك، فرات ليست بلا متاعب، منذ تركت دمشق وسكنت في الغوطة، تسرب اليأس إلى حياتها، سكنت مع أمها في شقة، وأختها هدى في شقة مجاورة، أين ستسكن إن تزوجت؟ وأين سيسكن أخوها المسافر؟ أليس لهما الحق في البيت كما لأختها؟! تنازلت عن حقوقها مقابل أن توافق أمها على الإنسان الذي أحبته، أغلقت باب غرفتها تستعيد تحذيرات أمها، تخرج لتلتقي بمن ارتاحت إليه ذابلة العينين متوترة، يسألها فتحكي قصة صديقتها التي تتعذب، في النهاية تشكو حالها، تتصور أن الأنثى لم تخلق في الشرق إلا للعذاب.
تخلد إلى الصمت، ظلت أياماً لا تحادث أحداً. تجيب بهزة من رأسها. تذهب إلى غرفتها أو إلى شقة أختها التي تتعاطف معها، أما هي فتعد ضحية وفاة والدها المبكرة، الذي كان نبع حبها. تتذكره. يشجعها على الدراسة والتسجيل في الجامعة في الفرع الذي تختاره. تدمع عيناها. تناجي صورته. تحدثه. يهبها الصبر ويدلها على الطريق، تستشهد بأقواله فتجن أمها، وتجيبها: إن الأموات لا ينطقون!
تعزي ذاتها، ما زالت خاضعة لسيطرة أمها، شجعتِها على المقاومة ونسيان الماضي، تحترم رأيك وإصرارك على الإقناع، طلبت إليك أن تتدخلي وتقنعي أمها بضرورة سفرها إلى أخيها. نقاشاتك صرخة في واد.
تحاولين أن تكوني قوية. أن تتغلبي على ضعفك، بحاجة إلى طبيب يشخص حالتك، لم تتوقعي أن كلام الطبيب سيكون القشة التي قصمت علاقتك واستقرارك. جاء الكشف صدمة جديدة وقعت على مسامعك، أنت ذاتك غير قادرة على التكذيب، كان طلب إعادة الفحص والتدقيق فيما قاله الطبيب إحراجاً وورطة للطبيب ذاته، الذي لم يفعل شيئاً، بل أكد كلامه وبدأ يشرح أشياء لا أحد يرغب بسماعها.
عدت وحيدة إلى بيت فرات، حدثتها بما حصل، وطالبتها أن تبحث لك عن سكن مستقل، لن تحتاجي بعد الآن إلى أحد، أيامك معدودة، عليك أن تلتزمي الفراش ولا تغادريه إلا إلى القبر.
الآن تشعرين أنك عارية، لا شيء يسترك، كل ما أخذته في الحب والأخلاق من دروس ليس أكثر من أكذوبة، السماء رمادية كما الرماد الذي يجثم على صدرك، جسدك ينتفض، ترددين وأنت ساهمة أمثالاً وأقوالاً عن الغدر والحزن والحياة.
-2-
الشام تتمرد على النعاس، يشرق حسنها، مفاتنها واضحة كالشمس، طلتها كلها إغراء وإغواء، تستحم بطيوبها، تنحدر النجوم على أرصفتها شلال نور وشموع، تحيل الكلمات إلى أغان، تحيل الورد والياسمين إلى عطور، طوفان من الحب يحيل المدينة إلى نهار، الليل ينام جانب أبوابها ينتظر الإذن بالدخول، ينتظر أن يسيطر الوسن على أعين سكانها، يحاول أن يصل إلى الرموش، تطرده الأنوار، تصحو باكراً وهي تتحدث بروعة السهرات والأمسيات الهادئة، منها أمسية لم تنم فيها المدينة لحظة، نامت الريح والعتمة نوماً عميقاً، نسيمات تستدر الغناء في البيوت. من الذي يغني؟ من التي تصدح بأبيات شعر؟ ومن التي سببت هذا الشعاع الذي أنار المدينة لثوان؟ تساؤلات أطلقتها أكثر من حنجرة، لم تكن الإجابة حاسمة، إذ قيل بأن تلك الليلة كانت ليلة حالمة، ليلة ولادة فرات، لحظة شقت طريقها إلى الحياة، تحوّل قاسيون إلى نجم وهالة نورانية، أورقت الأشجار وأزهرت ونأت بحملها، أما بردى فتحول نبعه إلى نهر من لبن وعسل طوال المخاض.
علمت أمها أن شأن ابنتها سيكون عظيماً، نذرت أن تعطيها لشخص يناسبها، يحفظ دينها وجمالها، أخبر الأب زوجته أن زائراً جاءه وعليه أن يسميها فرات تيمناً بالماء العذب، لم تكن الأم موافقة على الاسم ظلت تناديها بغيره سنوات. لكن الطفلة أحبت اسم فرات، فلم تعد تجيب أحداً إلا إذا ناداها به، مولودة في ليلة الجمعة المباركة، التي يسهر فيها سكان المدينة حتى الصباح، يعبون من ماء بردى قبل تلوثه، وماء الفيجة بعد أن يوزع على البيوت، وربما لهذا ساد اعتقاد أن القيامة لن تكون في تلك الليلة، هناك الحريصون على دفع السماء إلى الأعلى، وعدم تمكينها من تغيير مكانها أو الانطباق على الأرض.
نظر حامد إلى عيني فرات، سعيد بما سمع عن يوم ولادتها، وسعيد بمعرفته بالشام والغوطة وبها، يريد أن يحتفظ بالثلاثة، أن لا يتخلى عن واحدة. قال:
- أصدق ما تقولين!
- ما فائدة ذلك وقد فقدت أحلامي!
مد يده إلى دفترها: «هل تسمحين؟»
نكست رأسها ولم تجب، نظر إلى عينيها، فإذا بالمرح يسرح فيهما، رفعت يدها عن دفترها، وأردفت ذلك بابتسامة، سحبه وفتحه، شاهد صورتها، تأملها، حاول إمساكها، لكن يدها امتدت، غير الصفحة وهو يبتسم، طالعته صفحة أنيقة عليها رسمة دب، قرأ اسمها المكتوب بخط أنيق واسم مدرستها، قلب صفحاته، كل صفحة فيها جديد، فيها فن، بصوت مرتفع قرأ:
«فرات الوردان. مدرسة النيل الثانية للبنات».
حدجته بنظرة سريعة، نظرة حائرة وطيف ابتسامة على شفتيها، هزت برأسها ولم تعلق، أردف:
- فرات اسم جميل!
هزت كتفيها وزمت شفتيها. هذه الحركة تفردت بها. أشعلت ابتسامة جديدة، اشتعل قلبه فرحاً، تطلع إليها منتظراً أن تقول، أن تعلق بشيء، بعد وقت قالت:
- اسم عادي!
- بل اسم كله ندى وموسيقا، فيه طرب وخصب وجمال.
