القبض على دعبولة
تضايق الآباء في أحد الأحياء من كرة القدم (دعبولة) التي يلعب بها أطفالهم، فقبضوا عليها، قال أحدهم:
ـ حَكَمنا عليكِ بالتنفيس يا شقية.
قال آخر:
ـ بل حكمنا عليكِ بالسجن على السقيفة.
بكى الأطفال، وبكت دعبولة قائلة:
ـ يا أصحاب الشهامة. هل يجوز الحكم بلا محاكمة؟!
نفخ الآباء قائلين:
ـ طيّب. سنأخذكِ إلى المحكمة، وستحكم عليكِ بعقوبة أشدَّ من عقوباتنا.
في المحكمة حُبستْ دعبولةُ في شبكة ضيقة من الخيوط حتى لا تهرب، وسُمِحَ لها أن تُعيِّنَ محامياً ليدافع عنها، فاختارتْ ماهراً كابتنَ فريق الحي.
دخل القاضي، جلس في مكانه، قال وهو يضع النظارة على عينيه:
ـ بسم الله. فُتحتِ الجلسة. نعم أيها الآباء ماذا فعلتْ دعبولة؟
قال أحدهم:
ـ آه يا سيدي. أمسِ وأنا أدخل بسيارتي إلى الحي، قفزتْ دعبولة إلى الزجاج، وكسرتْهُ! أريدها أن تدفع ثمنه حالاً.
هتف الآباء:
ـ حالاً... حالاً.
قال المحامي:
ـ دعبولة لا ذَنْبَ لها. صاحبنا سعدون رَكَلَها، فسقطتْ على زجاج السيارة. لقد تعلَّّمنا في المدرسة يا سيدي القاضي أن الكرات مصنوعة من المطاط، وهي تخاف من الزجاج، فكيف ترمي دعبولةُ نفسَها عليه!
استاء الآباء من قوة دفاع ماهر، بينما صفَّقَ الأطفال الذين يحضرون الجلسة.
قال القاضي:
ـ الهدوءَ... الهدوءَ يا أولاد.
تقدَّم أبٌ آخر، قال:
ـ أرجو أن تعاقبوا دعبولة بأشد العقوبات. إنها تَشْغَلُ أبناءَنا عن دراستهم، وتعلِّمهم المشاجرة.
هتف الآباء:
ـ عاقبوها.. عاقبوها.
قال المحامي:
ـ نحن ندرس في المساء، ومشاجراتنا ضَحِكٌ، ولَعِبٌ، صديقتنا دعبولة علَّمْتنا السماحة. أرجو أن تكافئوها. صفق الأطفال، وتوتر جو المحاكمة، عندئذٍ وقف والد ماهر، قال:
ـ كيف تكافئونها! لقد ضيَّعتْ عقلَ ابني، هذا المحامي الذي يقف أمامكم! إنني أراقبه أحياناً وهو ينزل بها إلى الحارة، وحينما لا يجد من يلعب معه، يلعب مع الحائط قائلاً: خذ الِعبْ يا بطل، ويلعب مع الشجرة صائحاً: اِلعبي يا بطلة!
هتف الآباء:
ـ المحامي عقله ضائع!
احمرَّ وجه ماهر احمراراً شديداً، وكاد يسقط على الأرض، لكنه ركض مغادراً قاعة المحكمة، فهتف الآباء:
ـ هيا أيها القاضي أسرعْ بالحكم على دعبولة.
فجأةً جاء من مكان دعبولة صوتٌ مخنوق غامض. إنها تريد الكلام، لكنَّ الشبكةَ التي حبسوها فيها تمنعها من ذلك. أُرخِيت الشبكةُ بأمر القاضي، فقالت دعبولة:
ـ أيها الآباء الحق معكم.
هتف الآباء:
ـ لن تخدعينا أيتها الكرة... أيتها المدعبلة كالبطيخة!
قالت دعبولة:
ـ سامحكم الله أيها الآباء، أنا لستُ بطيخة، لكنَّ شكلي كشكل الكرة الأرضية، ولذا يحبني الناس كما يحبونها في كل مكان.
