برمجة اللا وعي الجمعي
العقل العامي غير واعي بطبيعته، لذلك فهو آلي، وعند الثورات مثلا فهو يتكاتف مع الشعارات التي تلامس عواطفه، كالشعارات الدينية أو العقائدية، فلا يستطيع مثلا أن يعطي نفسه الوقت اللازم لمراجعتها وتمحيصها قبل اتخاذ القرار العقلاني المعتدل.
هذا العقل لا يتصف بالاعتدال، بل إنه في الغالب يرفض الاعتدال، بل يصر في الغالب على وضع المفكر المعتدل في أحد الأحزاب أو التيارات المعادية، فتصبح الأحزاب السياسية ضرورة لتمثيل تطلعاته!
لذلك ولدت الشخصية الكرزماتية القيادية Charismatic Leader وهي شخصية تتصف بالجاذبية والسحر، والقدرات اللا محدودة، والذكاء الخارق، واللباقة والقدرة على إقناع الآخرين حتى وإن كانت أفكاره غير منطقية في بعض الأحيان. تملك هذه الشخصية القدرة على تجييش الجماعة، والبروز في الخطب الجماهيرية، وأفضل مثال يعبر عن هذا النموذج البارع هو شخصية القائد المصري جمال عبد الناصر، واللذي استطاع من خلال هذه الكرزماتيكية الخارقة، أن يتحول إلى رمز لمصر يفوق في أهميته مصلحة الشعب المصري نفسه، كما حدث عند التنحي عن الحكم بسبب الهزيمة المرة أمام الصهاينة، والتي خرج بسببها الملايين هاتفين بحب الرئيس والدعوة لبقائه في سدة الحكم.
وأبرز من يقود هذا العقل العامي اللا واعي هم الشعراء، فقصائد نزار قباني الرثائية والتي اتسمت بالشعارات القبلية القديمة، وكذلك صرخة أمل دنقل في قصيدة لا تصالح، كانت وسيلة للتطرف العاطفي ضد عملية التروي والتمهل في دراسة الخسائر وكيفية تحقيق النصر، وبالمقابل تختفي الآراء الواقعية والعقلانية، والتي قد تتمثل في قرار الصلح الحربي المؤقت، أو في إعادة ترتيب الأوراق من جديد، أو في اكتشاف مكان الخلل، فجاءت مرحلة السادات الصامتة لما قبل الحرب لإعادة ترتيب الأوراق، وتحقيق النصر العسكري التاريخي على الكيان الصهيوني، ومع ذلك فقد ارتدت الثقافة إلى أصلها، في حالة اغتيال السادات، عبر الهيجان الذي قاده البعض ضد التطبيع مع الكيان الصهيوني دون امتلاك أي بدائل واقعية وعقلانية، فانقلبت تلك المحاولة الذكية في قيادة العقل الآلي إلى مرحلة لاواعية جديدة مع حسني مبارك.
كما أن هذا العقل الآلي له قادة، كمعمر القذافي، والذي لم يكن إلا قائدا ومتحدثا ومنظرا لتلك الحالة من اللا وعي، فهو قائد شعاراتي، لا يملك أي واقعية في فهم المجتمعات، ومعرفة ظروفه وإمكانياته، ومع صدام حسين أيضا والذي كان بطلا عسكريا في الحرب العراقية الإيرانية وساهم مع حزب البعث في تمدين العراق رغم الكثير من السلبيات، ولكن صدام حسين في مرحلة الحكم، أثبت أنه مجرد قائد لا واعي لمجتمع لا يعرف كيف يحقق له الرفاه والأمان ضد التحديات الخارجية على وجه الخصوص، ففي النتيجة قد سلم العراق للمحتل الغازي!
وطبيعة العقل اللا واعي في الإنسان هو بطء الفهم ولكن مع رسوخه بتحويله إلى عادة، فتغيير عادة فرد يتطلب العديد من الممارسات، قد تصل إلى 21 ممارسة حسب الدراسات، أما تغيير الرأي العام فهو ممكن أيضا، ويستغرق حسب كتاب علم الاجتماع السياسي للعراقي الحائز على نوبل الدراسات الاجتماعية، الدكتور محمد إحسان الحسن هو ستة أشهر.
ورغم السلبيات النافذة لهذا العقل، غير أنه عقل حتمي لا يمكن إلغاءه، وهو الوسيلة التي يمكن من خلالها قيادة العوام، وتهييج عواطفهم إن لزم في زمن الحروب على سبيل المثال، أو لتحقيق الأهداف العليا للدولة أو الأمة أو المجتمع. وكي نصل بهذا العقل اللا واعي إلى بر الأمان فنحن بحاجة إلى قائد واعي يجيد تصحيح مساره، لذلك يبقى التأثير الذي يمكن أن تزرعه نخبة النخب، من المفكرين والفلاسفة والعلماء المنظرين العقلانيين والدستوريين، على القادة والشعراء والأدباء وعلى الرأي العام المتمثل في أقلام الصحف والمنابر الإعلامية المختلفة، هو الرهان القائم لتصحيح المسار الخاطئ للعقل العامي، والذي يمكن أن ينقل معه الكثير من الرذائل، كثقافة الهجاء والمديح والتغني بأمجاد الماضي وهو زاخر بالمساويء كالاستبداد والقهر والدموية القديمة، وهي قيم وأفكار لا تتناغم مع الطبيعة المدنية أو المدينية اللا بدائية.
ماجد حمدان