بدا الانشراح على محياها، عيناها تبرقان، تعانقان الموجودات، وابتسامتها الدافئة تعيد التوازن لشخصيتها، فجرت في داخله فيضاً من العواطف، شعر بدمه يسرع، يسابق الشرايين إلى فؤاده، يستجيب لانشراحها، عيناه تسرحان في عينيها، يدقق في تقاطيع وجهها الذي يشي بروح متقدة وارتياح وفرح، تابع حديثه:
- أأنت من هنا؟
- أنا من دمشق!
أعلنت باعتزاز ومالت بجسدها إلى اليمين، أصدر ثوبها حفيفاً، بينما غطى اللون القرمزي وجهها، تحاول إعادة الدفء إلى روحها وقلبها، تتدفق الأحلام من نظراتها، احتفظت بابتسامتها أطول فترة ممكنة.
حدقت إليه، وجه طفح، عينان سوداوان، أنف دقيق وشاربان في بداية تكونهما، شعر أسود خشن وجسد تبدو عليه القوة، كادت تسأله من أين أنت؟ إلا أنها عرفته من لهجته أولاً ولونه الحنطي، وفراستها المستندة إلى مسحة الحزن والألق المشع في عينيه. ابتسمت وتململت في جلستها، بدا جمالها عارياً من الشوائب، جمال مربك، يحاصر، يدهش، أوحت عيناها بما أرادت القيام به، همست بأنها تود المغادرة، طلب فنجاني قهوة، عاد ثانية لتقليب دفترها، يتوقف عند بعض الصفحات، وهو يبدي اهتماماً زائداً ويطلق عبارات استحسان، دائم النظر إلى ثغرها، أحس بتغريد العصافير، بجاذبيتها، حدق بها وقال:
- أنت لست جميلة فقط، بل وفنانة بامتياز!
ـ 3 ـ
هذا أنت يا حامد لم تغيرك الأيام، لم تنس أنك أُخرجت من بيروت بعيد الاجتياح الإسرائيلي، سافرت مع من سافر إلى اليمن، في عدن أحسست بالرطوبة التي لا تطاق، بعيداً عن مسقط رأس والدك، وعن مسقط رأسك، لم تتوقع أنك ستسأل عن سفرتك القسرية، تظن أن تنقلك بين أقطار الوطن العربي مسألة عادية، لكن الكثير مما تعتقده صدمك، تعيش مأساة تشرد جديدة، شوارع المدينة العريضة حفظتها، شاطئ البحر برائحته الزنخة أبعدك عن (الكورنيش)، الناس طيبون ومتواضعون، إلا أنك لم تستسغ جلسات مضغ القات وتخزينه.
أضعتَ أيامك، ذاكرتك المشوشة تؤلمك، تعيدك إلى الماضي، بتَّ لا تستطيع المكوث في غرفتك، تحولت إلى متسكع بين البحر والشوارع والحانات، شعرت باليأس يغزوك، فجأة قررت إنهاء تشردك والعودة إلى الغوطة، جافاك النوم، جداول وروافد من السنين السالفة، تتسلل إلى نوافذ ذاكرتك، عبق الغوطة ينتشر في أوردتك وصدرك، تحمرُّ عيناك، تهذي.
مكتوب عليك العودة إلى دمشق في ليلة خريفية حالكة الظلمة شبيهة بليلة ولادتك، بعد أيام شعرت بنشوة تتوحد بجسدك، نشوة جعلتك تحسُّ بالدفء، تراقب الشمس كيف تشرق وترتفع في الجو جارة جدائلها. شفّت السماء عن نهار جميل وسماء عالية مرحة، لم تكن مشتاقاً لخالتك كثيراً، تابعت سيرك، تركت الأقدار تسيرك، تنفذ قرار نقلك، تدعي أنه جاءك بلا سبب، لا شيء يأتي من فراغ، فتش عنه في حديثك وفي تعليقاتك الساخرة وفي أشياء أخرى تعرفها ولا تريد أن تصرح بها، اتهموك أنك غير مرن، تظن أن الأمور «فلتانة»، لم تتعلم بعد ما يجنبك المساءلة، أن توظف داخلك أحد الضباط الغيورين على مصلحة الوطن، فلا تعود تتفوه بكلام فارغ، اليوم جاءك النقل، نزل عليك من السماء، شيء لا راد له، عليك أن تكيف نفسك، كنت تصل مدرستك بنصف ساعة، أما اليوم فتحتاج إلى ما يزيد على ساعتين، وإذا تماديت لا شيء أمامهم إلا الفصل.
ارتديت معطفك ودمدمت بأغنية حزينة، حاولت أن تجيب على أسئلة طرحتها على نفسك، مزاجك لم يكن على ما يرام، انتبهت إلى المكان الذي ستحط قدمك فيه، إذا زلت ستسبب لك متاعب أنت في غنى عنها الآن، السماء تفيض دموعاً، وعيناك جمرتان تحرقانك. نظرت في المرآة، ومسدت بيدك على المعطف الذي ما يزال يفي بالغرض لهذه السنة. فتحت المظلة بعد أن سويت شريط الحديد المحني. سنوات ومدرستك لا تبعد عن بيتك إلا قليلاً. تبدأ حياة جديدة، ستضطر فيها إلى تغيير نظام حياتك. عليك أن تأخذ الباص إلى ملعب العباسيين ومن هناك وسيلة نقل أخرى توصلك. تحشر جسدك بين الصاعدين. الباص يقف في المواقف الرسمية، وأحياناً في غيرها إذا طلب أحدهم ذلك بصوت عال وبلهجة تنم على أنه مدعوم. وبين وقوف السائق أو عدم وقوفه يتلقى سيلاً من الشتائم.
المدير الجديد عارف أيوب مشفق عليك. دائم التنقل ما بين الإدارة وصفك. كان يبقى في إدارته أو يتنقل بين الصفوف. أما اليوم فليس لـه عمل سواك، يحضر دروسك ويعطيك التوجيهات التي مللتها، يضع ملاحظاته على دفتر تحضيرك، وعندما لا يجد أية ثغرة ينفذ منها، يضحك ويداعبك فتظهر أسنانه، يمزح معك وهو لا يجيد الفكاهة.
- هل هناك عقوبة أكبر من مزحه؟!
يدعوك إلى الصلاة والصوم، يعظك لتكون مواطناً صالحاً، تكظم غيظك، لا تستطيع أن تصرح برأيك، أن ترد على دعوته، وتقول لـه إنك لم تصلِ وربما لن... وإنك مواطن صالح تحافظ على نقائك، يرد عليك بصوت يسمعه المدرسون إن الفرق بين المؤمن والكافر ترك الصلاة.
هذه نهايتك يا حامد رفضت أن تحني هامتك، وها هي تصل إلى الأرض، رفضت عرض من جاءا إلى بيتك، يحدثانك عن القيم والحياة وما يجب عليك فعله لتجنب النقل. استشهدا بالقاموس المحدث الذي يتلاءم مع المجتمع المدني والذي بفضله سيطير العصفور بلا جناحين. ويتسلم المناصب من يفهم المعاني الواردة في هذا القاموس. قال الأول:
- من الظلم أن تجازف بمستقبلك. قال الثاني:
- أنت ابن عمتي، العقوبة لرفيقنا، فقط عليك مساعدتنا لتحقيقها.
- الثمن غال يا بن خالي!