صفق الأطفال، وهتفوا:
ـ نحبها... نحبها.
تابعت دعبولة:
ـ لن أكذب عليكم، أنا كالطفل أحب اللعب، لكنني أيضاً أتألم عندما تحدث أضرار، أتألم لأيدي الأمهات التي تنشر الغسيل، وفي اليوم الثاني تتسخ الملابس من اللعب أو تتمزق!
صار جو المحكمة هادئاً، فأكملت دعبولة:
ـ وكثيراً ما قلتُ لنفسي: لن ألعب... لن ألعب، لكنَّ الأطفال يأتون إليَّ، فإذا بي أذهب معهم!
قال القاضي:
ـ إذا كنتِ صادقة أيتها الكرة، فبماذا تحكمين؟
قالت دعبولة:
ـ أجلسني في مكانك يا سيدي القاضي.
أَمَرَ القاضي، فأُخرِجتْ دعبولةُ من الشبكة، وجلستْ في مكانه، وضعتْ نظارته على عينيها، وقالت:
ـ قررت محكمتنا مايلي: الرياضة تكون في الملاعب لا في الشوارع.
صفَّقَ الآباء بقوة، أما القاضي فقال:
ـ حَكَمنا أيضاً ببراءة دعبولة، لأنها آذتكم بإرادة غيرها، وهي ستبقى ضيفةً عند أحد الآباء يعطيها للأطفال أيامَ الجمعة ليلعبوا بها في الملعب.
وثبتْ دعبولةُ سعيدةً، وتساءلت:
ـ كم مرة يأتي يوم الجمعة في الأسبوع يا سيدي القاضي؟
قال القاضي ضاحكاً:
ـ لا يأتي إلا مرة واحدة.
وثبتْ دعبولة مرة ثانية، وقالت:
أرجوك. اِجعلْهُ يأتي مرتين أو ثلاثاً.
غرق الجميعُ في الضحك، وتمتم القاضي:
ـ لا يمكن... لا يمكن.
سامحك الله يا جدي
قبلَ العيد بأيام قليلة مات جدُّ نعيم!
ونعيم ولد يحب اللعب والفرح كثيراً، وأهله يلقبونه (بنعيم الطابة)، لأنه قصير مستدير كالكرة، وهو كثير النط مثلها.
مع وصول الخبر بالهاتف من دمشق إلى إدلب، حدثت أمور كثيرة لم يرتح إليها الولد: بكت أمه، أغلقتْ نوافذَ المنزل، لبست ثياباً سوداء، حتى خصلة شعرها التي يحب حركتها فوق جبينها، ثبتتها بالحبَّاسة، وصل أبوه حزيناً، فقبَّلَ أمه في جبينها وهو يقول:
ـ البقية في حياتك.
وبينما كانت الأم تهيئ حقيبةَ السفر، وصلت عمته لتبقى عنده، وعند أخته أثناء سفر الأبوين إلى دمشق، غادر الوالدان سريعاً، وغرق البيت في الصمت.
جلس نعيم الطابة يفكر: كيف سيدخل العيد إلى البيت والنوافذ والأبواب مغلقة؟ اقترب من عمته، وهي امرأة لا تحب الأسئلة، وسألها بحذر:
ـ ما رأيك يا عمتي أن نفتح النوافذ؟
عَبستِ العمة، فصار أنفها ضخمً كإجاصة، وقالت:
ـ ولماذا نفتحها؟!
نطَّ إلى جانبها الأيمن، وقال:
ـ ليدخل الهواء.
ـ ولماذا يدخل الهواء؟!
نطَّ إلى جانبها الأيسر مجيباً:
ـ لتتنفسي بارتياح يا عمتي.
ـ إذا أردتَ أن أرتاح، فاذهبْ من أمامي حالاً.
ابتعد خائفاً مسرعاً، كأن قدَمَاً قذفتْهُ في ملعب.
