اشتد في الماضي، ويشتد الآن، وسيشتد مستقبلاً الجدل الحاد، حول الديمقراطية في الإسلام. خاصة مع صعود التيار الديني مؤخراً، في عدة بلدان عربية في المشرق والمغرب. ولكن غاب عنا في الماضي وفي الحاضر، ونأمل أن لا يغيب عنا مستقبلاً، أن الديمقراطية ليست مفهوماً سياسياً فقط، بقدر ما هي مفهوم اجتماعي واقتصادي أيضاً. ولو أننا من القراء المتفهمين المتابعين لما كان يقوله الليبراليون في النصف الأول من القرن الماضي، لعرفنا أن الديمقراطية مفهوم اجتماعي واقتصادي، قبل أن تكون مفهوماً سياسياً كما نتغرغر بها دائماً الآن، ونثغوا بها ثغاء البُهم، دون أن نعي ونفهم ما نقول.
طه حسين والديمقراطية
لقد شرح لنا طه حسين عام 1945 ، معنى الديمقراطية عندما عاد الى أصلها اليوناني - وهو العالم بالتاريخ اليوناني- وقال إن اليونان عندما جاءوا لنا بالديمقراطية كانوا يريدون من ورائها الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي أولاً. وهو ما يعنيه الإسلام بـ "العدل والاحسان"، الذي يعتبر من الأسس القوية للدعوة الإسلامية، والنظام الإسلامي.
فمن المعروف تاريخياً، أن الشاعر والمفكر والسياسي اليوناني سولون (640-560 ق. م) الذي اعتبره أفلاطون أحد الحكماء السبعة في تاريخ اليونان، عندما جاء بمفهوم الديمقراطية، كان ذلك بدافع فساد الحياة الاجتماعية والاقتصادية اليونانية، في ذلك الوقت.
لماذا الديمقراطية اليونانية؟
فكانت الارستقراطية اليونانية تتحكم في سواد الشعب. وكان الأقوياء يتحكمون في الضعفاء. كذلك، كان الأغنياء يفعلون بالفقراء. فثار اليونانيون، وطلبوا من سولون الحكيم، أن يضع لهم نظاماً، يُحقق لهم العدل والمساواة، مطلقين عليه "الديمقراطية".
ولو قرأنا تفاصيل هذه الديمقراطية، لوجدناها مطابقة لما جاء به الإسلام بشأن "العدل والاحسان". بل إن الإسلام كان أوسع، وأكثر رحابة، في إقرار العدل وتعميم الإحسان في المجتمع الإسلامي، نتيجة للزمان والمكان، وعوامل أخرى.
ما العدل والإحسان في الإسلام؟
العدل والإحسان خلقان متلازمان في الإسلام، كما جاء في القرآن الكريم ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ ( النحل:90). فهناك علاقة متلازمة بين العدل والإحسان في الإسلام. فلا بُدَّ أن يكون مع العدل إحسان. ولذلك، قُرن بينهما في الآية الكريمة السابقة، وطُلب من الناس، أن يقوموا بهما على أكمل وجه.
وأما العدل فهو صفة لازمة للمسلم، لا تتغير بمصادقة صديق، ولا بمعاداة عدو، قريباً كان أو بعيداً، صديقاً أو عدواً، أو مخالفاً؛ كما جاء في القرآن الكريم ﴿اعْدِلُوا هو أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ (المائدة:8).
ويبين الإسلام، أن أول دائرة من دوائر الإحسان، هي دائرة الإحسان إلى النفس، وهي أضيق الدوائر. والواجب على الإنسان أن يهتم بها، ومن إحسانه إلى نفسه أن يؤدي الواجبات، ويترك المحرمات، كما جاء في القرآن الكريم ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾(الإسراء:7).
ولعلنا نلاحظ، أن الإسلام أولى العلاقات الإنسانية في الإحسان أهمية كبرى، حيث يشمل الإحسان إلى بني الإنسان كافة. وإن كانوا مخالفين لنا في المعتقد، ومن ذلك رحمتنا بـ "الكافر"، ودلالته على الهدى والخير. هذا كله من باب الإحسان إليه.
وإذا تجاوزنا البشرية، وجدنا دائرة أوسع في الإسلام، وهي دائرة الإحسان إلى كل من يعيش معك في هذا الكون من حيوان، ونبات. فحين نقتل أو نذبح، فيجب أن يتمثل لنا الإحسان الإسلامي، لقول الحديث النبوي الشريف (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة) (رواه مسلم: عن شداد بن أوس).
لا خير في النُظم إن لم تحقق العدل!