أنت اليوم تطلب عفو مديرك، الذي ارتفع صوته، وبدا عليه الشباب على الرغم من شعره الأبيض وتجاعيد وجهه. تشعر أن أقواله تخرج من حنجرته لا من قلبه، أحسَّ أنك تنفذ ما يقول ويأمر إشفاقاً عليه، ارتفعت وتيرة التهديد فتنامى خضوعك، تجيبه حاضر، تكرم، سأنفذ ما تريد بالحرف الواحد، يتمادى ويخبرك، إن فصلك من العمل متوقف على تقرير مني، تنحني أكثر لكونه صاحب فضل، وعندما تحدثه وتطالبه أن يرفع التقرير وينهي عذابك، تهل دمعتان من عينيه، يبدو وجهه ثقيلاً، يهرب إلى الإدارة، يستعيد قوته، يعود ليقول أي كلام وقد يكون أعنف من السابق، تضحك لفكاهاته وتصفه بأنه صاحب ظل خفيف، صاحب دعابة وروح مرحة، حتى عندما وقف أمام الطلاب ووصف الذين لا يصومون بالكافرين، صفقت لكلامه وكأن ما قاله لا يعنيك، مع أنك تعرف أنه يقصدك، في اليوم الثاني جاء إلى صفك يطيب خاطرك، ويطلعك على سر حزنه وتصرفاته، انهمرت دموعه وهو يصرح عن اعتقال ابنه منذ سنوات، ابنه الذي لم يزره إلا مرة واحدة، والتهمة الموجهة إليه ربما إذا فكرت جيداً ستعرفها.
شعرت أن مواساته ضرورية. وأن عليك أن تقول له: تفرج يا أستاذ سيخرج ابنك مرفوع الرأس إذا كان غير مذنب، ربتَّ على كتفه ووعدته أن تظل مثال المعلم المخلص، بعفوية أكد فيك هذه الصفة وصفات أخرى لم تكن تتوقع سماعها منه.
الأستاذ عارف نشيط، مدير بكل ما في الكلمة من معنى، ما إن يجلس على الكرسي في الإدارة حتى ينبهه ضميره لأشياء تجوز وأخرى لا تجوز، يدور على الصفوف، لا يتوقف إلا عندك، يضحك فتبادله بابتسامة، في الفرصة يكمل توجيهاته وهو يتطلع إليك، وفي كل مرة يفتر فمك عن ابتسامة تمتص غضبه، تفاصيل كثيرة يؤكدها، التحضير، دفتر العلامات، دفتر المعالجة والتشخيص، التفتَ إليك ليخبرك، إن مديرك السابق كان معلماً عنده، أخذ يشرح كيف استلم الإدارة، ودور زوجته التي أبلغته بأنه سيصير مديراً لإحدى المدارس، ورفضه إرساله قبل نهاية الدوام، لكن وبعد عشر دقائق اضطر إلى حني رأسه، أعطاه ما يريد من إجازات، كان هذا آخر عهده به.
ـ 4 ـ
هذا اليوم يختلف عن غيره من الأيام. عليكَ أن تفيق باكراً. تخرج بعد شروق الشمس، في الليل انتابك قلق، خفتَ ألا تصحو في الوقت المناسب، نومك المتقطع جعلك جاهزاً حتى قبل الوقت الذي قررته.
لفحتكَ ريح باردة، فركت يديك، البخار يخرج من فمك، نظرت يمنة ويسرة لم تجد أحداً، أسرعت لتصل أبكر، وتحصل على شيء من الدفء. السماء عابقة بالغيوم، تختفي الأشعة ولا تظهر إلا لحظة تجاوزت الغيمة وجه الشمس، حبات المطر تصدر لدى نزولها إلى الأرض أو في بركة ماء صوتاً أجوف كاشتعال عود الثقاب، خطوط متكسرة تجوب صفحة السماء، هبوب يحرك الأغصان يغريها بالتمايل، لفتت شجرة الحور انتباهك، لاحظت حركاتها وليونة أغصانها، تذكرتَ خضرة ثوبها حيناً وخلفيته الفضية حيناً آخر، وكيف ترتفع الأغصان في حركة متناسقة مع حركة الريح المغزلية، الأوراق تتوق للانعتاق، تفننت بإظهار حبها للأفق أشبه بفتاة مدت ذراعيها لاحتضان القمر.
تتكرر هذه الحركات بعشوائية. أما من استعصت من الأشجار على الانحناء والميلان فتكون كالمتصوفة تعيش لحظة التأمل والتذكر.
مهرجان من الألوان يغطي وجه السماء، غيوم بيضاء ورمادية وسوداء. تعرض الأخيرة مهارتها وزوابعها، تحول السماء إلى دخان وغبار، والأفق إلى لون سديمي، تلفك نسمات باردة، تسري القشعريرة في جسدك، الغيوم تهرول شرقاً، الرياح تدغدغها. تتناثر أشبه بلاعبي كرة القدم في بداية اللعب. نسمات أكثر برودة تهب. نظرت إلى الساعة إنها السادسة والثلث. تحث خطاك، تهرول، لو رآك أحد لظن بك الظنون، راقبت الطريق وتابعت الركض وما هي إلا فترة قصيرة، حتى وصلت إلى الموقف، وفي نيتك أن سيارة النقل الداخلي تنتظرك، خاب ظنك، نظرت شرقاً لا أثر لأي شخص، ولا لأية حافلة، لا شيء سوى بعض السيارات التي تخفف من سرعتها لدى اقترابها. لكنها تتابع سيرها.
عدت بذاكرتك إلى سنوات خلت لحظة رأيت شاخصة «الترام» الذي كان يمر محدثاً جلبة، يدندن، يصعد الركاب وعلى وقع موسيقاه وتبختره يجدون أنفسهم وسط دمشق في قلب المرجة. نظرت حولك، لم تعد وحيداً، آخرون بدؤوا بالتوافد. بعضهم مسرع وآخرون غير مبالين. يقفون إلى جوارك إن كانت وجهتهم العاصمة. أو على الطريق المقابل كبعض العمال والجنود الذين ينتظرون وسائط نقلهم الخاصة.
تحتضن ذاكرتك الطريق الموصل من بيتك إلى الشارع العام ، على جانبه أشجار الجوز التي تجاوزت شبابها. وعلى الطرف الآخر ساقية على ضفتيها الأشجار المثمرة والورود والعليق. أما اليوم فقد اختفى هذا الجمال، البلدية قررت سقف القناة الزراعية التي لا مياه تجري فيها، بعد أن تخلى الفلاحون عن فلاحة أرضهم وزراعتها. باعوها بالأمتار والقصبات بعد أن ارتفعت أسعارها. فتكومت أكداس البنايات دون رخص. وتحولت الطرق الفاصلة بين البيوت إلى أزقة لا تتسع لمرور أكثر من سيارة صغيرة.
سألت نفسك عن الحسن الذي كان، أين هو؟ أين الأشجار؟ حذاؤك ونهاية بنطالك تلوثا بالوحل. الطريق الظليل الجميل، تحول إلى كومات من التراب والأوحال، ثلاث سنوات والمشاريع تتوالى، مشروع إيصال مياه الشرب إلى البيوت، مشروع إيصال المجاري إلى المصب العام، وكلها لم تنته.