في الحقيقة لم يحزن نعيم كثيراً لموت جده، لأنه لا يعرفه جيداً، فالجد يعيش في مدينة بعيدة، وهو قلما يزوره، وفي آخر زيارة، يتذكر أنَّ جده كان يمشي مستنداً إلى عكاز وعنده مفكرة يتسلى بالكتابة فيها، ويخطئ في الإملاء، كما تقول أمه، فبدلاً من (بطاطا) يكتب (بصاصا)، وبدلاً من (زيت) يكتب (ريت)!..
وقف نعيم أمام صورة جده الضاحك في الصالون، قال:
ـ آه. سامحك الله يا جدي.
ظل وجه الجد ضاحكاً وهو يقول:
ـ لماذا؟ أنا لم أفعل شيئاً!
ـ كيف لم تفعل! لم يبق للعيد إلا القليل، وأمي لم تصنع لنا أيَّ نوع من الحلوى! التلفاز ـ كما ترى ـ مُطفَأ! وكلُّ هذا بسببك، وأكثر ما يغيظني أنهم يقولون: إنك تُحب الفرح كالأطفال!
قهقه الجد، حتى لم يعد قادراً على الكلام، وازداد غيظ نعيم، فتركه مسرعاً.
في الممر أمام الغرفة التي تحوي خزانة الملابس، سمع الولد صوتاً هامساً يناديه:
ـ نعيم... يا نعيم!
تلفَّتَ حائراً، ثم استطاع أن يعرف مصدر الصوت. كان المنادي ثيابَهُ الجديدة المخبأة في الخزانة، وما إنْ فتح الخزانة، ورأته ثيابه حتى قالت بلهفة:
ـ اشتقتُ إليك يا نعيم!
ردَّ نعيم بحزن:
ـ جدي مات!
ـ هذا معناه أنك لن تلبسني في يوم العيد!
ثم أ كملت بغيظ:
ـ جدك مات قبل العيد ليحرمك مني. المسنون يكرهون الثياب الجديدة والفرح. ووافقها الحذاء الجديد المستقر بجانبها:
ـ نعم... نعم، ويبغضون الأحذية الجديدة أيضاً. إنهم لا يحبون إلا كل شيء قديم.
كاد عقل نعيم أن يطير، ونطَّ عدة نطات دون أن يشعر: هل يمكن أن تحرمه أمه حتى من لبسِ ثياب العيد؟! أغلق الخزانة، وأسرع إلى عمته يسألها غير مبالٍ بغضبها، فقالت:
ـ طبعاً لن تلبسها، أقول لك: جدك مات، ألا تفهم؟!
لا يدري نعيم الطابة كيف وصل إلى غرفته! نط نطاً أم طار طيراناً؟ جلس في الزاوية باكياً، ولم يكن في الغرفة إلا أخته الصغيرة سوسن نائمة في سريرها، فاغتاظ منها، قال:
ـ أنتِ لا يهمكِ من الدنيا إلا الحليب والنوم! وأمكِ لا يهمها إلا جدي الذي مات. آه ماذا أفعل؟!
عادت أم نعيم وأبوه من السفر قبل العيد بيوم واحد، وراحت الأم تتحدث عن جده وهي تضحك، وتبكي! قالت العمة متعجبة:
ـ مابكِ يا أم نعيم؟!
فعادت تضحك وتبكي، ثم تمالكت نفسها، وقالت:
ـ وجدنا داخلَ مفكرة أبي وصية، لم يكن فيها إلا عبارة واحدة: (يا أولادي وأحفادي الأعزاء، إذا متُّ، فإياكم أن تزعلوا من أجلي). وكعادته أخطأ في الإملاء، فبدلاًمن (تزعلوا) كتب (ترعلوا)!...
***
شعر نعيم الطابة بالمحبة نحو جده، وأحسَّ أنه فَقَدَ شخصاً عزيزاً نادراً، وعندما جاء العيد، لبس ثيابه الجديدة، فلم تعترض أمه، خرج من المنزل، ولعب قليلاً، لكنه تذكَّر أن جده يحب الفرح، فقال لنفسه: (كيف أفرح وجدي لا يستطيع أن يستمتع بالعيد؟!).
