نحن نعلم جميعا أن التوراة و الفكر الإسلامي اتفقا على أن الله تعالى قد ابتلى خليله إبراهيم عليه السلام في المنام بذبح إبنه, و لكنهما اختلفا في نفس الوقت في من كان مطلوبا للذبح إسماعيل أو إسحاق عليهما السلام. قد لا يضر معرفة من كان مطلوبا لإبتلاء الذبح بقدر ما يهمنا الإعتبار من القصة و هي تعلم الطاعة المطلقة لله تعالى, ألا قد تعلمناها من أسوتتنا إبراهيم عليه السلام فهو المسلم الذي قال عنه الله تعالى في سورة البقرة (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ – 131 ).
في الموروث السني تعلمنا أن النبي إسماعيل عليه السلام هو من كان مطلوبا للذبح إذا أخذنا في الإعتبار تلك الأحاديث التي يقصها الوعاظ من فوق المنابر أيام النحر, و كيف يفتخرون أن النبي محمد عليه السلام هو إبن الذبيحين – جده إسماعيل و أبوه عبد الله – انطلاقا من الأحاديث التي يسردونها. و لكننا نعلم في نفس الوقت أن الأحاديث التي يعتمدون عليها هي أحاديث آحاد تقبل الشك أكثر من الصدق, و قد تكون قد صيغت بهدف العداء لليهود و التشكيك في توراتهم, و قد يكون اليهود أنفسهم قد تلاعبوا بالتوراة من أجل الحصول على شرف آيات الأنبياء. و لا يبقى لنا إلا القرآن الكريم فيصلا مهيمنا على ما نؤمن به.
- يقول الله تعالى في سورة الصافات ( رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) ).
من بعد الفتنة التي لحقت نبي الله إبراهيم عليه السلام من قومه, توكل الخليل عليه السلام على ربه داعيا إياه أن يرزقه بولد يكون من الصالحين, فتم وعد الله تعالى الذي لا يخلف وعده و استجاب لدعاء خليله إبراهيم فوهبه إبنا كان من الصالحين من بعد بشرى الله تعالى له, و هو ما ورد في سورة هود ( وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) ). فكان إسحاق إبن السيدة سارة زوجة إبراهيم الذي لطالما انتظر منها مولودا سنين عديدة, فتحققت آية كبرى من آيات الله العلي القدير فولدت العجوز العقيم إبنها إسحاق من بعد صبر طويل و من بعد أن شاخ إبراهيم عليه السلام. و باعتبار إسحاق عليه السلام نعمة من عند الله تعالى كانت مشيئة المولى تعالى أن يبتلى إبراهيم في إبنه ليعلم العليم تعالى و هو الأعلم من قبل مدى إيمان إبراهيم عليه السلام و شكره لربه تعالى و استعداده للتضحية بولده الذي انظره سنينا في سبيل الله تعالى و هي الفتنة أو الإمتحان الرباني لعباد الله تعالى المتقين كما ورد في سورة العنكبوت ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) ). فنجح إبراهيم عليه السلام في الإختبار و كان من الصادقين كما قال عنه تعالى في سورة مريم ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا – 41 ) و حق وعد الله تعالى على عبده إسحاق عليه السلام وفق العدل الإلهي أن لا جزاء للإحسان إلا الإحسان, فبارك الله تعالى على عبده إسحاق و أبيه إبراهيم كما بارك على ذريتهما من بعدهما فكان منهم الصالح و هم أمثال النبي يعقوب و يوسف و بقية أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام و قد يكون منهم المسيء أمثال إخوة يوسف من قبل ثم تابوا و من بعدهم اللذين آذوا الأنبياء و اضطهدوهم. و قد أرى قول يعقوب لإبنه يوسف ( وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) - يوسف ) أن تلك النعمة هي الصبر على البلاء, فصبر إسحاق عليه السلام على ابتلاء الذبح و صبر يعقوب عليه السلام على فرقة يوسف لسنين عديدة حتى ابيضت عيناه من الحزن كما صبر يوسف عليه السلام على ظلم و حقد إخوته عليه و دائما يكون الفرج هو عاقبة أولئك الرسل الصابرين من ذرية الخليل إبراهيم عليه السلام. و نحن جميعا مؤمنون بما ينتظر الصابرين من ثواب عظيم لدى الله تعالى مصداقا لقول الحق عز و جل في سورة البقرة ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) ).
أخيرا يبقى لنبي الله إسماعيل عليه السلام الشرف العظيم أن يكون من خدم الله تعالى فرفع و أباه الخليل قوائم البيت العتيق الذي جعله الله تعالى أمنا و سلاما و فيه تجتمع البشرية على مختلف ألسنتها و ألوانها لتوحد الله الواحد الأحد. و كان البيت العتيق شاهدا على دعوة الصالحين إبراهيم و إبنه بأن يبعث الله تعالى رسولا من الأميين يتلو عليهم الكتاب – القرآن الكريم – و يعلمهم الحكمة منه و هي الأمثلة و العبر التي فهمناها من القرآن الكريم و كان شرف إسماعيل أن يكون جد النبي الأمي محمد عليه السلام خاتم الأنبياء و الرسالات السماوية و عليه انزل الذكر الحكيم الذي حفظه الله تعالى إلى يوم الوقت المعلوم. و الله تعالى الأعلم بصحة اجتهادي, و الله تعالى الموفق و هو ولي المؤمنين.
محمد البرقاوي