الغوطة تتعرى، سُرق ثوبها المزركش، فلم تعد الغوطة واحة، ولم تتحول إلى مدينة، لعنة أطلقها قاسيون على الإسمنت، وعلى (المجارير) التي توسدت المجرى.
جاءت سيارة النقل الداخلي، وأنت ما تزال تعيش مع الماضي، لم تنتبه لوقوفها، ولا لتدافع الركاب وصعودهم. أحد جيرانك شدك وقال:
- هيا يا حامد.
أغلقت ذاكرتك وأسرعت إلى السيارة قبل أن تتحرك وتتركك على الرصيف.
صعدتَ، خطفتْ نظرك فتاة جالسة في أحد المقاعد الأمامية. أول مرة تراها، جذابة، تفيض أنوثة، البرق يتلامع من محياها، كادت تنفلت منك كلمات ترحيب، انتبهت إلى الموجودين، أحسست بشيء دفعك للتحديق إلى عينيها، عينان عميقتان، أحست بمراقبتك، وميض ابتسامة على شفتيها، خفت عليها، أمثالها يصعدون في حافلة؟! أهي حلم أم شعاع من نجم بعيد؟! تحاصرها الأعين، تنزل حيث تنزل، تقف قريبة منك منتصبة القوام، كل منكما ينظر في عين الآخر. صعدتما الحافلة المتجهة إلى باب مصلى هناك افترق طريقكما، إذ اتجهت إلى حي الميدان، بينما اضطررت إلى متابعة طريقك.
تكرر الصعود والنزول، حاولت أن تحتفظ بملامحها، أن ترسم تقاطيعها، من الصعب نسيانها، في الصف تغزو مخيلتك وتفعل الشيء ذاته في الشارع والبيت. بادلتك الحديث، تحاول أن تقرأ في تعبيرات وجهك وأي الرجال أنت. في عينيها بريق وسحر يصعب عليك التخلص منهما، تحاصرك في النوم، تسهر مع طيفها في انتظار الصباح.
تحاول أن تصفها على الورق، فتاة ذات قوام أهيف. تشرّب الكثير من الحليب مع قليل من الياقوت. عيناها تسرحان في الأفق، شمس مرحة تعانق محياك، شعرت أنك أمام فتاة غير عادية، فتاة خارجة على القانون. كلها فوضى، تسكن مجرة الغوطة، لا تسدل الغطاء على وجهها ولا تلبس قفازات تغطي كفيها، وجهها مرآة وصدرها بستان وحديقة، أحسست بها، توغلت داخلك، قبضتْ على تفكيرك وفؤادك، انجذبت إليها، أنت على استعداد أن تترك دروس ذاك اليوم وتمضي نهارك معها. أن تكتشف كيف تستعير الفصول نقيضها، وكيف تشعل الحرائق في دمك! تخضر صحراؤك، تحولك إلى أسير، تصادر قلبك، أنفاسك، أحلامك. تتوحد الغوطة بطلتها. تطرز الفرح والأغاريد، الأغاني تزفها لروحك، سرحت وفي ظنك أن مجرد التعارف سيهبك اللذة والمتعة! لم تعلم أنها مخلوقة من نار. تكوي لياليك بالحرقة والغصات، تمضي معها دقائق تسميها أحلى الأوقات، تنسف اتزانك، تحاول أن تعود إلى هدوئك، إلى ماضيك، أن تنساها، يزحف بحرها ويرشقك برذاذ ناعم ينسيك المتاعب، لم تعد قادراً على نسيانها، الياسمين يذكرك بقدومها، ودمشق مدينة الياسمين، أنى اتجهت تجده، فكيف تنساها، تنسى فتاة مخلوقة من الياسمين؟ عطرها يملأ ساحات تفكيرك، تراها كل يوم، تحادثها، تفكر بلقائها بعيداً عن الناس. كل ما فيها يغري بالمجازفة، مددت لها وردة، نظرت إليك، تحركت يدها، تناولت الوردة وضمتها إلى دفترها، تذكرت ما سمعته عن الدمشقيات ولغة الورد، وإن مجرد قبول هدية من هذا النوع تفسح المجال لعلاقة مميزة، الورود أفراح تتراقص في القلبين، كل ما فيها من ارتباك يفضحها، غادرت السحب أبراجها وتكومت على شفتيها، قالت:
- أنا لا أملك قلباً لأحب يا حامد!
حاصرتك فرات بهذه الجملة التي استوقفتك طويلاً، أهي حقيقة أم مجرد دعابة وعبث نسائي؟ ظننت أنك قادر على سبر ماضيها، بعد لقاء أو لقاءين، ليس بالضرورة أن تفهم كل شيء دفعة واحدة، تظل عواطفها عصية، تبدل حياتك وتنسفها، لتتحول إلى نقطة مضيئة في مسيرتها، تهب الطمأنينة لروحها، أما ذاتك فمزيد من المتاعب والقلق واستعصاء النوم. الآن تأكدت أنها تحاصرك، تأتيك مع الهواء، مع الماء، مع الأحلام الجميلة، مما زادك إصراراً على نبش حياتها، وإزالة الغمام عن محياها، ليحتفظ وجهها بإشراقته.
ما زال لقاؤكما برعماً، في سماء عينيها سحب كثيفة اتفقتما على اللقاء وخططتما لـه لحظة بلحظة، كنتما سعيدين، سيفتح كل منكما فؤاده للآخر، ستنفث الغيوم إلى الأفق، اصطدمت بصعوبات، لم تتصور أنها عصية إلى الحدِّ الذي يجعل ماضيها حاضراً، تجربتها تلاحقها، وأنت غير قادر على جلب الترياق وتخليصها من السموم التي انتشرت في جسدها، وغطت على خفة روحها! جلستما متقابلين، شعت عيناها، نظرت إليك وشردت، وجهها سحب تحمل الزوابع، نجمة مسورة بليل، جسدها يتمايل وهي جالسة، تهز بأطرافها، انتبهتَ إلى حركاتها، إلى عينيها اللتين تتفحصان وجهك، بادلتها النظرة بمثلها، وردة تسافر في عروقك، في أنفاسك، في نظراتك وأحلامك، تحلم بمستقبل غير قادر على تحديد معالمه، بصماتها العصية على الفهم تجعلك متوتراً، المطر وهبك شيئاً من السكينة، يغريكما بجلسة طويلة، الهطل في الخارج يرسم بصماته الأخيرة على شوارع المدينة وأبنيتها. شتاء سبعة وثمانين غريب الأطوار. قضم الكثير من فصل الربيع، المطر انهمر بغزارة في آذار ونيسان ربما بغزارة كوانين أو أكثر، يلاحق البرد الناس، ينهمر الثلج في آذار، نظرتْ من خلال زجاج النافذة وعلقت: "الحياة لا تطاق يا حامد! أفكر في الرحيل، في ترك الغوطة."