اشترى بالوناً، وعاد إلى البيت، وفوق صورة الجد علَّقَ البالون، ولما رأت أمه ذلك المنظر ضحكت، وبكت، ثم قالت:
ـ أنت كجدك يا نعيم تضحكني، وتبكيني! الناس يا ولدي يضعون زهوراً للموتى لا بالونات!
الأنف الذي سافر إلى الصين
أنف المعلم عجيبٌ غريب... فهو كبير جداً، وعَظْمه ناتئٌ في الوسط. رآه سَهْرور اللعوب، فقال:
((ياه.. هذا مدخنة!))
خبَّـأَ وجهه، وراح يضحك. كان التلاميذ قد اعتادوا أنفَ معلمهم إلا سهرور الذي جاء إلى صفهم من مدرسة أخرى.
رفع سهرور رأسه، ونظر إلى الأنف مرة ثانية، فقال:
((ليس مدخنة. إنه عشُّ عصافير، وقد تطير منه فجأةً، وعليَّ أن أمسكها)).
انتبه المعلم إلى شروده، فسأله بغتةً:
ـ بماذا تفكر يا ولد؟
أجاب مرتبكاً:
ـ في... في عش العصافير.
ضحك التلاميذ، وقال المعلم بعد نظرة تأنيب:
ـ تقول لك العصافير: انتبهْ إلى الدرس، وإلا فإنها ستنقرك بمناقيرها.
حاول سهرور أن ينتبه متجنباً النظرَ إلى الأنف العملاق، لكنَّ عينيه وقعتا عليه، فرآه هذه المرة على شكل صاروخ. قال لنفسه:
((لماذا لا أركبه، وأذهب به إلى الصين؟ البارحة قرأتُ تحقيقاً في مجلة كتاكيت عن هذا البلد الجميل. سأزوره لأتأكد مما قرأت)).
وجد سهرور نفسه فوق حقول الشاي في سهول الصين. كانت أوراق الشاي تتمايل ضاحكة، وكأنها تقول: الصين ترحب بكم. انطلق به الأنف فوق بقايا سور الصين العظيم، وحين مرَّ به في المدن لفتَ نظرَه شكلُ أسقف البيوت التي تشبه جناحي طائر، فقال في نفسه: ((ربما تطير هذه البيوت بأصحابها ليلاً، وتأخذهم في رحلة بين النجوم)).
في مدينة شنغهاي لاحظ في الشوارع كثرةَ الدراجات، التي يستخدمها الصينيون للتنقل بدل السيارات، فهم كثيرو العدد، ولو ركب كلٌّ منهم سيارة لما اتسعت لهم الشوارع.
عَبَرَ به الأنف فوق مدرسة ابتدائية، فسمع التلاميذ يرددون نشيداً عذباً التقط بعضَ كلماته التي لم يفهمها: ((شا.. شينغ... بينغ))، فراح يردد: شا... شينغ.. بينغ.
هنا صاح المعلم:
ـ سهرور،... أين أنت؟
انتفض قائلاً:
ـ أنا... أنا في الصين.
ضجَّ التلاميذ بالضحك، أمَّا المعلم فقال نافد الصبر:
ـ تعال إلى هنا.
حينما وقف أمام المعلم لم يكن أنفه مضحكاً، بل مرعباً جداً، لعل الغضب جعله كذلك. ترى هل سيضربه به المعلم بدلاً من يده؟ تراجع خائفاً.
لحسن الحظ انتبه المعلم إلى خوف سهرور من أنفه، فاكتفى بقرصة صغيرة لأذنه، وقال:
ـ ارجع إلى مكانك الآن، وتعال إليَّ في نهاية الحصة.