ويقول طه حسين "إذا كانت الديمقراطية شيئاً يتصل بالحياة الاجتماعية قبل أن تتصل بشئون السياسية فما عسى أن تكون الحياة الاجتماعية التي تلائم النظام الديمقراطي. والواقع أن كل نظام لا قيمة له ولا خير منه ، إذا لم يكن الغرض منه تحقيق العدل بين الأفراد." وكان طه حسين يشير بذلك الى الديمقراطية اليونانية، وعينه على الإسلام، الذي نادى بـ "العدل والاحسان".
ويؤكد طه حسين، أن الديمقراطية ليست شعاراً من الشعارات، أو مضغة سياسية من المضغات، وإنما هي "نظام يظن أصحابه بأنه أدنى الى تحقيق الانصاف في كل ما يكون." (جريدة "البلاغ"، 6/8/1945) وليس في الحياة السياسية فقط.
وتظل الديمقراطية التي تُحقق في ظلها المساواة العادلة، حلم البشرية الذي من الصعب تحقيقه كاملاً على الأرض. لذا، حرصت الديانات كلها (بما فيها الإسلام) على تأكيد "العدل والإحسان"، من فترة لأخرى ومن مكان لآخر، علَّ ، وعسى، يتم تحقيق جزء بسيط من "العدل والإحسان" في ظل شراسة البشر، وعدوانيتهم، وميلهم الى القسوة، والظلم، والطغيان.
البون الشاسع بين الدين والسياسة
لقد قامت في الوطن العربي، أحزاب وجماعات دينية تدعو الى "العدل والإحسان". بل إن حزباً في المغرب دُعي بهذا الاسم، "حزب العدل والإحسان". ولكن – وللأسف الشديد – فإن دعوة هذه الأحزاب، كانت دعوة دينية تعبدية تقليدية محضة. ولم تكن فيها مقارنة بالتاريخ السياسي والاجتماعي والاقتصادي للشعوب الأخرى لكي نعرف الديمقراطية كما عرفها طه حسين مثلاً. بل إن هذه الأحزاب وهذه الجماعات- نتيجة لجهلها بالإسلام وضيق أفقها - نفت نفياً يكاد يكون قاطعاً علاقة الإسلام بالديمقراطية. واعتبرت أن "الديمقراطية" كلمة ومفهوماً ومعنىً، لا علاقة له بالإسلام. وأنها كلمة مستوردة من الغرب، ولا تعنينا – نحن المسلمين – من قريب، أو من بعيد. وبذا تم نفي "العدل والإحسان" عن الأديان، وعن الدين الإسلامي خاصة، وهو الذي عُني بموضوع "العدل والإحسان" أشد العناية. وتمَّ بالتالي، نفي الديمقراطية بمفهومها الحديث.
ماذا يجب على التيار الديني أن يفعل؟
وبما أن التيار الديني الآن يصعد كل هذا الصعود، فعلى حكمائه وسياسييه وزعمائه أن يفعلوا:
1-اعادة قراءة التاريخ السياسي للبشرية، لمعرفة مدى ائتلاف أو اختلاف هذا التاريخ مع المفاهيم الإسلامية الصحيحة.
2- إعادة قراءة تاريخ الليبرالية في الغرب. ثم قراءة الدعوة الليبرالية العربية.
3- قراءة الدعوة الإسلامية الليبرالية التي قال بها المفكر السعودي الدكتور يوسف الطويل، والتي سبق وأشرنا إليها هنا في "الجريدة" في المقالات السابقة.
4- محاولة التوفيق بين الفلسفة السياسية والاجتماعية والدين، الذي لا يتعارض في جوهره مع هذه الفلسفات. ولكن فقهاء الدين وسياسييه وتجَّارهِ هم الذين يختلقون هذا التعارض، لكي يبقوا أوصياء على الدين كله.
فتحقيق العدل والإحسان (الديمقراطية الإسلامية) أصبح من أكثر التحديات التي تواجه الآن التيار الديني الحاكم، في أنحاء متفرقة من العالم العربي. وإذا كان التيار الديني، يظن بأن نجاحه في اسقاط الأنظمة السياسية القائمة، وقتل رؤوسها، وجلب الآخرين للمحاكمة، قد تمَّ، وانتهت مهمته، فهو على خطأ كبير. فالتحدي الأكبر الآن هو تحقيق "العدل والإحسان"، ليس بالشعارات، والخطب، على منابر المساجد، وفي مجالس الشعب، ولكن بالعمل بصمت، وفعالية متناهية.
د. شاكر النابلسي