الغيوم تتوالد من جديد في صدرك، وفي سماء مغطاة بالألوان الداكنة، في داخل فرات طفلة مشاكسة، تحاول التخلص من القيود المفروضة، أن تطير كالعصافير، لكن كيف وهي غير قادرة على الحصول على ربطة خبز أو كيس خضار أو فواكه أو قليل من اللحم، ليس لديها طاقة للانتظار أمام المؤسسات، صف النساء طويل، منت نفسها أن أمها ربما استطاعت الحصول على حصتها من الخضار والفواكه، وإذا كان حظها رائعاً تجلب معها علبة سمنة.
تنهدتَ وابتسمت، اعترفت أنها على حق، لكنك لا تستطيع مصارحتها، أنت تحبها ولا تريد أن تخسرها، أنت الرجل لم تستطع الحصول على كيس خضار أو فواكه، تذكرت كيف وقفت في صف طويل، مع اقتراب دورك يتحول الحلم إلى حقيقة، لحظة مددت يدك للحصول على ما تريد من التعاونية، زقزق في داخلك ألف عصفور. تدعو الموظف لتناول النقود وإعطائك ما طلبت، ظننت أن دورك قد وصل، وأن قوتك قادرة على الاحتفاظ به، تمسكت بحديد الكوة، الرجل الذي أمامك أخذ ما أراد، يحاول الخروج، في هذه اللحظة جاء رجال سدوا الطريق، ترنح الصف ذات اليمين وذات الشمال، بقيت ثابتاً مكانك، لكن الشيء الذي لم تضعه في حسابك أنه بعد أن أخذ حصته ولم يجد طريقاً جانبياً للخروج، جرب قوته، فوجد النقطة الأضعف خلفه، كور جسده وبدأ بالتراجع، مما مهد لدخول الذين على يمين الصف ويساره إلى الكوة. وهذا ساعده على تركيز قوته بخلخلة الصف، استمرت حالة الدفع إلى الخلف والأمام والجانبين، كانت حصيلة ذلك أنك ركبت على ظهره وصرت خارج الصف. لم يكتف بذلك بل شتمك ووصفك قليل الذوق! فركت جبينك، نظرت مذهولاً، كيف تفكر بالمؤسسات وفرات أمامك، نظرت إليك نظرة ذات معنى. وقالت:
- نحن هنا!
تأملتها، كل ما فيها ينطق بالنعومة والجاذبية.
الريح تشتد، تتلاعب بشعرها وبأطراف فستانها، تتسلل إلى جسدها إلى أكثر الأماكن حساسية، حنت جسدها، بيدها ردت نهاياته، تشدُّ على وسطها، راكضة عكس الريح، تاركة لـه حرية مداعبة ثيابها ضاغطاً على جسدها مبرزاً مكونات أنوثتها وتفاصيلها، الهواء تمرد، تجاهلته ومشت غير آبهة. تمهلت في سيرها وكادت تتعثر، قبل أن تفترقا لوحت بيدها وأسرعت.
لا تملك فرات فائضاً من الوجد. ظنت أن علاقتكما ستظل مجرد صداقة بريئة، لكن شيئاً ما في داخلها بدأ يخربش، وردة روحها تنتعش. تحاصرها، تستعيد كلماتك، تتخيل شخصيتك وتدقق النظر إلى عينيك، تكتشف أنك موجود في كل ركن من غرفتها، لم تنم تلك الليلة، سهرت وأخذت تلوّن السماء المطرزة بحزام من النجوم، أبعدت السحب، أحست بحيويتها، هرب النوم على وقع الأحلام والذكريات، ترهقها العتمة وأحياناً تؤنسها، طائر يهجع في صدرها يغرد، قلبها يدق على ألحانه طوال الليل، مع تباشير الصباح تنطلق النايات، يطير فؤادها صوب اللحن، تنشد الأغاني، ما زالت غير قادرة على التخلص من ماضيها.
الزمن يعيد برمجة حياتها، تنفتح أمامها كوى، ترصد حاضرها، تنفتح لها الحياة، لكنها تظل أسيرة تجربتها، كلماتكَ الرقيقة تفعل فعلها، تنتظر أن تمنحك الحب، أن تنتصر على ذاتها، تنتظر غيمتها التي قد تمطر في حقلك، ذكراك تفجر شجونها، تأتيها مع الشهيق، مع الماء، مع امتداد النظر إلى الأفق، مع القمر، مع الصباح، تحاصرها، وجودك حاضر في رأسها. يؤرق روحها، تحفر في فؤادها مجرى للفرح، تزرعك في مقلتيها وردة، ياسمينة تحسُّ بالصدمة التي تصيب أيامها، أتستسلم أم تتمرد؟ تفتح الأبواب باباً بعد باب، تشعر بالمرض يدهمها عليها أن تقاومه، أن ترسم بهدوء أيامها وتعيد سيرة أيامها الخوالي، تفرح لطفولتها، وتذرو ماضيها القريب في الهواء، تتخلص من الحمل الثقيل، ومن أسئلة تتردد في صدرها ولا تجد إجابة مقنعة عن بعض جوانبها.
فرات حولتك إلى رجل قلق وحالم، لا ترى من الدنيا إلا طلتها، ولا تتذكر من الأحاديث إلا أحاديثها، وجدت نفسك أمام فتاة ذات ذكاء، تهبك ابتسامتها ودفقة من نيرانها، تحيلك إلى جمر ورماد، تزرع أملاً في فؤادك ينمو ويثمر، وكما يحدث بعد اللقاءات الأولى، تتأجج العواطف ثم تهدأ قليلاً. تسأل نفسها، ماذا بعد؟ عرفت أنها لا تسعى للاقتران بأحد، لكن محطتك دفعتها لإعادة أفكارها، تعيش معك لحظات زمنها كلمع البرق. استطاعت أن تكتشف عواطفك، بات من السهل أن تشعل في هشيمك النار، وسيكون من الصعب أن تعيد التوهج لرماد انطفأت جمراته، لتبرهن أنها تحبك، بدت تائهة، متقلبة المزاج، تداري انفعالاتها بلباقة، أما إذا هبت الريح فلا تملك ما تفعله سوى رفع يديها إلى الأعلى، تبدو ضعيفة لا تملك قدرة لإيقافها ولا لدفعها، تشعر أن لكل علاقة وجهين، هي ذاتها بوجهين، وجه أنثى تتسلق بصحبتك رابية الحب التي في أعلاها الشوك والدموع، ووجه ابنة المدينة التي تنصت إلى أمها، ولا تستطيع قول كلمة تعكر مزاجها، تبحر في المجهول، في طريق السعادة المجهولة، حبها جرة مكسورة لا تنفع للعرض ولا لخزن الماء، كانت ذاهلة، تصطبغ وجنتاها بالأرجوان، هل تخدعك أم في حياتها طعنة؟ اعتذرت وقالت: "غداً نلتقي وأحدثك."
لم يعد القمر ينير دروبها ولا قلبها، اختفى من السماء ومن صدرها، تنظر إلى السماء وإلى الأرض، تبحث عن موطئ قدم في رحاب الصدر الواسع، أما السماء فلن تكون أكثر من لحاف غير قادر على منحها الأمان والنوم.