بعد انتهاء الدرس فوجئ سهرور بلطف المعلم معه ورقته المتناهية، فقد أجلسه قريباً منه، وقال:
ـ سامحك الله... هل تخاف من أنفي يا ولد؟ إنه لا يعض ولا يقرص، وأنا لا أستعمله إلا لاستنشاق الهواء، بل إنه كان قبل بضع سنوات أنفاً عادياً جميلاً، أما كيف صار بهذا الشكل، فلذلك قصة يجب أن تسمعها:
ـ كنتُ قبل أن أجيء إلى هنا... إلى الأردن معلماً في فلسطين، ولأن أحد إخوتي اشترك في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي. جاؤوا، وهدموا بيتنا، وكان فيه أبي وأمي وأختي الصغيرة زينب. جلستُ أبكي فوق الأنقاض، فسمعتُ من تحت الركام مواءَ قطة أختي. كان المواء خافتاً جداً. قلت لنفسي: ما دامت القطة حية، فيمكن أن تكون أختي حية بجانبها، فهما لا تفترقان. وما كدتُ أبداً برفعِ الحجارة حتى جاء أحد الجنود محاولاً منعي. ولما صرخت في وجهه ضربني بعقب البندقية على أنفي، فانكسر عظمه، وتشوه شكله! لكنني انتزعتُ السلاح من يده، ورفعت الحجارة عن أختي وللأسف كانت ميتة.
وجدتُ نفسي في السجن، وضربوا أنفي المكسور أكثر من مرة، ثم نفوني إلى هنا مدَّعين أنني أحرّض التلاميذ على الثورة.
عندما انتهى المعلم من سرد الحكاية، نظر إليه سهرور باعتزاز، فرأى أنفه جميلاً جداً، وكأنه وسام معلق في وجهه.
أعواد البابونج
صعدتْ (سميحةُ)، وزوجها (محمود) إلى سطح بيتهما. في زاوية السطح المسقوفة بعضُ الأغراض القديمة، بينها تاجٌ خشبي لإحدى الستائر، نظرتْ سميحةُ إليه، وصاحت بدهشة:
ـ محمود. انظرْ أعوادَ البابونج!
نظر محمود إلى التاج المسنود إلى الحائط، كأنه مسطرةٌ طويلة، فرأى في أعلاه مجموعةً من أعواد البابونج. ابتسم قائلاً:
ـ الله! إنه عشُّ عصافير!
ـ غير معقول يا محمود! ألم تجد العصفورةُ غيرَ البابونج لتبني عُشها به؟!
ـ العصفورة يا سميحة مخلوقةٌ عملية تبني عُشها بما يتوفر لها من القش أو الأعشاب. ألم تلاحظي أن البساتين حول بيتنا مملوءة بالبابونج!
اقتنعت سميحة، لأنَّ زوجها مدرس علوم، يفهم هذه الأمور جيداً، وأسرع هو فجاء بالسلَّم، صعد، وتفرَّج على العش، ثم صعدت هي، وتفرجتْ أيضاً. كان عشاً رائعاً، يتألف من سوارٍ من الأعشاب، مفروشٍ من الداخل بالريش، وفوق الريش رقدتْ ثلاثةُ فراخ، لم تكن قادرة على الزقزقة، فراحت تفتح مناقيرها الصفراء.
فرحت سميحة بالفراخ كثيراً، وابتداءً من ذلك اليوم نظَّمتْ لنفسها برنامجاً للإشراف عليها: كلَّ يوم تضع السلَّم، وتتفقدها صباحاً ومساءً، وكأنها أمٌ ثانية لها... تحمل إليها فتاتَ الخبز المبلول، وتقول:
ـ عندما تأتي أمكم تطعمكم بمنقارها. لو كان لي منقار لأطعمتكم أنا.
كما أنها أطلقتْ اسماً على كل منها: الأول فرفور، الثاني خَنْفور، الثالث كربوج، وكثيراً ما تتحدث عن أحوالها لمحمود، فتقول مثلاً:
ـ كربوج اليوم على غير ما يرام!
فيرد ضاحكاً:
ـ هل نضربه إبرة؟ أم نطلب له الإسعاف؟!