ـ 5 ـ
أنت تحاول فتح أبواب موصدة، لشدة إغلاقها بدا فتحها غير ممكن. المفتاح لم يعد قادراً على التغلغل ما بين الصدأ والحديد. ومع ذلك نذرت نفسك لأصعب المهام. ها أنت ذا تفتح النافذة المغلفة التي أوصدتْها فرات. رسمتَ في ذهنك أجمل صورة لها. تحملها قطرة ندى على كفيك. الحب سيزيل ما بينكما من جبال وهضاب، الصحراء تخضر وتصفو السماء وتغرد الطيور.
كانت مندفعة للتخلص من ماضيها. لم تحسب أن قصة جديدة بانتظارها، أن مغامرة تنتظرها، وهي بتقبلها السير إلى جانبك، بوضع يدها في يدك، باحتفاظها بالوردة، إنما تهيء نفسها لمرحلة جديدة. وإن كانت لا ترغب بتجربة حب، لكنها ستجد نفسها قد وقعت في المصيدة من حيث لا تدري. هي غير قادرة على تشوف أيامها. أفكارها تسير القهقرى. تجتر أحزانها. تحجب السعادة عن روحها وقلبها يدق. من آلامها انفلتت رغبة عارمة وسؤال يدعوها إلى التجربة. عاد البريق إلى عينيها، والفرح إلى وجهها. تهمس بكلمات ناعمة. تأتيها الأحلام الجميلة. كل شيء فيها ناعم، كل شيء فيها راقص. ابتسامتها ونظراتها وحديثها. روحها المرحة لم يهبها الله إلا لقلة من عباده. روح شيطانية بجسد بهي. نظراتها تختزل دواوين الشعر. عبقت بالياسمين. تتلاقى الأعين. تدقق في تفاصيلها.
تعكس المرآة جمالها. جبهة جلواء تجعل الوجه يميل قليلاً إلى الاستطالة. عينان واسعتان وبشرة تقطر حليباً مع قليل من العقيق على خديها. شعر مسترسل وأنفاس تعبق بالمسك. عطرها خمرة، وجسدها رشيق ومكتنز. تنظر إلى وجهها، تزين شفتيها بالأرجوان. تتأمل جسدها، تحس أنه خفيف. ردت غرتها إلى الخلف ونثرت شعرها للنسيم. معجبة بفتنتها وكبريائها.
اعتدتَ على رؤية وجهها البشوش. شعرتَ بعاطفة تتغلغل في شرايينك. الأحلام تتسلل إلى روحك. تهرول إلى الشمس، إلى البساتين الرائعة، فإذا بك أمام فتاة من نرجس. فتاة كالزئبق. فاجأتك بموهبتها. فنانة تداعب ريشتها الأحزان. تسخر من الأيام التي حرمتها من العبث الجميل على أطباق الكرتون. زجت بها في أتون التدريس. نصف معلمة أو كما يسمونها وكيلة.
الأغصان لا تموت إن وجدت تربة صالحة. تبرعم فتتوالد أفنان غضة تشق طريقها. لو وجدت فرات تلك التربة لكانت مجازة من كلية الفنون الجميلة. لو كانت أية فتاة لودعتها وابتعدت عن طريقها. الأمور لم تعد ملكك. لقد فجرت شخصيتك وألهمتك مجموعة قصائد.
اتفقتما على اللقاء، جاء أناس كثيرون ومضوا، بعضهم انتظر بضع دقائق قبل أن يرحل، أنت الوحيد الذي انتظر أطول فترة، وهي الوحيدة التي لم تأت، تذرعت أنها مريضة، لم تصدقها، ولم تعطها فرصة للدفاع عن ذاتها، اقتربت منك أكثر واعتذرت، لم تفتح فاك بكلمة، غيوم تسرح في أفق وجهك، رمقتها بنظرة، تحاشتها، هرب لون وجهها، تطلعت إليك، وعلى شفتيها ابتسامة فجرتها لإرضائك، واعدة إياك باللقاء ثانية في الزمان والمكان ذاته اليوم.
بان على وجهك الفرح كالطفل الذي يحصل على قطعة نقود معدنية، داعبت أناملك الغيوم، اجتاحت السحب موجة من الفوضى، تركض على غير هدى، تقترب في عملية جذب ثم تتناثر أوصالها وتنزل فوق الصخور والتراب والرمال والمدن، فتشعر الأرض بأنوثتها وتخلد لأحلامها.
جاءتك فرات عروساً في أحلى ملابسها، تسللت يدك وأطبقت على كفها في مناوشة متعمدة، وحركات لا إرادية، دهشت لقوامها، لزينتها، لعطرها، لابتسامتها، لحضورها، صعدتما سيارة أجرة وطلبت إليه أن يتوجه إلى الشادروان، نهبت السيارة الطريق، كانت أبواب المقاهي والمقاصف والمطاعم مغلقة، موسم افتتاحها لم يحن بعد، وقفتما أمامه وأسندتما ظهريكما إلى بوابته: "إلى أين أيتها الجميلة؟"
في نهايات الشتاء تتعرى الدروب وتقفر الربوة من روادها، تبدو كالأكشاك المقفلة، لم يكن سواكما، نظرت إلى عينيك نظرة مرح، مددت يدك لإيقاف سيارة والعودة إلى المدينة، ردت يدك اقتربت منك وقالت: "أنا وأنت والطريق نمشي حتى نصل إلى المرجة أو ربما الغوطة!"
الدروب التي ستسلكانها طويلة، تحتاجان ساعتين وربما ثلاثاً، لم يعد يهمكما الوقت، نذرت نفسها أن تمضي المساء وقسماً من الليل معك، بدت محبة للمشي، سارت إلى يسارك، روحها الشفافة تمنح جسدها خفة ورشاقة، التصقت بك، تسمع دقات قلبك، تبدو لا مبالية وغير خائفة لا من عتمة الليل ولا من الناس، ولا من أي تأخير، باختصار وصفتها متمردة.
كانت متمردة حين قررت لقاءك، ومجنونة حين قررت السير إلى يسارك وحيدين، كل خلجة من خلجات فؤادها تصلك، فرحة بجنونها الذي لا يقاوم، تغذ السير عبر الدروب المهجورة في ليل المدينة، على يمينكما بردى غارقٌ بأوحاله. كلما ابتعدتما عنه شعرتما بنسيم الربوة وقاسيون، ما يشفع لـه أنه وهب ذاته وظل عارياً، يدها المدسوسة في يدك تستسلم للعناق، بينما وجهها الذي يفيض نعومة ورقة يفجر المرح في أعماقك، عطورها تستفز حواسك، وابتسامتها النضرة تهبك الهيمان، نظرت إلى عينيها وقلت: "ما أجملهما! كم فيهما من الدفء والأحلام!"
تبتسم ويتمايل قوامها، تقترب وتبتعد وكأنها في رقص صوفي، يدك تحتضن خصرها، الأفنان متشابكة، تستنشق عطرها، تهمس:
- الحب أنتِ، فكيف لا يكون رائعاً!
- أنت تجعلني ضعيفة يا حامد!