حتى أم الفراخ أَنِسَتْ لسميحة، وصارت لا تضطرب عند اقترابها من العش، وذات يوم حدث أمرٌ سيئ، كانت سميحة وحدها في البيت، فسمعتْ خشخشةً على السطح. ظنتْ أن قطاً يريد سوءاً بفراخها، فصعدتِ الدرجَ قفزاً، ومع أنها لم تجد شيئاً سوى أنَّ الهواء كان شديداً، وضعتِ السلَّمَ بسرعة لتطمئن عليها، لكنها انزلقتْ، وكُسِرَتْ ساقها!
حزنَ محمود، وكان مولعاً بالغناء، فراح يغني بألم:
((حبيبتي يا زوجتي
يا بسمتي، يا فرحتي
أبكي عليكِ مشفقاً
تحفر خدي دمعتي)).
بعد عملية التجبير ، قالت سميحة لزوجها:
ـ لا تغضب من الفراخ. أنا تسرَّعتُ.
لكنه كان مصمماً على أمرٍ خطير. ذهب إلى السطح، وقال للفراخ:
ـ سأكسركِ كما انكسرتْ زوجتي.
وضع السلَّمَ ليتأكد من وجودها قبل أن يرمي العش، ولما صعد رآها تمطّ أعناقها، وتزقزق، كأنها ترحِّبُ به، وقد بدأ الريش يكسو أجسامها، ضغط على أسنانه، وقال:
ـ لا تضحكوا عليَّ بحركات اللطف. لابد أن أرمي العش.
نزل، ومن الأسفل ألقى على العش نظرة أخيرة، فلمح منقارَ أحد الفراخ ظاهراً منه، قال لنفسه:
ـ مَنْ قليلُ الحياء هذا الذي يمدُّ منقاره لمشاكستي؟ أيريد أن يفعل كالأطفال الذين يمدون ألسنتهم؟! سأصعد لأعرف أهو فرفور؟ أم خنفور؟ أم كربوج؟
صعد مرة ثانية، فوجد الفراخ يتقلب بعضها فوق بعض! وفجأةً نطَّ أحدها إليه كطفل يقفز إلى صدر أبيه! التقطه محمود، فأحس بضربات قلبه في كفه... ضربات خائفة، كأنها تقول: ساعدني، تلاشى غضبُ الرجل، دمعتْ عيناه، فأعاد الفرخ إلى العش قائلاً:
ـ لا تخافوا. إذا كانت سميحة أمكم، فأنا أبوكم، وليتكم تقدرون أن تنادونا: بابا وماما.
الدرّاجة
جديدةٌ، لامعة دراجة الولد شاهين الملقَّب بـ(شَنْشَنْ)، كأنها تقول: (انظروا ما أحلاني)!
يدخل رامي إلى بيتهم كالصاروخ بعد أن تَفرَّجَ عليها، يقول لأمه:
ـ أريد حالاً مثلَ دراجة شَنْشَنْ.
تصيح أمه ناظرةً إلى شعره الغزير المنكوش:
ـ كم مرة قلتُ لك، لا تنفشْ شعرَك كالقنافذ!
يمرُّ بيده على رأسه قائلاً:
ـ أسبلتُ شعري. هيا اشتروا لي درّاجة.
ـ من أين يا رامي؟ ألا تعرف أن أباك فقير؟!
يخرج من الغرفة، ينكش شعرَهُ غاضباً، لكنه يسبله مرة ثانية، ويسرع إلى غرفة جدته صبريّة التي تعيش في بيتهم، يريها الدرّاجةَ من النافذة قائلاً:
ـ إذا اشترى لي بابا واحدةً مثلَها أنقلكِ بها إلى الطبيب عندما تمرضين.
تضحك الجدة وهي تتصور أنها تركب دراجةً صغيرة، ثم تقول:
ـ يا روح جدتك لا تطلبْ دراجةً من أبيك. الأب يتألم كثيراً إذا لم يقدر أن يشتري لأولاده ما يريدون.