وقفت قبالتك تهبك عطرها وأنفاسها، فرحها وابتسامتها، تدقق في ملامحك، وتنصت إلى كلماتك، انتقلت ذبذبات صوتك إلى فؤادها، ملأته حناناً وشوقاً، ملامح الطفولة والخفر تغزو وجهها، تستيقظ طفولتها وترسل ابتسامتها، حنيتَ هامتك لشفافيتها وجاذبيتها، حديثكما تمارين غزل عفوي، غزل الأعين، الأيدي، الصمت، تسحب الأنوار الباهتة ظلالها على طول الشارع، انهزمت خيوط الشمس وسلمت أنوارها إلى عالم آخر، شعرتْ بالغربة بالحاجة للاحتماء، اقتربت منك وهي تستنشق أنفاسك، تخلصتْ من خفرها حين اقترابها والتصاقها بجسدك، أصدر ثوبها حفيفاً ناعماً في تلك اللحظة، فطنتْ إلى وجودها في مكان عام، ابتعدت قليلاً، بينما ظلت كفها في كفك اليسرى، الرصيف خال إلا من بعض المارة الذين يحسدونكما، يتطلعون إليكما ويهمسون بكلمات غير مفهومة، الحب في عينيكما، والنشوة تستوطن جسديكما، خفتما، حالة العشق التي تتلبسكما لم يرها أهل الشام في الذين يمشون على قارعة طريق عام، هو من أكثر الطرق ازدحاماً بالمواصلات، ومثل هكذا شوارع لا تخلو من زعران، ابتعدتما عن الرصيف مع اقترابكما من التقاطع الذي يوصل إلى مشفى المواساة، شددتها من يدها لتظلا على الرصيف حتى لا يحصل ما هو سيء، لا تملك سلاحاً وليس لديك قدرة رد هجوم صاعق ومباغت، أبدت رغبتها في الهرولة لقطع المسافة الخطرة ما بين التقاطع حتى مشفى الأطفال، التقطت أنفاسها وأسندت ظهرها على حائط المشفى، ومن هناك تابعتما بعد استراحة قصيرة سيركما باتجاه الأوتستراد، حيث الإنارة جيدة والناس لا ينقطعون عن الحركة، بان الانشراح على تصرفاتكما، المدينة الجامعية على يساركما، وأصوات عاشقين يتبادلان التحيات وتعبيرات تنم عن الحب، وصلتما الأوتستراد الذي يوزع المواصلات من وإلى دمشق، الأنوار تنير دربكما، لم تشعرا بالتعب، اقتربتما من المطار المدني القديم، عند بناء معهد التدريب المهني التابع للأونروا قررتما العودة على الرصيف ذاته، غمامات متناثرة تسرح في الجو، شرفات حاملة لنباتات الزينة، ريح ساذجة تلهب جنونكما، شعرتما بالطفولة تغزوكما، تراقبان السيارات والجزر الخضراء المنتشرة قريباً من الطريق العام، وصلتما إلى ساحة الأمويين، سرتما قريباً من نصب المعرض، تابعتما إلى جسر الرئيس، ومن هناك إلى المرجة وسوق الهال والعمارة، ظلال مدينة دمشق القديمة ترحب بكما، بعد خمس ساعات افترقتما وبكما من الجنون للبقاء في الشوارع حتى الصباح.
لم تنم تلك الليلة، استعدتَ كل لحظة وكل كلمة، طاردك طيفها، تحط بجانبك، حاضرة في خيالك، قلبك ينبض، تمسك يدك وتداعب أصابعك، تشد كفك وتفركها، تنظر إليك مبتسمة، لن تبحث عن تفسير لجنونها، الناس في العيد لا يفكرون إلا في الفرح، يتصرفون ببساطة، وقد تصرفت كطفلة، قبل أن تودعك نطقت الجواهر قالت: "هذه ليلة ميلادي، لقد أضفت إليها ذكرى لن تمحوها السنون!"
أحسستَ أنها باتت جزءاً من ذاتك، من حياتك، شيء واحد نادم عليه، لو عرفت عيد ميلادها لما أرهقتها، ولأهديتها ما يزين جيدها، المناسبة لم تفت، وما حصل لم يكن سيئاً لتندم عليه، إنه أحلى ذكرى وأحلى عيد ميلاد، كلاكما لم يخطط لهذا المسير الطويل، الذي أحسستما به يمضي وكأنكما التقيتما قبل عشر دقائق، الزمن لم يمنحكما فرصة تقديره، الزمن والذاكرة والمكان توحدوا في المسير، لم تعد فرات غريبة، ولم تعد تحسب حساباً لتصرفاتها المتناقضة، بعد أن تأكدتَ من حبها. حبك لم يعد وهماً، وأنت لم تعش على الأحلام، كانت حقيقة رائعة، دق قلبك لطلتها، وقعت في حب فتاة كلها أنوثة وجاذبية قلت لها: "الحب أنت، العذاب أنت، الحب حول الدروب التي سرناها إلى ذاكرة، وأنت إلى قصيدة!"
لم تتوقع أن جنونها سيحل عليك كما حصل. تحضنك ويدها تشد على يدك، ضحكتها تصل الطرف الآخر من الشارع. بردى يتحسر على ماضيه، يتذكر الشعراء، يلوم الحضارة التي جردته من مياهه النظيفة، من جماله. ضحكتها تتواصل، ترنّ، تفقد بردى تواضعه، تنسى ذاتها.
نفثتَ دخان لفافتك، كل ما في جسديكما يعانق الآخر، في بحر لا نهاية لأحلامه، حلت منديلها وشدت به خصرها، أحسست أن جسدها يفور، كل ما فيها دافئ على الرغم من النسيمات الباردة التي تطير شعرها، وقفتَ تنظر إليها والنسيمات توشوشها، تستمع إلى أسئلتها التي لا تنتهي، ضاعت إجابتك، ضاعت مفرداتك لحظة سألتك أن تصفها، وقفتَ تتأمل قوامها، وقفتْ مبتسمة، تنتظر رأيك، تاهت الجمل، قلت كلمة واحدة ظننت أنها تفي بالوصف: "مجنونة!"
-6-
عدتُ فرحة، هذه أول مرة أعود مبتسمة. منذ عامين أغلقت الدروب في وجهي، لا أحضر فرحاً، ولا أية مناسبة، أجلس وحيدة في غرفتي أجتر الماضي. هذا اليوم تصرفت بكل لطف، حييت أمي وقبلتها، طوحت حقيبتي في الهواء، وذهبت إلى غرفتي، وأنا أحجل، تفحصت سريري والنافذة وخزانة الملابس ومكتبتي المتواضعة، كل شيء يثير الغرابة. كيف أعيش بغرفة كلها فوضى؟ شعرت بحاجة لإعادة ترتيبها، لحقت بي أمي وهي تحمل حقيبتي، بحركات سريعة علقت ملابسي على المشجب، نظرتُ إلى أمي التي تقف مذهولة عند الباب، بمرح تقدمتُ وسحبتها من يدها لتساعدني في تغيير وضع السرير: "ماذا حدث يا بنتي؟"
علقت بكلمات لم أتوقع سماعها، تصرفتُ وكأنني لم أسمع شيئاً، أسرعت وفتحت النافذة، استنشقت دفقة نسيم عليل. ما بين الواقع والدهشة هددتها إن استمرت في السخرية، سأخرج من البيت ولن أعود إلا ليلاً، أشعرتها أنني مسرورة، وعليها أن تشاركني سروري أو تدعني، بلعت ريقها بصعوبة، غادرت غرفتي وتركتني أرتبها كما أشاء، أرادت أن تعرف ما وراء تصرفي، الآن لا تطمح لنقاشي، كل شيء سيظهر في وقته، امتقع وجهها وبدت عليه علائم الذهول وهي تعود إلى غرفتها.
غازلت يداي كل قطعة في البيت، وغازل فؤادي كل ركن فيه، جاء ترتيبي الجديد لغرفتي ولغرفتها وغرفة الجلوس تعبيراً عن أنوثة شفافة، تركت بصماتي في كل مكان حللت فيه، لم لا يكون التغيير في ذاتي وفي الابتسامة التي تشع على شفتي؟ سألت نفسي والغبطة تلفني، لقد تأكدت الآن أن البيت صورة عني، رؤيتي للأمكنة الفارغة والمشغولة، للمزهريات، لوضع الكراسي. بدا وضع غرفتي دون كرسي وطاولة غير معقول، أحضرتهما من غرفة الجلوس، حاولت ألا أترك مكاناً شاغراً، إذ وضعت وسط الغرفة «طربيزة» ومزهرية كبيرة، وفي صدر الغرفة طاقة ورد، أما النباتات الطبيعية فواحدة في غرفتي والباقي في الشرفة والصالون، أعطيت أختي واحدة والقفص الذي حوى عصفورين عاشق ومعشوق، بقيت أعيد تنسيق الغرفة حتى العاشرة ليلاً، بينما كانت أمي تغط في النوم.
في عصر اليوم التالي تسللتُ إلى بيت أختي، فتحت باب القفص، أخرجت العصفور الأول ثم الثاني، طارا، رددت باب القفص، ومن الشرفة رميته إلى الرصيف، حدث هذا دون دراية أحد، انتبهتْ أختي إلى بكاء أبنائها، لحقتني تسألني عن القفص والعصفورين، لم أجب، الأمر لم يعد يعنيني، القفص والعصفوران تصرفت بهما ولن أندم، لكنني تألمت عندما علمت أن العاشق والمعشوق لا يعيشان بعيداً عن القفص، هما بحاجة إلى من يقدم لهما الأكل، والآن إما التهمهما قط جائع، أو اصطادهما طائر جارح، أو وقعا بقبضة من لا يرحم، سأكون السبب في موتهما أو شقائهما، نسيتُ هذه الأفكار السوداء، ذهني مشغول بأفكار أخرى، وليس بي حاجة للألم، إنني مقبلة على حياة جديدة، على علاقة تنسيني كل آلامي، الصمت يداعب ينابيع روحي، الفرح يتسلل إلى أوردتي، يلملم حكايا الحب، جلست جانب النافذة، أتأمل الغوطة وشمسها التي تحولت إلى قرنفلة حمراء، وطرقها الفرعية الترابية، طرق طويلة متعرجة تمتد على جانبيها أشجار الجوز الهرمة، وسواق تتلوى تساير تعرجات الطريق، أو ربما الطريق يسايرها، أطفال ينعمون باللعب، يتقافزون وكلهم غبطة وسرور، أشم رائحة الغوطة، رائحة الأشجار، رائحة الأرض بعد المطر، تولد الحياة ويولد معها تصميم على أن تظل جميلة، دخلت أمي تحمل صينية قهوة، نادتني لأشرب القهوة وتقرأ بختي، شربت فنجاني وناولتها إياه، قلبت الفنجان وهي تنظر إلى عينيّ، رأت فيهما اشتعالاً وبريقاً. قالت:
- خير والصلاة على النبي، أرى شاباً يلاحقك، ينظر إليك بود، نيته سيئة، عندما تقعين في حبه، سيكشف عن نياته، حدثيني يا بنتي، أنت لست بحاجة إلى تجربة جديدة، يكفيك ما مر؟
- ماذا أقول لك يا ماما؟ إنه لأمر جيد أن تخافي عليّ، لكن الأمر ليس كما ظهر لك، اليوم جاء الموجه التربوي، حضر درساً نموذجياً خرج وهو مسرور، أعدّ تقريراً جيداً، قال للمديرة، إنني ممتازة وكنز ثمين للمدرسة، وعدني بالتثبيت، ألا يحق لي أن أفرح؟
- إن شاء الله تتحول أيامنا إلى فرح، الموجه جاء اليوم، أما فرحك البارحة وقبلها أسببه الموجه أيضاً؟ أدام الله الأفراح، هل هناك ما يجلو قلبي غير فرحي بك، يوم آراك عروساً؟!
قالت ذلك وقلبت الفنجان ثانية، تابعت قراءته لتخبرني بأن أمامي طريقين، واحدة معبدة توصلني إلى ابن خالتي، والأخرى كلها وحول تؤدي إلى الغريب.
- لا يا أمي أنت لا ترين الياسمين وأشجار الزينة التي تظلل طريقي، ضحكت أختي وقالت:
- لا فرح يعلو على فرحك، قسماً سأرقص وأغني كما لم أرقص وأغن في حياتي، همك قصف ظهري، يضرب حظك.
ما زال الفنجان بيد أمي، قلبته وهي تشير إلى التعرجات التي على صفحته:
- هذا يا بنتي طريق الآلام، ستختارينه، وعندما تتجرح قدماك ستعودين كسيرة الجناح، لماذا لا توفرين العذاب وتختارين طريقاً لا أشواك فيه، إن قلت نعم سأكسر الفنجان وأزغرد لتختفي الآلام من حياتك.
- قلت لك يا ماما لا أريد الزواج، سأظل معك، هل تكرهينني؟
- أنت تعاندين سنة الكون!
تأملت أمي بينما غصت في أحلامي، خبرت الحياة واحتضنت الأمواج العاتية، وهأنذا جبل يحتضن الريح والغمام. أنظر إلى الحياة وأنا محصنة بدرس سابق، هل صحيح أنني غير قادرة على تمييز الألوان؟ وأن التعابير المرسومة على وجهي تكشف ما بداخلي؟ يتوالد الفرح في صدري، يستجدي المطر، ليغسل الماضي ويجرف بطريقه كل الأخطاء، أدور حول ذاتي، استجمع حياتي في فنجان قهوة، أدور كحلزون فقد قوته، يثمر الحزن في صدري سواداً، تطاردني الألوان من جديد، أنا الفنانة التي خبرت الألوان، أبدو غير قادرة على الاختيار، الذي إن لم أحسنه هذه المرة ستقذفني الحياة خارج رحمها، أركض صوب الغناء، أحاول التخلص من الكوابيس، التقي بحامد وأنا ذاهلة. هل أنا قادرة على منحه الحب؟ وهل أصارحه بالماضي؟
يتبـــــع