في الليل ينام رامي على الفراش بجانب أخته بعد أن ينهي مذاكرةَ دروس الصف الأول، فيرى نفسَهُ في الحلم يركب دراجةَ شَنشن وهو سعيد جداً. توقفه القطة (لولو)، فيحملها وراءه، يراه سربٌ من العصافير، فيأتي ويحطُّ على كتفيه مطلقاً زقزقاتِ الفرح . على المقود تقف ثلاثُ فراشاتٍ ملونة. فجأة يظهر شنشن من زاوية الشارع، يأمره بالنزول، ويركب في مكانه ساخراً منه برنّاتِ جرسٍ ممطوطة: (رررن... ررررن).
يستيقظ غاضباً، قائلاً لنفسه: "لن أفكّر بعد الآن في دراجة شنشن. أنا لا أحب الدراجات".
بعد أيام كان عائداً من المدرسة، فإذا بالدراجة الواقفة أمام بيت شنشن تناديه بصوت عذب:
ـ رامي ... عزيزي. أنا هنا.
يدير وجهه، لكنها تهمس:
ـ تعال. انظرْ فقط إلى هذا المصباح الجميل الذي ركَّبه لي شنشن. آه.. أنت يجب أن تحصل على دراجة مثلي بأي ثمن.
يأتيه من ورائه وهو يتفرج على المصباح صوتٌ ضاحك:
ـ هل تشتري هذه الدراجة يا رامي؟
يلتفت، فيرى الحاجَّ إسماعيل مختار الحي الذي يعرف السكانَ جميعاً، وهو رجل يحب المزاحَ، ولـه ضحكاتٌ رنانةٌ كالموسيقا. يغمغم رامي حزيناً:
ـ ليس معي نقود يا عم.
ـ بسيطة يا ولد. أعطنا فقط أباك الفقير، وأنا أقنع والدَ شنشن ليعطيك الدراجة.
يفتح عينيه متلعثماً:
ـ بَبْ... بَبْ. بابا لا أبيعه.
ـ طيّب. أعطنا أختك سميرة التي تزعجكم ببكائها، أو جدتك العجوز صبرية.
يهرب إلى البيت، بينما ترنُّ ضحكاتُ الحاج إسماعيل كزغردات تحت شاربيه الأشيبين.
في البيت يقصُّ على جدته ما حدث، فتضمه إلى صدرها، وتضحك قائلة:
ـ شكراً يا روحي على محبتك لنا، لكنَّ الرجل يمزح (ها ها) يمزح.
يعود أبوه إلى البيت، ويعرف ما جرى، فيضحك أيضاً حتى يصبح وجهه كالبالون الأحمر، ثم يقول:
ـ أمك أخبرتني أنك تريد دراجة، وها قد جئتُ بها في هذا الكيس.
ينظر رامي إلى الكيس الصغير، يعبث بشعره مفكّراً: كيف يتسع لدراجة كبيرة؟! يمدُّ يده إليه، فيهتف أبوه:
-إياك. لن نفتحه إلا بعد الغداء وبعد أن تمشّط شعرك. انظرْ إلى رأسك في المرآة، لقد صار أكبرَ من كرة القدم!
بعد طعام الغداء يخرج الأب من الكيس عجلاتٍ حديديةً صغيرة، اسمها: "البيليات"، وينزل من السقيفة ألواحاً خشبية، ومطرقةً، ومسامير. يسأله رامي متعجباً:
-أين الدراجة؟!
-سنصنعها الآن أنا وأنت من الخشب، وعندما تتحسن الأحوال أشتري لك واحدةً مثلَ دراجة شنشن.
يعبس رامي في البداية، لكنه يندمج في العمل سريعاً. تأتي أمه وأخته وجدته للفرجة، فيرونه نشيطاً مرحاً.
عند الانتهاء من صنع الدراجة يسأله أبوه:
-بأي لون سنطليها؟
تقول جدته:
-ادهنوها باللون الأبيض.
وتقول أمه:
-الأصفر.
وتقول أخته سميرة:
-الأحمر.
يهتف رامي:
-الأحمر. نعم الأحمر.
يضحك الأب قائلاً:
-وسنكتب عليها: إنتاج مصنع رامي وأبيه للدراجات الرائعة.